logo
البورقيبية من الداخل

البورقيبية من الداخل

الصحراءمنذ يوم واحد

لم يشغل أحد التونسيين حيّا وميّتا كما فعل الحبيب بورقيبة، ولم يثر أحد من الجدل ما أثاره، بين أنصار حد التقديس وخصوم حد الشيطنة.
قلة هي من حاولت تناول سيرة زعيم الحركة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي، وأول رئيس لدولتهم المستقلة عام 1956 لمدة امتدت لثلاثين عاما، بأكبر قدر ممكن من الإنصاف، فبورقيبة في النهاية لم يكن لا قدّيسا ولا شيطانا. آخر هؤلاء كان الصحافي والكاتب التونسي لطفي حجّي في سلسلة من أربعة كتب أصدرها مؤخرا تحت عنوان «البورقيبية من الداخل» عن دار المتوسط للنشر، وتضمّنت حوارات مع ثلاثة من أبرز وزراء بورقيبة، مع ورقات تحليلية وشهادات مختلفة.
هذا العمل وصفه صاحبه بأنه «ثلاث سير من أجل سيرة واحدة، فمن خلاله ترسم سيرةٌ الوزراء الثلاثة المستجوَبين وهم أحمد بن صالح، ومحمد الصيّاح، وأحمد المستيري، الذين تولوا بدورهم عبر الإجابة عن أسئلتنا سيرةَ بورقيبة كلّ حسب رؤيته الذاتية، وكلّ حسب ما استقرّ من مواقفه ومشاعره تجاه بورقيبة بعد طول زمن».
أبرز هؤلاء الثلاثة هو أحمد المستيري الذي كان في العشرينيات من عمره أحد قادة الحزب الدستوري بجانب بورقيبة ثم تولّى وزارة العدل في أول حكومة بعد الاستقلال وأشرف على صدور مجلة الأحوال الشخصية الفريدة في البلاد العربية، كما تحمّل مسؤولية وزارتي الدفاع والداخلية وعديد السفارات حتى بداية السبعينيات حين استقال من الحزب الحاكم وخاض غمار المعارضة وصولا لتأسيس أول حزب معارض معترف به بعد الاستقلال.
يقول لطفي حجّي أنه صنّف المستيري ديمقراطيا، في الجزء المخصّص له من 500 صفحة، «لأنه استمات في الدفاع عن المبادئ الأساسية للديمقراطية كما يمكن تجسيدها عبر احترام الدستور والقانون، وضمان تعدّد الأحزاب وحرية الاختلاف، وتنظيم انتخابات حرّة ونزيهة بما يؤدي إلى التداول على السلطة، ورفض الرئاسة مدى الحياة، وطالب بهيئات دستورية رقابية تضمن العدل بين مختلف القوى السياسية وتسهر على احترام تطبيق القانون».
لم يشغل أحد التونسيين حيّا وميّتا كما فعل الحبيب بورقيبة، ولم يثر أحد من الجدل ما أثاره، بين أنصار حد التقديس وخصوم حد الشيطنة
معارضة المستيري لبورقيبة، بعد رفقة الكفاح والسنوات الأولى في بناء الدولة، وصفها الكاتب بـ «المعارضة الواقعية لأن هناك تنظيمات سبقته في المعارضة لبورقيبة ونظامه لكنها كانت تنظيمات سرية من خارج النظام البورقيبي وأكثر راديكالية في مطالبها، فهي لا تعترف بشرعية النظام أصلا وتطالب بتغييره تغييرا جذريا»، كما أن معارضته اتسمت بخاصية أخرى حسب الكاتب لأنه «جمع المختلفين فكريا وسياسيا والتعايش معهم، فضمّ حزبه اليساري السابق والإسلامي السابق والدستوري السابق دون أن يجد حرجا في ذلك».
