logo
ترنح العقارات وتراجع الإنفاق يدق ناقوس الخطر بالصين

ترنح العقارات وتراجع الإنفاق يدق ناقوس الخطر بالصين

الجزيرةمنذ يوم واحد
كشفت بيانات حديثة عن تفاقم أزمة قطاع العقارات في الصين وتراجع الثقة الاستهلاكية، لتشكل معًا عبئا مضاعفا على خطط الرئيس شي جين بينغ لإعادة التوازن للنمو الداخلي.
ووفقًا لتقرير نشرته وكالة بلومبيرغ، فإن السياسات الحكومية التي وُصفت على مدى الأعوام الماضية بأنها "شبه يائسة"، لم تحقق أي نتائج ملموسة، بل أظهرت الأرقام أن الانكماش في الاستثمار العقاري بلغ مستويات غير مسبوقة منذ صدمة جائحة كورونا في 2020، في حين تراجعت مؤشرات الثقة والاستهلاك إلى أدنى مستوياتها منذ عقود.
وتأتي هذه التطورات في وقت حساس للغاية، حيث تتزايد الضغوط على بكين لتقليل اعتمادها على التصدير، خصوصًا بعد التصعيد في الحرب التجارية مع واشنطن. إلا أن بلومبيرغ تشير بوضوح إلى أن "كل الوعود السياسية والعروض الدعائية لم تنجح في تغيير المزاج العام".
عقارات تنهار رغم تدخل الدولة
أظهرت المؤشرات أن أسعار المنازل الجديدة والقائمة واصلت الهبوط المتتالي منذ أغسطس/آب 2021، مع تسارع الانخفاض في يوليو/تموز الماضي خصوصًا في الوحدات الجديدة.
وكشفت بيانات بلومبيرغ أن الاستثمار في القطاع العقاري خلال العام حتى الآن انكمش بأكبر وتيرة منذ صدمة جائحة كورونا. وسُجِّلت "محطة قاتمة" أخرى مع استعداد مجموعة إيفرغراند، التي كانت يومًا أكبر مطور في البلاد، للشطب من بورصة هونغ كونغ.
ورغم الإجراءات الحكومية المتعددة، بدءًا من تسهيلات الإقراض وخفض أسعار الفائدة وحتى محاولة استنساخ نموذج الإسكان الاجتماعي في سنغافورة، لم يُظهر السوق أي مؤشرات على التعافي.
وأكد التقرير أن تعهد الرئيس شي جين بينغ في سبتمبر/أيلول الماضي بوقف الانهيار و"استقرار السوق" بقي بلا نتائج ملموسة.
ثقة المستهلكين تتراجع إلى مستويات متدنية
انعكس تدهور العقارات مباشرة على ثقة الأسر الصينية، التي تضررت أولًا بقيود الجائحة ولم تستعد عافيتها منذ ذلك الحين. وأكدت بلومبيرغ أن "جميع الوعود الحكومية بالدعم ومحاولات التودد للقطاع الخاص لم تنجح في رفع معنويات الأسر".
إعلان
بل إن المزيد من المقترضين قرروا في يوليو/تموز الماضي تسديد ديونهم بدلًا من الحصول على قروض جديدة، مما تسبب في أول انكماش لقروض البنوك الصينية منذ عقدين.
