logo
اكتشاف "كاش كوش": قرية مغربية ما قبل تاريخية تعيد كتابة تاريخ شمال إفريقيا

اكتشاف "كاش كوش": قرية مغربية ما قبل تاريخية تعيد كتابة تاريخ شمال إفريقيا

بلبريس١٨-٠٢-٢٠٢٥

في إنجاز علمي بارز، كشف فريق بحثي مغربي بقيادة البروفيسور يوسف بوكبوط من المعهد الوطني للعلوم الأثرية والتراث (INSAP) عن اكتشاف أول قرية ما قبل تاريخية في المغرب، وهو الاكتشاف الذي نُشر في المجلة العلمية المرموقة 'أنتيكويتي' ويعد بتغيير الفهم السائد لتاريخ المجتمعات في شمال إفريقيا قبل وصول الفينيقيين.
يقع الموقع الأثري "كاش كوش" بالقرب من مدينة تطوان، ويعود تاريخه إلى فترات متتالية بين 2200 و900 قبل الميلاد، حيث أظهرت التنقيبات الأثرية وجود مجتمعات ذات بنى اجتماعية واقتصادية متطورة، مما يشير إلى بدايات التحضر في المنطقة.
وكشفت الحفريات عن مرحلتين رئيسيتين، الأولى بين 2200 و2000 قبل الميلاد، وهي فترة قليلة التوثيق، والثانية بين 1300 و900 قبل الميلاد، والتي شهدت ظهور منازل مبنية من الطين والخشب، إضافة إلى أنشطة زراعية ورعوية، مما يؤكد انتقال السكان من حياة البدو إلى حياة أكثر استقرارًا وتنظيمًا.
ومن بين أبرز الاكتشافات في "كاش كوش" الهياكل المعمارية التي تعكس تطور الحياة اليومية لسكان المنطقة، حيث تم العثور على منازل دائرية مصنوعة من الطين وأخرى مستطيلة ذات أسس حجرية، مما يدل على تنظيم اجتماعي معقد، بالإضافة إلى صوامع محفورة في الأرض، تُظهر اهتمام المجتمعات بتنظيم مواردها الغذائية.
وأظهرت الأدلة الأثرية أن سكان "كاش كوش" كانوا على اتصال منتظم مع مجتمعات البحر الأبيض المتوسط والصحراء الكبرى، مما يشير إلى وجود تبادل تجاري وثقافي واسع النطاق، حيث تم العثور على قطع أثرية مثل الأواني الفخارية الفينيقية وأدوات حديدية، تُبرز التأثيرات الثقافية والتقنية من مناطق مختلفة.
كما كشفت الحفريات عن بقايا نباتية تشمل الحبوب والبقوليات، وتحليل للحيوانات يظهر اعتماد الاقتصاد المحلي على تربية الماشية، إضافة إلى اكتشاف قطعة برونزية تُعد أقدم دليل على استخدام هذا المعدن في شمال إفريقيا.
وفي هذا السياق، أكد البروفيسور يوسف بوكبوط أن الاكتشاف يظهر وجود بنى اجتماعية متطورة قبل وصول الفينيقيين، وأن "كاش كوش" كان مركزا ثقافيا وتجاريا مهما، مما يغير التصور التقليدي عن المجتمعات في شمال إفريقيا.
ويتوقع العلماء أن تفتح هذه الاكتشافات الباب أمام مزيد من الحفريات في المنطقة، كما يدعون إلى ضرورة إعادة تقييم الدور الذي لعبته المجتمعات المحلية في تاريخ البحر الأبيض المتوسط ومنطقة شمال إفريقيا في العصور القديمة. جدير بالذكر أن الفريق نفسه كان قد أعلن في وقت سابق عن اكتشاف أول قرية ما قبل تاريخية ضخمة في المغرب، مما يعزز من أهمية هذه الاكتشافات في إعادة كتابة تاريخ المنطقة.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

