
غزة دايت.. حرب السعرات الحرارية الإسرائيلية على القطاع بدأت عام 2007
"غزة دايت" هي آخر ما تمخضت عنه آلة الإبادة الإسرائيلية التي تشن منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 حربا ضد القطاع الفلسطيني المنكوب.
وتشير معطيات متعددة إلى أن إسرائيل تستخدم الغذاء سلاحا، عبر التحكم في ما يدخل من سعرات حرارية إلى القطاع المحاصر وتقليلها لأقصى حد، مما يقود إلى تغيرات صحية وبدنية، وصولا إلى المجاعة التي تهدد غزة.
لكن حرب السعرات الحرارية لم تبدأ منذ عام 2023، بل تعود إلى 2007 عندما قررت إسرائيل حصار غزة والتحكم فيما يدخلها من مواد غذائية.
دعونا نبدأ القصة مع تقرير نشرته غارديان البريطانية عام 2012، يقول إن الجيش الإسرائيلي أجرى حسابات دقيقة لاحتياجات غزة اليومية من السعرات الحرارية لتجنب سوء التغذية خلال الحصار المفروض على القطاع الفلسطيني بين عامي 2007 ومنتصف 2010، وفقا لملفات نشرتها وزارة الدفاع.
ومع أن إسرائيل قالت وقتها إنها لم تحدد قط عدد السعرات الحرارية المتاحة لغزة، لكن الوثيقة دليل على أن حكومة الاحتلال حدت من إمدادات الغذاء للضغط على حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
وفي ذروة الحصار، احتفظت إسرائيل أيضا بقائمة بالأطعمة المسموح بها والممنوعة من غزة.
تقييد كمية الغذاء
ووقتها خاضت منظمة "غيشا" الإسرائيلية، التي تهدف إلى حماية حقوق السكان الفلسطينيين، معركة قضائية طويلة لنشر الوثيقة. ويقول أعضاؤها إن إسرائيل حسبت احتياجات سكان غزة من السعرات الحرارية لتقييد كمية الغذاء التي تسمح بدخولها.
وقد فرض الجيش الإسرائيلي الحصار بعد تصنيف غزة "كيانا معاديا" في سبتمبر/أيلول 2007، ويهدف القرار لفرض قيود صارمة على المدنيين، وقالت إسرائيل إن الحصار ضروري لإضعاف حماس. لكنه في الواقع شكل عقابا جماعيا ضد سكان غزة.
وقالت منظمة غيشا "كان الهدف الرسمي لهذه السياسة هو شن حرب اقتصادية من شأنها شل اقتصاد غزة".
ووفقا للوثيقة، فإن حساب الغذاء -الذي أجري في يناير/كانون الثاني 2008- اعتمد على متوسط الاحتياجات اليومية البالغة 2279 سعرة حرارية للشخص الواحد.
كما استخدمت إسرائيل إرشادات سرية محيرة للتمييز بين الضروريات الإنسانية والكماليات غير الضرورية. وكانت النتيجة أنها سمحت بدخول سمك السلمون المجمد والزبادي قليل الدسم إلى غزة، لكنهم لم يسمحوا بدخول الكزبرة والقهوة سريعة التحضير.
وعند نشر الوثيقة، صرح وقتها فوزي برهوم (المتحدث باسم حماس) بأن الوثيقة "دليل على أن حصار غزة كان مخططا له، وأن الهدف لم يكن حماس أو الحكومة، كما ادعى الاحتلال دائما. وهذا الحصار استهدف جميع البشر". وقال برهوم إنه "يجب استخدام هذه الوثيقة لمحاكمة الاحتلال على جرائمه ضد الإنسانية في غزة".
وهذا يؤكد أن حرب السعرات الحرارية سلاح ليس جديدا، ولم تبدأ إسرائيل استخدامه في أكتوبر/تشرين الأول 2023.
في عام 2017 وجدت تقديرات مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة أن 40% من أسر غزة تعاني من انعدام الأمن الغذائي، وأن 80% من السكان يعتمدون على المساعدات الخارجية للبقاء على قيد الحياة.
ووفقا لإسرائيل، يحتاج الفلسطينيون إلى فواكه وخضراوات أقل بنسبة 37% من الإسرائيليين، ولحوم أقل بنسبة 19% من الإسرائيليين، ومنتجات ألبان أقل بنسبة 43% من الإسرائيليين، وفقا لتقرير نشره موقع "فيجوولايزينغ بلستاين".
وفي أبريل/نيسان 2024 كشف تقرير صادر عن منظمة أوكسفام الدولية أن سكان شمال غزة مجبرون على العيش بمتوسط 245 سعرة حرارية يوميا، أي أقل مما تحتويه علبة فاصوليا.
وقالت المنظمة وقتها إن هذه الكمية الضئيلة من الطعام تمثل أقل من 12% من الكمية اليومية الموصى بها للفرد والبالغة 2100 سعرة حرارية وتم حسابها باستخدام بيانات ديموغرافية تأخذ في الاعتبار الاختلافات حسب العمر والجنس.
واستند تحليل أوكسفام إلى أحدث البيانات المتاحة المستخدمة في تحليل التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي "آي بي سي" (IPC) لقطاع غزة. كما وجدت أوكسفام أن إجمالي شحنات الغذاء المسموح بدخولها غزة لسكانها البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة -منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى تاريخ نشر تقريرها في أبريل/نيسان 2024- بلغ في المتوسط 41% فقط من السعرات الحرارية اليومية اللازمة للفرد.
وقال التقرير إن الأطفال يموتون بالفعل من الجوع وسوء التغذية، وغالبا ما تتفاقم حالتهم بسبب الأمراض.
