
من هو قائد الثورة السورية الكبرى ورمز الكفاح ضد الاستعمار؟
مع تدهور الوضع في السويداء وهي المنطقة التي يتركز فيها الدروز بجنوب سوريا بعد التصعيد بين قوات الحكومة السورية وعشائر بدوية من جهة وعناصر درزية من جهة أخرى، برز اسم سلطان باشا الأطرش على الساحة من جديد، فقد خرج من كتب التاريخ ليذكر الجميع بالدور الذي لعبه في تاريخ سوريا.
وتقول دائرة المعارف البريطانية إن الزعيم الدرزي سلطان الأطرش قاد في عام 1925 ثورةً ضد الحكم الفرنسي، وبعد نجاحها المحلي، انضم إليها قوميون سوريون من خارج الطائفة الدرزية، فانتشرت الثورة في جميع أنحاء المنطقة وصولًا إلى دمشق قبل إخمادها عام 1927، ويعتبر السوريون هذه الثورة أول انتفاضة وطنية في تاريخ البلاد.
البدايات والاحتلال الفرنسي
Getty Images
السيدة في الصورة هي زوجة ويليام سيبروك، وهو مراسل صحفي أمريكي كتب سلسلة مقالات عن الثورة ضد الفرنسيين في سوريا، وعن يمينها علي بك الأطرش، وعن يسارها مصطفى بك الأطرش، وهما شقيقا سلطان باشا، قائد الثورة ضد الفرنسيين
وُلد سلطان باشا الأطرش في 5 مارس/ آذار من عام 1891 في بلدة القريّا الواقعة جنوب سوريا، ضمن منطقة جبل الدروز (التي تُعرف اليوم بجبل العرب)، في عائلة عريقة تنتمي إلى الطائفة الدرزية، وكان والده، ذوقان الأطرش، زعيماً محلياً قاد معارك ضد العثمانيين، وأُعدم شنقاً عام 1911. وهكذا، شهدت طفولة سلطان باشا الأطرش أحداثاً سياسية مضطربة، إذ كانت سوريا تحت الحكم العثماني، وشهدت المنطقة توترات قبلية وصراعات بين الزعامات المحلية، ما أسهم في تشكّيل وعيه السياسي المبكر.
وقبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، انضم إلى الجيش العثماني وحارب في البلقان حتى أنه حصل على لقب "باشا" من السلطات العثمانية تقديراً لخدماته.
وبعد أنتهاء خدمته كانت الحرب العالمية الأولى قد وضعت أوزارها، فعاد إلى الشام للتصدي للوجود الفرنسي والبريطاني حيث بدأ ينشط في الاتصال بالحركات العربية، وكان سلطان الأطرش أول من رفع علم الثورة العربية على أرض الشام قبل دخول جيش الملك فيصل بن الحسين، حيث رفعه على داره في القرياّ.
كما كان في طليعة الثوار الذين دخلوا دمشق سنة 1918، وقد رفع العلم العربي في ساحة المرجة فوق دار الحكومة بدمشق الأمر الذي نال على إثره لقب "باشا" في الجيش العربي من الملك فيصل تقديرا لشجاعته، وذلك بحسب موقع سلطان الأطرش دوت أورغ.
وفي مارس/ آذار من عام 1920 تم الإعلان عن قيام مملكة سوريا الكبرى التي حكمها فيصل بن الحسين، وقد رفضت فرنسا وبريطانيا الاعتراف بالدولة الوليدة وقررتا في أبريل/ نيسان من من عام 1920 خلال مؤتمر سان ريمو المنعقد في إيطاليا تقسيم البلاد إلى 4 مناطق تخضع بموجبها سوريا ولبنان للانتداب الفرنسي وشرق الأردن وفلسطين للانتداب البريطاني، وإن كان لبنان ومعه الساحل السوري وكذلك فلسطين لم تدخل عسكرياً تحت حكم المملكة السورية نظرًا لوجود جيوش الحلفاء فيها منذ نهاية الحرب العالمية الأولى.
وسرعان ما انتهت المملكة السورية في 24 يوليو/ تموز من عام 1920، ففي ذلك اليوم وقعت معركة ميسلون بين الجيش العربي بقيادة يوسف العظمة وزير الدفاع والقوات الفرنسية، وكان سلطان الأطرش قد جهز قوات لنجدة العظمة، لكنه وصل بعد هزيمة الجيش العربي ومقتل العظمة.
وقد حاول الأطرش إقناع الملك فيصل بالتحصن في جبل العرب لمواصلة المقاومة، لكن فيصل غادر سوريا.
Getty Images
جلس فيصل بن الحسين على عرش سوريا عدة أشهر فقط
عمل الانتداب الفرنسي على تقسيم سوريا لدويلات على أساس طائفي عام 1921 ، وتوصل الفرنسيون لمعاهدة مع زعماء الدروز قضت بإنشاء وحدة إدارية مستقلة خاصة للجبل، مقابل اعتراف الدروز بالانتداب الفرنسي، وعُيِّن سليم الأطرش حاكما للجبل بموجب هذا الاتفاق.
ومن جانبه، عارض سلطان الأطرش بشدة فكرة إنشاء دولة درزية مستقلة، رافضًا مخططات الفرنسيين لتقسيم سوريا إلى دويلات طائفية، وقد قال في هذا الإطار:"قطّعت سوريا إربا إربا، وحكمت حكماً استعمارياً محضاً جعل السوريين يترحمون على زمن الأتراك"، وذلك بحسب حسن أمين البعيني في كتابه "سلطان باشا الأطرش والثورة السورية الكبرى".
وفي عام 1922، تصاعدت التوترات مع الفرنسيين بعد اعتقالهم للمقاوم اللبناني أدهم خنجر، الذي أراد أن يحتمي بدار سلطان الأطرش، فقاد سلطان معركة تل الحديد ضد القوات الفرنسية، محققًا انتصاراً وأسر جنوداً فرنسيين، وقد وافق الفرنسيون على إطلاق سراح خنجر مقابل الأسرى، لكنهم أعدموه لاحقاً ودمروا منزل سلطان في القريا.
وردًا على ذلك، قاد الأطرش حرب عصابات ضد الفرنسيين، فكانت هذه انتفاضته الأولى التي دامت 9 أشهر خلال عام 1922 وذلك رفضاً للاستعمار وتكريساً لتقاليد العرب في حماية الضيف، فحكم عليه الفرنسيون بالإعدام، فلجأ إلى الأردن، ولما عجز الفرنسيون عن القبض عليه، أصدروا عفواً عنه وعن جماعته، فعاد إلى السويداء في 5 أبريل/ نيسان من عام 1923 حيث استُقبِلَ استقبالاً شعبياً كبيراً، وذلك بحسب مقال ريم منصور سلطان الأطرش المنشور في موقع مؤسسة الدراسات العلمية.
ولكن لم تهدأ الأوضاع بعد عودته، فبعد وفاة سليم الأطرش مسموما في دمشق عام 1924، خالف الفرنسيون اتفاقهم السابق بتعيين درزي حاكما للجبل، وعيّنوا الكابتن كاربييه حاكما للجبل، والذي مارس سياسة قمعية ضد الأهالي. وفي كتاب "مذكرات الكابتن كاربييه في جبل العرب" يصف كاربييه سلطان باشا بأنه الرجل الوحيد القادر إما على تهدئة جبل العرب أو إشعاله، مشيرا إلى أن الفرنسيين اعتبروا جبل الدروز المكان الوحيد في سورية الذي قد يفتح لهم أزمة حقيقية
الثورة السورية الكبرى
اندلعت الثورة السورية الكبرى في 21 يوليو/ تموز من عام 1925، بقيادة سلطان باشا الأطرش، كرد فعل على سياسات الانتداب الفرنسي القمعية، بما في ذلك تعيين الكابتن كاربييه حاكمًا على جبل العرب.