المعرض الدولي للنشر والكتاب 2025: حسن بوسيتا يقدم قراءة جديدة للتاريخ والسياسة بين المغرب وبلجيكا
المعرض الدولي للنشر والكتاب 2025: حسن بوسيتا يقدم قراءة جديدة للتاريخ والسياسة بين المغرب وبلجيكا

يا بلادي

time٢٦-٠٤-٢٠٢٥

  • يا بلادي

المعرض الدولي للنشر والكتاب 2025: حسن بوسيتا يقدم قراءة جديدة للتاريخ والسياسة بين المغرب وبلجيكا

DR مدة القراءة: 8' يبدأ كتابك بتتبع التاريخ العريق لبلجيكا والمغرب، وصولا إلى الزمن المعاصر. كيف تعاملت مع توثيق هذه الفترات؟ انطلقت فكرة هذا العمل من تأثيرات متعددة، بدءا من عملي الأكاديمي حول الهجرة المغربية الذي بدأ قبل ثلاثة عقود، في عام 1994، والذي أثمر عن أطروحة دكتوراه تناولت الهجرات المغربية في سياقها المعاصر. بعدها انخرطت في الحياة الاجتماعية والسياسية، وساهمت في العديد من المبادرات المتعلقة بذاكرة الهجرة، أبرزها في عام 2004، عندما ترأست مبادرة "فضاء ذاكرة الهجرة" التي أحيت ذكرى توقيع اتفاقيات العمالة. في عام 2024، شاركت في إحياء الذكرى الستين لهذه الاتفاقيات، التي حملت أبعادا جديدة. بينما سمحت لنا ذكرى عام 2004 بإعادة قراءة التاريخ الاجتماعي لبلجيكا بعد الحرب، قادتنا ذكرى عام 2024 إلى استكشاف الجذور التاريخية للمجتمع المغربي، والتساؤل عن التفاعلات بين بلجيكا والمغرب عبر الزمن. من هنا نشأت فكرة هذا العمل. عند استعراض التاريخ، ندرك أن العلاقات بين البلدين ليست وليدة اللحظة، بل كانت الهجرة العمالية هي الجسر الذي فتح باب التواصل بين مجتمعين قد نعتقد خطأً أنهما لم يلتقيا قط. هذه الفكرة غير صحيحة تماما. فالمجتمعات تنتمي إلى فضاء جغرافي يعتبر ممرا أطلسيا، حيث تنقل الناس منذ العصور القديمة. في الواقع، أبدأ بتذكير بالاكتشافات الحديثة للبروفيسور بن نصر من المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث (INSAP) والبروفيسور هوبلين من معهد ماكس بلانك في لايبزيغ، اللذين وثقا وجود أقدم إنسان عاقل في المغرب منذ 300,000 عام. هذا الإنسان انتشر في جميع أنحاء العالم وأصبح الإنسان الذي نعرفه اليوم. هذا يوضح أن التواصل كان موجودا منذ الأزل. عملي لا يتبنى دور المؤرخ، بل يسعى إلى تقديم رؤية شاملة للتاريخ، مبرزا كيف كانت الذاكرة انتقائية، حيث احتفظنا ببعض الأحداث ونسينا أخرى. في أوروبا، نتذكر أن أسلافنا هم الغال، لكن لا أحد يذكر أن أسلافنا أفارقة وأن لدينا هوية أساسية كرجل أفريقي متنقل. إعادة وضع هذه العناصر التاريخية في منظورها الصحيح، التي تتبناها الذاكرة أحيانا وترفضها أحيانً أخرى، كان أمرا جوهريا بالنسبة لي. لدينا آثار للنوميديين والممالك الأمازيغية التي كانت جزءا من الجيوش الرومانية لحماية حدود الإمبراطورية الرومانية في مناطق بلجيكا وألمانيا الحالية. كانت التنقلات والاتصالات داخل هذه المساحات قديمة، لكنها لم تكن موضوع بناء ذاكرات. يتعلق الأمر بتوضيح، في 260 صفحة من هذا العمل، أن بلجيكا لديها تاريخ خارج حدودها وكذلك المغرب. يمكننا القيام بنفس التمرين بالنسبة للمغرب وفرنسا، لفرنسا وإسبانيا، لفرنسا والبرتغال، ولعلاقات أخرى. لدينا عدد لا يحصى من التفاعلات التي تم إنشاؤها ويمكننا