
بين استياء ترمب وأولوياته.. تغييرات هيكلية في الاستخبارات الأميركية
تستعد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA، لإجراء تخفيضات في أعداد الموظفين وإعادة هيكلة كبرى، تهدف إلى تعزيز دور العمليات السرية وتقليص عدد المحللين الذين يعملون خلف شاشات الكمبيوتر، وسط قلق داخلي من تأثير الغموض القيادي والتغييرات المرتقبة على معنويات الموظفين واستقرار الوكالة، وفق شبكة CNN.
وقالت الشبكة الأميركية، الخميس، إن هذه الخطوة التي يقودها المدير الجديد للوكالة، جون راتكليف، تأتي في إطار سعيه لتحقيق توازن دقيق بين إرضاء البيت الأبيض، والحفاظ على استقلالية الوكالة.
وذكرت الشبكة، أن هذه التغييرات المرتقبة تبرز الدور الذي يلعبه راتكليف، والذي يسير حتى الآن على "خيط رفيع" بين الحفاظ على رضا البيت الأبيض، وبناء الثقة مع عملاء الوكالة، التي يعتبرها الرئيس الأميركي دونالد ترمب جزءاً أساسياً من "الدولة العميقة".
ويبدو أن راتكليف نجح حتى الآن في إبعاد وكالة الاستخبارات المركزية عن التدخلات السياسية من البيت الأبيض، التي كان العديد من المسؤولين يخشون حدوثها خلال فترة ولاية ترمب الثانية.
ونقلت الشبكة عن مسؤول استخباراتي رفيع سابق، قوله: "ربما توصل راتكليف ونائبه مايكل إليس إلى استنتاج مفاده أن موظفي الوكالة هم أشخاص محترفون، وأنه لا وجود للدولة العميقة هنا، لكنهما في هذه الحالة سيقفان في مواجهة البيت الأبيض الذي يعتقد بوجودها".
وأشار عدة مسؤولين استخباراتيين، إلى أن راتكليف يقضي معظم وقته في البيت الأبيض، ما ترك انطباعاً لدى بعض الموظفين بأنه "لا يتدخل بشكل كبير في شؤون العمل اليومية"، حسبما ذكر أحد المسؤولين الأميركيين.
وقال آخرون إنه ليس من الواضح لموظفي الوكالة مَن يدير CIA بشكل فعلي، إذ وصف مسؤول سابق آخر وكالة الاستخبارات المركزية بأنها "بلا دفة"، ما زاد من مخاوف بعض المسؤولين من أن يؤدي عدم اليقين هذا إلى مغادرة العديد من الموظفين الموهوبين، سواء بسبب التقاعد المبكر أو من خلال قبول عروض مالية مغرية من ترمب.
وصرَّح العديد من المسؤولين الأميركيين الحاليين والسابقين لشبكة CNN، بأن المزاج العام تجاه راتكليف بين موظفي الوكالة يبدو "فاتراً"، إذ وصفه أحد المسؤولين بأنه "الخيار الأقل سوءاً".
ومع ذلك، قال شخص مُقرب من ترمب للشبكة، إن "تواجد راتكليف في البيت الأبيض طوال الوقت هو أمر إيجابي"، مشيراً إلى أن "الأمر كان سيصبح أكثر إثارة للقلق لو كان لا يجتمع بالرئيس أبداً، ما يعكس استمرار تقديره له".
أولويات ترمب
وحتى الآن، لم يُجرِ راتكليف التخفيضات الواسعة التي طالبت بها الإدارة الأميركية من الوكالات الأخرى، وذلك على الرغم من الرغبة الواضحة من ترمب وحلفائه في إعادة هيكلة وكالة الاستخبارات المركزية.
ونقلت الشبكة عن مصادر مقربة من الرئيس الأميركي، قولها، إن علاقة راتكليف بالبيت الأبيض أتاحت له حرية إدارة الوكالة وفق جدوله الزمني الخاص، فيما يرى بعض المسؤولين أنه يتحرك بحذر لتكوين جسر بين البيت الأبيض والوكالة.
وقال مسؤول أميركي آخر: "بما أنه علم المزيد من المعلومات عن موظفينا وقدراتنا، فأعتقد أنه يرغب في دعمنا، لكنه يقضي معظم وقته في مقرات الحكومة الفيدرالية"، مضيفاً أن "إدارة الوكالة تقع في الواقع بشكل أكبر على عاتق نائبه، إليس".
