
"ماكرون يأمل في الحديث سريعا مع الرئيس تبون لحل الأزمة"
في مكتبه بمسجد باريس الكبير بالدائرة الخامسة للعاصمة الفرنسية، أجاب العميد شمس الدين حفيز على أسئلة "الخبر" بقلب مفتوح ودون تحفظ، معرجا على كل ما يخص هذا الصرح الديني الكبير الذي ظلت تربطه علاقة خاصة بالجزائر.. تحدث عن الجالية الجزائرية وما تواجهه من حملات تشويه وتنكر لإسهاماتها، وعن المخارج الممكنة للأزمة بين البلدين، وعن لقاءاته ومكالماته مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير داخليته المهووس بالجزائر برونو روتايو.. وعن الإسلاموفوبيا والتعتيم الإعلامي الكبير الذي يطالها في فرنسا.. وعن الجرائم الفرنسية في الجزائر ورفض الاعتراف بها، وعما حدث للصحفي جون ميشال أباتي الذي هوجم بسبب تذكيره الفرنسيين بها.
العميد الذي صعد إلى سدة المسجد الأهم في أوروبا سنة 2020، خاض أيضا في قضايا جدلية وإشكالية تتعلق بمواقفه من القضية الفلسطينية وتصريحاته المثيرة للجدل بعد عملية طوفان الأقصى، ودافع عن مؤسسته بخصوص شركة "الحلال" التي تقوم بالتصديق على المنتجات التي تدخل الجزائر، التي كانت محل تحقيقات صحفية كبرى هنا في فرنسا.. ويقول إن الحملات ضده وصلت حد توجيه تهديدات له، دفعت السلطات الفرنسية لوضعه تحت حراسة شرطية كاملة على مدار اليوم.
تعيش العلاقات الجزائرية الفرنسية أزمة غير مسبوقة.. هل لذلك تداعيات على الجالية الجزائرية المقيمة هنا؟
. نعم، هناك وضع يخص الجزائريين والجالية الجزائرية، وبطبيعة الحال، يتم التركيز حاليًا على الجوانب السلبية فقط. في أي جالية، هناك الجيد والسيئ، هناك أناس صالحون وآخرون غير ذلك.. لكن اليوم، لا يتم تسليط الضوء إلا على الجوانب السلبية. لقد تم نسيان الجزائريين الذين عملوا من أجل فرنسا، الذين قدم البعض منهم حتى حياته من أجل فرنسا، وكذلك أبناؤهم وأحفادهم الذين يشكلون اليوم أكبر جالية من الأجانب والمهاجرين في فرنسا.. ومع ذلك، فهي تتعرض لسوء المعاملة ويتم استهدافها.
في كل مرة، نرى الحديث فقط عن المهاجرين غير النظاميين، أو عن بعض المؤثرين، وهم قلة – اثنان أو ثلاثة أعتقد – الذين نشروا رسائل شديدة السوء. الجامع الكبير في باريس، وأنا شخصيًا بصفتي فرنسيًا جزائريًا، أتعرض لسوء المعاملة، هناك محاولة لتشويه سمعتي، وكذلك محاولة لتشويه أصوات جميع الجزائريين؛ حتى إن بعض الصحف وصلت إلى حد الادعاء بأن الهجرة الجزائرية هي الأقل اندماجًا. يتم التركيز عمدا على موضوع أوامر مغادرة الأراضي الفرنسية (OQTF). هذا المصطلح أصبح معروفًا للجميع، وكأنه الحل الوحيد، في حين أن الواقع ليس كذلك.
قرأت مقالتكم التي نُشرت في مجلة المسجد، التي استخدمتم فيها عبارة "أنا أتهم" لإميل زولا، وكان ذلك تعبيرًا قويًا. ما هي دوافعكم في كتابة ذلك.. هل تعتقدون أن الجالية الجزائرية تعيش حالة تيه هنا في فرنسا؟
. بالفعل، هي تشعر بالتيه، وأنا أرى ذلك بنفسي. كما تعلمون، المسجد الكبير في باريس هو مكان للزيارة، ومكان للتجمع، وهناك العديد من الجزائريين والفرنسيين من أصول جزائرية الذين يأتون للاستفسار عن الوضع، لأن الأزمة التي مست المسجد كانت غير مسبوقة في حدتها.
لقد تم توجيه اتهامات عنيفة ضد المسجد وضدي شخصيًا، في عدة ملفات؛ وهذه سابقة وتجاوز خطير، لأن المسجد لم يكن يومًا عرضة لمثل هذه الهجمات نظرا لقدسيته، فالجميع يعلم أن هذا الصرح الديني تأسس عام 1926 تكريمًا لدماء المسلمين الذين قاتلوا في الحرب العالمية الأولى.
اليوم، يتم تضخيم الأمور بشكل متعمد في إطار حملات لضرب استقرار الجالية الجزائرية، وهذا أمر مشين. إنه يعكس قلة تقدير للجالية الجزائرية التي لطالما عاشت بسلام في فرنسا وساهمت في مجتمعها.
عندما نتحدث عن الجزائريين، يجب أن نتذكر مساهماتهم في مختلف المجالات. في الرياضة، لدينا بعض من أعظم لاعبي كرة القدم في تاريخ فرنسا من أصول جزائرية، مثل زين الدين زيدان، الذين رفعوا راية فرنسا عاليًا.
لكن ليس فقط في الرياضة، بل أيضًا في الطب، والقانون، وتكنولوجيا المعلومات، وريادة الأعمال. كم من رواد الأعمال الجزائريين اليوم هم فاعلون اقتصاديون مهمون في فرنسا.. ومع ذلك، يتم التعتيم على هذا الجانب الإيجابي والترويج فقط للصور السلبية، وهذا أمر غير مقبول.
لهذا السبب، أنا أريد اليوم إسماع صوتي والرد بوضوح. نعم، أنا أتهم، أتهم أولئك الذين يحاولون تشويه صورة هذه الجالية التي لا تستحق ذلك. وفي الوقت نفسه، يجب أن ندرك أن الحديث عن الجزائريين يمتد ليشمل أيضًا باقي المسلمين، لأن ما تعيشه الجالية الجزائرية اليوم يمسّ جميع الشعوب التي تعرضت للاستعمار وعانت من ويلات الاحتلال.
أنا حزين لما يحدث، لأن الجالية الجزائرية عانت كثيرًا خلال الحقبة الاستعمارية. ورغم ذلك، أظهر الجزائريون دائمًا قدرة كبيرة على التسامح. لم نطالب يومًا بأي شيء، ولم نسعَ أبدًا إلى أي تعويض. ومع ذلك، نجد اليوم محاولات متعمدة لاستفزاز الجالية ودفعها للرد. السؤال الذي يجب أن يُطرح: ما الهدف من هذه الهجمات المتكررة ضد الجالية الجزائرية؟ لو كانت هذه الاتهامات صحيحة، لكان الأمر مفهومًا إلى حد ما، ولكن كلها أكاذيب ومجرد تضخيم إعلامي يهدف فقط إلى تشويه صورتها.
في خضم هذه الأزمة، هل فتحتم قنوات تواصل مع مسؤولين فرنسيين، خصوصًا وزير الداخلية برونو روتايو الذي يهاجم الجزائر ليلًا ونهارًا؟
. سأجيب على السؤال، لكن قبل ذلك يجب أن أوضح أمرًا مهمًا: أنا لست ممثلًا رسميًا. هناك من حاول أن يلصق بي صفة "السفير الموازي"، ولكنني لست سفيرًا للجزائر. الجزائر لديها ممثلون رسميون أكفاء للغاية، وهم قادرون على التعامل مع هذه الأزمة بالشكل المطلوب.
