
تيه في صخب عربي مزمن
بعد نهاية حقبة الاستعمار وتحقيق البلدان العربية استقلالها، وجدت القيادات الوطنية نفسها أمام معطيات جديدة. كيانات وليدة لم تكن لهم معرفة سابقة بإدارتها. الدولة، اسم يحمله الإناء السياسي الجديد الذي يجمع كل أبناء الوطن المستقل. النظام الملكي كان الخيار السياسي الذي ساد في الكيانات المستقلة الجديدة. الحكمة التي أنتجتها المعاناة الطويلة زمن الاستعمار، ومعارك الاستقلال المسلحة والسياسية، كانت المشاعل التي أضاءت طريق العهد الجديد. البنى الاجتماعية وأنماط الإنتاج الاقتصادي، بما فيها الزراعي والرعوي والعمل التعاوني الجماعي، وتكوين المجتمع المحكوم بالعقل الجمعي الموروث، كرَّس السلم الاجتماعي. الدولة بإقليم وشعب وحكومة تكوين سياسي أبدعته أوروبا بعقول فلاسفتها عبر قرون، وتجارب ساستها ومعاناة شعوبها جراء صراعات دموية. كل الأنظمة الإمبراطورية السابقة التي حكمت العالم كانت سلطات ولم تكن دولاً.
ساد التفاهم والتعاون والسلام بين الدول العربية بعد حصولها على الاستقلال. بناء الوطن وتحقيق التنمية والخدمات وبخاصة في مجالات التعليم والصحة والبنى التحتية، كانت همَّ قادة كيان التكوين الجديد، يسهرون على بناء وطن لمواطن نهض من حقب الاستعمار والفقر والجهل والمرض.
احتلال فلسطين وقيام دولة إسرائيل، كان الباب الذي شق طريق التيه العربي الطويل. الجيش تنظيم مسلح مناط به الدفاع عن حدود الوطن المستقل، وهو من مكونات الدولة وأعمدتها ولا علاقة له بالشأن السياسي. سنة 1949 هوت مطرقة مسلحة على دولة سوريا المستقلة، وقام الضابط حسني الزعيم بإسقاط نظامها والاستيلاء على الحكم بقوة السلاح. كانت تلك الضربة بداية لإطلاق النار على واقع يعج بالأمل والحلم. صارت سوريا حقلاً بذوره ألغام تفجّر بعضها، انقلابات متواصلة تنقلب على نفسها، الإعدام والسجن والعزل السياسي والعسكري، هي درجات سلم الصعود على سلم الحكم. الآيديولوجيا معزوفة الصخب العنيف. حزب البعث العربي الاشتراكي حلبة التيه، في صراخها يقتل الرفيق رفيقه، أو يغلق عليه باب الحديد حتى يرحمه الموت. تحركت مسبحة الانقلابات العسكرية من القاهرة إلى بغداد، واليمن بشماله وجنوبه، والجزائر والسودان وموريتانيا وليبيا. فعل الصخب العنيف فعله، تصارعت الأصوات العابرة للحدود على أجهزة الراديو وسطور الكتب والصحف. تحرير فلسطين والوحدة العربية الشاملة والاشتراكية والهجوم على الرجعية ومواجهة الإمبريالية العالمية. الأنظمة الجمهورية التي وُلدت من فوهات البنادق لم تحقق أي شعار رفعته، لكنها تفننت في تصفية قياداتها. في اليمن الشمالي قُتل ثلاثة رؤساء، وفي الجنوبي الشيوعي أطلق قادته النار على بعضهم في اجتماع تاريخي غيَّر مصير البلاد والعباد، وفي السودان تدلت المشانق، أما في العراق فكانت قاعة الخلد أم وأب سطوة التيه والصخب الدموي، يوم أعدم أعضاء القيادة القومية والقطرية. غاب البحث العلمي والتعليم والصناعة والإنتاج الزراعي وسيادة القانون، والوحدة العربية، بل حتى الوحدة الوطنية. أمن النظام وحده هو ما يسخر له كل شيء.