ولأن اسمه اقترن بمجلة الأحوال الشخصية، وما تضمّنته خاصة من منع تعدّد الزوجات، لأول مرة في بلد عربي مسلم، فقد حرص في مقابلته مع الكاتب أن يؤكد «بعد أكثر من ستين سنة من إصدار المجلة، وأنا في هذه السن المتقدمة، أنه لم تكن هناك نية للمس من نصوص القرآن أو من الدين عامة، إذ كانت الغاية الرئيسية من إصدارها إصلاح التشريع وتمكين المرأة من حقوق سلبت منها لسنوات طويلة وأحيانا باسم تأويل معيّن للقرآن».
ولأنه اختار طريقته الخاصة في المعارضة، لم يشأ المستيري أن يضيّع مناسبتين رأى فيهما فرصتين يمكن من خلالهما أن يساهم في تغيير ديمقراطي سلمي في البلاد عبر صناديق الاقتراع في انتخابات ديمقراطية تعددية. الأولى كانت عام 1981 في عهد بورقيبة مع وزيره الأول محمد مزالي الذي وعد بانفتاح الحياة السياسية، والثانية عام 1989 عامان فقط بعد وصول زين العابدين بن علي للرئاسة حاملا آمالا ديمقراطية عريضة. أصيب المستيري بخيبة أمل في المناسبتين بسبب تزوير النتائج ولهذا قال للمؤلف «نعم لقد لدغت مرتين من نفس الجحر، وكان في اعتقادي في المرة الثانية أن الجحر قد تغيّر عن الأول أو يمكن أن يتغيّر، لكن تبيّن أنه نفس الجحر وأن الدبابير نفسها معشّشة بداخله رغم كل المساحيق التي حاولوا تركيبها لكنها لم تنطل بحكم ثباتهم على نفس النهج والممارسات».
ومع ذلك، كان السياقان مختلفين فمع مزالي رأى المستيري أن «الخدعة التي أوقعوا فيها محمد مزالي، بإقناعه بأنه خليفة بورقيبة المرتقب، جعلته غير قادر على أخذ الموقف المناسب بناء على ما وصله من معطيات ثابتة عن التزوير». أما مع بن علي فيرى إسماعيل بولحية أحد رفاق المستيري في شهادته للمؤلف أن قطيعة المستيري الحقيقية معه جاءت «بعد أن ترسّخت قناعته بأن بن علي غير جدّي ومناور، ولا نية له في التغيير».
وفعلا، انسحب المستيري من الحياة السياسية بالكامل إثر ذلك وهو انسحاب رأى فيه نجيب العياري، أحد القيادات الإسلامية التي التحقت بحزبه، في شهادته للمؤلف أنه «لم يكن هزيمة ولا هروبا من المسؤولية وإنما اقتناع بأن المرحلة ليست مرحلته فضرب بذلك موعدا مع التاريخ الذي أضاعه الزعيم بورقيبة فوضع البلاد على شفا مصير مجهول».
لم يعد المستيري إلى الظهور العام إلا بعد ثورة 2011 التي عاش نشوة فرحتها ليموت بعدها بعشر سنوات، وقبل شهرين فقط من انقلاب قيس سعيّد عليها عام 2021، فرحمه الله بأنه لم يعش ما آلت إليه جرّاء ذلك حال البلاد إلى اليوم.
نقلا عن القدس العربي