لكن، بطبيعة الحال، التقيت وزير الداخلية الفرنسي وتحدثت معه، وحاولت فهم الأسباب التي دفعت إلى توجيه مثل هذه الهجمات ضد المسجد الكبير في باريس. السيد روتايو هاجم المسجد الكبير في باريس مرارًا، ولكنني أوضحت له أنني لم أخرج عن دوري، ولم أفعل شيئًا يستدعي اللوم، لأن دور عميد المسجد لا يقتصر فقط على الجانب الديني. أنا لست إمامًا، بل أمثل مؤسسة دينية، ولدي أئمة يعملون تحت إدارتي في المسجد.
اليوم، تُطرح مسألة الإسلام والجزائر بشكل متكرر، ولذلك أجد نفسي مضطرًا للرد. العلاقة التاريخية القوية بين المسجد الكبير في باريس والجزائر لم أكن أنا من أنشأها، بل هي حقيقة تاريخية يجب التعامل معها. حتى زيارتي للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون تحولت إلى قضية! هل يُعقل أنني إذا التقيت رئيس الجمهورية الجزائرية يجب أن أخفي ذلك؟ بالعكس، أنا أعتبر ذلك شرفًا لي أن أُستقبل من قِبل رئيس الدولة الأكثر أهمية في إفريقيا، الدولة التي كانت دائمًا في طليعة النضال الثوري.
لذلك، أكررها بكل وضوح: هذا شرف لي، ولا علاقة له بأي محاولة للتأثير أو التدخل في أي شأن سياسي. البعض يتهمني بأنني "عميل تأثير" لصالح الجزائر، لكن بأي صفة؟ وكيف؟ هل السبب أنني أؤكد على انتمائي المزدوج، كفرنسي وجزائري؟ أم لأنني أُعبّر عن حبي لوطني؟ أم لأنني أعمل على ضمان دخول المنتجات الحلال إلى الجزائر؟
لقد سافرت إلى الجزائر سابقًا، وظهرت على عدة قنوات تلفزيونية جزائرية لأؤكد للمستهلكين الجزائريين أنه، بصفتي عميدا للمسجد الكبير في باريس، وأمينًا على مهمة التصديق على المنتجات الحلال، أتعهد بضمان أن ما يتم استهلاكه في الجزائر هو بالفعل حلال.
عندما عدت من الجزائر في ديسمبر 2022، بعد توقيع العقد مع وزارة الشؤون الدينية ووزير التجارة، قمت بنشر العقود بشكل علني على موقع المسجد الكبير في باريس. لو كان هناك شيء أخفيه، لكنت تصرفت في السر، لكنني لم أفعل. كلما زرت الجزائر، أقول بصراحة: لقد ذهبت إلى الجزائر.
على ذكر ملف "الحلال"، وفقًا للتحقيقات التي أجرتها بعض الصحف في فرنسا، مثل صحيفة "L'Opinion"، وصفت شركتكم التي تشرف على عملية التصديق على المنتجات، بأنها "وهمية"، وأنها لا تمتلك موظفين، ووجّهوا لكم انتقادات بهذا الشأن.. كيف تردون على ذلك؟
. أولًا، الأشخاص الذين زوّدوا صحفيي "L'Opinion" بهذه المعلومات هم للأسف، في معظمهم، جزائريون، وقد تم ذكر بعضهم بالاسم، بل هناك أحدهم يطمح يومًا ما لأن يصبح عميدا للمسجد الكبير في باريس. أنا آسف، لكن كان ينبغي على الصحفيين القيام بعملهم بموضوعية، والتأكد من صحة المعلومات قبل نشرها. مرة أخرى، أكرر: كل شيء واضح ومعلن للجمهور.
أما بخصوص الشركة المعنية، فأود تذكير المشاهدين والقراء والمستمعين بأنني محامٍ، وأعرف جيدًا الإطار القانوني الذي أعمل ضمنه.
جمعية "الحبوس والأماكن المقدسة للإسلام" هي جمعية مسجلة وفق قانون 1901، وهي المالكة للمسجد الكبير في باريس، وهي منظمة غير ربحية. عندما حصلنا على شرف توقيع عقد مع وزير التجارة الجزائري ووزير الشؤون الدينية الجزائري، عقدت اجتماعًا مع محامي المسجد الكبير في باريس لدراسة كيفية تنظيم الأمور من الناحية القانونية، وتمت التوصية بإنشاء شركة.
إذًا، هذه الشركة ليست وهمية، بل هي كيان قانوني قائم، وهي شركة مساهمة ذات مساهم وحيد، وهو جمعية الأوقاف. أنا ومديري العام نمثل بشكل قانوني جمعية الأوقاف، وهذا أمر شرعي تمامًا ولا يطرح أي إشكال قانوني. أما النقطة الثانية؛ فبصفتي الرئيس المدير العام لهذه الشركة، كان من حقي أن أتقاضى راتبًا، لكنني رفضت ذلك. حتى المدير العام كان يمكنه أن يتقاضى راتبًا، لكنه أيضًا رفض. صحيح أن القانون يسمح بذلك، لكن المسجد الكبير في باريس ليس مؤسسة اقتصادية تهدف إلى تحقيق الربح، بل يسعى فقط إلى تأمين الموارد اللازمة لإدارة المسجد وصيانته، ودعم الجمعيات التابعة له، والقيام بالأنشطة الخيرية.
المجتمع المسلم في فرنسا يواجه صعوبات، وخلال شهر رمضان، نوزع ما يقارب 20 ألف وجبة يوميًا في جميع أنحاء فرنسا. بأي أموال نقوم بذلك؟ كل العقود التي وقعناها مع الشركات المعنية بتوثيق المنتجات الحلال، تُستخدم إيراداتها لدعم العبادة الإسلامية في فرنسا، وليس لصالح المسجد الكبير فقط، بل لصالح المسلمين عمومًا، لأن علينا تنظيم أمورنا المالية وفقًا للقوانين الفرنسية.
ما تم إثارته هو مجرد حملة مغرضة ذات نوايا سيئة، وأود أن أوضح نقطة مهمة للجزائريين: فرنسا دولة علمانية، لا تتبنى أي ديانة ولا تموّل أي نشاط ديني، وهذا يعني أن كل ديانة يجب أن تجد مصادر تمويلها بنفسها. إذًا، ما هو الشيء غير القانوني الذي ارتكبته؟ حتى من الناحية الأخلاقية، الدولة الفرنسية كانت تبحث عن وسائل لتمويل العبادة الإسلامية، من خلال فرض ضريبة على الحج أو على المنتجات الحلال.
تحدثتم مؤخرًا عن وجود تهديدات ضدكم، بل وذكرتم أن هناك من حاول تنفيذها.. هل يمكنكم إخبارنا بالمزيد حول هذا الموضوع؟
. هذا جزء من طبيعة منصب عميد مسجد باريس. أنا تحت حماية الشرطة على مدار الساعة، 24/24.
لكن من يهددكم؟
. لا أعلم. لو كنت أعلم، لكان الأمر أفضل وأسهل للتعامل معه. لكن منصب عميد هو منصب يحظى بطموح الكثيرين، وهناك من يتمنى شغله بأي وسيلة. إضافة إلى ذلك، فإنني أزعج الكثيرين، فحين أتحدث بصوت عالٍ وأندّد بما يحدث اليوم ضد المسلمين، فإن ذلك لا يروق للجميع. لذلك، هناك دائمًا من يرغب في الانتقال من التهديد إلى الفعل.