قرارات متعمدة لتجويع المدنيين
وقال أميتاب بيهار المدير التنفيذي لأوكسفام "تتخذ إسرائيل قرارات متعمدة لتجويع المدنيين. تخيلوا كيف يكون الحال، ليس فقط أن تحاولوا البقاء على قيد الحياة بـ245 سعرة حرارية يوميا، بل أيضا أن تشاهدوا أطفالكم أو أقاربكم المسنين يفعلون الشيء نفسه. وكل ذلك في ظل نزوحهم، مع ندرة أو انعدام الوصول إلى المياه النظيفة أو المراحيض، مع علمهم بأن معظم الدعم الطبي قد انقطع، تحت التهديد المستمر بالطائرات المسيرة والقنابل".
وأضاف "تتجاهل إسرائيل أمر محكمة العدل الدولية بمنع الإبادة الجماعية وقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة".
65 ألف طفل يواجهون الموت بسبب سياسة التجويع الإسرائيلية
وقد حذرت حكومة غزة يوم الجمعة من أن أكثر من 65 ألف طفل معرضون لخطر المجاعة الوشيك بسبب الحصار الإسرائيلي، وإغلاق الإمدادات الأساسية لقطاع غزة لمدة شهرين كجزء من حملتها الإبادة الجماعية على القطاع الفلسطيني.
وقال مكتب الإعلام في غزة في بيان "إن الاحتلال الإسرائيلي يدبر مجاعة تودي بحياة المدنيين، ويواصل ارتكاب جريمة ممنهجة بحق 2.4 مليون إنسان من خلال إغلاق المعابر ومنع 39 ألف شاحنة مساعدات تحمل الغذاء والوقود والأدوية، في انتهاك صارخ للقانون الدولي".
وأضاف أن جميع المخابز متوقفة عن العمل منذ 40 يوما، مما يحرم المدنيين من الخبز.
وأضاف "يواجه أكثر من 65 ألف طفل خطر الموت جوعا بسبب سوء التغذية، حيث تستخدم إسرائيل الجوع سلاحا ضد المدنيين".
وأشار البيان إلى أن 70 يوما من الإغلاق الإسرائيلي الكامل للمعابر قد فاقم انهيار النظامين الإنساني والصحي في غزة.
وحث مكتب الإعلام في غزة المجتمع الدولي والأمم المتحدة على التدخل العاجل لوقف الحصار، وإعادة فتح المعابر، والسماح بتدفق المساعدات والمواد الأساسية إلى غزة.
ويأتي هذا البيان في الوقت الذي انتقد فيه مسؤولون أمميون يوم الجمعة بشدة خطة المساعدات الإنسانية التي اقترحتها إسرائيل مؤخرا لغزة، محذرين من أنها قد تفاقم معاناة المدنيين وتفشل في تلبية المعايير الإنسانية الأساسية.
وقد أبقت إسرائيل معابر غزة مغلقة أمام المساعدات الغذائية والطبية والإنسانية منذ الثاني من مارس/آذار، مما فاقم الأزمة الإنسانية المتفاقمة أصلا في القطاع، وفقا لتقارير حكومية وحقوقية ودولية.
وجبة واحدة يوميا
وفي أبريل/نيسان الماضي، قال تقرير نشره موقع الأمم المتحدة "أصبح العيش على وجبة واحدة يوميا، واستنفاد الحصص الغذائية المتناقصة بسرعة، واقعا يائسا في قطاع غزة، حيث تمنع المساعدات الإنسانية منذ ما يقرب من شهرين".
ويواصل العاملون بالمجال الإنساني تحذيرهم من انتشار الجوع وتفاقمه في القطاع المحاصر، في ظل الحصار، وقيود الوصول، والعمليات العسكرية الإسرائيلية المستمرة.
وقد شاركت الأونروا شهادة امرأة تدعى أم محمد، تقيم في ملجأ بمدينة غزة، وتحضر الطعام لـ11 فردا من عائلتها يوميا. ورغم أنها لا تزال تملك بعض الدقيق، فإن معظم العائلات المجاورة قد نفد مخزونها بالفعل.
وقالت "عندما أعجن وأخبز، أشعر بالخجل الشديد من نفسي، لذلك أوزع بعض الخبز على الأطفال الذين يطلبون قطعة خبز".
وأضافت "نتناول وجبة واحدة يوميا، ونتقاسم الخبز بين كل فرد يوميا. نأكل المعلبات والعدس والأرز. وعندما ينفد هذا المخزون، لا أعرف ماذا سنفعل لأن ما هو متوفر في السوق نادر".
ومنذ يناير/كانون الثاني، تم تسجيل حوالي 10 آلاف حالة سوء تغذية حاد بين الأطفال، بما في ذلك 1600 حالة سوء تغذية حاد وخيم.
وعلى الرغم من توافر إمدادات العلاج في الجنوب، فإن الوصول إليها لا يزال يمثل تحديا بالغا بسبب القيود التشغيلية والأمنية.
وقد أكد مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية أن نفاد المخزونات الأساسية في غزة يتجاوز بكثير مسألة الغذاء. فعلى سبيل المثال، تنفد الإمدادات الطبية المتعلقة بالصدمات في وقت يتزايد فيه عدد المصابين في حوادث الإصابات الجماعية.
كما تفتقر غزة إلى الإمدادات الجراحية، بما في ذلك الستائر والقفازات. وأفادت منظمة الصحة العالمية "دبليو إتش أو" (WHO) بأن مستودعاتها قد نفدت من الحليب العلاجي والمضادات الحيوية الوريدية ومسكنات الألم، بالإضافة إلى قطع غيار سيارات الإسعاف ومحطات الأكسجين.
وأضاف الشركاء العاملون في مجال الصحة أن عددا متزايدا من الموظفين الأساسيين يمنعون من الوصول إلى غزة، مع تزايد حالات منع دخول فرق الطوارئ الطبية، وخاصة المتخصصين ذوي التخصصات العالية -بمن فيهم جراحو العظام والتجميل- وتقييد الحركة مؤخرا عبر القطاع.
ويقول تقرير لميثيل أغاروال -نشره موقع "إن بي سي نيوز" في 4 مايو/أيار الجاري- إن آلاف الأطفال في غزة قد أدخلوا إلى المستشفيات بسبب سوء التغذية، ومع تدهور حالتهم الصحية استنفدت خيارات الأطباء لعلاجهم.