رسم خريطة لهذه العلاقات. إنها في البداية لقاءات فردية، من علماء وفنانين، ثم لدينا التجار. العلاقات التجارية بين الضفتين هي على الأرجح الأكثر هيكلة تاريخيا، تليها لحظات المواجهة العسكرية. يجب القول إن بلجيكا والمغرب لم يواجهوا بعضهم البعض علنا أبدا، لأن بلجيكا دولة حديثة، ولكنهم كانوا أحيانا حلفاء في مواقف مثل الحملات الصليبية الإسبانية. ثم كانت هناك الهجرات الإنسانية في القرن العشرين. تتناول أيضا مسألة الاستقلالات والفترة ما قبل الاستعمار. هل كانت تلك فترة تحول في العلاقات بين الضفتين، كما تسميها في كتابك، في ضوء احتلال الجزائر من قبل فرنسا؟ أظن أن هذا الكتاب يراهن على المزج بين التاريخ الممتد واللحظات الزمنية القصيرة. يتوقف عند الزمن الطويل، حيث أخصص فصلا أولا مطولا عن عصور ما قبل التاريخ حتى عام 1830، الذي يمثل لحظة مفصلية مع تأسيس بلجيكا. قبل ذلك، كانت هذه المنطقة موجودة بأشكال وهويات متعددة. كنا تحت حكم النمسا، وتحت حكم إسبانيا، وتحت الهيمنة الفرنسية أو البورغندية. نلاحظ أن القرن التاسع عشر سيكون فترة تسارع شديد الأهمية. الدولة المغربية الأقدم، الإمبراطورية الشريفة، كانت مطمعا لأوروبا والتحدي لها هو الحفاظ على سيادتها وحمايتها. احتلال الجزائر من قبل فرنسا يضع المغرب، وكذلك تونس، أمام تحد كبير. فصل مهم في هذا الكتاب يوضح أنه منذ عام 1838، بدأت بلجيكا علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب. سرعان ما ستنشأ مصالح بلجيكية في المغرب، خاصة من قبل ليوبولد الثاني، المعروف على المستوى الدولي بأنه من استعمر الكونغو، أولا بصفته الشخصية، ثم باسم الدولة البلجيكية. أصبح الكونغو البلجيكي ملكه في عام 1885، بعد مؤتمر برلين الذي نظم تقسيم الأراضي الأفريقية. لكن ليوبولد الثاني لم يكن ملكا لبلجيكا بعد، كان دوق برابانت وولي العهد، ولكنه كان بالفعل في المغرب. في عام 1862، قام بزيارته الأولى، قبل 25 عاما من مؤتمر برلين. كان يأتي بشكل منتظم جدا محاولا تطوير مشروع. كانت فكرته هي إنشاء مركز تجاري وتطوير وجود بلجيكي، كما حاول في مصر وفي مناطق أخرى من العالم، لكنه لم ينجح. ومع ذلك، اكتشف البلجيكيون أن ليوبولد الثاني معروف كمستعمر للكونغو، دون أن يضع قدمه هناك. في المقابل، قضى جزءًا كبيرًا من حياته محاولًا الحصول على شيء في المغرب، دون جدوى. من المفيد تذكير الناس بذلك في النقاش العام، لأن الذاكرة محته تماما. هذا التمرين لاستكشاف تاريخ المغرب وبلجيكا يظهر لنا بشكل خاص أن الدبلوماسية البلجيكية كانت منتشرة في المغرب في القرن التاسع عشر، حتى اللحظة التي تحول فيها مصير المملكة الشريفة تدريجيا نحو الحماية الفرنسية والاستعمار الإسباني، مع مؤتمر الجزيرة الخضراء، وأيضا ما يسمى بالاتفاق الودي بين المملكة المتحدة وفرنسا، الذي أعطى الأسبقية للمملكة المتحدة على مصر وللفرنسة على المغرب. لقد مررنا الآن بفترة 1830-1912، معاهدة فاس التي أنشأت الحماية. بلجيكا ستغير موقفها في المغرب، بعد أن اعتمدت، وفقا للظروف، على مساعدة ألمانيا أو المملكة المتحدة أو فرنسا. ما كان دائما قوتها الدبلوماسية الكبيرة، هو أنها لم تكن دولة مهددة للقوى