أثارت تصريحاتكم بشأن القضية الفلسطينية منذ السابع من أكتوبر الكثير من الجدل. هل يمكنكم توضيح موقفكم مما يحدث حاليًا في غزة؟
. كنت دائما متأثرا بهذه القضية، فقد ترعرعت في الجزائر، وكانت القضية الفلسطينية دائمًا حاضرة في وجداني. لذلك، لا يمكنني التخلي عنها أو إعادة النظر في موقفي منها، لأن ذلك سيكون بمثابة محو جزء من ماضيّ. وعندما أصبحت عميدا للمسجد الكبير في باريس، ظلت القضية الفلسطينية قضية أساسية بالنسبة لي، ليس فقط من منطلق ديني، بل أيضًا من منطلق شخصي كإنسان خضع للاستعمار وعانى من التمييز بسبب الأرض.
وعندما وقعت أحداث السابع من أكتوبر، كنت على دراية مبكرة بأن الرد الإسرائيلي سيكون عنيفًا للغاية. لهذا السبب، قبل حتى أن تتفاقم الأوضاع، قبلت دعوة للظهور على أحد البرامج التلفزيونية برفقة كبير حاخامات فرنسا، ووجهنا نداءً لوقف إطلاق النار فورًا وإنهاء الأعمال العدائية. لقد كنت مدركًا لما سيحدث، وهو أن الجيش الإسرائيلي سيرد بقوة غير مسبوقة. لذلك، دعوت مبكرًا للسلام ولوقف إطلاق النار الفوري ولإنشاء دولة فلسطينية.
في أكتوبر 2023، اقترحت أن يتم الإعلان رسميًا، قبل نهاية العام، عن قرار أممي يؤكد قيام الدولة الفلسطينية، لأن من غير المعقول أن يُحرم الشعب الفلسطيني من حقه في دولة مستقلة. في 13 أكتوبر، يوم الجمعة، ألقى الإمام في المسجد خطبة تحدث فيها عن الموقف الإسلامي من النزاعات المسلحة، حيث شدد على أن الإسلام يتعامل بحذر شديد مع هذه القضايا، مذكّرًا بأن النبي محمد كان يوصي دائمًا بمعاملة الأسرى معاملة كريمة، وعدم تعذيبهم، بل إعادة تأهيلهم.
لقد ذكّرنا خلال تلك الخطبة بمعركة بدر، التي كانت لحظة فارقة في التاريخ الإسلامي، حيث تجلى فيها العفو واحترام الكرامة الإنسانية، وهو ما حرصنا دائمًا على التأكيد عليه.
إن الظلم الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني أمر لا يمكن تحمله.. ولذلك، اتخذت قرارًا بأن تشمل كل خطب الجمعة في المسجد الكبير بباريس دعوات خاصة لغزة، وهذا أمر أتحمل مسؤوليته بالكامل بوصفي رئيس هذه المؤسسة الدينية. وحتى يومنا هذا، نقوم كل جمعة بالدعاء لفلسطين.
أما عن موقفي، فهو واضح: أطالب بالإسراع في إنشاء دولة فلسطينية. لكن للأسف، الظروف الحالية تجعل هذا الهدف أكثر صعوبة. ومع ذلك، يجب علينا جميعًا أن نعمل لتحقيقه، لأن هذه مسؤولية إنسانية.
عندما التقيت مؤخرًا بالبابا، ناقشنا هذا الموضوع، وأوضحت له أنه لا يمكننا كرجال دين، نؤمن بحرمة الحياة البشرية، أن نقف مكتوفي الأيدي أمام هذه المأساة. فالبابا نفسه كان من أبرز دعاة الأخوة الإنسانية، حيث وقّع في أبو ظبي على وثيقة الأخوة الإنسانية مع شيخ الأزهر، كما زار العراق والتقى بالمرجع الشيعي آية الله السيستاني. كل هذه الجهود تعني لي الكثير، لأنها تعكس القيم التي يجب أن ندافع عنها.
اليوم، كما قال الرئيس ترامب، قد نكون على مشارف حرب عالمية ثالثة، وأنا بصفتي عميدا للمسجد الكبير في باريس لا يمكنني أن أبقى صامتًا، بل يجب أن أذكّر بتعاليم ديننا التي تدعو إلى الأخوة الإنسانية والتضامن مع المظلومين. الشعب الفلسطيني في غزة بحاجة إلينا، بحاجة إلى دعمنا، إلى دعائنا، إلى وقوفنا إلى جانبه، وأنا متمسك بإعلان هذا الموقف بكل وضوح.
تم تفسير تصريحاتكم في ذلك الوقت، على أنكم تنكرون حق الشعب الفلسطيني في المقاومة، كيف تردون على ذلك؟
. إنها الجهات نفسها التي توجه لي الاتهامات المعتادة، سواء فيما يخص الشؤون المالية أو غيرها. هناك نائب، وهناك شخص آخر يسعى ليصبح عميدا للمسجد الكبير في باريس، هم الذين يروجون لهذه المعلومات التي تجد رواجًا في الجزائر. لكن الحقيقة واضحة، ويمكن لمن يقرأ ما أكتبه أو يستمع إلى ما أقوله أن يعرف موقفي الصريح تجاه غزة ومقاومتها.
هل تعتقدون أن الإسلاموفوبيا في فرنسا أصبحت ظاهرة متنامية، أم أنها لا تزال هامشية؟
. بالتأكيد ليست هامشية، بل أصبحت ظاهرة منتشرة بشكل واضح. هناك حملة مستمرة في بعض وسائل الإعلام لنشر الإسلاموفوبيا.
هل تشيرون إلى قناة CNews؟
. هناك العديد من وسائل الإعلام، وليس فقط CNews. صحيح أن هذه القناة لا تفوت أي فرصة لمهاجمتي، ولكن المسألة أوسع من ذلك بكثير. الأمر المقلق اليوم؛ هو أن الخطاب المعادي للإسلام أصبح مسموحًا به في فرنسا دون أي عواقب قانونية. عندما يتعلق الأمر بالإسلام أو المسلمين أو المساجد، يمكن لأي شخص أن يقول ما يشاء دون خوف من الملاحقة القضائية، وهذا هو الأمر الخطير وغير المقبول.
على سبيل المثال، تعرضت بعض المساجد للاعتداءات، حيث ألقيت رؤوس خنازير أمام أبوابها، وحتى تعرض أحدها للحرق مؤخرًا. لكن الأسوأ من ذلك، أن هذه الحوادث تمر في صمت، دون أي تفاعل جدي من الإعلام أو السلطات. هل سمعتم مثلا عن المسجد الذي تم إحراقه مؤخرًا؟ لم يتم التطرق إلى هذا الموضوع في وسائل الإعلام، ولم يصدر أي رد فعل من السلطات الرسمية. لا أحد يتحرك عندما تقع مثل هذه الاعتداءات الخطيرة.
وفي المقابل، عندما يتم الحديث عن المسلمين في الإعلام، يكون ذلك دائمًا في سياق سلبي، حيث يُحملونهم مسؤولية كل المشاكل. اليوم، كل شيء يتم إلقاء اللوم فيه على المسلمين. في وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح الأمر حتى مادة للسخرية. على سبيل المثال، هناك من يزعم أن أزمة نقص البيض في فرنسا سببها شهر رمضان، وقبل عامين كانت أزمة زيت الطهي، وقيل إنها بسبب المسلمين. حتى أزمة نقص اللحوم يتم تفسيرها بأن المسلمين يذبحون عددًا كبيرًا من المواشي.. هذا أصبح غير محتمل!