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

البورقيبية من الداخل
البورقيبية من الداخل

الصحراء

timeمنذ يوم واحد

  • الصحراء

البورقيبية من الداخل

لم يشغل أحد التونسيين حيّا وميّتا كما فعل الحبيب بورقيبة، ولم يثر أحد من الجدل ما أثاره، بين أنصار حد التقديس وخصوم حد الشيطنة. قلة هي من حاولت تناول سيرة زعيم الحركة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي، وأول رئيس لدولتهم المستقلة عام 1956 لمدة امتدت لثلاثين عاما، بأكبر قدر ممكن من الإنصاف، فبورقيبة في النهاية لم يكن لا قدّيسا ولا شيطانا. آخر هؤلاء كان الصحافي والكاتب التونسي لطفي حجّي في سلسلة من أربعة كتب أصدرها مؤخرا تحت عنوان «البورقيبية من الداخل» عن دار المتوسط للنشر، وتضمّنت حوارات مع ثلاثة من أبرز وزراء بورقيبة، مع ورقات تحليلية وشهادات مختلفة. هذا العمل وصفه صاحبه بأنه «ثلاث سير من أجل سيرة واحدة، فمن خلاله ترسم سيرةٌ الوزراء الثلاثة المستجوَبين وهم أحمد بن صالح، ومحمد الصيّاح، وأحمد المستيري، الذين تولوا بدورهم عبر الإجابة عن أسئلتنا سيرةَ بورقيبة كلّ حسب رؤيته الذاتية، وكلّ حسب ما استقرّ من مواقفه ومشاعره تجاه بورقيبة بعد طول زمن». أبرز هؤلاء الثلاثة هو أحمد المستيري الذي كان في العشرينيات من عمره أحد قادة الحزب الدستوري بجانب بورقيبة ثم تولّى وزارة العدل في أول حكومة بعد الاستقلال وأشرف على صدور مجلة الأحوال الشخصية الفريدة في البلاد العربية، كما تحمّل مسؤولية وزارتي الدفاع والداخلية وعديد السفارات حتى بداية السبعينيات حين استقال من الحزب الحاكم وخاض غمار المعارضة وصولا لتأسيس أول حزب معارض معترف به بعد الاستقلال. يقول لطفي حجّي أنه صنّف المستيري ديمقراطيا، في الجزء المخصّص له من 500 صفحة، «لأنه استمات في الدفاع عن المبادئ الأساسية للديمقراطية كما يمكن تجسيدها عبر احترام الدستور والقانون، وضمان تعدّد الأحزاب وحرية الاختلاف، وتنظيم انتخابات حرّة ونزيهة بما يؤدي إلى التداول على السلطة، ورفض الرئاسة مدى الحياة، وطالب بهيئات دستورية رقابية تضمن العدل بين مختلف القوى السياسية وتسهر على احترام تطبيق القانون». لم يشغل أحد التونسيين حيّا وميّتا كما فعل الحبيب بورقيبة، ولم يثر أحد من الجدل ما أثاره، بين أنصار حد التقديس وخصوم حد الشيطنة معارضة المستيري لبورقيبة، بعد رفقة الكفاح والسنوات الأولى في بناء الدولة، وصفها الكاتب بـ «المعارضة الواقعية لأن هناك تنظيمات سبقته في المعارضة لبورقيبة ونظامه لكنها كانت تنظيمات سرية من خارج النظام البورقيبي وأكثر راديكالية في مطالبها، فهي لا تعترف بشرعية النظام أصلا وتطالب بتغييره تغييرا