وقال التقرير إن الأطباء بدؤوا العد التنازلي للأيام قبل أن تبدأ الوفيات البطيئة بسبب الجوع بالحدوث بشكل جماعي.
وفي تصريح لشبكة "إن بي سي نيوز" قال الدكتور أحمد الفرا رئيس قسم طب الأطفال والتوليد في مستشفى ناصر "في غضون أسبوع واحد، سنشهد مجاعة شديدة".
إعلان
ويشاهد الآباء الآن أطفالهم الضعفاء يتضورون جوعا، بعد أن أصبحت المستودعات فارغة وأجبرت المطابخ المجتمعية على الإغلاق. وفي مكان يعتمد فيه 80% من سكانه على المساعدات -وفقا للأمم المتحدة- لم تعد وكالات الإغاثة تملك الكثير لتقدمه.
ويحذر أطباء مثل الفرا من أن الجوع سيتحول إلى مرضٍ قاتل، وقد أصبح هذا التحذير حقيقة واقعة.
وقالت الفرا لشبكة إن بي سي نيوز "نتحدث عن 57 حالة وفاة بسبب الجوع في طب الأطفال" مضيفا أنه من المتوقع أن ترتفع الحالات ليس فقط في العدد، بل أيضا في الشدة. وأضاف "نحن نتحدث عن زيادة في حالات سوء التغذية وفقر الدم".
ومازال الفلسطينيون في غزة يواجهون خطر سوء التغذية، في ظل القصف الإسرائيلي المستمر. ويعاني نظام الرعاية الصحية من ضعف الأداء، فلا تعالج حتى أخطر الإصابات، وتتحول أبسط الإصابات إلى إصابات قاتلة في غياب إمدادات الدم التي تستنزف أيضا بسبب الجوع.
وقد بدأ الجوع بالفئات الأكثر ضعفا ومنهم حديثو الولادة، والأطفال الذين يعانون بالفعل من أمراض أخرى هم الأكثر عرضة للخطر.
طريقة غير مكلفة صامتة ووحشية للقتل
وفي مقال لأحمد مور، نشر في صحيفة غارديان في 7 مايو/أيار الجاري، قال الكاتب إن "إسرائيل تجوع غزة. إنها طريقة غير مكلفة، صامتة، ووحشية للقتل".
وقال الكاتب -وهو زميل في مؤسسة السلام بالشرق الأوسط- إن وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت يعد العقل المدبر لسياسة التجويع في غزة، والتي تتكشف تفاصيلها حاليا. وقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحقه، مشيرة إلى "أسباب معقولة للاعتقاد بأن السيد نتنياهو والسيد غالانت يتحملان المسؤولية الجنائية عن جريمة الحرب المتمثلة في التجويع كأسلوب من أساليب الحرب".
وقد تبنى إسرائيل كاتس (خليفة غالانت) سياسة الأخير. وقد انتهك هو ونتنياهو وقف إطلاق النار مع حماس في مارس/آذار. ومنذ ذلك الحين، عملا جاهدين لتجويع سكان غزة حيث منعت القوات الإسرائيلية دخول الغذاء والدواء والإمدادات الأساسية اللازمة للحفاظ على الحياة البشرية إلى القطاع لأكثر من شهرين.
في 2 مايو/أيار، أصدرت منظمة العفو الدولية إشعارا عاجلا يقول "يجب على إسرائيل أن تنهي فورا حصارها المدمر لقطاع غزة المحتل، والذي يمثل إبادة جماعية، وشكلا صارخا من أشكال العقاب الجماعي غير القانوني، وجريمة حرب تتمثل في استخدام تجويع المدنيين كأسلوب حرب".
وقال مور "يعتبر التجويع مغريا لمرتكبي جرائم القتل الجماعي لعدة أسباب، أولا لأنه غير مكلف. في حين أن قتل الناس قد يكون مكلفا، فالدبابات والقنابل والصواريخ والطائرات المسيرة والرصاص والأجهزة الحارقة جميعها تكلف أموالا طائلة لصنعها وتوزيعها. لكن التجويع لا يتطلب نفقات باهظة. (ولسان حالهم يقول): افرض حصارا وستحل البيولوجيا البشرية الباقي".
وأضاف "إلى جانب رخص تطبيقه، فإن التجويع لا يحدث ضجة تذكر. وبالنسبة لأولئك الذين يسعون لإسكات ضحاياهم -كما فعلت إسرائيل بقتلها ما لا يقل عن 155 صحفيا فلسطينيا- والتعتيم على أفعالهم، يعد التجويع أداة مفيدة. فلا توجد حفر قنابل، ولا أطفال أو صحفيون محترقون. ولا توجد سوى جثث هزيلة. وبعد 18 شهرا من الظلام الذي يلف الفلسطينيين، لا يستحقون عناوين رئيسية كثيرة".
وقال الكاتب إن التجويع طريقة بطيئة ومؤلمة للموت. بالنسبة للناجين، وخاصة الأطفال، يضعف مستقبلهم. ويتعطل النمو الطبيعي للدماغ والنمو الاجتماعي، وقد يكون التعافي مستحيلا في كثير من الحالات".
وأضاف أنه في المراحل الأولى من المجاعة، يستخدم الجسم احتياطياته -عادة الدهون- للاستمرار. وبمجرد استنفاد هذه الاحتياطيات، وهي عملية تختلف من فرد لآخر، يبدأ الجسم في استهلاك نفسه. وتتقلص أعضاء مثل الرئتين والكبد والكلى قبل أن تبدأ هي الأخرى في التلف.