مؤخرًا، صدر كتاب بعنوان "أحب فرنسا لكنني أتركها" (J'aime la France mais je la quitte)، وقد استضفنا مؤلفيه في ندوة بالمسجد الكبير في باريس. الكتاب من تأليف باحثين غير مسلمين أجروا دراسة معمقة حول وضع المسلمين في فرنسا، وخلصوا إلى أن هناك أعدادًا متزايدة منهم تغادر البلاد بسبب التمييز المتزايد.
البعض يهاجر إلى دبي، والبعض الآخر يعود إلى بلده الأصلي، وهذا أصبح اتجاهًا متصاعدًا. ما معنى ذلك؟ معناه أن المسلمين في فرنسا لا يُعاملون بنفس الحقوق التي تكفلها الدستور والقوانين الفرنسية، التي من المفترض أن تجرّم أي شكل من أشكال التمييز على أساس الأصل أو العرق أو الدين. لكن عندما يكون الضحية مسلمًا، يصبح الأمر "غير مهم"؟!
تماما هذا هو السؤال.. لماذا لا يتم التعامل مع جميع أتباع الديانات على قدم المساواة في فرنسا؟ على سبيل المثال، هناك حساسية أكبر تجاه الأفعال المعادية للسامية مقارنة بالأفعال الإسلاموفوبية، كيف تفسرون ذلك؟
. الأمر مرتبط بالتاريخ؛ ذلك ما يفسر هذا التباين في التعامل. الأفعال المعادية للسامية تعود بنا إلى ما حدث في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، حيث وقعت المحرقة (الهولوكوست)، وتم إبادة أشخاص فقط لأنهم كانوا يهودًا. فرانز فانون، المفكر العظيم الذي تعرفه الجزائر جيدًا، قال ذات مرة: "عندما يتحدثون عن اليهود، أصغِ جيدًا، لأنهم يتحدثون عنك أيضًا"؛ بمعنى أن ما حدث لليهود بالأمس قد يحدث للمسلمين اليوم.
لذلك، فإن مسألة معاداة السامية تعد إشكالية حقيقية، وأنا لا أرغب في مقارنة الأمرين، لأنهما ظاهرتان مختلفتان وخطيرتان، لكن يجب التعامل مع كل واحدة منهما على حدة. معاداة السامية تُعتبر قضية جوهرية في المجتمع الفرنسي، لأنها ارتبطت بجريمة بشعة خلال الحرب العالمية الثانية، حين تم ترحيل وقتل أشخاص فقط بسبب ديانتهم. أنا لا أريد أن يحدث ذلك للمسلمين، لكننا نرى تصاعدًا تدريجيًا في العداء تجاههم، وإذا استمرت الأمور بهذه الوتيرة، فقد نصل إلى مستوى مماثل من الاضطهاد. لا يمكننا اليوم القبول بالتمييز ضد أي شخص بسبب اسمه أو أصله أو ديانته، فذلك مرفوض تمامًا.
وما يحدث لنا اليوم، سبق أن حدث لليهود بالأمس، ويمكن أن يحدث غدًا لمجتمعات دينية أخرى أو لمجموعات ذات أصول مختلفة. لهذا، علينا أن نكون حذرين جدًا، لأن المشكلة تبدأ عندما نرى الآخر مختلفًا عنا. في القرآن الكريم، هناك آية تتحدث عن هذا الأمر، وهي أن الله خلقنا مختلفين لكي نقترب من بعضنا البعض ونتعارف، وهذه الاختلافات، خاصة فيما يتعلق بمعتقداتنا، هي جزء من طبيعتنا كبشر في عبادتنا للخالق.
لكن رغم ذلك، وقعت جرائم إبادة قبل الهولوكوست، وبالضبط خلال بدايات الاستعمار الفرنسي للجزائر، مثل جرائم الخنق بالدخان (Les Enfumades) وغيرها.. وعندما قارن الصحفي جان ميشيل أباتي بين النازية وجرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، تعرض لهجوم عنيف. لماذا لم يكن هناك اعتراف بهذه الجرائم المرتكبة خلال الاستعمار؟
لأن الجزائر لم تطالب بذلك مطلقًا، لم تضع الجزائر هذا الأمر في قائمة أولوياتها، بل اعتبرت أن أهم إنجاز حققته هو الاستقلال، وهو ما كان الأهم بالنسبة لها في 1962. لم تسعَ الجزائر إلى حساب الأضرار أو تقديم "محاسبة للدماء"، بل كان تركيزها منصبًا على تحرير الشعوب الأخرى من نير الاستعمار، دون الاكتفاء بالنظر إلى وضعها الخاص.
عندما نالت الجزائر استقلالها في 5 جويلية 1962، أعلنت أنها لن تعتبر نفسها مستقلة بشكل كامل إلا عندما تحصل بقية الشعوب، لاسيما في إفريقيا، على استقلالها أيضًا. كان هناك مسار تحرري شامل، وأظهر الجزائريون نبلًا كبيرًا في موقفهم. لم يحاولوا حساب الخسائر أو المطالبة بتعويضات، بل تحركوا من أجل تحقيق الحرية لهم وللآخرين.
هل صدمتكم العقوبة التي فرضتها إذاعة RTL على جان ميشيل أباتي؟
. بكل تأكيد، لأنها كانت لمجرد أنه صرح بالحقيقة. لقد عوقب على قول الحقيقة، في حين أننا نرى يوميًا في وسائل الإعلام هجمات متكررة لا تخضع لأي عقوبة. المشكلة الكبرى اليوم هي أن بعض وسائل الإعلام أصبحت تقوم بدور الدعاية أكثر من تقديم الأخبار بشكل محايد. لم يعد هناك حياد إعلامي حقيقي، بل هناك انحياز واضح. ما الخطأ الذي قاله جان ميشيل أباتي؟ لقد استند إلى حقائق تاريخية مثبتة، ومع ذلك تمت معاقبته.
فرنسا، التي تُعرف بأنها "موطن حقوق الإنسان"، تجد نفسها الآن في موقف صعب عندما يتعلق الأمر بمبدأ أساسي مثل هذا.
هذا مؤلم حقًا، لكنني شخص متفائل بطبعي، وأتمنى أن نعود قريبًا إلى الحوار الحقيقي بين الجزائر وفرنسا، لأن الوضع الحالي، حيث ينظر كل طرف للآخر كخصم، غير صحي على الإطلاق.
كيف ترون المخرج لهذه الأزمة؟
. أتمنى أن يدرك صناع القرار في فرنسا والجزائر طبيعة الوضع. هناك واقع قانوني جزائري وواقع آخر فرنسي.. لا يمكن تشويه صورة الجزائر باعتبارها "دولة ديكتاتورية" كما يحاول البعض تصويرها، فالجزائر دولة ذات سيادة، بتاريخها ومؤسساتها وقوانينها، وقد مرت بمعاناة كبيرة. تشويه صورة الجزائر كدولة فتية بهذه الطريقة أمر مؤسف حقًا. يجب أن نكون عقلانيين وندرك أن الجزائر وفرنسا يمكن أن تكونا شريكين لا خصمين. لطالما دافعت عن فكرة إقامة شراكة إستراتيجية حقيقية بين البلدين، كما هو الحال بين ألمانيا وفرنسا. اليوم، للأسف، أصبحنا في حالة "مشاحنة سياسية"، لكن يمكن تصحيح المسار. أعتقد أن الرئيسين عبد المجيد تبون وإيمانويل ماكرون يمكنهما إيجاد حلول إذا تمكنا من التحدث بصراحة.