جذريا»، كما أن معارضته اتسمت بخاصية أخرى حسب الكاتب لأنه «جمع المختلفين فكريا وسياسيا والتعايش معهم، فضمّ حزبه اليساري السابق والإسلامي السابق والدستوري السابق دون أن يجد حرجا في ذلك». ولأن اسمه اقترن بمجلة الأحوال الشخصية، وما تضمّنته خاصة من منع تعدّد الزوجات، لأول مرة في بلد عربي مسلم، فقد حرص في مقابلته مع الكاتب أن يؤكد «بعد أكثر من ستين سنة من إصدار المجلة، وأنا في هذه السن المتقدمة، أنه لم تكن هناك نية للمس من نصوص القرآن أو من الدين عامة، إذ كانت الغاية الرئيسية من إصدارها إصلاح التشريع وتمكين المرأة من حقوق سلبت منها لسنوات طويلة وأحيانا باسم تأويل معيّن للقرآن». ولأنه اختار طريقته الخاصة في المعارضة، لم يشأ المستيري أن يضيّع مناسبتين رأى فيهما فرصتين يمكن من خلالهما أن يساهم في تغيير ديمقراطي سلمي في البلاد عبر صناديق الاقتراع في انتخابات ديمقراطية تعددية. الأولى كانت عام 1981 في عهد بورقيبة مع وزيره الأول محمد مزالي الذي وعد بانفتاح الحياة السياسية، والثانية عام 1989 عامان فقط بعد وصول زين العابدين بن علي للرئاسة حاملا آمالا ديمقراطية عريضة. أصيب المستيري بخيبة أمل في المناسبتين بسبب تزوير النتائج ولهذا قال للمؤلف «نعم لقد لدغت مرتين من نفس الجحر، وكان في اعتقادي في المرة الثانية أن الجحر قد تغيّر عن الأول أو يمكن أن يتغيّر، لكن تبيّن أنه نفس الجحر وأن الدبابير نفسها معشّشة بداخله رغم كل المساحيق التي حاولوا تركيبها لكنها لم تنطل بحكم ثباتهم على نفس النهج والممارسات». ومع ذلك، كان السياقان مختلفين فمع مزالي رأى المستيري أن «الخدعة التي أوقعوا فيها محمد مزالي، بإقناعه بأنه خليفة بورقيبة المرتقب، جعلته غير قادر على أخذ الموقف المناسب بناء على ما وصله من معطيات ثابتة عن التزوير». أما مع بن علي فيرى إسماعيل بولحية أحد رفاق المستيري في شهادته للمؤلف أن قطيعة المستيري الحقيقية معه جاءت «بعد أن ترسّخت قناعته بأن بن علي غير جدّي ومناور، ولا نية له في التغيير». وفعلا، انسحب المستيري من الحياة السياسية بالكامل إثر ذلك وهو انسحاب رأى فيه نجيب العياري، أحد القيادات الإسلامية التي التحقت بحزبه، في شهادته للمؤلف أنه «لم يكن هزيمة ولا هروبا من المسؤولية وإنما اقتناع بأن المرحلة ليست مرحلته فضرب بذلك موعدا مع التاريخ الذي أضاعه الزعيم بورقيبة فوضع البلاد على شفا مصير مجهول». لم يعد المستيري إلى الظهور العام إلا بعد ثورة 2011 التي عاش نشوة فرحتها ليموت بعدها بعشر سنوات، وقبل شهرين فقط من انقلاب قيس سعيّد عليها عام 2021، فرحمه الله بأنه لم يعش ما آلت إليه جرّاء ذلك حال البلاد إلى اليوم. نقلا عن القدس العربي