من جانبها، قالت المتحدثة باسم وكالة الاستخبارات المركزية ليز ليونز، في بيان لـCNN: "لقد أكد راتكليف بوضوح أن الوكالة ستسعى جاهدةً لتحقيق أولويات الرئيس ترمب في مجال الأمن القومي".
وأضافت: "الوكالة عازمة على منح الرئيس ميزة غير مسبوقة، وهي تقوم بذلك بنهج حازم تحت قيادة راتكليف، وأي تلميحات بخلاف ذلك هي غير صحيحة ولا أساس لها".
بعيداً عن الأضواء
وذكرت CNN أن راتكليف، العضو الجمهوري السابق في الكونجرس، تعمد العمل "بعيداً عن الأضواء" خلال الأشهر القليلة الأولى من توليه منصبه، حيث التقى ترمب خلف الأبواب المغلقة في البيت الأبيض، وظهر في مناسبات إعلامية مختارة.
كما لعب راتكليف دوراً رئيسياً في مساعدة الإدارة على تجاوز بعضٍ من أكثر تحديات السياسة الخارجية إلحاحاً، ففي أبريل الماضي، أرسله ترمب إلى إسرائيل لإجراء مناقشات رفيعة المستوى بشأن مساعي الإدارة المستمرة للتوصل إلى اتفاق مع إيران للتخلي عن برنامجها النووي بالكامل، وفقاً لما نقلته CNN عن مصدرين مطلعين على الزيارة.
وفي وقتٍ سابق من ولاية ترمب الثانية، ساعد راتكليف أيضاً بشكل هادئ في تأمين إطلاق سراح العديد من الأميركيين المحتجزين في روسيا، لكن، على عكس المبعوث الخاص، ستيف ويتكوف، الذي نُسب إليه الفضل في الإفراج عنهم، دون الإشارة إلى مشاركة راتكليف في تلك المحادثات على نطاق واسع.
استياء ترمب
وكان ترمب أعرب في مناسبة واحدة على الأقل عن شعوره بالإحباط من عدم تحرك مدير وكالة الاستخبارات المركزية بشكل أسرع لتسريح الموظفين، وإعادة هيكلة الوكالة، وإلغاء التغييرات التي أُجريت في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وفقاً لما نقلته عن مصدر مطلع.
كما أكد مصدر آخر، أن الرئيس الأميركي أبدى بعض الشكوك الأولية بشأن راتكليف قبل تنصيبه، ومع ذلك، قال هذا الشخص إن ترمب لم يُدلِ بأي كلمة سلبية عن مدير وكالة الاستخبارات المركزية منذ دخوله البيت الأبيض في ولايته الثانية.
وأكد مصدران مطلعان، أن راتكليف لديه حلفاء في البيت الأبيض، إذ أصبح "مقرباً" من نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس، وأشار أحد المصادر إلى أن علاقته بالأخير تعود إلى ما قبل تنصيب ترمب في يناير الماضي، قائلاً إن "الرجلين كانا قد أجريا عدة محادثات حول إصلاح وكالة الاستخبارات المركزية قبل توليهما منصبيهما الحاليين في فترة ولاية ترمب الثانية".
وأضافت الشبكة: "هذا التوازن جعل من الصعب على ضباط وكالة الاستخبارات المركزية، الذين يشعر العديد منهم بالقلق بشأن مسيرتهم المهنية، أن يحكموا على مدى الثقة التي يجب أن يولوها للمدير الجديد، والذي قالت مصادر متعددة إنه أبقى تدفق المعلومات داخل الوكالة مقتصراً على دائرة داخلية ضيقة للغاية".
عملية إعادة هيكلة
ويعقد راتكليف ونائبه ومسؤولون كبار آخرون، اجتماعات بشأن إعادة الهيكلة المقترحة للوكالة والتي سيتم خلالها دمج المكاتب الحالية تحت مركز مهام جديد يُدعى "مركز الأميركيتين" لإعطاء الأولوية لمكافحة المخدرات والعصابات، التي كانت في السابق تمثل جزءاً صغيراً نسبياً من مهام الوكالة، لكنها أصبحت أولوية قصوى في عهد ترمب.
ووفقاً لما نقلته الشبكة عن مصدر مُطلع، فإن وكالة الاستخبارات المركزية تقوم في عهد ترمب، بإجراء مهمات استطلاع بطائرات مسيرة غير مسلحة فوق المجال الجوي المكسيكي، كما أنها تسعى لمراجعة صلاحياتها القانونية لتنفيذ عمليات مميتة ضد عصابات المخدرات.