وأخيرا، تعد العضلات مخزن الطاقة الوحيد المتبقي، يلتهم الجسم بروتينه. وكما أوضحت الدكتورة نانسي زوكر مديرة مركز اضطرابات الأكل بجامعة ديوك -لإذاعة "إن بي آر" (NPR)- فإنه بمجرد أن تبدأ مخزونات البروتين في الاستهلاك "لا يكون الموت بعيدا".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 10 دقائق
- الجزيرة
"ملك القانوع" في أحدث شهادة على فظاعة الإجرام
هو مشهد آخر يعيد تأكيد الحقيقة، حقيقة أن إجرام الصهاينة في حربهم تجاوز الحدود.. مشهد مولودة غزاوية اسمها "ملك القانوع"، فيه المأساة والفجيعة، وتجسيد عمق الكارثة الإنسانية المتفاقمة في غزة، وهو شهادة دامغة على ارتكاب الاحتلال الإسرائيلي جرائم ضد الإنسانية، من خلال استخدام أسلحة إشعاعية وكيماوية في منطقة مدنية مكتظة بالسكان. وُلدت "ملك القانوع" في مستشفى العودة شمالي القطاع برأس دون دماغ، وهذه حالة وصفها مسؤولون صحيون بأنها من أسوأ التشوهات الناجمة عن حرب الإبادة في قطاع غزة. وبحسب مدير عام وزارة الصحة في غزة، الدكتور منير البرش، فإن الطفلة ليست سوى واحدة من عشرات الحالات التي بدأت تتكرر، وسط مؤشرات على علاقة وثيقة بين هذه التشوهات واستخدام الاحتلال لأسلحة محرّمة دوليًّا في عدوانه المستمر على القطاع المحاصر. صور هذه التشوهات ليست جديدة، لكن ولادة الطفلة "ملك" أثارت التساؤلات حول طبيعة الترسانة التي يختبرها الاحتلال فوق رؤوس الفلسطينيين، حيث تشير الوقائع إلى احتمال وجود إشعاعات أو مواد محرمة تتسبب بأضرار خفية لا تظهر مباشرة، بل تتجلى لاحقًا في الأرحام وعلى أجساد الأطفال. أكد البرش أن ما يحدث في غزة يذكّر بما وثقته تقارير طبية وحقوقية في العراق، عقب الغزو الأميركي عام 2003، حيث انتشرت التشوهات الخلقية نتيجة استخدام قذائف اليورانيوم المنضب والأسلحة الكيميائية، وحذّر من أن الحالات المسجلة قد تكون مجرد بداية لكارثة صحية تمتد آثارها لعقود، ما يستدعي فتح تحقيق دولي عاجل في نوعية الأسلحة المستخدمة ومكوناتها. تدعم هذه التصريحات مشاهداتٌ ميدانية وشهادات من سكان شمالي غزة، حيث أفادوا بسماع أصوات "انفجارات غير مألوفة"، ورؤية غبار ملون، وظهور روائح غريبة تصاحب القصف، ما يثير الشكوك حول استخدام أسلحة جديدة يتم اختبارها على السكان تحت ستار الحرب. وتتزامن هذه التحذيرات مع مناشدات متكررة من وزارة الصحة، والمكتب الإعلامي الحكومي في غزة، اللذين أكدا في مناسبات عدة أن الاحتلال يستخدم ذخائر "حرارية وكيماوية"، معظمها مصنوع في الولايات المتحدة، تتسبب في حروق غريبة وتبخر للأجساد، كما حدث في حالات عديدة شمالي قطاع غزة. لم تعد الصور ومقاطع الفيديو القادمة من غرف الولادة في غزة توثق ولادة حياة جديدة، بل أصبحت تسجل مأساة وموتاً يتربص بالأطفال، فالتشوهات الخلقية، وولادة أطفال بلا أعضاء، كلها مؤشرات تنذر بكارثة صحية وإنسانية نتيجة عدوان غير مسبوق مع استمرار المشاهد المأساوية في غزة، نشرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" تقريرًا في يناير/ كانون الثاني 2025، يسلط الضوء على الخطر الذي يتهدد النساء الحوامل والمواليد الجدد، بسبب انهيار النظام الصحي نتيجة للقصف المستمر. وأشار التقرير إلى أن الحصار الإسرائيلي يعيق تقديم الرعاية الطبية بشكل كامل، ويرفع معدلات الإجهاض إلى مستويات قياسية بلغت 300% منذ بداية الحرب في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وفقًا لأطباء متخصصين. وإلى جانب هذه التحذيرات، تأتي شهادة الطبيب الأردني بلال العزام، الذي زار غزة ضمن وفد طبي أوروبي أميركي، حيث أكد في فبراير/ شباط الماضي أنه عاين بنفسه حالات تشوه خلقي بين الأطفال حديثي الولادة، واصفًا بعض الحالات بأنها "مرعبة وغير مسبوقة". من جهتها، أعربت منظمة اليونيسف في بيان حديث عن بالغ قلقها إزاء وضع الأطفال في غزة، مشيرة إلى الخطر المتزايد الذي يتهددهم بالموت والجوع والمرض، وذلك في ظل حصار الاحتلال المستمر الذي يعيق وصول الغذاء والدواء والمستلزمات الصحية، حتى للمواليد الجدد. وعلى الرغم من هذه التحذيرات الدولية، يواصل الاحتلال حربه دون رادع، مسنودًا بدعم أميركي صريح، وصمت عربي وغربي يثير الريبة. ومع تجاوز عدد الشهداء والجرحى 170 ألفًا، غالبيتهم من الأطفال والنساء، بالإضافة إلى تسجيل أكثر من 11 ألف مفقود، يتحول القطاع إلى مسرح لجريمة مستمرة. لم تعد الصور ومقاطع الفيديو القادمة من غرف الولادة في غزة توثق ولادة حياة جديدة، بل أصبحت تسجل مأساة وموتاً يتربص بالأطفال، فالتشوهات الخلقية، وولادة أطفال بلا أعضاء، وظهور حالات نادرة لم تُسجل من قبل، كلها مؤشرات تنذر بكارثة صحية وإنسانية نتيجة عدوان غير مسبوق. لم تعد القضية مجرد معركة عسكرية، بل أصبحت صراع وجود لأجيال فلسطينية تُستهدف حتى في أرحام الأمهات، وإذا استمر الصمت الدولي، فإن الطفلة "ملك" لن تكون سوى باكورة الضحايا المجهولين الذين تسلبهم الأسلحة غير التقليدية حقهم في الحياة قبل أن يولدوا. تمثل حالة الطفلة "ملك" جرس إنذار للضمير الإنساني، والمجتمع الدولي الذي تقاعس حتى الآن عن وقف هذه المجازر، ومع مرور كل دقيقة يسقط المزيد من الضحايا، وتولد المزيد من الأرواح المشوهة تحت نيران أسلحة محرمة دوليًّا. لذلك، يجب فتح تحقيق دولي نزيه وعاجل في الجرائم المرتكبة ونوعية الأسلحة المستخدمة، ومحاسبة كل من تواطأ وساهم في تحويل أجساد الأطفال الفلسطينيين إلى حقول تجارب. وهنا تحضر التساؤلات: أين جامعة الدول العربية التي تضم في عضويتها ثلاثًا وعشرين دولة؟ وأين منظمة التعاون الإسلامي التي تشمل سبعًا وخمسين دولة؟ وهل عجزت دول العالم ومجلس الأمن الدولي عن إجبار الاحتلال على وقف إطلاق النار ووضع حد للمجازر اليومية والمجاعة؟ أين الشعوب العربية؟ أَعجزت كلها عن إجبار حكوماتها على طرد سفراء الاحتلال من دولها؟ وكيف تعجز الشعوب والحكومات العربية والإسلامية عن إدخال قارورة ماء، أو مد يد العون إلى قطاع غزة المحاصر.