الأوروبية الكبرى، مما مكنها من التعاون مع شركائها المختلفين. استثمر الدبلوماسيون البلجيكيون في طنجة، المنطقة الدولية، الدار البيضاء، الرباط، أكادير... عندما تسيطر فرنسا على المغرب، سيتعاون الصناعيون والدبلوماسيون البلجيكيون مع التنمية التي ينظمها الحماية. لم تعد بلجيكا تبحث عن مشروع مستقل، بل تندمج في الجهود الفرنسية، لا سيما عند اكتشاف مناجم الفحم في جرادة، أو رواسب المعادن في الريف، والشرق، وتويسيت. ستنشط مشاريع أخرى كبيرة في القطاع الزراعي، وصناعة السكر، بواسطة رواد الأعمال البلجيكيين. لكن يجب أن نعلم أنه في ذلك الوقت، كان البلجيكيون والفرنسيون يأملون بشكل خاص في استغلال النفط. اكتشفوا الموارد، الحديد، النحاس، الفحم، لكن أملهم الكبير لم يتحقق. نحاول تسليط الضوء على هذه الفترة بشهادات لا تزال ممكنة من فترة 1912-1956. ثم ننتقل إلى المغرب المستقل. لتناول الاستقلال، تبرز مواضيع التاريخ الأكثر حداثة، بمنظور سياسي. ثم تظهر شخصيات معاصرة من المجتمع المدني، والمؤسسات، والفاعلين الثنائيين في الحياة العامة وأصوات التعبير الثقافي المتنوعة. هل يعكس ذلك التغيير في العلاقات البلجيكية المغربية الذي يميز عن النظرة الاستعمارية لعصر مضى؟ بالتأكيد، السياق، الهجرات المغربية إلى بلجيكا ستفرض تغييرا في المنظور، لا سيما بعد توقيع اتفاقية عام 1964 التي تنظم وصول العمال. عندما نقرأ تاريخ العلاقات البلجيكية المغربية من الوثائق المنتجة في بلجيكا، نجد شيئا من نوع العلاقة المسيطرة-المسيطر عليها، رؤية استعمارية. كتاب إدموند بيكار هو خاص يعبر عن ذلك، حيث يروي مهمة بلجيكية في زيارة لدى السلطان الحسن الأول في مكناس. يعتبر العمل واحدا من الأعمال الرمزية للنظرة الغربية والبلجيكية في ذلك الوقت تجاه المغرب. إنها نظرة مهينة، متعالية. أشير أيضا إلى إدوارد سعيد، لتوضيح الطريقة التي بنى بها الغرب شرقا متخيلا، مع مسافة وشعور بالتفوق. ستعيد العلاقات في القرن العشرين التوازن للأمور ونحن دائما في إعادة توازن مستمر، والتي تظل معركة اليوم لإنتاج نظرة أكثر هدوءا بين الضفتين، وهذا العمل جزء من ذلك. نعود إلى عصرنا المعاصر. تظهر شخصيات جديدة في العلاقات البلجيكية المغربية، تتناول العلاقات الاقتصادية والقفزة الجديدة التي شهدتها بين المغرب وبلجيكا... في الفصل الأخير، نرى بوضوح ديناميكية جديدة، رهانات جديدة، احترافية، تزايد في المهارات من كلا الجانبين، نضج المشاريع، تقنية أكبر، حجم الاستثمارات. هذا التقدم لا يمكن أن يحدث إلا عندما ننظر إلى جميع المعارك التي كان يجب خوضها لفتح الأبواب، كما أوضح في الفصل الرابع. جيل سابق من النقابيين، الأشخاص الذين قاتلوا على الأرض الجمعوية لتطوير حقوق الجنسية، التشريعات المضادة للتمييز، حقوق العمال... كل هذه المجالات سمحت لأجيال جديدة بحمل المشاريع إلى أبعد من ذلك. بالإضافة إلى ذلك، لا يمكننا إلا أن نلاحظ أنه نظرا لحجم الهجرة المغربية إلى بلجيكا، فإن العلاقات الاقتصادية البلجيكية المغربية لا تزال عند مستوى منخفض جدًا مقارنة بما ينبغي أن تكون عليه. ربما هذا ما سيحدث في الفصل السادس، إذا كان يجب أن يكون هناك واحد، بعد 20 عاما.