وكشفت البيانات الأخيرة أن مبيعات التجزئة ارتفعت بنسبة 3.7% فقط على أساس سنوي، فيما نما الإنتاج الصناعي بـ5.7%. أما على أساس شهري، فسجل الإنفاق الاستهلاكي تراجعًا للشهر الثاني على التوالي، وهو ما لم يحدث منذ فترة الإغلاقات في 2022.
وكتب خبراء بلومبيرغ إيكونوميكس أن "ضعف الزخم الذاتي" للاستهلاك أصبح واضحًا بعد نفاد التمويل المخصص لبرنامج تحفيزي حكومي قائم على استبدال الأجهزة المنزلية والسيارات القديمة.
أزمة ائتمان تزداد قتامة
أظهرت الأرقام الخاصة بالإقراض صورة أكثر سوداوية، إذ ارتفع المؤشر الواسع للائتمان في يوليو/تموز الماضي، لكن ذلك كان مدفوعًا إلى حد كبير بإصدار السندات الحكومية لتسوية ديون السلطات المحلية المتعثرة. وحسب تقديرات جيه بي مورغان، فإن 55% من القروض الجديدة تُستخدم فقط لسداد فوائد الديون القائمة.
وأوضح المحللان جهانغير عزيز وتينغ تينغ جيه أن نمو القروض بعد خصم الفوائد بلغ 3.5% فقط على أساس سنوي، مقارنة بمتوسط 8% بين 2016 و2023، واعتبرا أن "هذا ينذر بمستقبل قاتم للشركات ولنمو الناتج المحلي الإجمالي".
صادرات ترتفع رغم الحرب التجارية
وسجّلت الصين مفاجأة في الصادرات رغم الضعف المحلي، إذ ارتفعت في يوليو/تموز الماضي بنسبة 7.2% إلى 322 مليار دولار، متجاوزة التوقعات.
وأوضحت بلومبيرغ أن الزيادة جاءت من شحنات قوية إلى الاتحاد الأوروبي وجنوب شرق آسيا وأستراليا، عوضت التراجع المستمر منذ أربعة أشهر في الصادرات إلى أميركا، التي تشدد القيود التجارية في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب.
حدود التحفيز والسياسة الاقتصادية
ويبقى التساؤل الأكبر مطروحًا: لماذا لا تقدم بكين حزما تحفيزية كبرى لإنقاذ العقارات أو لتوسيع شبكة الأمان الاجتماعي؟ ووفق بلومبيرغ، هناك سببان رئيسيان:
ركّزت القيادة على القطاعات التكنولوجية المتقدمة، التي يواصل الحزب الحاكم دعمها باعتبارها أولوية إستراتيجية.
افتقرت الصين إلى القدرة على إطلاق حزم إنقاذ واسعة بسبب "الانكماش المستمر"، حيث نما الناتج المحلي الإجمالي الاسمي في الربع الثاني بنسبة 3.9% فقط، وهو أدنى مستوى منذ بدء السجلات عام 1993 باستثناء فترة الجائحة، وأقل من نمو اليابان البالغ 4.2%.
وخلص تقرير بلومبيرغ إلى أن البيانات الأخيرة تمثل "جرس إنذار لبكين"، لكن فرص إحداث تحول حقيقي لتعزيز الطلب المحلي تظل ضئيلة. ورغم مفارقة الأداء الإيجابي في التصدير، فإن الداخل الصيني يغرق في أزمة ثقة واستهلاك ضعيف، وعقارات منهارة، ونمو اسمي يلامس مستويات خطيرة من الركود التضخمي.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