الجزيرة
منذ 10 دقائق
- الجزيرة
خسائر قطاع البناء في إسرائيل تتجاوز 36 مليار دولار بسبب الحرب
القدس المحتلة- قدمت جمعية اتحاد مقاولي البناء في إسرائيل، الثلاثاء، دعوى قضائية إلى المحكمة العليا، تطالب فيها الحكومة بتحمل مسؤولية الأضرار الجسيمة التي لحقت بقطاع البناء والبنية التحتية نتيجة تداعيات الحرب على قطاع غزة. وبحسب ما جاء الدعوى، فإن الخسائر الاقتصادية التي تكبدها قطاع البناء في إسرائيل تقدر بنحو 131 مليار شيكل (36.5 مليار دولار) منذ بداية الحرب، مع تأخيرات متوسطة في تسليم الشقق تصل إلى نحو 6 أشهر لكل وحدة سكنية. وقالت جمعية اتحاد مقاولي البناء في كتاب الدعوى إن "سلوك الحكومة الإسرائيلية يتسم بالإهمال والتقصير، ويمثل خرقا لواجباتها في أداء مهامها بنزاهة ومعقولية، إذ ألحقت الدولة ضررا جسيما وغير مبرر بحقوق الملكية وحرية العمل للمقاولين ورجال الأعمال". وتربط الدعوى القضائية التأخيرات الحادة في تسليم المشاريع السكنية والإنشائية مباشرة بالظروف التي فرضتها الحرب، والتي أدت إلى إغلاق المعابر الحدودية، ومنع دخول العمال الفلسطينيين من الضفة الغربية الذين يشكلون جزءا كبيرا من القوى العاملة في قطاع البناء. هذا بالإضافة إلى استدعاء عدد كبير من العمال الإسرائيليين والمعدات والآليات الهندسية لخدمة قوات الاحتياط بالجيش الإسرائيلي، وفرض قيود أمنية صارمة على مواقع البناء، بحسب ما أفاد الصحفي يوفال نيساني، مراسل صحيفة "غلوبس" المتخصص في شؤون البناء والعقارات. أرقام الخسائر وتأخيرات التسليم وبحسب البيانات التي وردت في الدعوى، بلغ متوسط التأخير في تسليم الشقق السكنية حتى نهاية الربع الأول من 2025 نحو 283 يوما في المواقع التي يعمل فيها عمال من أماكن مختلفة، و297 يوما في المواقع التي تعتمد فقط على العمال الفلسطينيين. وأظهرت بيانات مكتب الإحصاء المركزي أن خسائر قطاع البناء في عام 2024 وصلت إلى 98 مليار شيكل (27.5 مليار دولار)، أي ما يعادل 4.9% من الناتج المحلي الإجمالي ، وقرابة 45% من إجمالي إنتاج قطاع البناء. ومع إضافة خسائر نهاية 2023، ترتفع الخسائر الإجمالية إلى 131 مليار شيكل. مطالب قانونية وتعقيدات تشريعية وفي الدعوى التي قدمها محامو جمعية اتحاد المقاولين طالبت الجمعية المحكمة العليا بإلزام الحكومة بتقديم تفسير رسمي لجملة نقاط رئيسية: لماذا لم تشكل الحكومة لجنة وزارية أو فريق عمل مشترك لمعالجة الأزمة الناجمة عن إغلاق المعابر ومنع دخول العمال الفلسطينيين؟ لماذا لم يُسنّ قانون مؤقت يعترف بالحرب ظرفا قاهرا يسمح بإعفاء المقاولين من المسؤولية عن التأخيرات؟ لماذا لم تعدّ الحكومة خطة تعويضات شاملة لقطاع البناء تغطي الخسائر الفادحة التي تكبدها؟ لماذا لم تصدر الحكومة ورقة موقف واضحة تتناول أزمة التأخير في تسليم الشقق بسبب ظروف الحرب؟ وذكر اتحاد المقاولين في كتاب الدعوى أن التعديل التاسع لقانون بيع الشقق، الذي دخل حيز التنفيذ في 2022، يحمّل المقاولين المسؤولية الكاملة عن أي تأخير في تسليم الوحدات السكنية، ويلزمهم بدفع تعويضات للمشترين تبدأ من الشهر الثاني للتأخير. وإذ إن متوسط التأخير الحالي يتجاوز 9 أشهر، فإن الأعباء المالية على المقاولين ضخمة للغاية. وتزيد الأمور تعقيدا، كما يضيف نيساني، بعد قرار المحكمة العليا الأخير الذي أكد وجوب دراسة كل حالة تأخير بشكل فردي، وعدم قبول حجة "الظروف القاهرة" المرتبطة بالحرب من دون تقديم أدلة موثقة، مما يجعل المقاولين عرضة لمطالبات تعويضات مستمرة من دون ضمانات. اتهامات بالفشل الحكومي وجهت جمعية اتحاد المقاولين انتقادات شديدة للحكومة، مشيرة إلى تقاعسها عن اتخاذ أي خطوات فعلية رغم المناشدات المتكررة التي استمرت