ماذا يريد هؤلاء من بورقيبة ؟
ماذا يريد هؤلاء من بورقيبة ؟

Tunisie Focus

time٢٦-٠٥-٢٠٢٥

  • Tunisie Focus

ماذا يريد هؤلاء من بورقيبة ؟

خصص التلفزيون العربي حلقتين من برنامج (وفي رواية أخرى) لأحمد نجيب الشابي، لاستعراض تجاربه في مختلف مراحل حياته السياسية، لكن المتفرج سيتفطن بسهولة منذ الدقائق الأولى إلى أن التركيز على بورقيبة في هذه المقابلة مثير للانتباه، فلم يفوت الرجلان الجالسان قبالة بعضهما البعض في أطول حوار (إذاعي متلفز) طعنة لم يسدداها للزعيم، بدءا من قصة اغتيال بن يوسف، إلى إعدام المعارضين، واغتيال بعضهم في الشوارع، وتشبيه حرب بنزرت بالحرب على غزة، والتواطؤ مع الاستعمار ضد المقاومين، والتشكيك حتى في محاولة اغتيال الزعيم الشهيرة والتساؤل: ألم تكن مفبركة؟ إلى غير ذلك من التهم الجاهزة والمألوفة التي جُمّعت هذه المرة في سياق واحد ليس ضروريا أن تكون منتميا إلى العائلة الدستورية، أو ولوعا بالحبيب بورقيبة، ومتيما بزمنه وأفكاره كي تشعر بالفزع من قتامة الصورة التي أراد البرنامج الوصول إليها، بل يكفي أن تكون مواطنا تونسيا يتحلى بقليل من الصدق مع ذاته. قليل من الصدق في زمن العمى الإيديولوجي يكفي للاشمئزاز من نبش قبر بورقيبة بهذه الطريقة الباردة، فالدول العربية لم يحكمها حتى الساعة أنصاف آلهة أو أنبياء، والمقاربات التاريخية الموضوعية هي التي تنتهي دائما إلى إنصاف الزعماء عندما تضع ما قدموه لفائدة أوطانهم مقابل ما ارتكبوه من أخطاء ثم إن بورقيبة بالذات وخلافا لأي زعيم عربي آخر موصوم في المشرق، فنحن هنا في تونس لا ننكر أخطاءه السياسية وأهمها القضاء على التعددية وخنق المجال الديمقراطي والرئاسة مدى الحياة، لكننا في الوقت نفسه نعتبر مجلة الأحوال الشخصية وتحديد النسل والتعليم المجاني إنجازات تحمل إمضاءه الشخصي، ورؤيته الخاصة والتقدمية لما ينبغي أن تكون عليه الدولة والمجتمع، ويكفي أن نعيد مشاهدة موكبه مع الرئيس الأمريكي كيندي حتى نشعر بقليل من الفخر وكثير من الحسرة. لكن إخوتنا في المشرق والخليج سيقولون لك إذا ما ذكر أمامهم بورقيبة: لقد أجاز الإفطار في رمضان وحرّم الزواج بثانية هل كان من الضروري أن ينساق أحمد نجيب الشابي وراء مضيفه في هذه المحاكمة غير العادلة لبورقيبة وزمنه؟ محاكمة تواصل ما بدأه أحمد منصور في شاهد على العصر حيث كان كل همه في مختلف الحوارات التي أجراها مع سياسيين تونسيين مواصلة تشويه بورقيبة والاعتداء على صورته وهو جالس على كرسي الأبدية؟ ألم يكن من الضروري أن يتوخى الشابي سبيل التحفظ للإفلات من هذا المأزق لا سيما وهو يفضفض في قناة أجنبية؟ ليس من السهل على أي قناة أن تنجز اليوم برنامجا عن نهضة العراق العلمية في عهد صدام حسين، أو كيف أنشأ القذافي النهر الصناعي العظيم، بقدر ما هو سهل ومتاح نصب المناحات وإقامة حفلات الشواء، والمؤسف في هذا أن البرنامج ضعيف للغاية، فلم تعرض فيه إلا صور قليلة ثابتة مع صورة الضيفين جالسين في مناجاة تلفزيونية مطولة. والحال أن التلفزة لا تحتمل الثرثرة، وتحتاج إلى تغذية مستمرة بالعناصر البصرية وهي تخاطب جمهورا بذاكرة السمكة الحمراء التي لا تستطيع الصمود أمام مشهد واحد أكثر من ثماني ثوان، هذا ما يعرفه أصغر صانع محتوى على التيكتوك ويجهله صناع برنامج (وفي رواية أخرى) بقلم عامر بوعزة