وكان الدروز قد قدموا وثيقة في 6 يونيو/ حزيران من عام 1925 يطالبون فيها بتعيين حاكم درزي، لكن المفوض الفرنسي ساراي طرد الوفد، مما أشعل الثورة.
وفي 23 يوليو/ تموز من عام 1925 انتصر الثوار بقيادة سلطان باشا على الفرنسيين في معركة الكفر. وحول هذه المعركة، قال فلاديمير لوتسكي في كتابه "الحرب الوطنية التحررية في سوريا 1925-1927": "في معركة الكفر قاد سلطان باشا الأطرش هجومًا خاطفًا ضد الحملة الفرنسية بقيادة الكابتن نورمان، ورغم التفوق العددي الفرنسي، نجح الأطرش وثواره، وعددهم لا يتجاوز 200، في إلحاق هزيمة ساحقة بالفرنسيين، وقُتل نورمان وعدد كبير من جنوده، وعندها أدرك الفرنسيون أن مقاومة الثوار في جبل العرب لا يُستهان بها".
وبعد هذا النصر، تصاعد الزخم الشعبي بالتعاطف مع الثورة، وكانت معركة المزرعة في 2 أغسطس/ آب من عام 1925 حيث واجه حوالي 500 ثائر بزعامة الأطرش حملة فرنسية ضخمة قوامها 3.500 جندي، ورغم الفارق الكبير في العدد والعتاد، تمكن الثوار من تحقيق انتصار كبير وصل صداه إلى البرلمان الفرنسي.
وفي كتابه "الثورة السورية الوطنية: مذكرات الدكتور عبد الرحمن شهبندر" يقول في أعقاب معركة المزرعة في صيف عام 1925، اجتمعت مع القائد العام سلطان باشا الأطرش وعدد من الزعماء الوطنيين في جبل العرب، لبحث توسيع نطاق المقاومة وتحويلها إلى ثورة وطنية شاملة ضد الاستعمار الفرنسي".
"وفي اجتماعنا التاريخي بعد انتصار المزرعة، تقرّر أن تُعلن الثورة في كل أنحاء سوريا، كانت القيادة العامة للثورة في يد المجاهد سلطان باشا الأطرش، وأنيط بي الشأن السياسي والدبلوماسي، وشُكلت لجان للإعلام والدعاية وتنظيم التحركات في الداخل والخارج، واتخذنا القرار بالإجماع، ولم يكن أحدنا يطلب مجدًا شخصيًا، بل كنا ننشد الخلاص لسوريا من الاحتلال، ولو كلفنا ذلك حياتنا".
"ورفع سلطان باشا صوته قائلًا: لن أقبل أن تبقى الثورة حكرًا على الجبل، سوريا واحدة وثورتها واحدة، إن لم يتحرك إخواننا في دمشق وحلب، فنحن من سيسير إليهم، فكان ذلك الإعلان لحظة فاصل بين مقاومة محلية وثورة وطنية".
Getty Images
الدفاع عن قلعة راشيا في جبل الدروز خلال الثورة السورية الكبرى عام 1925
وفي هذا الاجتماع صدر نداء رسمي إلى الشعب السوري، يدعو فيه السوريين في كل المدن للالتحاق بالثورة، والتأكيد على أن ما بدأه أبناء جبل العرب يجب أن يعمّ كامل البلاد.
وقد شكل هذا الحدث لحظة مفصلية في تاريخ سوريا الحديث، حيث تحوّل الحراك من ثورة محلية في جبل العرب إلى ثورة وطنية جامعة ضد الاستعمار، بقيادة سلطان باشا الأطرش.
وأظهر سلطان باشا قدرة عالية على الحشد والتنظيم العسكري، حيث شكّل كتائب مقاتلة اعتمدت على حرب العصابات، واستفاد من تضاريس الجبل في التصدي لحملات الفرنسيين، وكان لشخصيته الكاريزمية دور كبير في جذب المتطوعين من مختلف المناطق السورية، ما جعل الثورة تمثّل وحدة وطنية نادرة بين الطوائف والمذاهب والمناطق.
لكن أدى ضعف تسليح الثوار في النهاية إلى هزيمتهم، وأصدر الفرنسيون حكم إعدام بحق سلطان، مما اضطره للجوء إلى شرق الأردن وشمال الجزيرة العربية عام 1927.
وفي كتاب "أحداث الثورة السورية الكبرى كما سردها قائدها العام سلطان باشا الأطرش 1925-1927"، وهو الكتاب الذي راجعه وصححه منصور سلطان الأطرش، يوثق سلطان باشا الأطرش التحديات اللوجستية والإنسانية التي واجهتها الثورة، مشيراً إلى شح الموارد والأسلحة مقارنة بالقوات الفرنسية. ويروي كيف اعتمد الثوار على العزيمة والتضحيات، مستغلين معرفتهم بالتضاريس الجبلية لشن هجمات خاطفة، مثل معركة المسيفرة في سبتمبر/ أيلول من عام 1925، والتي ألحقت خسائر فادحة بالاحتلال.
وفي عام 1929 نظم سلطان الأطرش مؤتمر الصحراء لمناقشة القضية السورية، مواصلًا التنسيق مع الوطنيين.
وقد عاد سلطان إلى سوريا في عام 1937 بعد العفو الفرنسي الذي أعقب توقيع معاهدة 1936 التي نصت على استقلال سوريا،، واستُقبل استقبال الأبطال في دمشق، حيث اصطف آلاف المواطنين لتحيته.
استمرار النضال
تعرض سلطان باشا الأطرش خلال حكم أديب الشيشكلي في الخمسينيات من القرن العشرين لمضايقات
لم يتوقف نضال سلطان الأطرش عند الثورة السورية الكبرى، ففي عام 1945، قاد مع الأمير حسن الأطرش عمليات لطرد الفرنسيين من جبل العرب، مما جعل السويداء من أوائل المناطق المحررة، وردت فرنسا بقصف دموي استهدف دمشق والسويداء، لكن ذلك عجل بانسحابها.
وبعد الاستقلال في عام 1946، اعتبر السوريون سلطان باشا الأطرش أحد رموز النضال الوطني، لكنه لم يطمح لأي منصب حكومي أو حزبي، وفضّل الحياة الريفية البسيطة في مسقط رأسه، حيث بقي على اتصال دائم بالشأن العام من خلال زياراته إلى دمشق ولقاءاته مع المسؤولين والفعاليات الوطنية.
وفي عام 1948، دعا سلطان إلى تشكيل جيش عربي موحد لتحرير فلسطين فتطوع المئات من الدروز ولقي 80 منهم حتفهم في الحرب.
ولم يخفِ سلطان باشا مواقفه المعارضة للانقلابات العسكرية التي شهدتها سوريا، بدءًا من انقلاب حسني الزعيم عام 1949، وتعرض خلال حكم أديب الشيشكلي في الخمسينيات من القرن العشرين لمضايقات بسبب معارضته للديكتاتورية، مما دفعه للجوء إلى الأردن عام 1954.
وعاد إلى سوريا بعد سقوط الشيشكلي، مواصلًا دعمه للوحدة العربية حيث بارك الوحدة بين سوريا ومصر، ووقف ضد الانفصال عام 1961، وقد رفض سلطان عروض السلطة، مؤمنًا بمبدأ "الدين لله والوطن للجميع"، مما جعله رمزًا للزهد في السلطة.