لكن هناك انقسام واضح داخل الحكومة الفرنسية، بعض الشخصيات تتبنى مواقف تصعيدية مثل برونو روتايو، في حين يسعى آخرون، مثل وزير الخارجية، إلى التهدئة. كيف وصلت فرنسا إلى هذه الحالة؟
. الوضع السياسي في فرنسا غير مسبوق. منذ حل الجمعية الوطنية العام الماضي، لم يعد للرئيس ماكرون أغلبية برلمانية، مما دفعه لمحاولة إيجاد توازن دقيق. رأينا استقالة الحكومة، وهو حدث غير معتاد في تاريخ الجمهورية الخامسة. ثم حكومة ميشيل بارنييه التي لم تتمكن من الاستمرار بسبب حجب الثقة، والآن لدينا رئيس وزراء جديد، مما يعكس حالة عدم استقرار سياسي غير مألوفة. هل هناك انسجام داخل الحكومة الفرنسية؟ من الواضح أن الإجابة هي لا. والآن نقترب من شهر جوان، حيث قد يقرر الرئيس ماكرون حل البرلمان مرة أخرى واستعادة زمام الأمور.
يجب ألا ننسى أن ماكرون، خلال حملته الانتخابية، وصف الاستعمار الفرنسي بأنه "جريمة ضد الإنسانية"، وبالتالي لا يمكن القول إن الجميع يتبنى نهجًا تصعيديًا تجاه الجزائر. لكن الرئيس ماكرون لا يمكنه الترشح لولاية ثالثة، أمامه أقل من عامين في منصبه، ويجب استغلال هذا الوقت للبحث عن حلول جادة مع الجزائر.
. نعم، تحدثت معه عن الأزمة، وبالطبع هو يتمنى أن يتحدث سريعا مع الرئيس تبون. لا يزال الرئيس ماكرون ينادي الرئيس تبون "أخي عبد المجيد"، وكان دائمًا يكن له احترامًا كبيرًا. الرئيس عبد المجيد تبون يدافع عن مصالح بلاده ويوجد أيضا في وضع معقد. ربما في لحظة ما، سيتمكنان من تجاوز هذه التوترات، وقد يجدان طريقا للتعاون خدمة لمصالح بلديهما ولصالح الجالية الجزائرية في فرنسا.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

جزايرس
منذ 2 أيام
- جزايرس
هل تفوز واشنطن على بكين بالذكاء الاصطناعي؟
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص. فهل تبقى واشنطن على عرشها في المستقبل؟ أم أنها ستخسر وستنهزم أمام بكين؟ أم أنّ واشنطن وبكين سوف تتوازنان ثم تتوازيان قريباً على رأس هذا النظام العالمي الجديد برمّته، بكونه وبوصفه ثنائي القطبية؟ وأين هما وكلّ منهما من الذكاء الاصطناعي؟ ..احتدام المنافسة بين واشنطن وبكين تبدو المنافسة بين العملاقين والقطبين الأميركي والصيني مفصلية، بل مصيرية بالنسبة لمستقبل ومصير النظام العالمي، كما النظام الإقليمي بالتبعيّة. وهي بلغت مرتبة أو مرحلة حسّاسة، تبدو فيها ساخنة أو ملتهبة، بل مشتعلة، وبالتالي حاسمة على الصعيدين العالمي والإقليمي أيضاً. لقد تخلّصت أميركا من أوروبا، بحيث لم يعد بإمكان الاتحاد الأوروبي البتة أن يزاحم أو يقارع الولايات المتحدة الأميركية، ولا حتى أن يوازن هو بقوته ونفوذه قوتها ونفوذها هي. وقد خرج، أو أُخرِج، الاتحاد الأوروبي من حلبة التنافس أو التسابق الاستراتيجي. هو خاض، ولا يزال، غمار حرب واهية وواهنة مع روسيا في أوكرانيا لحساب ولمصلحة أميركا دون سواها أو قبل سواها. بالتوازي، فقد استطاعت الولايات المتحدة الأميركية تظهير وتثبيت المعادلة الثنائية مع روسيا باعتبار أنّ هذه الأخيرة، حتى وإن كانت قوة عظمى وقوة كبرى، تبدو أقرب لأن تبقى قوة إقليمية، ذات تأثير إقليمي في أوراسيا وشرقي أوروبا، وربما في أفريقيا، لا في الشرق الأوسط وغربي آسيا، بعد أن خرجت، أو بالأحرى أُخرِجت من سوريا والمشرق العربي، بالمفاضلة بين البقاء على تخوم المياه الدافئة في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط أو الحفاظ على العمق الاستراتيجي للأمن القومي الروسي، وبالمقايضة مع أواكرانيا التي تقع ضمن المجال الحيوي للأمن القومي الروسي. هكذا تبتعد روسيا إلى حدّ ما، بشكل ملحوظ، وهو تطوّر لافت، من أن تكون أو تصبح هي قطباً عالميّاً، أو حتى مجرّد قوة عالمية، بعد أن كانت قبلها ابتعدت، وربما أُبعِدت، المجموعة الأوروبية إلى حدّ كبير وبعيد، من أن تكون أو تصبح هي أيضاً قطباً عالميّاً، أو حتى مجرّد قوة عالمية...تجسّد وتجدّد الرأسمالية العالمية بالرأسمالية الأميركية لقد أصبحت الولايات المتحدة الأميركية، بعد الحرب الباردة، مركز الاجتذاب والاستقطاب الأول، بل الأوحد، في العالم الغربي على وجه الخصوص وفي العالم بأسره على وجه العموم. هي كانت، منذ الحرب العالمية الثانية، وطيلة الحرب الباردة، أحد القطبين العالميين الاثنين، ولكنها صارت القطب الأوحد في العالم الغربي الرأسمالي. وهذا ليس مجرّد تفصيل في مسار ومسير تطوّر النظام العالمي الرأسمالي عموماً والنظام الغربي الرأسمالي خصوصاً. فقد أخذ ينتقل مركز ومحور كتلة الرأسماليات الغربية بصورة تدريجية من أوروبا الغربية إلى أميركا الشمالية، منذ الحرب العالمية الأولى في مطلع القرن المنصرم، ولا سيما في الحقبة التاريخية الممتدة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. فالولايات المتحدة الأميركية في طور الرأسمالية المالية بعد الرأسمالية الصناعية من حياة وعمر هذا النظام العالمي الرأسمالي استفادت كثيراً من ديناميكيات الاتجاهات العالمية الجديدة بالانفتاح والتحرير والخصخصة. لقد كان للولايات المتحدة الأميركية الدور الكبير والعظيم في إرساء ركائز ودعائم هذا النظام العالمي القديم وآلياته ومؤسساته، بما فيه هيئة الأمم المتحدة، منظمة التجارة العالمية ومنظمة الصحة العالمية، كما صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، إلخ. ثم استفادت بعدها الولايات المتحدة الأميركية من الثورة العلمية والتكنولوجية، منذ السبعينيات ثم الثمانينيات من القرن الماضي، في الولوج إلى حقبة ما بعد الحداثة وعصر العولمة مع الرأسمالية النيولييرالية وطور ما بعد الرأسمالية المالية. واستمرت هذه الديناميكيات المتجدّدة في التوسّع والتراكم الرأسماليين، إلى أن تقدّمت الولايات المتحدة الأميركية، كما تفوّقت، على الاتحاد السوفياتي، حتى أطاحت به، لتقارب وتلامس مؤخّراً وراهناً القمة مع الذروة، بعد الكبوة ومن ثم الصحوة، والتشتّت والترنّح ومن ثمّ الانتفاضة والاندفاعة والانعطافة، في طور الرأسمالية الرقمية بصورة عامّة وحيّز الذكاء الاصطناعي بصورة خاصة...صراع الرئيس الأميركي والدولة العميقة الأميركيةقد لا تبدو العلاقة سليمة، وبالتالي مستقرة، ما بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب، على رأس الإدارة الأميركية من جهة، والدولة العميقة الأميركية من جهة أخرى.