سامسونغ تتغلب على آبل بسبب الهواتف القابلة للطي
سامسونغ تتغلب على آبل بسبب الهواتف القابلة للطي

الجزيرة

timeمنذ 5 ساعات

  • الجزيرة

سامسونغ تتغلب على آبل بسبب الهواتف القابلة للطي

انتزعت مبيعات سامسونغ الصدارة من آبل في الربع الماضي بعد طرح الجيل الجديد من هواتفها القابلة للطي لتزيد حصتها من الهواتف المبيعة إلى 31%، وذلك وفق تقرير نشره موقع "سي إن بي سي". ويشير التقرير إلى أن حصة آبل من الهواتف المبيعة انخفضت بشكل عام لتصل إلى 49% بعد أن سجلت 56% في الربع الماضي، ويتزامن هذا الانخفاض مع طرح سامسونغ للجيل الجديد من هواتفها القابلة للطي بحجميها المختلفين. ورغم أن آبل سجلت ارتفاعا في مبيعات "آيفون" هذا العام بنسبة 13% عن العام الماضي، فإن ثقة المستثمرين في الشركة تزعزعت لتنخفض قيمة أسهم الشركة هذا العام بمقدار 7.5% عن العام الماضي. ويذكر أن سامسونغ في الشهر الماضي طرحت الجيل الجديد من هواتفها القابلة للطي "غالاكسي زي فولد 7" و"غالاكسي زي فليب 7″، وكلاهما يأتي في تصميمات مبتكرة ومحسنة عن الجيل السابق مما أسهم في تعزيز مبيعات الشركة بشكل كبير. وجذبت الهواتف الجديدة المستخدمين من كافة الفئات لمزاياها المحسنة، وكان لهاتف "غالاكسي زي فولد 7" نصيب الأسد من المستخدمين الجدد بفضل التصميم النحيف للغاية للهاتف، وهو الأمر الذي دفع المستخدمين إلى اختبار الهاتف بشكل مكثف. وقام أحد المستخدمين بمشاركة مقطع في منصات التواصل الاجتماعي وهو يغلق الهاتف ويفتحه أكثر من 200 ألف مرة في إثبات واضح لجودة الهاتف. ويذكر التقرير أن ذكر هواتف سامسونغ القابلة للطي ورد أكثر من 50 ألف مرة في منصات التواصل الاجتماعي المختلفة في العالم، ومن بينهم أثنى 83% من المستخدمين على الهواتف أو كانت تعليقاتهم محايدة. كما أسهمت الضرائب التي تفرضها الحكومة الأميركية في تغيير شحنات الهواتف الواردة إلى الولايات المتحدة، إذ تحاول الشركات خفض ضرر هذه الضرائب على اقتصادها ومبيعاتها بشكل عام. ويرى ساميك تشاترجي المحلل في شركة "مورجان ستانلي" أن مستثمري آبل ينتظرون طرح الشركة لهاتفها القابل للطي، وهو الأمر المحتمل حدوثه في العام المقبل كجزء من هواتف "آيفون 18″، مؤكدا أن سعر الهاتف قد يقترب من ألفي دولار، وهو السعر الحالي للهواتف "غالاكسي زي فولد 7" الجديدة من سامسونغ.

إندونيسيا بعد 80 عاما.. من تضاعف المساحة إلى معركة الأمن البحري
إندونيسيا بعد 80 عاما.. من تضاعف المساحة إلى معركة الأمن البحري