الوفاة والإرث
توفي سلطان باشا الأطرش في 26 مارس/آذار من عام 1982 عن عمر ناهز 91 عاماً، وعمّ الحزن مختلف أنحاء سوريا، وشارك في جنازته الآلاف من المواطنين، بينهم وفود رسمية وشعبية من جميع المحافظات، في مشهد أجمع المراقبون على أنه جسّد وحدة الشعب السوري حول رموزه التاريخية.
وقد ألقى الرئيس السوري آنذاك حافظ الأسد نظرة الوداع على جثمان سلطان باشا الأطرش في بلدة القريا مع رجال الدولة السورية.
وأصدر حافظ الأسد رسالة حداد شخصية تنعي القائد العام للثورة السورية الكبرى، وأطلق اسمه على ساحة في السويداء، كما أصدر الأسد أمراً بإنشاء صرح يخلد شهداء الثورة السورية الكبرى ويضم رفات قائدها العام في بلدة القريا مقابل دار سلطان باشا الأطرش.
ويوم تشييعه، منحه رئيس لبنان آنذاك الياس سركيس وسام الأرز اللبناني، ودشن الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات نصباً تذكارياً في مدينة رام الله تحية وفاء إلى شهداء الحامية الدرزية التي أرسلها سلطان باشا الأطرش للدفاع عن فلسطين، والذين سقطوا قرب نابلس.
وهكذا، بقي سلطان باشا حياً في الذاكرة الوطنية السورية، إذ أُطلق اسمه على شوارع ومدارس وساحات في مختلف أنحاء البلاد، وأُقيم له تمثال في مدخل بلدة القريّا.
ضريح سلطان باشا الأطرش في بلدة القريا
ولا يقتصر إرث سلطان باشا الأطرش على كونه قائدًا عسكريًا، بل هو رمز سياسي وثقافي ووطني جسّد تطلعات الشعب السوري في الحرية والاستقلال.
وقد كرّس حياته من أجل الدفاع عن استقلال سوريا ووحدة أراضيها، ورفض الاستعمار بكل أشكاله، فكان صوته صادقًا ومواقفه ثابتة، لا تتغير حسب المصالح أو التحالفات، وهو ما جعل ذكراه محفوظة في ضمير الأجيال السورية والعربية.
وبعد وفاته، بدأ الجيل الجديد من السوريين يتعرف على سلطان باشا الأطرش من خلال الكتب المدرسية والمناهج الوطنية، حيث حرصت وزارة التربية والتعليم على إدراج سيرته في مناهج التاريخ، وتقديمه كأحد أبرز قادة النضال ضد الاستعمار.
ويُعد سلطان باشا مثالاً على التوازن بين الخصوصية الثقافية والانتماء الوطني، إذ لم ينكر هويته الدرزية، بل عبّر عنها بفخر، لكنه في الوقت نفسه قاوم أي محاولة لفصل الجبل عن سوريا، معتبرًا أن استقلال سوريا لا يكتمل إلا بوحدتها الكاملة.
وبهذا، فإن سلطان باشا الأطرش لم يكن مجرد قائد ثوري، بل كان مشروعًا وطنيًا متكاملًا، يربط بين الماضي القَبَلي والحاضر الوطني، وبين الدين والوطن، وبين الكفاح العسكري والبُعد الأخلاقي، وهو ما جعل ذكراه عصية على النسيان رغم تغيّر الأنظمة والسياسات.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الوسط
منذ 2 أيام
- الوسط
ليست رأس الهرم الديني، ماذا نعرف عن "مشيخة العقل" لدى الدروز؟
Getty Images أحد وجهاء شيوخ الدروز من المرتبة الثانية مع أعضاء جيش الثوار بقيادة جنبلاط في لبنان عام 1958 بعد الاشتباكات الدامية الأخيرة في السويداء بسوريا، حيث الكثافة السكانية الدرزية، برز اسما الزعيمين الدرزيين الشيخ يوسف جربوع، والشيخ حكمت الهجري، وكلاهما يحمل اللقب الديني شيخ العقل، إضافة إلى الشيخ سامي أبو المنى. فماذا تعني "مشيخة العقل"؟ ومتى نشأت؟ ولماذا؟ العقل لدى الدروز Getty Images النجمة الخماسية التي تمثل المبادئ الدرزية جاء في كتاب "مناقب الدروز في العقيدة والتاريخ" للدكتور سامي أبو شقرا نقلاً عن الشيخ عبد الغفار تقي الدين قوله: "لقد جعل الله للوجود علة وسبباً يتنزه به عن المباشَرة لإبداع الكائنات بذاته، هذه العلة هي العقل". ويقول شيخ العقل السابق في لبنان، نعيم حسن، إن العقل بالنسبة للموحدين "هو في المحل الأرفع، يقترن بالشرع الحق ويقود الإنسان بنوره". وأضاف في كتابه (الدليل إلى التوحيد) أن الدروز يُطلقون لقب "العقّال" على من وَعَوا عن الله أمره ونهيه وعملوا بمراده، وآمنوا أن العقل يجب أن يتوافق مع الشرع. ويقول سعيد أبو زكي، أستاذ التاريخ والأخلاق بالجامعة اللبنانية الأمريكية، إنه كان يطلق على المتدينين "العُقّال" ومفردها عاقل، على عكس "الجُهّال". ولا يقتصر لقب العُقال على الرجال، حيث يُطلق أيضاً على المرأة الدرزية المتدينة "العاقلة". وهناك "نساء عاقلات يبرزن بالتقوى والفضيلة الدينية، فيُكرّمن ويُقصدن أحياناً للمشورة، ويطلق عليهن لقب الست"، بحسب أبو زكي الباحث في تاريخ الدروز. وذكر أبو زكي في حديث خاص لبي بي سي أنه عند وفاة إحدى هؤلاء العاقلات، يُدفنّ بمدفن خاص، وتُنصَب عليه شواهد تذكر بعض فضائلهن، فيصبح مزاراً دينياً، ضارباً مثالاً بالست فاخرة البعيني من قرية مزرعة الشوف في القرن التاسع عشر؛ ومع ذلك فالدرزيات لا يتقلدن مناصب لا روحية ولا قانونية. ويؤكد أبو زكي، مؤلف كتاب "مشيخة عقل الدروز في لبنان: بحث في أصولها ومعناها وتطورها"، على أن المنصب الديني يرجع إلى "مسلك العقل"، وهو المسلك الديني الروحي لدى الدروز، الذي يُعنى بـ"تنمية وتهذيب الطبيعة العاقلة لدى الإنسان وإيصالها إلى كمالها". ما الحاجة إلى مشيخة العقل؟ Getty Images الشيخ عارف حلاوي من أهم مراجع الدروز حول العالم ظهرت فكرة "مشيخة العقل" خلال الحقبة العثمانية في لبنان، في القرن الثامن عشر، وكان يطلق على كل مرجعية دينية في قرية أو منطقة؛ حيث كان جبل لبنان مقسماً إلى مقاطعات بها مجموعة من القرى، وكان في كل قرية مرجعية أو أكثر. ويقول أبو زكي، وهو أيضاً باحث في تاريخ الدروز، إن لقب "شيخ العُقّال" بدأ يظهر في المصادر اللبنانية للدلالة على المرجعيات الدينية لدى دروز جبل لبنان. وفي القرن التاسع عشر صار يمسى "الرئيس الروحي". وبعدها حدث تطور سياسي؛ حيث بدأ الدروز يفقدون الحكم في جبل لبنان بعد عام 1825، وحاول الأمير بشير الثاني الشهابي، الذي حكمت سلالته لبنان ما بين (1247-1697)، إدخال نفوذه على الرئاسة الروحية. وبحسب أبو زكي، كان رد فعل الدروز أنهم أنشأوا "مشيخة عقل" كمنصب له وظائف إدارية محدّدة تختص بالأوقاف والأحوال الشخصية، وحيّدوا الرئاسة الروحية، التي هي الولاية الدينية، عن اللقب. ويقول المؤرخ اللبناني الدكتور صالح زهر الدين في كتابه (تاريخ المسلمين الموحدين الدروز)، إن "مشيخة العقل من المناصب الكبرى الحساسة والمسؤولة في البلاد؛ حيث كان يهابها الحكام، خاصة الشهابيون؛ لأهميتها وتأثيرها ووزنها الفاعل على كل الصُعد". ومع ذلك، يقول أبو زكي إن لقب "شيخ العقل" لم يشع استعماله داخلياً لدى الدروز إلا بعد عام 1861، خلال الحكم "المُتصرّفي"، وهو نظام حكم أقرته الدولة العثمانية بعد ما يعرف بالفتنة الطائفية الكبرى بين الدروز والموارنة. هل هو رأس الهرم الديني؟ يقول الشيخ يوسف جربوع، شيخ عقل الدروز في سوريا، في حديث خاص لبي بي سي إن مشيخة العقل هي رأس الهرم الرّوحي لطائفة الموحدين الدروز، وشيوخها هم أئمة هذه الطائفة، أو بمعنى آخر هم "المرجعية الدينية العليا" لديهم. في المقابل، يؤكد سعيد أبو زكي، الأكاديمي والباحث المتخصص في تاريخ الدروز، أن مشيخة العقل تأتي حالياً في المرتبة الثالثة في الهرم الديني لدى الدروز؛ فهو "شيخ يُنتدب من قبل رجال الدين". وتأتي في المرتبة الثانية طبقة من الشيوخ تلبس عباءة خاصة مقلمة باللونين الأبيض والأسود، تميزها عن بقية رجال الدين، ولا يُطلق عليهم لقب بعينه، لأنه بحسب أبو زكي فإن رجال الدين الدروز لديهم "نفور من الألقاب" بشكل عام. Getty Images أحد شيوخ الدروز اللبنانيين من المرتبة الثانية بالعباءة المقلمة بالأبيض والأسود، في حاصبيا بلبنان أما رأس الهرم الديني لدى دروز لبنان، ولدى الكثير من الدروز في المنطقة حالياً، فهو الشيخ أمين الصايغ، وليس له لقب رسمي، لكنه يعد فعلياً المرجع الروحي الأعلى. ويختار الرئيس الروحي الأعلى أو رأس الهرم الروحي هؤلاء الشيوخ من المرتبة الثانية؛ "حيث يقدم في نواحي بلاده بعض الأعيان بآلية بسيطة غير محددة تنسجم مع تعلقهم بالزهد". وضرب الباحث اللبناني مثالاً كأن يدعو المرجع الأعلى إلى عقد حلقة ذكر في إحدى خلوات البلاد، وعند اكتمال الوفود، يتوجه إليهم بخطاب ديني قصير يبرز فيه فضل واحد أو أكثر من المشايخ الحاضرين، بالاستناد إلى فضيلتهم الدينية. ويطلب هذا الإمام الأعلى من هؤلاء المُختارين لبس العباءة المقلمة، فتتحقق بذلك فكرة "الإشهار"؛ لكن أبو زكي يقول إن إقناع هؤلاء الشيوخ بقبول العباءة غالباً ما تكون مسألة صعبة؛ لتخوفهم من الجاه الاجتماعي المرافق. ويعد هؤلاء الشيوخ "مرجعيات عرفية" كما يقول الباحث اللبناني، حيث يثق الناس في تجردهم الديني وحكمتهم، كما يرجع إليهم القادة السياسيون. وتتمحور وظيفتهم حول رعاية النشأة الروحية في مسلك العقل، كل في حيزه الجغرافي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود. وفي الوقت الذي يُتوارث فيه لقب "شيخ العقل" في عائلات محددة، إلا أن الرئاسة الروحية العليا لا تعرِف الوراثة، كما يقول أبو زكي، كما تغيب عنها الأضواء الإعلامية. الوكالة الوطنية للإعلام في لبنان المرجع الروحي الأعلى لطائفة الموحدين الدروز الشيخ أبو يوسف أمين الصايغ شيوخ العقل في بلاد الشام موقع جامعة القديس يوسف في بيروت الدكتور الشيخ سامي ابو المنى، شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في لبنان بالنسبة للبنان، يتولى منصب مشيخة العقل في الوقت الحالي الدكتور سامي أبو المنى، الذي اختِير للمنصب عام 2012، بعد إعلان من الشيخ نعيم حسن لانتخاب شيخ عقل جديد لطائفة الموحدين الدروز، خلفاً له. وتضم مشيخة العقل في لبنان حالياً شيخ عقل واحد يتمتّع بالحقوق والامتيازات ذاتها التي يتمتّع بها رؤساء الطّوائف اللّبنانيّة الأُخرى، من غير استثناء أو تمييز، بحسب نص القانون الصادر عام 2006. أما في السابق، فكان هناك شيخا عقل: شيخ للفئة الجنبلاطية، وشيخ للفئة اليزبكية من الدروز، لرعاية الأوقاف الدينية لعُقّال الدروز، وكهيئة إشراف على تطبيق الأحوال الشخصية عند قضاة المذهب، أي كهيئة استئناف، بحسب أبو زكي. ويُعدّ القبول بمنصب شيخ العقل تنازلاً نهائياً من صاحب المنصب عن أي وظيفة أو مهنة أو حرفة؛ فلا يجوز قانونياً الجمع بين منصب شيخ العقل وأيّ منصب آخر من أيّ نوع كان، باستثناء المناصب الفخرية. ويتولّى شيخ العقل رعاية شؤون طائفة الموحّدين الدّروز الرّوحيّة، وإدارة مصالحها الدينية والاجتماعية، كما يمثّلها رسمياً لدى السلطات العامة وبقية الطوائف. وتساعده في تنفيذ مسؤوليّاته هيئة دينية استشارية تتكون من ستة شيوخ، يعينهم شيخ العقل خلال الشهر الأول من تاريخ تسلمه مهام منصبه، على ألا تربطه بأي منهم علاقة ما أو صِلة قربى حتى الدّرجة الرابعة. ومع ذلك، يقول سعيد أبو زكي إن هذا القانون "يعبر عن الواقع التنظيمي لمنصب شيخ العقل، لكن التنظيم الديني الحقيقي، يقع خارج مجال هذا القانون، فهو تنظيم عرفي روحي. ولا يُسمح لشيخ العقل بالتدخل بالقرارات الدينية التي هي من اختصاص مشايخ البلاد". Getty Images الشيخ يوسف جربوع، شيخ عقل الطائفة الدرزية في سوريا أما في سوريا، فيقول الشيخ يوسف جربوع، في حديث خاص لبي بي سي إن الحاجة إلى مشيخة عقل في سوريا ظهرت بعد هجرة بعض الدروز إليها، وتحديداً إلى جبل العرب أو جبل حوران قبل نحو 300 عام. ومع ذلك، فإن بداية وجود الدروز هناك لم تكن تستدعي وجود مرجعية أو مشيخة، نظراً لقلة عددهم، بحسب شيخ العقل الذي تحدث لبي بي سي. ويقول الكاتب تيسير أبو حمدان في كتابه "الدروز مسلكاً ومعتقداً" إن الحاجة إلى المرجع الروحي في جبل العرب، ظهرت عندما وجد حاكم الجبل حمدان الحمدان أنه لا بد من وجود من يتولى أمور الطائفة دينياً ويرعى شؤونها الشخصية. وقد وقع الاختيار على الشيخ ابراهيم الهجري، "لنبوغه وصلاحه وتقواه"، بحسب أبو حمدان، ليصبح مؤسس الرئاسة الروحية في الجبل، وتصبح بلدته (قنوات) المركز الديني للطائفة في الجبل وكان ذلك عام 1803. وقد ظل الشيخ إبراهيم الهجري