وتشمل خطط راتكليف أيضاً تقليص عدد موظفي الوكالة بنحو 1200 شخص على مدى السنوات القليلة المقبلة من خلال التقاعد المبكر والاستقالات المؤجلة وتقليص عمليات التوظيف، وفق مصدر مطلع على الأمر. وأضاف المصدر أن التخفيضات المُخطط لها ستؤثر إجمالاً على ما بين 5% و6% من إجمالي موظفي CIA.
لكن من غير المرجح أن تؤثر هذه التغييرات على التوظيف في مديرية العمليات التابعة للوكالة، وفق المصدر، بل يبدو، بدلاً من ذلك، أن الجهود ستشمل تقليص بعض المناصب التي يشغلها حالياً المحللون في الوكالة، مما يشير إلى إعطاء أولوية واضحة للموظفين الذين يعملون على الأرض على أولئك الذين يعملون على تحليل البيانات الاستخباراتية، وفق مسؤولين أميركيين حاليين وسابقين.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


أرقام
منذ 26 دقائق
- أرقام
مصادر: ترامب يقترب من توقيع أوامر لتعزيز إنتاج الطاقة النووية
قالت أربعة مصادر مطلعة إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ربما يوقع يوم الجمعة على أوامر تنفيذية تهدف إلى تعزيز قطاع الطاقة النووية من خلال تسهيل الإجراءات التنظيمية التي تتعلق بالموافقات على المفاعلات الجديدة ودعم سلاسل إمدادات الوقود. وفي ظل أول ارتفاع في الطلب على الكهرباء منذ عقدين بسبب توسع أنشطة الذكاء الاصطناعي، أعلن ترامب حالة طوارئ في مجال الطاقة في أول يوم له في منصبه. ويقول وزير الطاقة كريس رايت إن السباق لتطوير مصادر للكهرباء ومراكز البيانات اللازمة للذكاء الاصطناعي هو "مشروع مانهاتن 2"، في إشارة إلى البرنامج الضخم الذي عملت عليه الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية لتطوير قنابل ذرية. وجاء في مسودة ملخص للأوامر أن ترامب سوف يفعّل قانون الإنتاج الدفاعي الذي يعود إلى حقبة الحرب الباردة لإعلان حالة طوارئ وطنية على خلفية اعتماد الولايات المتحدة على روسيا والصين في الحصول على اليورانيوم المخصب ومعالجة الوقود النووي ومدخلات المفاعلات المتقدمة. ويوجه الملخص أيضا الوكالات إلى التصريح لمنشآت نووية جديدة وتحديد مواقع لها وتبسيط الإجراءت اللازمة لبنائها. ولم يرد البيت الأبيض على الفور على طلب للتعليق. وقد يخضع نص وصياغة مسودات الأوامر التنفيذية لتغييرات متكررة. وكانت الولايات المتحدة أول مطور للطاقة النووية ولديها أكبر قدرة نووية في العالم، إلا أن الصين تشهد حاليا أسرع نمو لهذا المصدر من الطاقة.


الشرق الأوسط
منذ ساعة واحدة
- الشرق الأوسط
هجوم المتحف اليهودي... وحروب الصورة
تقول الشرطة إن الشابّ الأميركي إلياس رودريغز، البالغ من العمر 30 عاماً، دون سجلٍّ إجرامي، وقالت وزيرة العدل إن التحقيقات حتى الآن تشير إلى أن الشابّ إلياس تصرّف بمفرده. هذا الشابّ الجامعي، الميّال للقصص التاريخية والخيالية، هو من قتل اثنين من أعضاء السفارة الإسرائيلية أمام المتحف اليهودي في قلب واشنطن، العاصمة الأميركية، بالقرب من البيت الأبيض والكابيتول الأميركي. إلياس رودريغز لم يهرب، وطلب الاتصال بالشرطة، ورفع الكوفية الفلسطينية، وهتف: من أجل فلسطين الحرّة. تمّ تداول رسالة مطوّلة، يُقال إنه كتبها قبل الهجوم بيوم واحد، خلاصتها أن الحادثة كانت ردّاً على الحرب الإسرائيلية في غزة. وجاء في مقاطع من الرسالة عن إسرائيل: «الإفلات من العقاب الذي نراه هو الأسوأ بالنسبة إلينا نحن القريبين من مرتكبي الإبادة الجماعية». الشابّ كما جاء في بعض التقارير كان منتمياً لـ«حزب