أكثر من عام ونصف. وأكدت الجمعية أن الأزمة في القطاع ناتجة عن فشل الدولة في تنظيم العمالة الأجنبية، وعدم توفير بدائل مناسبة لعمال البناء الفلسطينيين، بحسب ما نقلت عنهم صحيفة "يديعوت أحرونوت". ووفقا لتقرير هيلا تسيون، محررة الشؤون الاقتصادية في الموقع الإلكتروني التابع لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، فإن قطاع البناء يواصل معاناته وسط تجاهل حكومي مستمر، رغم الأضرار الاقتصادية الكبيرة التي تكبدها. وذكرت تسيون أن الجهات الحكومية لا تزال تفرض على المقاولين الالتزام بالجداول الزمنية الأصلية في العقود، رغم الظروف الاستثنائية. وعند التأخير، يواجه المقاولون غرامات مالية وتأخيرا في دفع المستحقات، بالإضافة إلى إمكانية مصادرة الضمانات، مما يزيد من الأعباء المالية عليهم بشكل كبير. تصريحات رسمية وتحذيرات وقال رئيس جمعية اتحاد مقاولي البناء في إسرائيل، روني بريك، في مؤتمر صحفي عقب تقديم الدعوى القضائية "منذ بداية الحرب ونحن نطالب الحكومة مرارا بتقديم حل تشريعي يعترف بأن الحرب تمثل ظرفا استثنائيا وقوة قاهرة تبرر تأخير التسليم، ولا تحمّل المقاولين وحدهم المسؤولية. لكن لم نجد أي تجاوب، وهذا يضع القطاع في وضع كارثي". وأشار بريك إلى أن القطاع يعاني من نقص حاد في اليد العاملة، إذ لا يزال ينقصه حوالي 30 ألف عامل أجنبي، رغم الموافقات الرسمية لاستقدام 5 آلاف عامل في مجال البنية التحتية لم يصل منهم أحد حتى اليوم. وأضاف "لا يمكن للحكومة التملص من مسؤوليتها تجاه الأزمة التي خلقتها. ما نطلبه ليس معجزة، بل حل عادل يضمن استمرار القطاع الحيوي". ولفت إلى أن النقص الكبير في العمالة أدى إلى تأخيرات متفاقمة في مراحل التخطيط والبناء والترخيص، وهو ما أدى إلى تعطيل تسليم الوحدات السكنية لفترات تصل إلى أكثر من 9 أشهر في بعض الحالات. ويرى أن الحل الشامل والعادل هو السبيل الوحيد لإعادة الاستقرار إلى سوق البناء والعقارات في إسرائيل، وضمان توزيع المسؤوليات والأضرار بشكل منصف بين جميع الأطراف، بما يتيح استمرار تنفيذ المشاريع من دون أعباء مالية غير منطقية على المقاولين والمشترين على حد سواء. تداعيات اقتصادية عميقة لم تقتصر الأزمة على قطاع البناء السكني فقط، بل طالت البنية التحتية العامة التي تكبدت خسائر كبيرة أيضًا. فحسب الدعوى القضائية، بلغت خسائر شركات البنية التحتية نحو 6.3 مليارات شيكل (1.75 مليار دولار) خلال السنة الأولى من الحرب، بمعدل نحو 520 مليون شيكل شهريا (145 مليون دولار). تواجه هذه الشركات فجوة مالية متزايدة بسبب تراجع حجم الأعمال والإيرادات، إذ تصل النفقات الشهرية لشركات البنية التحتية إلى حوالي 580 مليون شيكل (161.1 مليون شيكل)، مما يهدد استمرار عملها بشكل جدي. وأشار نمرود بوسو، محرر منصة "مركاز هندلان" المتخصصة في العقارات، إلى أن الالتماس المقدم للمحكمة يعكس استياء واسعا داخل قطاع البناء من غياب التفاعل الحكومي، وذلك قد يؤدي إلى تداعيات اقتصادية واجتماعية كبيرة إذا لم يعالج الوضع سريعا. ولفت إلى أن الحكومة لم تنجح حتى الآن في تقديم حلول عملية أو تشريعية للأزمة، رغم حجم الأضرار الاقتصادية المتراكمة والضغوط التي يواجهها القطاع. وأكد أن الحكومة تعترف بفشلها في إدارة ملف العمال الأجانب وعدم قدرتها على توفير بدائل، إذ أعلنت أن الحصص المخصصة للعمال الأجانب لم تستنفد بالكامل رغم الحاجة الملحة. ويعتقد نمرود بوسو أن في ظل استمرار الأزمة أكثر من عام ونصف منذ بداية الحرب، ومع غياب أي مبادرات حكومية واضحة، من المتوقع أن تتصاعد دعاوى المقاولين أمام المحاكم، مما يزيد من تعقيد المشهد الاقتصادي ويهدد استقرار سوق العقارات والبنية التحتية في البلاد.