الشيخ الروحي الأوحد طيلة حياته؛ لكن بعد وفاته، اختار الدروز عائلتين أخريين هما عائلة جربوع من مدينة السويداء، وعائلة الحناوي من بلدة (سهوة بلاطة)، إلى جانب عائلة الهجري. Getty Images الشيخ حكمت سلمان الهجري (في المنتصف) وقد توارثت العائلات الثلاثة المشيخة، باختيار الزعماء والحاضرين من هو أصلح من أسرة المتوفي، بإلباسه عمامة وعباءة المشيخة في يوم الوفاة أو بعدها بقليل. وبحسب أبو زكي، فقد تمركزت مشيخة آل الهجري في قنوات والريف الشمالي والغربي للسويداء، في حين استقرت مشيخة آل حناوي في سهوة البلاط والريف الجنوبي، أما مشيخة آل جربوع فهي في مدينة السويداء والقرى المجاورة. ويضيف أبو زكي أن دروز جبل حوران، اصطلحوا على تراتبية اجتماعية عرفية تضع مشيخة آل هجري في المقام الأول، ثم مشيخة آل جربوع في المقام الثاني، وبعدها مشيخة آل حنّاوي في المقام الثالث، وهي تراتبية معنوية لا دخل لها في الوظائف الدينية والاجتماعية والسياسية التي يتساوى فيها الثلاثة. وتشير المصادر التاريخية في القرن التاسع عشر، إلى كون مشيخة آل هجري لها المكانة الأولى بين الثلاثة، وهو ما يفسر اللقب الرسمي الذي يستعمله الشيخ حكمت الهجري في وقتنا الحالي، باعتباره "الرئيس الروحي لطائفة المسلمين الموحدين الدروز" وهو لقب لا يستعمله شيخا العقل الآخران، بحسب الباحث اللبناني أبو زكي. Getty Images رئيس الطائفة الدرزية في إسرائيل، الشيخ موفق طريف كما عرفت أرض فلسطين التاريخية ، الديانة الدرزية قبل نحو 1000 عام، بحسب أبو زكي. وقد اعترفت إسرائيل بالطائفة الدرزية كطائفة مستقلة عام 1957، فأنشِئت رئاسة روحية بنفس مفهوم شيخ العقل، برئاسة الشيخ أمين طريف، الذي جمع بين هذا المفهوم وبين كونه المرجعية الدينية العليا للدروز هناك، كما يقول الباحث اللبناني أبو زكي، وهو جد الشيخ موفّق طريف، الرئيس الروحي الحالي للدروز في إسرائيل. Getty Images الشيخ أمين طريف، شيخ العقل في فلسطين عام 1928 وأخيراً هناك الرئاسة الروحية لعدد قليل من الدروز في الأردن ، في مناطق مثل الأزرق ووادي السرحان، قبل أن ينتقل بعضهم إلى عمّان والمناطق الحضرية الأخرى مع تَشكُّل الدولة. ويقول الكاتب اللبناني فاروق غانم خدّاج، في مقال له إن معظم دروز الأردن "جاءوا من جبل الدروز في سوريا ومن فلسطين، بحثاً عن الاستقرار في ظل ظروف سياسية متقلبة". ويرأس دروز الأردن حالياً الشيخ أبو أشرف عجاج مهنّا عطا، الذي تعد مشيخته مشيخة دينية واجتماعية سياسية، بحسب أبو زكي، الذي أضاف لبي بي سي أنه بحسب الموروث الشفهي المحلي، فإن جده الكبير، كان أول من استوطن الزرقاء في شمال الأردن وأسس لتوطن الدروز هناك في أواخر القرن الثامن عشر. Getty Images أحد العُقال الدروز في الأردن، ممن لجأوا من جبل الدروز في عام 1926 وهناك تعاون بين مشيخة عقل الدروز في الدول المختلفة، وهو "تعاون ديني عقائدي واجتماعي" مع الحفاظ على استقلال كل منطقة بإدارة شؤونها بنفسها، على حد تعبير الشيخ يوسف جربوع، شيخ عقل سوريا. وقال الشيخ جربوع لبي بي سي إن "ذلك يرجع إلى كون كل مرجعية تخضع لأنظمة سياسية مختلفة في البلدان الثلاثة"، مؤكداً أن كل مرجعية لم تتدخل في الشؤون السياسية الداخلية للمرجعيات الأخرى، رغم أن البرنامج العقائدي واحد. ومن أوجه التواصل بين المؤسسات الدرزية في مختلف الدول، ما ذكره أبو زكي أنه في عام 1934، حدثت أزمة في فلسطين ضد الشيخ أمين طريف، جد الشيخ الحالي، فبادر أعيان مشايخ لبنان إلى الصلح وحل الأزمة. وفي عام 1947، عندما حدث نزاع داخلي بين دروز جبل حوران فيما عُرف بالثورة الشعبية الثانية ضد بيت الأطرش، سافر الشيخ أمين طريف إلى دمشق لحل النزاع وحقن دماء الدروز.


الوسط
١٩-٠٧-٢٠٢٥
- الوسط
من هو قائد الثورة السورية الكبرى ورمز الكفاح ضد الاستعمار؟
Facebook مع تدهور الوضع في السويداء وهي المنطقة التي يتركز فيها الدروز بجنوب سوريا بعد التصعيد بين قوات الحكومة السورية وعشائر بدوية من جهة وعناصر درزية من جهة أخرى، برز اسم سلطان باشا الأطرش على الساحة من جديد، فقد خرج من كتب التاريخ ليذكر الجميع بالدور الذي لعبه في تاريخ سوريا. وتقول دائرة المعارف البريطانية إن الزعيم الدرزي سلطان الأطرش قاد في عام 1925 ثورةً ضد الحكم الفرنسي، وبعد نجاحها المحلي، انضم إليها قوميون سوريون من خارج الطائفة الدرزية، فانتشرت الثورة في جميع أنحاء المنطقة وصولًا إلى دمشق قبل إخمادها عام 1927، ويعتبر السوريون هذه الثورة أول انتفاضة وطنية في تاريخ البلاد. البدايات والاحتلال الفرنسي Getty Images السيدة في الصورة هي زوجة ويليام سيبروك، وهو مراسل صحفي أمريكي كتب سلسلة مقالات عن الثورة ضد الفرنسيين في سوريا، وعن يمينها علي بك الأطرش، وعن يسارها مصطفى بك الأطرش، وهما شقيقا سلطان باشا، قائد الثورة ضد الفرنسيين وُلد سلطان باشا الأطرش في 5 مارس/ آذار من عام 1891 في بلدة القريّا الواقعة جنوب سوريا، ضمن منطقة جبل الدروز (التي تُعرف اليوم بجبل العرب)، في عائلة عريقة تنتمي إلى الطائفة الدرزية، وكان والده، ذوقان الأطرش، زعيماً محلياً قاد معارك ضد العثمانيين، وأُعدم شنقاً عام 1911. وهكذا، شهدت طفولة سلطان باشا الأطرش أحداثاً سياسية مضطربة، إذ كانت سوريا تحت الحكم العثماني، وشهدت المنطقة توترات قبلية وصراعات بين الزعامات المحلية، ما أسهم في تشكّيل وعيه السياسي المبكر. وقبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، انضم إلى الجيش العثماني وحارب في البلقان حتى أنه حصل على لقب "باشا" من السلطات العثمانية تقديراً لخدماته. وبعد أنتهاء خدمته كانت الحرب العالمية الأولى قد وضعت أوزارها، فعاد إلى الشام للتصدي للوجود الفرنسي والبريطاني حيث بدأ ينشط في الاتصال بالحركات العربية، وكان سلطان الأطرش أول من رفع علم الثورة العربية على أرض الشام قبل دخول جيش الملك فيصل بن الحسين، حيث رفعه