ثمّة من يقف في صفه من فريق عمله داخل الإدارة الأميركية بطبيعة الحال، وثمّة من يمثّل مصالح وتوجّهات الدولة العميقة في المقابل. على أية حال، هو قد يختلف مع الاتجاهات التقليدية والكلاسيكية لشبكات المصالح والمجموعات الضاغطة داخل الدولة العميقة، ومن بينها، إلى جانب اللوبيات الصهيونية، المجمع الأميركي للصناعات العسكرية والحربية، والتي تستثمر بالحروب وصفقات التسليح، إن في المنطقة لدينا أو في المناطق الأخرى من العالم. رغم رصد هذا الخلاف – الاختلاف بالحد الأدنى – بين الرئيس الأميركي والدولة العميقة الأميركية مع الإدارة الأميركية العتيدة، فإنّ الولايات المتحدة الأميركية تعتمد مؤخراً وراهناً، في العالم وفي المنطقة، الاستراتيجية التي تقضي بالتفكيك ثم التجميع فالتركيب، بمعنى تفكيك الشبكة القديمة من المصالح والعلاقات، ومن ثم مباشرة تجميع وتركيب الشبكة الجديدة من المصالح والعلاقات، العالمية والإقليمية. هنا بالتحديد، تقع الحرب التجارية التي أطلقتها واشنطن في مقابل العديد بل الكثير من الفاعلين الاقتصاديين، العالميين أو الإقليميين، من مثل بكين وموسكو، كما عموم الأوروبيين. ..واشنطن بين المخاطرة والمغامرة والمقامرة لأجل المستقبل مما لا شكّ فيه أنّ محاولة الولايات المتحدة الأميركية قيد التجربة لاستعادة زمام المبادرة على الصعيد العالمي أولاً وعلى الصعيد الإقليمي ثانياً جديرة بالنقاش السياسي. فهي تجربة دونها الكثير من المحاذير، وفيها الكثير من الفرص. وهي لا تخلو من المخاطرة بالتأكيد وبطبيعة الحال، فهي ليست مضمونة النتائج. ولكن الولايات المتحدة الأميركية قطعت شوطاً كبيراً في محاولة منها لإعادة تكوين السلطة وصناعة القرار وممارسة النفوذ في المجال الدولي. هي أنجزت الكثير من مقتضيات الأمن القومي الأميركي والمصالح القومية الأميركية. وهي تتقدّم، بعد أن كانت تتراجع، وتحرز العديد من المقاصد والأهداف على خط كلّ من المجتمع الدولي، المجموعة الأوروبية، المجموعة العربية، وكذلك في أوراسيا وشرقي أوروبا وفي الشرق الأوسط وغربي آسيا. على ما يبدو، فإنّ الولايات المتحدة الأميركية تعتزم، لاحقاً وتباعاً، بل قريباً، إحداث نقلة نوعية ملحوظة ولافتة، أو لنقل بالأحرى قفزة نوعية، كبيرة وعظيمة، في الذكاء الاصطناعي. هي بذلك يمكنها إحراز نجاح كبير وانتصار عظيم. فحين تحتفظ بالشفرات وكلمات السرّ لنفسها، وتحتكر أساليب وأدوات التفوّق والقيادة والسيطرة والهيمنة من دون منافس ومن دون منازع، بحيث تجد القوى الدولية والإقليمية، بما فيها القوى العالمية، كما القوى الكبرى والعظمى والوسطى، أنفسها جميعها عاجزة أمام غلبة الولايات المتحدة الأميركية بلغة التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي، هي مضطرة للتسليم والرضوخ والخضوع والإذعان، إذ لا مجال هنا للمواجهة ولا المنافسة، ولا سبيل للخروج في إثرها من طور انتصار التكنولوجيا على الأيديولوجيا! هو احتمال وهي فرضيّة، يستأهلان التأمّل والتفكّر بها. ..بكين والنظام العالمي الرأسمالي والرأسماليات الغربية أخذ ينتقل، مؤخراً وحاليّاً، مركز الثقل والجذب في النظام العالمي الرأسمالي من منطقة المحيط الأطلسي، بضفتيه الغربية والشرقية، في إشارة إلى أميركا الشمالية وأوروبا الغربية، إلى منطقة المحيط الهادئ، بضفتيه الشرقية والغربية، في إشارة إلى أميركا الشمالية وجنوب شرقي آسيا، ولا سيما كل من الولايات المتحدة الأميركية والصين. والسؤال الذي ربما يفرض نفسه يتعلّق بمكانة الصين ودورها ضمن إطار النظام العالمي الرأسمالي، بالمقارنة مع مجموعة الرأسماليات الغربية فيه، وعلى رأسها الرأسمالية الأميركية. فالصين أصبحت ثاني أكبر اقتصاد بالعالم، وثاني أقوى دولة في العالم. ثمة مؤشرات للقوة المركّبة تفيد بذلك، منها القوة العسكرية، القوة الاقتصادية، القوة التكنولوجية، فضلاً عن الحجم الجغرافي والوزن الديموغرافي. كما أنّ الصين كانت انخرطت مبكراً في الرأسمالية الرقمية وأسواق العملات الرقمية. كذلك هي باشرت مشاركتها ومساهمتها في اقتحام عالم الذكاء الاصطناعي وسبر أعماقه وأغواره. لقد بقيت الصين وحدها دون سواها في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية. هي مسألة معقّدة وصعبة. المقصود بالتحديد المواجهة المفتوحة بين الأميركيين والصينيين. لا تزال واشنطن متفوّقة ومتقدّمة على بكين. وقد لا تتمكّن الأخيرة – أي بكين – من التفوّق والتقدّم على الأولى – أي واشنطن – في المستقبل القريب غير البعيد. وأكثر من ذلك: ربما تتمكّن واشنطن من التغلّب على بكين. كلّ ذلك هو رهن بما سيفضي إليه النزال الكبير والعظيم بين هذين القطبين العملاقين، الأميركي والصيني، في الأمن والطاقة والبيئة والاستثمار والإنتاج والاستهلاك والاقتصاد والتجارة والنقد والمال والتكنولوجيا، وصولاً إلى الذكاء الاصطناعي، لا انتهاء به، إذ إنه يفتح الباب ويفسح المجال أمام آفاق جديدة ومتجدّدة، وهي غير مسبوقة، للتوسّع المنافسة والإبداع والابتكار. ..بكين وحسب لقد أطاحت الولايات المتحدة الأميركية بالاتحاد الأوروبي كمشروع قطب عالمي وقوة عالمية. هي استطاعت أيضاً احتواء واستيعاب الاتحاد الروسي إلى حدّ ما في أوراسيا. كما أنها تمكّنت من تطويع بلدان منطقة الخليج، وبقية بلدان المنطقة العربية. وهي باشرت المفاوضات مع إيران بقصد التفاهم على التوصّل إلى صفقة! وعليه، لم يبقَ مقابلها سوى بكين فحسب. كلّ ما قامت به وكلّ ما تقوم به واشنطن في الإقليم والعالم يندرج في سياق التعامل والتعاطي مع الصينيين من قبل الأميركيين. فكيف يمكن أن تكون المواجهة بين واشنطن وبكين؟ وبعدها، ما هو مصير العلاقات الأميركية – الصينية في المستقبل؟ هل تربح واشنطن على بكين، أم تخسر أمامها، أم تتعادلان سلبيّاً أو إيجابيّاً؟ الميادين. نت

جزايرس
منذ 2 أيام
- جزايرس
في ذكرى النكبة.. غزة مقياس العروبة والإسلام والإنسانية