الاشتراكية والتحرير» اليساري الراديكالي في أميركا، وأقرّ بيانٌ عن الحزب أن رودريغيز كان «لفترة وجيزة» من بين أعضائه سنة 2017، لكنه أكّد على «إكس» أن المشتبه به لم يعد ينتمي إلى صفوفه، وأنه لا صلة له بالهجوم المنفذ. ما يعني أنه ربما كان مشروع نسخة جديدة من «كارلوس» الفنزويلي، الذي كان عضواً بارزاً في جماعة وديع حدّاد الفلسطينية، المشهورة بخطف الطائرات والرهائن في السبعينات وبداية الثمانينات... لكن انتهت تجربته مبكّراً. ما يهمُّ هنا هو أن هذا الهجوم جاء بالتزامن مع حملة أوروبية على جرائم إسرائيل في غزّة وغير غزّة، وأزمة صامتة بين ترمب ونتنياهو، فهل تُخفّف الضغط على نتنياهو وجماعته من مدمني الحروب؟! وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر علّق على هجوم المتحف اليهودي في واشنطن، بالقول إن الدول الأوروبية شاركت بالتحريض على بلاده، ورفع ثقافة كراهية السامية (التهمة الدائمة لدى الخطاب الإسرائيلي ضد أي مخالف لهم)، قائلاً خلال مؤتمر صحافي: «هذا التحريض يُمارس أيضاً من جانب قادة ومسؤولين في العديد من الدول والهيئات الدولية، خصوصاً في أوروبا»، في إشارة إلى المظاهرات الكبيرة في مدن عدّة حول العالم تنديداً بالعملية العسكرية في غزة. هجوم الشابّ الأميركي ذي الخلفية اليسارية - كما يبدو - على المتحف اليهودي، وقتل اثنين أمامه، إشارة خطيرة على تفاعل المجتمعات الغربية مع حرب غزّة، وأن التفويض الدائم لإسرائيل بالعمل العسكري والأمني من دون حدود وقيود، ربما لم يعد قائماً كما في السابق. غير أن أخشى ما يُخشى منه، كما ذُكر هنا قبل أيام، التفريط بهذه المكاسب المعنوية والسياسية والقانونية للضغط على إسرائيل نتنياهو، وإجبارها على حلّ الدولتين، أو مقاربة شبيهة بها، التفريط من خلال تواتر عمليات من هذا النوع حول العالم ضد اليهود، ما يجعل نتنياهو ورجاله يظهرون أمام العالم الغربي، بخاصة الأوروبي، بمظهر الضحية من جديد، ضحية «الأوروبي» النازي من قبل وأفران المحرقة... فضلاً عن «لا أخلاقية» استهداف المدنيين، من أهالي غزّة أو من أي يهودي مدني في العالم، أو أي مدني في هذه الدنيا.


الشرق الأوسط
منذ ساعة واحدة
- الشرق الأوسط
وعي الأسباب هو المسألة
يسأل اللبنانيون إلى أيّ لبنان هم ذاهبون في خضمّ التحوّلات الكبرى التي يشهدها الشرق الأوسط والتي اتّضحتْ صورتها أكثر مع زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأخيرة إلى السعودية والخليج العربي؟ فكثير من اللبنانيين يرون بلادهم على مفترق خطير. ولإدراك وجهة «بلاد الأرز» في زمن التحوّل، لا بدّ من تسليط ضوء الماضي الكاشف على الحاضر والمستقبل. والسؤال الأساسي هو التالي: ما الأسباب التي صنعت انتصار المشروع اللبناني على المشاريع الإقليمية في لبنان طوال 164 عاماً، حافلة بالتحوّلات الداخلية والإقليمية والدولية الكبرى، من عام 1861، تاريخ ظهور الكيان اللبناني الأوّل إلى اليوم؟ وعي الأسباب، تلك هي المسألة. لا شك في أنّ عامل انتصار المشروع اللبناني، الأكثر رسوخاً وثباتاً، هو العامل الجغرافي الطبيعي الذي يرتكز إليه، في انبثاقه من فرادة جبل لبنان وشاطئه ومحيطه المباشر، وموقعه المميّز في المشرق. فلو كان هذا الجبل في موقع أعمق في الداخل المشرقي، بعيداً أكثر عن الشاطئ المتوسطي، لَتغيَّر مناخه وبيئته ودعوته ودوره. هذا هو الأساس في نزعة التمايز والحريّة ونوعية الحياة والانفتاح الملازمة للمشروع اللبناني على الدوام. لكنَّ العامل الجغرافي، أي الطبيعة والموقع معاً، على أهميته القصوى، لا يكفي من دون النزعة التاريخية التي تجسّده. أيُّ نزعة تاريخية هي؟ بسبب تعدّد الجماعات المقيمة في جبل لبنان وشاطئه ومحيطه، والصراع الدائم حولها منذ أقدم الأزمان بين قوى الشرق وقوى الغرب، يمكن القول إنه في «الأزمنة الحديثة»، أيْ منذ القرن السادس عشر إلى اليوم، ولعوامل كثيرة يضيق المكان بذكرها، اختار المشروع اللبناني التجذّر في بيئته وتراثه من جهة، والانفتاح على الغرب من جهة أخرى. لم يكن ممكناً السعي إلى التمايز والحرية ونوعيّة الحياة والتفاعل الثقافي في «الأزمنة الحديثة» إلّا بالتوجّه غرباً. لأن نهضة الخروج من القرون الوسطى إلى عالم الحداثة، تمّت في الغرب، وأمّنت له تفوقّاً ثقافيّاً وعلمياً وصناعياً وتكنولوجياً واقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، قاده إلى السيطرة طويلاً على المتوسط والعالم، بينما كانت السلطنة العثمانية تتراجع وتنهار. يبرز هنا التراكم الثقافي عاملَ قوّةٍ بالغَ الأهمية في المشروع اللبناني؛ ففي وقت جدّ مبكر، وقبل قرنين من بدء تفاعل مصر مع الغرب بعد حملة بونابرت، كان طلبة جبل لبنان يتلقون علومهم العالية في روما منذ آخر القرن السادس عشر. وكان أمير جبل الشوف، منذ مطلع القرن السابع عشر، يكتشف، محاطاً بأولئك الطلبة، توسكانا، عاصمة النهضة الأوروبية. ومن أول دلائل هذه الأسبقية الثقافية أن المطبعة الأولى في الشرق ومجمل آسيا ظهرت في جبل لبنان عام 1585، بينما لم تَخرج السلطنة العثمانية من رفض الطباعة إلا بعد نحو قرن ونصف، عام 1729. لقد انتقل المحور الشرقي من إسطنبول في القرن التاسع عشر، إلى موسكو في القرن العشرين، إلى بكين وموسكو في القرن الحادي والعشرين. وانتقل المحور الغربي من لندن وباريس وبرلين في القرن التاسع عشر حتى أواسط القرن العشرين، إلى واشنطن، وأكثر فأكثر حتى اليوم. ومن عوامل قوة المشروع اللبناني استمراره الثابت في الانفتاح على الغرب، بينما اتَّجهت جميع المشاريع الإقليمية في لبنان شرقاً، من إسطنبول العثمانية، إلى موسكو السوفياتية، إلى بكين، منذ عام 1861 حتى المشروع الإيراني الأخير، مروراً بمختلف المشاريع الوحدوية البعثية والناصرية. وثمّة عامل قوة سوسيولوجي بالغ الأهمية في المشروع اللبناني، غير معروف، هو ارتكازه منذ البداية إلى اليوم، في كلّ حراكه، على حيوية المجتمع أكثر بكثير من جهاز الدولة. في ظلّ ذلك كله، حقَّق هذا المشروع إنجازات حضارية، نهضوية وفكرية وتعليمية وأدبية وصحافية وطباعية وفنية واقتصادية وطبية عزَّ نظيرها، فيما عجزت المشاريع الإقليمية عن تقديم أي إنجاز من هذا القبيل. وأبعد من ذلك، قدّم نمط حياة رفيع النوعية، بات هو رجوة شعوب المنطقة، بينما المشاريع الإقليمية في لبنان لم تقدّم إلا نماذج العنف والقمع والاغتيال، إنْ في الداخل أو في الدول والأنظمة المنتمية إليها. وفي رهان المشاريع الإقليمية المتكرّر على الدخول من باب الحريات اللبناني، للدعوة إلى تحرير القدس وفلسطين انطلاقاً من لبنان وحده، بمعزل عن عشرات الدول والأمم المعنية بذلك، شكّلت تاريخياً حركة عبثية، بعيدة للغاية عن موازين القوى وعن أهداف دعاتها الحقيقية، أدّت إلى تكريس الأنظمة القمعية في المنطقة باسم فلسطين، وتقوية الدولة العبرية، وإلحاق الأذى بـ«بلاد الأرز». وأخيراً، تكمن قوة المشروع اللبناني أيضاً في ملايين المنتشرين في أنحاء العالم كافّة الذين يحملون وطنهم في قلوبهم.