السيادة هي الركيزة الأساسية للدولة، ولا يحق لأي دولة أن تتدخل في شؤون دولة أخرى. في أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية، ترسخت هذه القاعدة مما ساعد على توسيع حلقات التعاون بينها، لكن في المنطقة العربية، ما زال التيه الصاخب المزمن يفعل فعله.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


أخبارنا
منذ 3 أيام
- أخبارنا
د. ماجد الخواجا : تجميع الشتات وتشتيت المجموع (1)
أخبارنا : جمع الشتات وتشتيت المجموع، هذه هي حكاية القضية الفلسطينية، اليهود في كل العالم لا يتجاوز عديدهم 15 مليون يهودي، منهم فئات وشرائح ترفض إقامة دولة يهودية بالمطلق، منهم من يرفض العيش في الدولة الكيانية ويحمل جنسية وعادات الدول التي يتواجدون بها. هؤلاء يتم تجميعهم وإقناعهم أنهم أصحاب دين نخبوي وأصحاب قومية وجنسية وهوية وعرق أيضاً، بصرف النظر عن منبتهم وتواجدهم ولونهم ودين آبائهم باعتبار أن اليهودي في تعريفهم هو من ولدته أم يهودية ومهما كانت ديانة أو لا ديانة الأب. هكذا تم تجميع الخزر والفلاشا واللاتينيين والعرب والأوروبيين واليهود الشرق أوروبيين والهنديين والفارسيين، بأنهم يهود صهيونيين حملة رسالة إلهية عنصرية تقوم على الوعد بالأرض المقدسة وأنها أرض بلا شعب لشعبٍ بلا أرض. فكان ان تم قتل وطرد وتهجير واقتلاع الفلسطينيين من ارضهم التاريخية لتحقيق نبوءات وبروتوكولات من يدعون بحكماء صهيون ورؤى هيرتزل ورفاقه. لم تكن المسألة أو القضية اليهودية شأناً عربياً أو إسلامياً ذات تاريخ ما، فهي مسألة غربية أوروبية قامت عند بزوغ النزعات القومية الأوروبية، وحصلت على التأييد العظيم لها مع نشاة البروتستانت عندما كتب مارتن لوثر كتابه « عيسى ولد يهودياً» لتظهر حركة الصهيومسيحية التي آمنت بضرورة إقامة المملكة اليهودية وبناء الهيكل وانتظار الخلاص الأخروي. ما بين أشكناز وسفارديم، بين الصابرا ويهود الدياسبورا أي يهود المنفى، بين الشتات والتيه، بين السبي البابلي الأول، وكورش الفارسي الذي أواهم من المنفى، بين العبرانيين الذي عبروا بعد التيه الأول، بين التوراة الشريعة المكتوبة، والتلمود الشريعة الشفهية، وبروتوكولات صهيون، بين التوراة العبرية، التوراة السامرية، التوراة اليونانية. بين ريشون لوسيون أول مستعمرة صهيونية وتعني عتبة الأمل التي كانت بداية الشتات الفلسطيني. بين الأرض الموعودة والهيكل المزعوم وجبل صهيون، أساطير توالدت وتراكمت لتأخذ شكلاً مقدساً يتم بموجبه إختلاق تاريخ وشعب وحق متخيّل وإرادة إلهية مزعومة. لقد قسّم سايكس وبيكو العالم العربي بالقلم والمسطرة، وكانت النوايا تحتمل عديد من البدائل، منها التقسيم على أسسٍ قومية أو طائفية أو عرقية، كأن تكون هناك إمارات كردية وأمازيغية ومسيحية وعلوية ودرزية وقبطية وغيرها. لكن نتيجة المرحلة وسياقاتها وما تمخض من نتائج الحرب العالمية الأولى والثانية، فقد تم رسم الدول دون اعتبار لمثل تلك الإثنيات. الآن بعد قرنٍ من سايكس وبيكو، يعود الحديث لتقسيم المقسّم وتفتيت المفتت أصلاً، فإذا كان الحديث سابقاً عن بلاد المغرب العربي الكبير، بلاد حوض النيل، شبه الجزيرة العربية، بلاد الهلال الخصيب، شاهدنا إعادة رسم الخرائط على أسسٍ طائفية كأن يكون هناك دولة شيعية ودولة زيدية ودولة سنيّة ودولة مسيحية، ثم شاهدنا خرائط لدولٍ متناهية الصغر تقوم على العرق أو الطائفة مثلما حدث في السودان والصومال وليبيا ولبنان وسوريا الآن والعراق، وهذا يبدو تتويج الغايات الإستعمارية للإمبريالية العالمية وربيبتها الصهيونية، حيث لا يمكن لدولة الاحتلال أن تتبوا المراتب الأولى في الحضارة والقوة والهيمنة وسط محيط عربي معادي لها، والحل أن يتم تجزئة هذا المحيط وتفتيته بحيث ينشغل بخلافاته وتناحره، مع ضمان تبعيته ومحدودية إمكاناته وموارده. ة.