على داره في القرياّ. كما كان في طليعة الثوار الذين دخلوا دمشق سنة 1918، وقد رفع العلم العربي في ساحة المرجة فوق دار الحكومة بدمشق الأمر الذي نال على إثره لقب "باشا" في الجيش العربي من الملك فيصل تقديرا لشجاعته، وذلك بحسب موقع سلطان الأطرش دوت أورغ. وفي مارس/ آذار من عام 1920 تم الإعلان عن قيام مملكة سوريا الكبرى التي حكمها فيصل بن الحسين، وقد رفضت فرنسا وبريطانيا الاعتراف بالدولة الوليدة وقررتا في أبريل/ نيسان من من عام 1920 خلال مؤتمر سان ريمو المنعقد في إيطاليا تقسيم البلاد إلى 4 مناطق تخضع بموجبها سوريا ولبنان للانتداب الفرنسي وشرق الأردن وفلسطين للانتداب البريطاني، وإن كان لبنان ومعه الساحل السوري وكذلك فلسطين لم تدخل عسكرياً تحت حكم المملكة السورية نظرًا لوجود جيوش الحلفاء فيها منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. وسرعان ما انتهت المملكة السورية في 24 يوليو/ تموز من عام 1920، ففي ذلك اليوم وقعت معركة ميسلون بين الجيش العربي بقيادة يوسف العظمة وزير الدفاع والقوات الفرنسية، وكان سلطان الأطرش قد جهز قوات لنجدة العظمة، لكنه وصل بعد هزيمة الجيش العربي ومقتل العظمة. وقد حاول الأطرش إقناع الملك فيصل بالتحصن في جبل العرب لمواصلة المقاومة، لكن فيصل غادر سوريا. Getty Images جلس فيصل بن الحسين على عرش سوريا عدة أشهر فقط عمل الانتداب الفرنسي على تقسيم سوريا لدويلات على أساس طائفي عام 1921 ، وتوصل الفرنسيون لمعاهدة مع زعماء الدروز قضت بإنشاء وحدة إدارية مستقلة خاصة للجبل، مقابل اعتراف الدروز بالانتداب الفرنسي، وعُيِّن سليم الأطرش حاكما للجبل بموجب هذا الاتفاق. ومن جانبه، عارض سلطان الأطرش بشدة فكرة إنشاء دولة درزية مستقلة، رافضًا مخططات الفرنسيين لتقسيم سوريا إلى دويلات طائفية، وقد قال في هذا الإطار:"قطّعت سوريا إربا إربا، وحكمت حكماً استعمارياً محضاً جعل السوريين يترحمون على زمن الأتراك"، وذلك بحسب حسن أمين البعيني في كتابه "سلطان باشا الأطرش والثورة السورية الكبرى". وفي عام 1922، تصاعدت التوترات مع الفرنسيين بعد اعتقالهم للمقاوم اللبناني أدهم خنجر، الذي أراد أن يحتمي بدار سلطان الأطرش، فقاد سلطان معركة تل الحديد ضد القوات الفرنسية، محققًا انتصاراً وأسر جنوداً فرنسيين، وقد وافق الفرنسيون على إطلاق سراح خنجر مقابل الأسرى، لكنهم أعدموه لاحقاً ودمروا منزل سلطان في القريا. وردًا على ذلك، قاد الأطرش حرب عصابات ضد الفرنسيين، فكانت هذه انتفاضته الأولى التي دامت 9 أشهر خلال عام 1922 وذلك رفضاً للاستعمار وتكريساً لتقاليد العرب في حماية الضيف، فحكم عليه الفرنسيون بالإعدام، فلجأ إلى الأردن، ولما عجز الفرنسيون عن القبض عليه، أصدروا عفواً عنه وعن جماعته، فعاد إلى السويداء في 5 أبريل/ نيسان من عام 1923 حيث استُقبِلَ استقبالاً شعبياً كبيراً، وذلك بحسب مقال ريم منصور سلطان الأطرش المنشور في موقع مؤسسة الدراسات العلمية. ولكن لم تهدأ الأوضاع بعد عودته، فبعد وفاة سليم الأطرش مسموما في دمشق عام 1924، خالف الفرنسيون اتفاقهم السابق بتعيين درزي حاكما للجبل، وعيّنوا الكابتن كاربييه حاكما للجبل، والذي مارس سياسة قمعية ضد الأهالي. وفي كتاب "مذكرات الكابتن كاربييه في جبل العرب" يصف كاربييه سلطان باشا بأنه الرجل الوحيد القادر إما على تهدئة جبل العرب أو إشعاله، مشيرا إلى أن الفرنسيين اعتبروا جبل الدروز المكان الوحيد في سورية الذي قد يفتح لهم أزمة حقيقية الثورة السورية الكبرى اندلعت الثورة السورية الكبرى في 21 يوليو/ تموز من عام 1925، بقيادة سلطان باشا الأطرش، كرد فعل على سياسات الانتداب الفرنسي القمعية، بما في ذلك تعيين الكابتن كاربييه حاكمًا على جبل العرب. وكان الدروز قد قدموا وثيقة في 6 يونيو/ حزيران من عام 1925 يطالبون فيها بتعيين حاكم درزي، لكن المفوض الفرنسي ساراي طرد الوفد، مما أشعل الثورة. وفي 23 يوليو/ تموز من عام 1925 انتصر الثوار بقيادة سلطان باشا على الفرنسيين في معركة الكفر. وحول هذه المعركة، قال فلاديمير لوتسكي في كتابه "الحرب الوطنية التحررية في سوريا 1925-1927": "في معركة الكفر قاد سلطان باشا الأطرش هجومًا خاطفًا ضد الحملة الفرنسية بقيادة الكابتن نورمان، ورغم التفوق العددي الفرنسي، نجح الأطرش وثواره، وعددهم لا يتجاوز 200، في إلحاق هزيمة ساحقة بالفرنسيين، وقُتل نورمان وعدد كبير من جنوده، وعندها أدرك الفرنسيون أن مقاومة الثوار في جبل العرب لا يُستهان بها". وبعد هذا النصر، تصاعد الزخم الشعبي بالتعاطف مع الثورة، وكانت معركة المزرعة في 2 أغسطس/ آب من عام 1925 حيث واجه حوالي 500 ثائر بزعامة الأطرش حملة فرنسية ضخمة قوامها 3.500 جندي، ورغم الفارق الكبير في العدد والعتاد، تمكن الثوار من تحقيق انتصار كبير وصل صداه إلى البرلمان الفرنسي. وفي كتابه "الثورة السورية الوطنية: مذكرات الدكتور عبد الرحمن شهبندر" يقول في أعقاب معركة المزرعة في صيف عام 1925، اجتمعت مع القائد العام سلطان باشا الأطرش وعدد من الزعماء الوطنيين في جبل العرب، لبحث توسيع نطاق المقاومة وتحويلها إلى ثورة وطنية شاملة ضد الاستعمار الفرنسي". "وفي اجتماعنا التاريخي بعد انتصار المزرعة، تقرّر أن تُعلن الثورة في كل أنحاء سوريا، كانت القيادة العامة للثورة في يد المجاهد سلطان باشا الأطرش، وأنيط بي الشأن السياسي والدبلوماسي، وشُكلت لجان للإعلام والدعاية وتنظيم التحركات في الداخل والخارج، واتخذنا القرار بالإجماع، ولم يكن أحدنا يطلب مجدًا شخصيًا، بل كنا ننشد الخلاص لسوريا من الاحتلال، ولو كلفنا ذلك حياتنا". "ورفع سلطان باشا صوته قائلًا: لن أقبل أن تبقى الثورة حكرًا على الجبل، سوريا واحدة وثورتها واحدة، إن لم يتحرك إخواننا في دمشق وحلب، فنحن من سيسير إليهم، فكان ذلك الإعلان لحظة فاصل بين مقاومة محلية وثورة وطنية". Getty Images الدفاع عن قلعة راشيا في