حروب عبثية لم يتعلم دروسها أحد
حروب عبثية لم يتعلم دروسها أحد

الصحراء

time١٨-٠٥-٢٠٢٥

  • الصحراء

حروب عبثية لم يتعلم دروسها أحد

أظهرت التفاصيل التي نشرتها الصحافة الأمريكية بشأن إنهاء حملة الغارات الجوية على قوات الحوثيين في اليمن أن الأسباب الحقيقية لوقف إطلاق النار لا علاقة لها بما أعلنه الرئيس الأمريكي. فقد أحدث ترامب المفاجأة عندما أعلن أن النصر العسكري على الحوثيين قد تحقق، وأن المهمة التي أوكلها إلى الجيش الأمريكي (أي تأمين طرق الملاحة في البحر الأحمر) قد أنجزت بنجاح، بينما كان الواقع يفند هذا الزعم لأن قوات الحوثيين ظلت، حتى بعد إعلان «النصر» الأمريكي يوم 5 مايو، قادرة على إطلاق الصواريخ والمسيّرات سواء في البحر الأحمر أم في عمق كيان الاحتلال الإسرائيلي. وحقيقة الأمر أن ترامب كان يتوقع أن شل قدرات الحوثيين لن يتطلب أكثر من شهر. إلا أن الحملة استمرت شهرين كاملين واستلزمت شن حوالي 1100 غارة جوية راح ضحيتها مئات من اليمنيين، وأدت إلى سقوط العديد من المسيرات الأمريكية وانزلاق طائرتين من على ظهر حاملة الطائرات «هاري ترومان» وإصابة طياريهما. كل هذا بدون أن تحقق الحملة أيا من أهدافها، بل إنها كلفت، بمجرد انقضاء الشهر الأول، مبلغ مليار دولار (!) فلا عجب أن ينفد صبر ترامب، المعروف بأن كراهيته للخسائر المالية هي السبب شبه الوحيد لكراهيته للحروب، ويتلقّف يد الوساطة العُمانية التي أنقذته عندما سهلت له اتفاقا مع الحوثيين يقضي بوقف القصف الأمريكي على اليمن مقابل إقلاعهم عن استهداف السفن الأمريكية (أما سفن الدول الأخرى المتعاونة مع إسرائيل فلم يشملها الاتفاق). إذن فالسبب الحقيقي لإنهاء حملة القصف ليس النصر الأمريكي، وإنما هو صمود القوات الحوثية الذي كبد الأمريكيين خسائر مالية وعسكرية فادحة. وهذا ما اعترف به ترامب نفسه من حيث لا يدري عندما قال «وجهنا لهم ضربات موجعة جدا ولكنهم أبدوا قدرة بالغة على تحمل قسوة الهجمات. يمكن القول إنهم تحلوا بكثير من الشجاعة». وما هذا إلا أحدث دليل في سلسلة طويلة من الأدلة التاريخية على الحقيقة التي أكدها بورقيبة لعبد الناصر في فبراير 1965: حقيقة استحالة إخضاع أهل اليمن. قال له إن عدد جنودكم في بداية تدخل مصر في اليمن كان ألفي جندي أما الآن فقد بلغ سبعين ألفا (!). أسمح لنفسي كأخ تونسي بأن أنصحكم بالانسحاب من اليمن. لا أحد في التاريخ استطاع احتلال هذا البلد، لا الإنكليز ولا الفرنسيون. هنا أحال عبد الناصر الكلمة إلى المشير عبد الحكيم عامر، فأجاب: لقد فات أوان معرفة ما إذا كانت هذه الحرب شرعية أم لا. نحن الآن في أتّونها، وقد خسرنا مئات الجنود وأنفقنا أموالا طائلة ولا يمكننا التراجع! رد بورقيبة: لا يجوز للمسؤول أن يفكر بهذه الطريقة. ليس لأنكم خسرتم كثيرا من الرجال فينبغي عليكم الاستمرار في الخسارة. إن من صميم مسؤولية السياسي أن يعرف كيف يتراجع عندما يجد نفسه في مأزق. عليكم بوضع حد للأضرار التي حاقت بشعبكم. أجاب عبد الناصر: سيكون الأمر صعبا، ولن يفهم الشعب ذلك. فختم بورقيبة أسِفا: ستكون هذه إذن حرب المائة سنة بالنسبة لكم! وحتى لو بلغت ضحاياكم مائة ألف جندي، فلن تفوزوا بهذه الحرب. وهكذا بعد أن نبه بورقيبة عبد الناصر، مثلما ذكرنا الأسبوع الماضي، إلى أنْ ليس من مصلحة مصر أن تخوض حربا مع إسرائيل ما دام ميزان القوى في غير صالح العرب، فإنه نصحه بوقف حربه العبثية على اليمن. ولأن هذه الصراحة غير معتادة، بل نادرة جدا، في العلاقات العربية فقد خيم بعدها صمت ثقيل بين الزوار التونسيين ومضيّفيهم المصريين. وتعليقا على هذه «القطيعة مع ما تعوّدته الدبلوماسية المشرقية من خطاب معسول في تلك الفترة وربما إلى اليوم»، تساءل الأستاذ محمد مزالي: «هل فعلت كلمات بورقيبة الصريحة، والخالية من اللف والدوران، فعلها؟ على كل، لقد أذعن عبد الناصر في آخر الأمر وذهب في 23 أغسطس 1965 إلى جدة لملاقاة الملك فيصل، طالبا منه الصلح، بعد أن هاجمته بحدة وسائل إعلامه. وأمضى اتفاق جدة الشهير، وأجلى جيوشه من اليمن. وأبى المرحوم الملك فيصل إلا أن يحفظ ماء الوجه لضيفه من باب المروءة وعلوّ الهمة». وبعد، فيُحفظ لعبد الناصر أنه استوعب الدرس. أما الحروب العبثية الأخرى فلم يتعلم دروسها أحد: حرب السنوات الثماني مع إيران؛ غزو الكويت؛ حروب ليبيا؛ حروب السودان؛ الحرب (الباردة-الحامية) بين الجزائر والمغرب، الخ. كاتب تونسي نقلا عن القدس العربي

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store