الجزيرة
منذ 25 دقائق
- الجزيرة
رسالة غارقة في الدماء من أميركا
الإبادة الجماعية في غزة ليست أمرًا غريبًا. إنها توضح شيئًا أساسيًا عن الطبيعة البشرية، وهو نذير مرعب للمكان الذي يتجه إليه العالم. يبعد معبر رفح الحدودي إلى غزة، حوالي 200 ميل عن مكاني الحالي في القاهرة. ترقد في الرمال القاحلة لشمال سيناء بمصر نحو 2000 شاحنة، محملة بأكياس الطحين، وخزانات المياه، والطعام المعلّب، والإمدادات الطبية، والأغطية البلاستيكية، والوقود. تقف هذه الشاحنات خاملة تحت الشمس الحارقة. على بعد أميال قليلة في غزة، يُذبح عشرات الرجال والنساء والأطفال يوميًا بالرصاص والقنابل، والغارات الصاروخية، وقذائف الدبابات، والأمراض المعدية، وذلك السلاح الأقدم في الحصار: المجاعة. واحد من كل خمسة أشخاص يواجه خطر المجاعة بعد ما يقرب من ثلاثة أشهر من الحصار الإسرائيلي على الغذاء والمساعدات الإنسانية. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي أطلق هجومًا جديدًا يقتل أكثر من 100 شخص يوميًا، أعلن أن لا شيء سيعيق هذه "الضربة النهائية" التي أطلق عليها اسم "عربات جدعون". وقال إنّه "لا يوجد أي سبيل" لوقف الحرب، حتى لو أُعيد الرهائن الإسرائيليون المتبقون. وأضاف: "إسرائيل تدمر المزيد والمزيد من المنازل" في غزة. والفلسطينيون "ليس لديهم مكان يعودون إليه". وفي اجتماع مغلق تم تسريبه مع مشرعين، قال نتنياهو: "النتيجة الحتمية الوحيدة ستكون رغبة الغزيين في الهجرة خارج قطاع غزة. لكن مشكلتنا الرئيسية تكمن في إيجاد دول تقبلهم". لقد تحوّل الشريط الحدودي البالغ طوله تسعة أميال بين مصر وغزة إلى خط فاصل بين الجنوب العالمي والشمال العالمي، خط يقسم بين عالم عنف صناعي وحشي، وصراع يائس يخوضه من تخلّت عنهم الأمم الأغنى. يمثل هذا الخط نهاية عالم تُحترم فيه القوانين الإنسانية، والاتفاقيات التي تحمي المدنيين، وأبسط الحقوق الأساسية. لقد دخلنا كابوس هوبزي (نسبة إلى توماس هوبز)، حيث يسحق الأقوياء الضعفاء، ولا يُستبعد فيه أي فظاعة، حتى الإبادة الجماعية، حيث تعود العرقية البيضاء في الشمال العالمي إلى وحشية استعمارية منفلتة من كل قيد، تكرس قرونًا من النهب والاستغلال. إننا نعود زاحفين إلى أصولنا، الأصول التي لم تغادرنا قط، بل اختبأت خلف وعود جوفاء عن الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان. النازيون هم كبش الفداء المريح لتراثنا الأوروبي والأميركي المشترك من المجازر الجماعية، كما لو أن الإبادات الجماعية التي نفذناها في الأميركتين وأفريقيا والهند لم تحدث قط، مجرد هوامش غير مهمة في تاريخنا الجماعي. في الواقع، الإبادة الجماعية هي عملة الهيمنة الغربية. بين عامي 1490 و1890، كانت الاستعمارية الأوروبية، بما في ذلك أعمال الإبادة الجماعية، مسؤولة عن مقتل ما يصل إلى 100 مليون من السكان الأصليين، وفقًا للمؤرخ ديفيد إي. ستانارد. ومنذ عام 1950، وقعت قرابة عشرين إبادة جماعية، بما في ذلك في بنغلاديش، وكمبوديا، ورواندا. الإبادة الجماعية في غزة ليست استثناء، بل هي جزء من نمط متكرر. إنها نذير لإبادات جماعية قادمة، خاصة مع انهيار المناخ واضطرار مئات الملايين إلى الهرب من الجفاف والحرائق والفيضانات، وتراجع المحاصيل، وانهيار الدول والموت الجماعي. إنها رسالة غارقة في الدماء منّا إلى بقية العالم: لدينا كل شيء، وإذا حاولتم أخذه منا، فسوف نقتلكم. غزة تدفن كذبة التقدم البشري، وتدحض الأسطورة القائلة إننا نتطور أخلاقيًا. وحدها الأدوات تتغير. حيث كنا نضرب الضحايا حتى الموت، أو نمزقهم بالسيوف، نحن اليوم نُسقط قنابل تزن 2000 رطل على مخيمات اللاجئين، نرشّ العائلات بالرصاص من طائرات مسيّرة عسكرية، أو نسحقهم بقذائف الدبابات والمدفعية الثقيلة والصواريخ. الاشتراكي في القرن التاسع عشر لويس أوغست بلانكي، على عكس معظم معاصريه، رفض الفكرة المحورية لدى هيغل وماركس بأن التاريخ البشري يسير في خط تصاعدي نحو المساواة والأخلاق الأعلى. حذّر من أن هذه "الإيجابية الساذجة" تُستخدم من قبل الظالمين لسحق المظلومين. وقال بلانكي: "جميع فظائع المنتصر، وسلسلة هجماته الطويلة، تتحوّل ببرود إلى تطور دائم وحتمي، كما لو كان تطورًا طبيعيًا. لكن تسلسل الأمور البشريّة ليس حتميًا كالعالم الطبيعي. يمكن تغييره في أي لحظة". وحذّر من أن التقدم العلمي والتكنولوجي، بدل أن يكون دليلًا على التقدم، يمكن أن يتحوّل إلى "سلاح رهيب في يد رأس المال ضد العمل والفكر". وكتب: "الإنسانية لا تقف في مكانها أبدًا. إما أن تتقدم أو تتراجع. إذا تقدمت، تتجه نحو