الدستور
منذ 3 أيام
- الدستور
تجميع الشتات وتشتيت المجموع (1)
جمع الشتات وتشتيت المجموع، هذه هي حكاية القضية الفلسطينية، اليهود في كل العالم لا يتجاوز عديدهم 15 مليون يهودي، منهم فئات وشرائح ترفض إقامة دولة يهودية بالمطلق، منهم من يرفض العيش في الدولة الكيانية ويحمل جنسية وعادات الدول التي يتواجدون بها. هؤلاء يتم تجميعهم وإقناعهم أنهم أصحاب دين نخبوي وأصحاب قومية وجنسية وهوية وعرق أيضاً، بصرف النظر عن منبتهم وتواجدهم ولونهم ودين آبائهم باعتبار أن اليهودي في تعريفهم هو من ولدته أم يهودية ومهما كانت ديانة أو لا ديانة الأب.هكذا تم تجميع الخزر والفلاشا واللاتينيين والعرب والأوروبيين واليهود الشرق أوروبيين والهنديين والفارسيين، بأنهم يهود صهيونيين حملة رسالة إلهية عنصرية تقوم على الوعد بالأرض المقدسة وأنها أرض بلا شعب لشعبٍ بلا أرض.فكان ان تم قتل وطرد وتهجير واقتلاع الفلسطينيين من ارضهم التاريخية لتحقيق نبوءات وبروتوكولات من يدعون بحكماء صهيون ورؤى هيرتزل ورفاقه.لم تكن المسألة أو القضية اليهودية شأناً عربياً أو إسلامياً ذات تاريخ ما، فهي مسألة غربية أوروبية قامت عند بزوغ النزعات القومية الأوروبية، وحصلت على التأييد العظيم لها مع نشاة البروتستانت عندما كتب مارتن لوثر كتابه « عيسى ولد يهودياً» لتظهر حركة الصهيومسيحية التي آمنت بضرورة إقامة المملكة اليهودية وبناء الهيكل وانتظار الخلاص الأخروي. ما بين أشكناز وسفارديم، بين الصابرا ويهود الدياسبورا أي يهود المنفى، بين الشتات والتيه، بين السبي البابلي الأول، وكورش الفارسي الذي أواهم من المنفى، بين العبرانيين الذي عبروا بعد التيه الأول، بين التوراة الشريعة المكتوبة، والتلمود الشريعة الشفهية، وبروتوكولات صهيون، بين التوراة العبرية، التوراة السامرية، التوراة اليونانية. بين ريشون لوسيون أول مستعمرة صهيونية وتعني عتبة الأمل التي كانت بداية الشتات الفلسطيني. بين الأرض الموعودة والهيكل المزعوم وجبل صهيون، أساطير توالدت وتراكمت لتأخذ شكلاً مقدساً يتم بموجبه إختلاق تاريخ وشعب وحق متخيّل وإرادة إلهية مزعومة.لقد قسّم سايكس وبيكو العالم العربي بالقلم والمسطرة، وكانت النوايا تحتمل عديد من البدائل، منها التقسيم على أسسٍ قومية أو طائفية أو عرقية، كأن تكون هناك إمارات كردية وأمازيغية ومسيحية وعلوية ودرزية وقبطية وغيرها. لكن نتيجة المرحلة وسياقاتها وما تمخض من نتائج الحرب العالمية الأولى والثانية، فقد تم رسم الدول دون اعتبار لمثل تلك الإثنيات. الآن بعد قرنٍ من سايكس وبيكو، يعود الحديث لتقسيم المقسّم وتفتيت المفتت أصلاً، فإذا كان الحديث سابقاً عن بلاد المغرب العربي الكبير، بلاد حوض النيل، شبه الجزيرة العربية، بلاد الهلال الخصيب، شاهدنا إعادة رسم الخرائط على أسسٍ طائفية كأن يكون هناك دولة شيعية ودولة زيدية ودولة سنيّة ودولة مسيحية، ثم شاهدنا خرائط لدولٍ متناهية الصغر تقوم على العرق أو الطائفة مثلما حدث في السودان والصومال وليبيا ولبنان وسوريا الآن والعراق، وهذا يبدو تتويج الغايات الإستعمارية للإمبريالية العالمية وربيبتها الصهيونية، حيث لا يمكن لدولة الاحتلال أن تتبوا المراتب الأولى في الحضارة والقوة والهيمنة وسط محيط عربي معادي لها، والحل أن يتم تجزئة هذا المحيط وتفتيته بحيث ينشغل بخلافاته وتناحره، مع ضمان تبعيته ومحدودية إمكاناته وموارده.