الجزيرة

timeمنذ 5 ساعات

  • الجزيرة

إندونيسيا بعد 80 عاما.. من تضاعف المساحة إلى معركة الأمن البحري

جاكرتا- قبل 80 عاما، وفي 17 أغسطس/آب 1945، أعلن عن استقلال إندونيسيا ، بعد قرون من مقاومة الاستعمار الهولندي وقبل ذلك البرتغالي والإسباني وحتى البريطاني، وقد قدمت في الطريق إلى الحرية والاستقلال العديد من التضحيات بمشاركة عشرات السلطنات وقادتها وسكانها. وكان ذلك الاستقلال ثمرة نضال طويل قدّم خلاله الإندونيسيون عشرات الآلاف من الشهداء من أقصى غرب البلاد إلى أقصى شرقها، ومع أن إعلان الاستقلال تمّ على يد الزعيمين أحمد سوكارنو ومحمد حتا عام 1945، فإن هولندا لم تعترف به إلا بعد 4 سنوات من حرب دامية عُرفت بالثورة الوطنية الإندونيسية. خطاب تحذيري وفي الذكرى الثمانين لاستقلال إندونيسيا، حذّر الرئيس برابوو سوبيانتو -أمام البرلمان في كلمته السنوية للأمة- من خطر تحوّل بلاده إلى "دولة فاشلة" إذا استمر ما وصفه بـ"التسرب الهائل للثروة الوطنية" مؤكدا التزامه بحماية الموارد الوطنية وتعزيز القدرات الدفاعية وسط حالة من عدم اليقين الجيوسياسي. وديمغرافيا، وحسب أول تعداد أجري بعد الاستقلال بنحو 15 عاما في أكتوبر/تشرين الثاني 1961، كان عدد سكان إندونيسيا حينها 97 مليون نسمة، وقد بلغ عددهم بعد 8 عقود 284.4 مليون نسمة، حسب هيئة الإحصاء الوطنية. وهم يشكلون بذلك 41% من سكان دول منطقة جنوب شرق آسيا "آسيان" وهي اليوم أكبر دولة في العالم الإسلامي، والرابعة في العالم بعد الصين والهند وأميركا. وخلال هذه المدة، لم يتضاعف عدد السكان فقط بل تضاعفت أيضا مساحة إندونيسيا الجغرافية، فبعد أن كانت مساحتها عند الاستقلال 1.9 مليون كيلومتر مربع (مساحة اليابسة) باتت اليوم 8.3 ملايين كيلومتر مربع، بعد اعتراف الأمم المتحدة بمفهوم "الدولة الأرخبيلية" الذي تبنته إندونيسيا عبر إعلان "جواندا" عام 1957. وبموجب إعلان جواندا، بسطت إندونيسيا سيادتها على البحار بين جزرها البالغ عددها أكثر من 17 ألف جزيرة، لتصبح أكبر دولة أرخبيلية في العالم. تهديدات خارجية لكن هذه المكانة جعلت بحار إندونيسيا مسرحا للتوترات الإقليمية والدولية، فبحر ناتونا الشمالي، المتداخل مع خرائط بحر جنوب الصين ، يشهد توغلا متكررا لسفن صيد وأبحاث صينية، فضلا عن مئات السفن الفيتنامية. ويؤكد خبراء الأمن البحري أن ضعف قدرات الدوريات البحرية يشكل ثغرة تستغلها هذه القوى، في وقت يتعين على إندونيسيا تعزيز أسطولها البحري وتحديث أنظمة المراقبة. وإلى جانب المخاطر الخارجية، تواجه إندونيسيا تحديات داخلية تتعلق بالفقر والتفاوت الاقتصادي في المناطق الساحلية، وضعف البنية التحتية للنقل بين الجزر، وجرائم الصيد غير المشروع، والتهريب، والاتجار بالبشر، والتلوث البحري، ووفق بيانات التخطيط التنموي لعام 2023 بلغ معدل الفقر بين سكان السواحل أكثر من 11%. ويؤكد خبراء أن مستقبل إندونيسيا كقوة إقليمية يعتمد على إدارتها لبحارها، فهي شريان اقتصادها ومصدر رزق الملايين من سكانها، إضافة إلى كونها ممرا إستراتيجيا بين