المساواة. وإذا تراجعت، فإنها تمرّ بكل مراحل الامتياز حتى تصل إلى العبودية، الكلمة الأخيرة في حق الملكية". وأضاف: "لست من أولئك الذين يزعمون أن التقدم أمر مفروغ منه، أو أن البشرية لا يمكن أن تتراجع". يُعرف التاريخ الإنساني بفترات طويلة من الجفاف الثقافي والقمع الوحشي. سقوط الإمبراطورية الرومانية أدّى إلى بؤس وقمع في أوروبا خلال العصور المظلمة، من القرن السادس إلى القرن الثالث عشر. ضاعت المعرفة التقنية، بما في ذلك كيفية بناء وصيانة القنوات المائية. قاد الفقر الثقافي والفكري إلى فقدان جماعي للذاكرة. طُمست أفكار العلماء والفنانين القدماء. ولم تبدأ النهضة إلا في القرن الرابع عشر، وكانت إلى حد كبير بفضل ازدهار الثقافة الإسلامية التي، عبر ترجمة أرسطو للغة العربية وسواها، حفظت حكمة الماضي من الزوال. كان بلانكي يعرف ارتدادات التاريخ المأساوية. شارك في سلسلة من الانتفاضات الفرنسية، منها محاولة تمرد مسلح في مايو/ أيار 1839، وانتفاضة 1848، وكومونة باريس – الانتفاضة الاشتراكية التي سيطرت على العاصمة الفرنسية من 18 مارس/ آذار إلى 28 مايو/ أيار 1871. حاول العمّال في مدن مثل مارسيليا وليون تنظيم كومونات مشابهة، لكنها فشلت قبل أن تُسحق كومونة باريس عسكريًا. نحن ندخل عصرًا مظلمًا جديدًا. لكن هذا العصر المظلم يستخدم أدوات العصر الحديث من مراقبة جماعية، وتعرّف على الوجوه، وذكاء اصطناعي، وطائرات بدون طيار، وشرطة مُعسكرة، وحرمان من الإجراءات القانونية، واعتداء على الحريات المدنية، ليفرض حكمًا تعسفيًا، وحروبًا لا تتوقف- ولا أمان- وفوضى، ورعبًا، وهي السمات المشتركة للعصور المظلمة. الثقة في خرافة "التقدم الإنساني" لإنقاذنا تعني الخضوع للقوة الاستبدادية. وحدها المقاومة – من خلال الحشد الجماهيري، وتعطيل ممارسة السلطة، خاصة في وجه الإبادة الجماعية – قادرة على إنقاذنا. تطلق حملات القتل الجماعي الصفات الوحشية الكامنة في كل البشر. فالمجتمع المنظم، بقوانينه وآدابه وشرطته وسجونه وتنظيماته، هي أدوات قسرية تحاصر هذه الوحشية الكامنة. لكن إذا أزيلت هذه العوائق، يصبح الإنسان- كما نرى مع الإسرائيليين في غزة- حيوانًا قاتلًا مفترسًا، يفرح بنشوة الدمار، حتى لو شمل النساء والأطفال. ليت هذا مجرد افتراض. لكنه ليس كذلك. هذا ما شهدته في كل حرب غطيتها. نادرون من يكونون بمنأى عنه. الملك البلجيكي ليوبولد، في أواخر القرن التاسع عشر، احتل الكونغو باسم "التحضر" و"مكافحة العبودية"، لكنه نهب البلاد، متسببًا بموت نحو 10 ملايين كونغولي نتيجة الأمراض والمجاعة والقتل. جوزيف كونراد التقط هذا التناقض بين ما نحن عليه وما نزعم أننا عليه، في روايته "قلب الظلام" وقصته "موقع للتقدم". في "موقع للتقدم"، يروي قصة تاجرين أوروبيين، كايرتس وكارلييه، أُرسلا إلى الكونغو. يدّعيان أنهما في أفريقيا لنشر الحضارة الأوروبية. لكن الملل، والروتين الخانق، والأهم غياب أي ضوابط خارجية، يحوّلهما إلى وحوش. يتاجران بالعبيد مقابل العاج ويتشاجران على الطعام والمؤن القليلة. في النهاية، يقتل كايرتس رفيقه الأعزل كارلييه. كتب كونراد عن كايرتس وكارلييه: "كانا شخصين تافهين وعاجزين تمامًا، لا تستقيم حياتهما إلا بفضل التنظيم العالي لحشود المجتمعات المتحضرة. قليلون من يدركون أن حياتهم، وجوهر شخصيتهم، وقدراتهم وجرأتهم، ليست سوى تعبير عن إيمانهم بأمان محيطهم. الشجاعة، والاتزان، والثقة؛ المشاعر والمبادئ؛ كل فكرة كبيرة أو تافهة لا تنتمي للفرد، بل للحشد: الحشد الذي يؤمن أعمى بقوة مؤسساته وأخلاقه، بسلطة شرطته ورأيه العام. لكن التماس مع الوحشية الصافية، والطبيعة البدائية والإنسان البدائي، يزرع اضطرابًا عميقًا ومفاجئًا في القلب. فمع شعور المرء بأنه وحيد في نوعه، ومع إدراكه وحدة أفكاره ومشاعره، ومع نفي المألوف الذي يمنحه الأمان، يبرز حضور غير المعتاد -المجهول والخطير- باقتحام يربك الخيال ويختبر أعصاب المتحضّر، أكان ساذجًا أم حكيمًا". لقد فجّرت الإبادة الجماعية في غزة كل الأقنعة التي نخدع بها أنفسنا ونحاول بها خداع الآخرين. تسخر من كل قيمة ندّعي التمسك بها، بما في ذلك حرية التعبير. إنها شهادة على نفاقنا وقسوتنا وعنصريتنا. لا يمكننا، بعد تقديمنا مليارات الدولارات من الأسلحة، واضطهادنا من يعترضون على الإبادة الجماعية، أن نواصل إطلاق مزاعم أخلاقية يمكن أخذها على محمل الجد. من الآن فصاعدًا، ستكون لغتنا هي لغة العنف، ولغة الإبادة، وعواء الوحشية في هذا العصر المظلم الجديد، عصر تجوب فيه الأرض قوة مطلقة، وطمع لا حدود له، وهمجية لا رادع لها.