جبل الدروز خلال الثورة السورية الكبرى عام 1925 وفي هذا الاجتماع صدر نداء رسمي إلى الشعب السوري، يدعو فيه السوريين في كل المدن للالتحاق بالثورة، والتأكيد على أن ما بدأه أبناء جبل العرب يجب أن يعمّ كامل البلاد. وقد شكل هذا الحدث لحظة مفصلية في تاريخ سوريا الحديث، حيث تحوّل الحراك من ثورة محلية في جبل العرب إلى ثورة وطنية جامعة ضد الاستعمار، بقيادة سلطان باشا الأطرش. وأظهر سلطان باشا قدرة عالية على الحشد والتنظيم العسكري، حيث شكّل كتائب مقاتلة اعتمدت على حرب العصابات، واستفاد من تضاريس الجبل في التصدي لحملات الفرنسيين، وكان لشخصيته الكاريزمية دور كبير في جذب المتطوعين من مختلف المناطق السورية، ما جعل الثورة تمثّل وحدة وطنية نادرة بين الطوائف والمذاهب والمناطق. لكن أدى ضعف تسليح الثوار في النهاية إلى هزيمتهم، وأصدر الفرنسيون حكم إعدام بحق سلطان، مما اضطره للجوء إلى شرق الأردن وشمال الجزيرة العربية عام 1927. وفي كتاب "أحداث الثورة السورية الكبرى كما سردها قائدها العام سلطان باشا الأطرش 1925-1927"، وهو الكتاب الذي راجعه وصححه منصور سلطان الأطرش، يوثق سلطان باشا الأطرش التحديات اللوجستية والإنسانية التي واجهتها الثورة، مشيراً إلى شح الموارد والأسلحة مقارنة بالقوات الفرنسية. ويروي كيف اعتمد الثوار على العزيمة والتضحيات، مستغلين معرفتهم بالتضاريس الجبلية لشن هجمات خاطفة، مثل معركة المسيفرة في سبتمبر/ أيلول من عام 1925، والتي ألحقت خسائر فادحة بالاحتلال. وفي عام 1929 نظم سلطان الأطرش مؤتمر الصحراء لمناقشة القضية السورية، مواصلًا التنسيق مع الوطنيين. وقد عاد سلطان إلى سوريا في عام 1937 بعد العفو الفرنسي الذي أعقب توقيع معاهدة 1936 التي نصت على استقلال سوريا،، واستُقبل استقبال الأبطال في دمشق، حيث اصطف آلاف المواطنين لتحيته. استمرار النضال Facebook تعرض سلطان باشا الأطرش خلال حكم أديب الشيشكلي في الخمسينيات من القرن العشرين لمضايقات لم يتوقف نضال سلطان الأطرش عند الثورة السورية الكبرى، ففي عام 1945، قاد مع الأمير حسن الأطرش عمليات لطرد الفرنسيين من جبل العرب، مما جعل السويداء من أوائل المناطق المحررة، وردت فرنسا بقصف دموي استهدف دمشق والسويداء، لكن ذلك عجل بانسحابها. وبعد الاستقلال في عام 1946، اعتبر السوريون سلطان باشا الأطرش أحد رموز النضال الوطني، لكنه لم يطمح لأي منصب حكومي أو حزبي، وفضّل الحياة الريفية البسيطة في مسقط رأسه، حيث بقي على اتصال دائم بالشأن العام من خلال زياراته إلى دمشق ولقاءاته مع المسؤولين والفعاليات الوطنية. وفي عام 1948، دعا سلطان إلى تشكيل جيش عربي موحد لتحرير فلسطين فتطوع المئات من الدروز ولقي 80 منهم حتفهم في الحرب. ولم يخفِ سلطان باشا مواقفه المعارضة للانقلابات العسكرية التي شهدتها سوريا، بدءًا من انقلاب حسني الزعيم عام 1949، وتعرض خلال حكم أديب الشيشكلي في الخمسينيات من القرن العشرين لمضايقات بسبب معارضته للديكتاتورية، مما دفعه للجوء إلى الأردن عام 1954. وعاد إلى سوريا بعد سقوط الشيشكلي، مواصلًا دعمه للوحدة العربية حيث بارك الوحدة بين سوريا ومصر، ووقف ضد الانفصال عام 1961، وقد رفض سلطان عروض السلطة، مؤمنًا بمبدأ "الدين لله والوطن للجميع"، مما جعله رمزًا للزهد في السلطة. الوفاة والإرث توفي سلطان باشا الأطرش في 26 مارس/آذار من عام 1982 عن عمر ناهز 91 عاماً، وعمّ الحزن مختلف أنحاء سوريا، وشارك في جنازته الآلاف من المواطنين، بينهم وفود رسمية وشعبية من جميع المحافظات، في مشهد أجمع المراقبون على أنه جسّد وحدة الشعب السوري حول رموزه التاريخية. وقد ألقى الرئيس السوري آنذاك حافظ الأسد نظرة الوداع على جثمان سلطان باشا الأطرش في بلدة القريا مع رجال الدولة السورية. وأصدر حافظ الأسد رسالة حداد شخصية تنعي القائد العام للثورة السورية الكبرى، وأطلق اسمه على ساحة في السويداء، كما أصدر الأسد أمراً بإنشاء صرح يخلد شهداء الثورة السورية الكبرى ويضم رفات قائدها العام في بلدة القريا مقابل دار سلطان باشا الأطرش. ويوم تشييعه، منحه رئيس لبنان آنذاك الياس سركيس وسام الأرز اللبناني، ودشن الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات نصباً تذكارياً في مدينة رام الله تحية وفاء إلى شهداء الحامية الدرزية التي أرسلها سلطان باشا الأطرش للدفاع عن فلسطين، والذين سقطوا قرب نابلس. وهكذا، بقي سلطان باشا حياً في الذاكرة الوطنية السورية، إذ أُطلق اسمه على شوارع ومدارس وساحات في مختلف أنحاء البلاد، وأُقيم له تمثال في مدخل بلدة القريّا. Facebook ضريح سلطان باشا الأطرش في بلدة القريا ولا يقتصر إرث سلطان باشا الأطرش على كونه قائدًا عسكريًا، بل هو رمز سياسي وثقافي ووطني جسّد تطلعات الشعب السوري في الحرية والاستقلال. وقد كرّس حياته من أجل الدفاع عن استقلال سوريا ووحدة أراضيها، ورفض الاستعمار بكل أشكاله، فكان صوته صادقًا ومواقفه ثابتة، لا تتغير حسب المصالح أو التحالفات، وهو ما جعل ذكراه محفوظة في ضمير الأجيال السورية والعربية. وبعد وفاته، بدأ الجيل الجديد من السوريين يتعرف على سلطان باشا الأطرش من خلال الكتب المدرسية والمناهج الوطنية، حيث حرصت وزارة التربية والتعليم على إدراج سيرته في مناهج التاريخ، وتقديمه كأحد أبرز قادة النضال ضد الاستعمار. ويُعد سلطان باشا مثالاً على التوازن بين الخصوصية الثقافية والانتماء الوطني، إذ لم ينكر هويته الدرزية، بل عبّر عنها بفخر، لكنه في الوقت نفسه قاوم أي محاولة لفصل الجبل عن سوريا، معتبرًا أن استقلال سوريا لا يكتمل إلا بوحدتها الكاملة. وبهذا، فإن سلطان باشا الأطرش لم يكن مجرد قائد ثوري، بل كان مشروعًا وطنيًا متكاملًا، يربط بين الماضي القَبَلي والحاضر الوطني، وبين الدين والوطن، وبين الكفاح العسكري والبُعد الأخلاقي، وهو ما جعل ذكراه عصية على النسيان رغم تغيّر الأنظمة والسياسات.