العرب اليوم
منذ 5 أيام
- العرب اليوم
تيه في صخب عربي مزمن
محطات تأسيسية محورية في التاريخ الحديث، قادت إلى ولادة عالم جديد. البداية كانت من توقيع اتفاقية وستفاليا سنة 1648 بين الدول الأوروبية. أدت الاتفاقية إلى إنهاء حروب دينية طويلة في أوروبا. أرست هذه الاتفاقية مبادئ لبنية الدولة القومية، ونصت على سيادة كل دولة على أراضيها. كانت مساحة واسعة من المنطقة العربية، تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية. لم تُعرف الدولة بمفهومها الحديث الذي وُلد في وستفاليا. بعد وهن الإمبراطورية العثمانية في بداية القرن التاسع عشر اندفع الاستعمار الأوروبي إلى المنطقة تحت مظلات الوصاية والحماية أو الاستعمار المباشر. تفككت الإمبراطورية العثمانية نهائياً في نهاية الحرب العالمية الأولى. لاحت خريطة المستقبل المتخيلة في رؤوس بعض العرب. رُفع شعار الثورة العربية ضد إسطنبول، وانضم حسين شريف مكة إلى بريطانيا التي وعدته بدولة عربية تضم الحجاز والعراق والشام. بعد نهاية الحرب العالمية الأولي وانتصار بريطانيا وفرنسا، نكثت بريطانيا بوعدها للشريف حسين، وتقاسمت المنطقة مع فرنسا فيما عُرف باتفاقية سايكس بيكو. العراق لبريطانيا والشام لفرنسا. منذ ذلك التاريخ بدأ صخب عربي، ولم يتوقف وارتفع وتلون مع عبور السنين. وُصفت تلك الاتفاقية بالمؤامرة الكبرى التي قسمت العرب. في الحقيقة لم تكن هناك في المجمل دول عربية، بل مجرد «إيالات»، أي ولايات تابعة للإمبراطورية العثمانية. ثانياً لم تشمل تلك الاتفاقية بين فرنسا وبريطانيا كل المنطقة العربية. شمال أفريقيا من مصر إلى موريتانيا كانت تحت الحماية أو الاستعمار الغربي. مصر تحت الوصاية البريطانية، وليبيا كانت تحتلها إيطاليا، وتونس كانت تحت الحماية الفرنسية والجزائر تحتلها فرنسا، والمغرب مقسمة بين الاستعمار الإسباني والفرنسي وكذلك موريتانيا، ومنطقة الخليج العربي بالكامل لم تطلها «سايكس بيكو». تلك الاتفاقية التي جرى تحويلها مطرقةً هشَّمت كياناً عربياً كان واحداً، وأدت إلى كل ما يعانيه العرب من تشتت وانقسام. المؤامرة كانت وما زالت هي الحبل، الذي يعلق عليه الكثيرون أسمال فشلهم وتخلفهم. بعد نهاية حقبة الاستعمار وتحقيق البلدان العربية استقلالها، وجدت القيادات الوطنية نفسها أمام معطيات جديدة. كيانات وليدة لم تكن لهم معرفة سابقة بإدارتها. الدولة، اسم يحمله الإناء السياسي الجديد الذي يجمع كل أبناء الوطن المستقل. النظام الملكي كان الخيار السياسي الذي ساد في الكيانات المستقلة الجديدة. الحكمة التي أنتجتها المعاناة الطويلة زمن الاستعمار، ومعارك الاستقلال المسلحة والسياسية، كانت المشاعل التي أضاءت طريق العهد الجديد. البنى الاجتماعية وأنماط الإنتاج الاقتصادي، بما فيها