الولايات المتحدة والصين. وبالتالي فإن تعزيز الأمن البحري، وتبني سياسات استدامة للموارد البحرية، والانخراط الدبلوماسي وفق القانون الدولي، عوامل حاسمة لضمان أن يظل "الاستقلال" الذي تحقق قبل 80 عاما قائما ومستداما. ومن جانبه، أكد إمام براكوسو كبير خبراء الأمن البحري في معهد "المبادرة الإندونيسية للعدالة في المحيطات" -عن التحديات التي تواجه بلاده كدولة جزرية في ظل التوتر بالمياه المحيطة- أنه مع تزايد حدة التطورات في بحر جنوب الصين وعدم ظهور أي بوادر تهدئة للأوضاع، فإن أولوية إندونيسيا تتمثل في "تعزيز قدرات نظام الأمن البحري". أهمية بحرية وأشار براكوسو -في حديثه للجزيرة نت- إلى أهمية بحار إندونيسيا جيوإستراتيجيا وعسكريا بالقول إن "البحار الإندونيسية ممر يربط بين مواقع القوى الجيوسياسية العالمية، أميركا والصين، والتهديدات الأمنية البحرية المرتبطة بهذه الحالة تتمثل في تعرض البحار الإندونيسية للاستكشاف غير القانوني بما يخالف القانون الدولي". ولفت إلى أن "إندونيسيا لديها مهمة إنجاز تحديد الحدود البحرية مع الدول المطلة على بحر جنوب الصين، حيث تجب المصادقة على حدود المنطقة الاقتصادية الخاصة مع فيتنام على وجه السرعة بعد أن تم الاتفاق على هذه الحدود". وفي ظل تداخل المزاعم في بحر جنوب الصين ولأن جزءا من مياه إندونيسيا في خرائط الصين، فإن خبير الأمن البحري الإندونيسي يحذر من أن تؤثر النزاعات في هذا البحر على الأمن البحري في بحر ناتونا الشمالي (شمالي إندونيسيا) لأن هذه المنطقة تقع على حدود بحر جنوب الصين. ودعا براكوسو إلى تقدير الجهود التي تبذلها أجهزة إنفاذ القانون الإندونيسية المختصة في البحر بالرد بشكل مناسب على تدخل السفن الصينية التي تنتهك السيادة في بحر ناتونا الشمالي، مشيرا إلى ضرورة تعزيز هذه القدرة حتى يمكن طرد هذه التهديدات على الفور، وأن يدعم ذلك بجهود دبلوماسية تستند إلى القانون الدولي لتعزيز موقف جاكرتا. كما دعا إلى تحسين لوائح إدارة نظام الأمن والسلامة البحرية للسفن، والاستجابة السريعة لحوادث البحار، قائلا "لا يمكن للحكومة أن تعمل بمفردها في إدارة البحار بما في ذلك الحفاظ على أمنها، يجب فتح الباب أمام مشاركة المجتمعات واستخدام أحدث التقنيات لمساعدة الحكومة في تعزيز نظام الأمن البحري ودفع عجلة الاقتصاد المجتمعي". وحذر براكوسو من أن إندونيسيا ما زالت عاجزة عن تأمين بحارها بشكل كامل، إذ سجل مؤشر الأمن البحري لعام 2023 مستوى 56 ضمن فئة "كافي" وتستمر التحديات في جرائم الصيد غير المشروع، والتهريب، والتجارة غير القانونية، والاتجار بالبشر واستغلالهم، إضافة إلى التلوث البيئي، والقرصنة، والتعدين البحري غير المشروع. وأضاف أن إندونيسيا تشهد تدميرا متواصلا للنظم البيئية البحرية، وهو ما يعجّل بآثار تغير المناخ. أما المجتمعات الساحلية -التي تعتمد على البحر كمصدر رئيسي للرزق- فتواجه تداعيات اجتماعية واقتصادية ملموسة جراء ضعف الأمن البحري. ووفق هيئة التخطيط التنموي، بلغ معدل الفقر بين سكان السواحل عام 2023 نحو 11.02%.