عين ليبيا
١٢-٠٧-٢٠٢٥
- عين ليبيا
إسرائيل الأسطورة المقاتلة
فلسطين القضية المزمنة، تتحرك الأعراض على جسم الزمن، لكن الداء العتيق يشهق ويزفر في أعماقه من دون توقف. جبال جمر التاريخ السحيق، لا تغادر أثقاله كاهل الذاكرة اليهودية. كتاب التوراة هو الموقد الذي لا تنطفئ ناره، وحطب التاريخ الثقيل، يُقَدُّ من أدغال التلمود المتشابكة. كل الأجيال اليهودية المتوالية كتبتها الأسطورة، ولا تتوقف هي عن الإضافة لها في كل مكان وزمان. كتاب المؤرخ والمفكر اليهودي شلومو ساند: «اختراع الشعب اليهودي» مجلد في 570 صفحة. رحل المؤلف في الدين والتاريخ والسياسة واللغة التي صنعت مسيرة طويلة للعبرانيين، ويخلص إلى أن الشعب اليهودي اختراع فريد، أمة وأرض صنعهما الله في زمن صنع الأساطير وصنعته. حرب عنيفة شُنَّت على المؤلف وكتابه من مؤرخين ورجال دين يهود، من داخل إسرائيل وخارجها. الأساطير المقدسة تعيش في الأفواه، وتمتد في السطور، وتفعل في السياسة والاقتصاد والقوة المسلحة، وتبدع الصمغ الذي يجمع مَن في الشتات. تتحول الأساطير إلى تاريخ حي لا يرحل مع عاديات الزمن. شلومو ساند في مجلده الذي ترحّل عبره بين القديم والحديث، من مسيرة اليهود كتب عن قصة النبي موسى، التي تناولها كثير من المؤرخين ورجال الدين بمن فيهم اليهود. قال عنه سيغموند فرويد، وهو عالم نفس يهودي، إنه مصري الهوية وفرعوني التفكير. والفيلسوف اليهودي الهولندي، باروخ سبينوزا، تطاول في كتابه «رسالة في اللاهوت والسياسة» على التوراة ونسبها إلى شخص آخر عاش بعد موسى قروناً طويلة». يقفز شلومو ساند إلى حدث قريب، حيث يقتبس نصاً من خطاب ديفيد بن غوريون من إعلان استقلال إسرائيل: «في أرض إسرائيل وُلد الشعب العبري، وهنا تشكلت هويته الروحانية والدينية والسياسية، وهنا عاش حياة مستقلة. هنا خلق قيماً ثقافية سادت في نِطاق وطني وعالمي، وأعطت للدنيا كتاب الكتب». ويستعرض المؤلف نصاً طويلاً كتبه المؤرخ جوزيبي فلافيو، في الحقبة الفولقارية، ويعتبره أول عمل تاريخي يتناول تفكيك بنية الوجود العبري ديناً وهوية. المؤرخ شلومو ساند يخلص إلى أن الأسطورة، التي يمتزج فيها الدين بالتاريخ وصيرورة الحياة، بكل ما فيها من جبال المعاناة الثقيلة، أنتجت عقلاً تملأه المخاوف والطموحات والإصرار العنيف، التي لا تزيلها أو تضعفها عاديات القرون الطويلة. ما تعيشه منطقتنا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وصدور إعلان «وعد بلفور»، وتدفُّق الهجرات اليهودية إلى أرض فلسطين، التي وُضعت تحت الوصاية البريطانية، إلى قيام دولة إسرائيل سنة 1948، كل ذلك تجسيد سياسي وعسكري لعصارة مكثَّفة وُلِدت من رحم زمن قديم يتجدد، امتزجت فيه الأساطير الدينية بالمعاناة التي عاشها العبرانيون. أرض فلسطين التي زُرعت كبذور مقدسة في العقل والوجدان اليهودي، كأرض الميعاد التي وهبها الله لشعبه المختار، حملها اليهود معهم في شتاتهم في أصقاع الدنيا. «إن نسيتُك يا أورشليم تنسني يميني»، (المزمور 137)، عبارة صلاة رافقت كبار اليهود وصغارهم أينما كانوا عبر التاريخ. يهودا والسامرة هي الأرض الموعودة التي وهبها الله لشعب موسى، ولكنْ دونها قوم جبارون. ونحن نتابع عبر شلالات الأخبار المرئية تكدُّس جثث القتلى تحت ركام غزة، والمجاعة المرعبة والعطش والمرض، واعتداءات المستوطنين اليهود على البيوت والمزارع والمراعي في الضفة الغربية، والقصف الجوي الإسرائيلي الذي لا يتوقف على الجنوب اللبناني، وأصوات المتطرفين في الحكومة الإسرائيلية، برئاسة بنيامين نتنياهو. كل ذلك يشدنا إلى قراءة ما كتبه المؤرخ اليهودي شلومو ساند مرات ومرات. شعب اخترع ذاته، وسكب على بذوره مياه الخوف والطموح والعنف. لقد تحولت الأساطير إلى قوة فاعلة تتجسد على الأرض. في الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى، سنة 1948، هزم الكيان الوليد خمس دول عربية، واستولى على مساحة أكثر مما منحها له قرار التقسيم الدولي، وفي حرب يونيو (حزيران) 1967، هزمت إسرائيل، في أيام قليلة، ثلاث دول عربية، واحتلت مساحات كبيرة من أراضيها. بدأ مسار آخر فوق خريطة الصراع الطويل: التطبيع مع الكيان الذي أعطاه العرب سنين طويلة عناوين ترفضه. بعد خروج مصر عبد الناصر من حلبة المواجهة، وغروب الشعارات القومية العربية، ارتفع صوت إيراني ثوري إسلامي معادٍ لإسرائيل، ومدَّ أذرعه في لبنان وفلسطين واليمن وسوريا. انتقلت المواجهة مع إسرائيل من الأنظمة السياسية إلى المنظمات ذات الآيديولوجيا الإسلامية، لكنها تلقت ضربات إسرائيلية عنيفة. حروب طويلة تغفو ثم تنفجر. ظلَّت القضية الفلسطينية حية، والشعب الفلسطيني يتشبث بحقه في إقامة دولته على أرضه. لكن إسرائيل ترفض ذلك، وترى أن الحل في مغادرة كل الفلسطينيين (transfer)، بمن فيهم مَن يحملون الجنسية الإسرائيلية، لكل ما تعتبره أرضها المقدسة الكاملة، التي وهبها الله لهم. الأساطير تحقق زمانها على الأرض، وكل ما كان حنيناً وحلماً، كبر واتسع بالقوة. في المقابل تبخرت الأحلام العربية، وتقاتَلَ العرب فيما بينهم، وتخلفت شعوبهم. شلومو ساند المؤرخ اليهودي، قرأ التكوين اليهودي، بعين على الماضي، وأخرى على الحاضر والآتي. الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.