الزراعي والرعوي والعمل التعاوني الجماعي، وتكوين المجتمع المحكوم بالعقل الجمعي الموروث، كرَّس السلم الاجتماعي. الدولة بإقليم وشعب وحكومة تكوين سياسي أبدعته أوروبا بعقول فلاسفتها عبر قرون، وتجارب ساستها ومعاناة شعوبها جراء صراعات دموية. كل الأنظمة الإمبراطورية السابقة التي حكمت العالم كانت سلطات ولم تكن دولاً. ساد التفاهم والتعاون والسلام بين الدول العربية بعد حصولها على الاستقلال. بناء الوطن وتحقيق التنمية والخدمات وبخاصة في مجالات التعليم والصحة والبنى التحتية، كانت همَّ قادة كيان التكوين الجديد، يسهرون على بناء وطن لمواطن نهض من حقب الاستعمار والفقر والجهل والمرض. احتلال فلسطين وقيام دولة إسرائيل، كان الباب الذي شق طريق التيه العربي الطويل. الجيش تنظيم مسلح مناط به الدفاع عن حدود الوطن المستقل، وهو من مكونات الدولة وأعمدتها ولا علاقة له بالشأن السياسي. سنة 1949 هوت مطرقة مسلحة على دولة سوريا المستقلة، وقام الضابط حسني الزعيم بإسقاط نظامها والاستيلاء على الحكم بقوة السلاح. كانت تلك الضربة بداية لإطلاق النار على واقع يعج بالأمل والحلم. صارت سوريا حقلاً بذوره ألغام تفجّر بعضها، انقلابات متواصلة تنقلب على نفسها، الإعدام والسجن والعزل السياسي والعسكري، هي درجات سلم الصعود على سلم الحكم. الآيديولوجيا معزوفة الصخب العنيف. حزب البعث العربي الاشتراكي حلبة التيه، في صراخها يقتل الرفيق رفيقه، أو يغلق عليه باب الحديد حتى يرحمه الموت. تحركت مسبحة الانقلابات العسكرية من القاهرة إلى بغداد، واليمن بشماله وجنوبه، والجزائر والسودان وموريتانيا وليبيا. فعل الصخب العنيف فعله، تصارعت الأصوات العابرة للحدود على أجهزة الراديو وسطور الكتب والصحف. تحرير فلسطين والوحدة العربية الشاملة والاشتراكية والهجوم على الرجعية ومواجهة الإمبريالية العالمية. الأنظمة الجمهورية التي وُلدت من فوهات البنادق لم تحقق أي شعار رفعته، لكنها تفننت في تصفية قياداتها. في اليمن الشمالي قُتل ثلاثة رؤساء، وفي الجنوبي الشيوعي أطلق قادته النار على بعضهم في اجتماع تاريخي غيَّر مصير البلاد والعباد، وفي السودان تدلت المشانق، أما في العراق فكانت قاعة الخلد أم وأب سطوة التيه والصخب الدموي، يوم أعدم أعضاء القيادة القومية والقطرية. غاب البحث العلمي والتعليم والصناعة والإنتاج الزراعي وسيادة القانون، والوحدة العربية، بل حتى الوحدة الوطنية. أمن النظام وحده هو ما يسخر له كل شيء. السيادة هي الركيزة الأساسية للدولة، ولا يحق لأي دولة أن تتدخل في شؤون دولة أخرى. في أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية، ترسخت هذه القاعدة مما ساعد على توسيع حلقات التعاون بينها، لكن في المنطقة العربية، ما زال التيه الصاخب المزمن يفعل فعله.