هل يعود الجيش الأميركي لاحتلال بنما؟ إجابات من داخل قواعده القديمة
هل يعود الجيش الأميركي لاحتلال بنما؟ إجابات من داخل قواعده القديمة

الجزيرة

timeمنذ 12 ساعات

  • الجزيرة

هل يعود الجيش الأميركي لاحتلال بنما؟ إجابات من داخل قواعده القديمة

بنما سيتي- وسط غابات استوائية كثيفة وشواطئ ساحرة مطلة على المحيط الأطلسي والبحر الكاريبي، تقف قاعدة شيرمان العسكرية السابقة بقعةً جغرافية إستراتيجية جمعت يوما بين مظاهر الهيمنة الأميركية، وأسراب الطائرات المقاتلة، وتشكيلات المدرعات الثقيلة، ضمن مهمة تأمين قناة بنما ثاني أهم الممرات المائية في العالم. المكان الذي احتضن آلاف الجنود الأميركيين عقودا، تحول لاحقا إلى منطقة مهجورة تحرسها فقط الأشجار الاستوائية، وهو يشهد اليوم تحولات حساسة في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية، وتصريحات أميركية عالية السقف بشأن مستقبل القناة وموقعها الحاسم في صراعات النفوذ الدولية، وعلى رأسها التنافس مع الصين. رغم الجاهزية العسكرية والبنية التحتية المتقدمة التي تركتها الولايات المتحدة في قاعدة شيرمان، فإن بنما والتزاما بمعاهدة الحياد الخاصة بالقناة، لم تستثمر هذا الموقع عسكريا، بل اكتفت بوضع شرطي واحد فقط عند مدخل القاعدة، كجزء من سياستها الثابتة بعدم وجود جيش نظامي تقليدي. إلى جانب شيرمان، تبدو قواعد أمادور وكلايتون أيضا شواهد صامتة على الحضور العسكري الأميركي الهائل الذي استمر حتى عام 1999، بهدف تأمين القناة وحماية المصالح الأميركية المرتبطة بها. لكن الملف عاد إلى الواجهة من جديد بعد أن أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب تصريحات مثيرة في خطاب تنصيبه في 20 يناير/كانون الثاني الماضي، دعا فيها صراحة إلى استعادة السيطرة على القناة "بكل الوسائل"، بما فيها العسكرية، في ما وصفه كثيرون بعودة اللهجة الاستعمارية. زيارات ورسائل لم تتأخر الاستجابة الأميركية، حيث كانت بنما أولى وجهات وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث بعد تنصيب ترامب، وهدفت الزيارة إلى فتح صفحة جديدة من التعاون العسكري، وسط مخاوف أميركية متزايدة مما تصفه واشنطن بـ"النفوذ الصيني المتصاعد" في هذا البلد الصغير ذي الأهمية الجيوسياسية الكبرى. وفي حديثه للجزيرة نت، أوضح مسؤول عسكري أميركي سابق -طلب عدم الكشف عن هويته- أن "القلق الحقيقي داخل البنتاغون هو أن تمتلك الصين، بنفوذها الاقتصادي في بنما، القدرة على تعطيل حركة الملاحة في القناة إذا اندلعت مواجهة واسعة مع واشنطن". من جهته، أعرب الخبير القانوني البنمي ألونسو إيلوسيا عن صدمة الرأي العام المحلي من تصريحات ترامب، قائلا للجزيرة نت، "شعرنا بالقلق الشديد، فلم يسبق أن تلقينا أي تحذير أو مؤشر على هذا الموقف الأميركي الجديد. الولايات المتحدة هي حليفنا الأهم، وإذا كان هناك تهديد حقيقي من الصين، فنحن بحاجة لمعلومات موثقة وليس تصريحات فضفاضة". عودة أميركية من بوابة "الحياد" زيارة هيغسيث، وتعد الأولى من نوعها منذ زيارة دونالد رامسفيلد عام 2004، ركزت على قضايا الأمن والدفاع البحري، وأسفرت عن توقيع وثيقتين مهمتين مع الجانب البنمي: الأولى مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون الأمني، والثانية إعلان مشترك بشأن حماية القناة وتشغيلها. وبموجب التفاهمات الجديدة، سمح للقوات الأميركية بالوصول المؤقت إلى ثلاث قواعد سابقة: "بنما باسيفيكو" (قاعدة