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص. تمثل إسرائيل في هذا الصراع ذراع الغرب وقاعدته المتقدمة للهيمنة على المشرق الإسلامي، وتمثل فلسطين الأمة في بُعدها الحضاري والعَقَدي. صراع له أبعاد حضارية في العقيدة والثقافة والتاريخ، كما في الجغرافيا والسياسة والاقتصاد؛ وله تداعيات مباشرة على أوضاع الأمة وعلاقاتها في المنطقة العربية وخارجها. بنظرة فاحصة على علاقات إسرائيل مع الأقلّيات ومع الدكتاتوريات في المنطقة العربية، ودور إسرائيل ولوبياتها في الغرب في التحريض والضغط والمساعدة في قمع محاولات النهوض العربي والإسلامي، ندرك أن الصراع الدائر في فلسطين والمنطقة هو صراع مترابط: الشعب الفلسطيني في الخندق الأول، ولكن في بعض الحالات تكون الخنادق الخلفيّة أكبر تأثيرًا، وأكثر خطورة ودموية. هناك علاقة جدلية بين ساحات هذا الصراع؛ إذ إن صمود الشعب الفلسطيني، وأي إنجاز يحققه في صراعه المباشر مع العدو الصهيوني بالضرورة ينعكس إيجابًا على دول المنطقة وشعوبها، ويعطي أملًا متجددًا في حتمية الفوز في هذا الصراع. وأيضًا، فإنّ أية نهضةٍ واستقلالٍ حقيقيّ لأيّ قُطر عربي أو إسلامي، ينعكسان إيجابًا على صراع الشعب الفلسطيني مع إسرائيل التي تستهدف إضعاف جميع دول المنطقة، بما فيها الدول المطبّعة معها، حتى تبقى ضعيفة ومرتهنة دون أي تأثير أو نفوذ أو استقلال. ولأننا نريد لأمتنا أن تنهض، ولفلسطيننا أن تتحرّر، فإننا نرى ضرورة إدراك المتغيرات الكثيفة التي تمرّ بها المنطقة والعالم، حيث هناك أوضاع جديدة وصراعات ممتدة تستلزم استعدادات جذرية في الاستجابة لها، وتعديلات من الدول ومن القوى الشعبية العاملة فيها على السواء. فلم يعد مفهومًا -بعد كل هذه التجارب والمحن- أن تستمر الأنظمة العربية في الارتهان التامّ للأوامر الغربية وللسيّد الأميركي. وإذا لم يكن مقبولًا في سبعينيات القرن الماضي أن يُقال إن 99% من أوراق اللعبة بيد الولايات المتحدة الأميركية، فكيف تُسلِّم اليوم أنظمة العرب، بعد أكثر من نصف قرن، إرادتَها كاملة لأميركا؟ لقد شكّل موقع فلسطين دينيًا وتاريخيًا وجغرافيًا في قلب الأمة العربية، التي هي قلب العالم الإسلامي، ساحةَ صراع مفتوح مع الغرب وفي العصر الحديث، تجسَّد هذا الصراع بإقامة دولة إسرائيل التي هي مشروع غربي استعماري بامتياز. لقد كان ضياع فلسطين، وإعلان قيام دولة الصهاينة عام 1948، نتيجة مباشرة للمواجهة المستمرة بين الغرب الاستعماري، والشرق الإسلامي بعد انهيار دولة الخلافة العثمانية، وانهيار النظام السياسي الإسلامي بعد الحرب العالمية الأولى. إنّ الصراع على فلسطين، الذي له كلّ هذه الأبعاد العَقَدية والثقافية والتاريخية، فضلًا عن أبعاده السياسية والاقتصادية والعسكرية، وما له من تداعيات على المنطقة والعالم، يلخّص صراع الأمة الإسلامية مع الغرب وحضارته، ويُعتبر صورة مصغرة تعكس هذا الصراع وتلخّصه، وإن اختلفت بعض التفاصيل والأولويات. ويمثل كذلك حالة اختبار لكل الأطراف المشاركة فيه، ويكشف كل الدّعاوى الزائفة لعزل فلسطين عن بُعدها العربيّ والإسلامي. لقد شكّلت نكبتنا في العام 1948 لحظة فارقة في تاريخ الصراع مع الغرب. فقد نشأت دولة إسرائيل على أنقاض فلسطين العربية، وكل التطوّرات اللاحقة، من حروب ومفاوضات ومعاهدات هدنة أو اتفاقات سلام منذ كامب ديفيد، مرورًا بأوسلو ووادي عربة، وصولًا إلى اتفاقات أبراهام حتى يومنا هذا، هي نتائج مباشرة لحرب العام 1948 إن محاولة فهم ما حدث في العام 1948 وأسباب هذا الانهيار الشامل، تشكّل مدخلًا إجباريًا لفهم التحديات الراهنة في فلسطين والمنطقة.عربيًا، حصلت الدول العربية على ما يسمّى الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية ضمن الحدود التي فصّلها المستعمر، وبالطريقة التي أرادها بكل التناقضات ومشاكل الحدود التي تعمّدها، ووفق مصالحه الخالصة، وبعد أن نكث بكلّ وعودهأصبح للنخب السياسية العربية التي تشكّلت بعد ما سمّي بالاستقلال، مصالحُ قُطرية تدافع عنها، وأصبحت العروبة شعارات بلاغية زائفة ورنّانة تظهر على منابر المزايدات والخطب، بدل أن تكون دعوة جدية تتحدّى شروط المستعمِر. وقدّم سياسيو العرب مصالحهم ومصالح أقطارهم على أية مصلحة قومية.وهكذا، فإنّ الدول العربية التي دخلت جيوشها حرب 1948 كان لها حسابات قُطرية مختلفة ومتناقضة، ولم تشارك في الحرب أو تفاوض بعدها بشأن الهدنات مع إسرائيل إلا بمفهوم قُطري، بعيدًا عن أية إستراتيجية عربية، أو حتى تنسيق عربيّ شامل.ظهرت النخب السياسية والثقافية، في معظمها، مشوّهة ومنسلخة عن تاريخها وثقافتها وعقيدة شعبها، ومتنكّرة لها، ومهزومة روحيًا وعقليًا وعلميًا أمام حضارة الغرب المستعمِر وثقافته.لقد دخل العرب الحرب دون رؤية صائبة، ودون هدف مشترك، ودون خطة عملية موحدة، وبأعداد رمزية، حيث إن مجموع القوات العربية التي يُطلَق عليها جيوشٌ عربية كان أقل من 15 ألفًا، في مقابل العصابات الصهيونية التي كان لها خُطة وهدف وقيادة سياسية وتحالفات دولية، وأعداد بلغت 75 ألفًا، في أقلّ تقدير، من الجنود المدربين.باختصار، فشلت دول ما بعد الاستعمار المباشر، وفشل زعماؤها السياسيون، وفشل المثقفون في مواجهة تحديات التغيير الذي أعقب الحرب العالمية الأولى، وكان سقوطها مدويًا في أوّل مواجهة لها مع العصابات الصهيونيّة. بعد 77 عامًا من نكبتنا الأولى في فلسطين، نجد ما يسمى النظام العربي أسوأ حالًا؛ فلا يجرؤ أن يرسل قطرة ماء أو كسرة خبز إلى شعب فلسطين الذي تصنع له إسرائيل نكبة جديدة على رؤوس الأشهاد قرارات القمم العربية ومناشداتها أقل بكثير من الشعارات التي رفعها زعماء عرب حول الأمة الواحدة الخالدة وحول تحرير فلسطين بعد نكبة 1948. التسليم التام للإدارة الأميركية التي تحمي إسرائيل وتمدها بآلة الدمار يذكرنا بالطلب من الشعب الفلسطيني بالركون إلى الهدوء؛ استجابةً لوعود صديقتنا حكومة صاحبة الجلالة قبل نكبة 1948. إنّ الاستسلام الكامل للإملاءات الأميركية وتسليمها مقدرات شعوب الأمة، والرعب من إسرائيل وهرولة البعض إلى التطبيع معها وإشاحة النظر عن الجرائم المروّعة التي يرتكبها العدو في غزة والضفة والقدس، وسياسة التجويع والتطهير العرقي، يبشّر بسقوط مدوٍّ لكل من صمت أو بارك وبرر جرائم العدو، كما حدث لأنظمة نكبتنا الأولى في العام 1948. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. الجزيرة. نت


الشروق
منذ 2 أيام
- الشروق
هواية اسمها: قتل الأطفال!