هوارد الجوية)، و"رودمان" البحرية في بالبوا، و"شيرمان" الجوية في كريستوبال، دون تمركز دائم، احتراما لوضع الحياد المنصوص عليه في معاهدات 1977. لكن هذه الخطوة أثارت نقاشا داخليا واسعا في بنما. وفي حديث للجزيرة نت، قال سائق الأجرة البنمي ألبرتو لوكاس، والذي كان ينقل زائرين إلى قاعدة شيرمان "صحيح أننا لا نمتلك جيشا، لكن لدينا أكثر من أربعة ملايين مواطن مستعدون للدفاع عن سيادة القناة، إذا ما فكر ترامب في العودة بقوة السلاح". ويرى مراقبون أن الولايات المتحدة، رغم انسحابها العسكري الرسمي عام 1999، لم تتخل فعليا عن مهمة تأمين القناة، وواصلت مراقبتها من كثب بأدوات مختلفة، منها المناورات المشتركة. مسؤولية الحماية وفي مقابلة للجزيرة نت، قال خايمي ترويانو، المتحدث الرسمي باسم هيئة إدارة قناة بنما، إن "أمن القناة مضمون بموجب القانون الدولي ، ولدينا قوات أمن وشرطة تتولى مسؤولية الحماية، بما يشمل المرافق والسفن العابرة". لكن ترويانو رفض الإفصاح عن أي دور أميركي غير معلن في تأمين القناة، رغم أن 40% من حاويات التجارة الأميركية تمر سنويا من هذا الممر الحيوي. ورغم تأكيد هيغسيث على حياد القناة والتعاون الثنائي، فقد أشار في تصريح لافت إلى أن "تأمين القناة يجب أن يتم بالتعاون بين بنما والولايات المتحدة، وليس بين بنما والصين"، مشددا على أن "الصين لم تبن هذه القناة، ولا تديرها، ولن تستخدمها كسلاح في صراع النفوذ". عبء التاريخ منذ أواخر القرن التاسع عشر، ظلت العلاقات البنمية الأميركية مرتبطة مباشرة بقناة بنما. ففي عام 1903، وبعد أيام من استقلال بنما، وقعت معاهدة "هاي-بوناو-فاريلا" إذ منحت واشنطن حق السيطرة على منطقة القناة إلى الأبد. وظلت الولايات المتحدة تمارس سلطات واسعة على القناة والمنطقة المحيطة بها حتى عام 1999، تاريخ تسليم القناة رسميا إلى بنما، بموجب معاهدتي 1977، اللتين نصتا على تولي بنما إدارة القناة مع ضمان حيادها الدائم. ومنذ ذلك الحين، نجحت بنما في تشغيل القناة بفعالية، وأكملت مشروع التوسعة التاريخي عام 2016، مما سمح بمرور سفن عملاقة من طراز "نيو بناماكس"، في خطوة عززت مكانة القناة عالميا وأفادت الولايات المتحدة خاصة. بنما والقيادة الجنوبية الأميركية تندرج بنما وقناتها ضمن نطاق القيادة الجنوبية الأميركية (USSOUTHCOM)، التي تنظم مناورات "بانامكس" الضخمة منذ عام 2003، بمشاركة دول متعددة لضمان أمن القناة وحرية الملاحة، بما يوضح أن التعاون العسكري بين واشنطن وبنما لم ينقطع يوما. في هذا السياق، تبدو تصريحات ترامب عن "استعادة القناة" خارجة على المنطق بالنسبة للعديد من البنميين والمراقبين، الذين يرون أن بلادهم تحولت بعد عام 1989 إلى حليف إستراتيجي للولايات المتحدة، لا إلى "خصم مستهدف". وتزداد المخاوف البنمية مع تصاعد لهجة التهديد في خطابات ترامب، والتي شملت في ديسمبر/كانون الأول الماضي تلميحات ضمنية بالغزو، حين نشر تغريدة قال فيها "عيد ميلاد سعيد للجميع، بمن فيهم جنود الصين الرائعون، الذين يديرون قناة بنما بمحبة، ولكن بشكل غير قانوني". رغم أن الواقع ينفي نفيا قاطعا أي وجود عسكري صيني في بنما، فإن مثل هذه التصريحات أثارت قلقا شعبيا واسعا، وأعادت إلى الأذهان ذاكرة الاحتلال، لتفتح من جديد ملف السيادة على القناة، وتطرح أسئلة ملحة عن حدود النفوذ الأميركي ومآلاته في أميركا الوسطى.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store