في تصريح لافت للانتباه أدلى به لهيئة البثّ الصهيونية (كان)، فضح رئيس 'الحزب الديمقراطي الإسرائيلي'، يائير غولان، حكومة نتنياهو المتطرّفة الفاشية؛ فهي تعجّ بالوزراء الفاسدين الذين تحرّكهم روح الانتقام ويفتقرون إلى الأخلاق، وتشنّ حربا على المدنيين الفلسطينيين، وتقتل الأطفال كهواية، وتنفّذ مخططا لتهجير سكان غزة، وبهذه الممارسات، تدفع حكومة نتنياهو 'إسرائيل' إلى أن تصير دولة منبوذة بين الأمم، كما كانت جنوب إفريقيا من قبل. والواقع أنّ يائير لم يكشف جديدا؛ فكل ما قاله تثبته الأحداث والوقائع بالأدلة الدامغة منذ بدء حرب غزة في 7 أكتوبر 2023 إلى اليوم، لكنّ هذه الشهادة من رئيس حزب صهيوني مهمّة جدا من باب 'وشهد شاهد من أهلها' وتفنّد رواية الحكومة الفاشية من أنّ ما يجري في غزة حرب على 'حماس' والمقاومة وحدها، والمدنيون يسقطون بشكل غير مقصود، فهي حرب على الفلسطينيين كلّهم، ولا يستثنى من ذلك الأطفال الأبرياء الذين يقتلون كل يوم في مجازر وحشية عمدية بهدف التخلّص منهم، حتى لا يكبروا وينضمّوا إلى صفوف المقاومة مستقبلا. ما قاله يائير غولان عن تعمّد قتل أطفال غزة كهواية للاحتلال، أكّده عضو كنيست سابق يدعى موشي فيغلين، إذ قال للقناة الـ14 اليمينية، إنّ 'كل طفل في غزة هو عدوّ، كلّ طفل تقدّمون له الحليب الآن سيذبح أطفالكم بعد 15 عاما، علينا احتلال غزة واستيطانها حتى لا يبقى فيها طفل واحد، لا يوجد نصر آخر'! غزوة 'طوفان الأقصى' في 7 أكتوبر 2023 أفقدت قادة الاحتلال توازنهم وأسقطت آخر أقنعتهم، وكشفت وجوههم القبيحة المرعبة، فلم يعودوا يتورّعون عن إطلاق تصريحات نازية تدعو إلى ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، كالدّعوات إلى الإبادة والتطهير العرقي والتهجير وضرب غزة بالنووي وقصف مخازن الغذاء وتجويع السكان حتى الموت… وهذه الدعوات التي تنضح فاشية وكراهية وحقدا على الفلسطينيين تردّد على ألسنة وزراء متطرفين من أمثال سموتريتش وبن غفير ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت الذي قال يوم 8 أكتوبر 2023، إنّ سكان غزة 'حيوانات بشرية' وسيمنع عنهم الغذاء والماء والدواء والكهرباء، وهو ما يجري عمليّا منذ قرابة 19 شهرا أمام مرأى العالم كلّه وسمعه، ومع ذلك، لا نسمع إلا إدانات خجولة ودعوات للاحتلال، بكلمات ناعمة، لإدخال الغذاء للسكان الذين يتضوّرون جوعا، وخاصة الأطفال الذين أصبحوا هياكل عظمية يكسوها جلد رقيق، وقد مات منهم 57 طفلا من شدّة الجوع. أيعقل أن يحدث هذا في القرن الواحد والعشرين ولا يتحرّك العالم جدّيا لوقف المأساة بالقدر ذاته الذي يتحرك فيه تجاه أوكرانيا مع أنّها لا تعاني 1 بالمائة مما يكابده الفلسطينيون في غزة؟ ما صرّح به النائب موشي فيغلين يعبّر، فعلا، عن هذه الحكومة الصهيونية الفاشية المجرمة التي ترى أنّ قتل الأطفال الفلسطينيين يتماشى وروح التوراة، ألم يقل نتنياهو بعد 3 أسابيع من اندلاع الحرب لجنوده وهم يستعدّون لدخول غزة بعد قصف جهنّمي متواصل بالطيران: 'يقول كتابنا المقدّس تذكّروا ما فعله عماليق بكم، ونحن نتذكّر ونقاتل'، وهو يشير بذلك إلى ما ورد في سفر صموئيل: 'الآن اذهبوا واضربوا عماليق، ودمّروا كلّ ما لهم، ولا تعفوا عنهم، بل اقتلوا كلًّا من الرجل والمرأة، والطفل والرضيع، البقر والغنم، الجمل والحمار'. وبقرار الاحتلال توسيع حرب غزة، ننتظر أياما سوداء أخرى ترتفع فيها الحصيلة اليومية للشهداء، وسيكون أغلبهم من الأطفال والنساء كما هو حاصل طيلة هذه الحرب غير الأخلاقية التي تشنّ على المدنيين تحت غطاء 'استعادة الرهائن'، لكنّ أملنا في المقاومة وصمود الشعب الفلسطيني على أرضه لا يزال كبيرا برغم قسوة الحرب؛ فالمقاومة لا تزال صامدة وتتكيّف مع الظروف وتخوض حرب استنزاف طويلة مع العدوّ وتثخن فيه كل يوم بكمائن مركّبة دوّخت جنوده، والمدنيون ثابتون في أرضهم يرفضون التهجير، برغم الإبادة والتجويع الجهنمي لإدراكهم أنّها معركة وجود، وحياة أو موت. وما النصر إلا صبر ساعة.