إعادة التفكير في التاريخ.. وإعادة تأسيس السردية الوطنية
إعادة التفكير في التاريخ.. وإعادة تأسيس السردية الوطنية

بيان اليوم

time١٠-٠٤-٢٠٢٥

  • بيان اليوم

إعادة التفكير في التاريخ.. وإعادة تأسيس السردية الوطنية

لقد قلبت الاكتشافات الأركيولوجية في السنوات الأخيرة – من جبل إيغود إلى واد بهت، ومن كاش كوش إلى مستحاثات الأطلس – السرد التقليدي لتاريخ المغرب. تدعونا هذه الاكتشافات إلى إعادة التفكير في بلدنا، لا كأرض استقبلت متأخرة حضارات وافدة، بل كأحد المواطن الأولى للإنسانية. وهذا الرجوع إلى الأصل ليس حنينًا إلى الماضي، بل هو بداية مشروع استرجاع ثقافي واستشراف حداثي. ينبغي القطع مع الفكرة التي ترى أن المغرب لم يتصل بالحضارة إلا مع قدوم الفينيقيين، وكأن هذا البلد العريق ظل ساكنًا، بلا تاريخ، إلى أن جاءه بحارة أجانب ليخطوه في كتاب الحضارات. وكأن هذه الأرض انتظرت في صمت أن تطرق الحضارة بابها. هذه الصورة التي طالما روجت في المقررات المدرسية والخطابات الرسمية، باتت اليوم مرفوضة من قِبَل علوم الآثار والأنثروبولوجيا والباليوأنثروبولوجيا. وهي مرفوضة أيضًا، في العمق، من قِبَل الذاكرة الكامنة لشعب لم يتوقف قط عن الوجود، والخلق، والتوريث. لقد كشفت اكتشافات جبل إيغود، قرب اليوسفية، عن بقايا إنسان عاقل تعود إلى 320 ألف سنة – وهي الأقدم عالميًا. وهكذا يصبح المغرب من المواطن الأصلية للإنسانية، إلى جانب شرق إفريقيا، فيعاد رسم خريطة التاريخ البشري. ليس على الهامش، بل في المركز. وفي واد بهت، غير بعيد عن الرباط، كشفت آثار مجتمع فلاحي معقد، من أواخر العصر الحجري الحديث، عن تنظيم مستقر وهيكلة واضحة، تمثل منعطفا حاسما في مسار الإنسان. أما في كاش كوش، قرب تطوان، فقد تم إثبات الاستيطان منذ سنة 2200 قبل الميلاد، أي قبل أي وجود فينيقي، وذلك بمساكن منظمة وتبادلات مع ثقافات مجاورة. أما في جبال الأطلس، فإن مستحاثات الديناصورات والآثار الطبيعية تحفر لتربتنا موضعا في الذاكرة الكونية. هذه المعطيات لم تعد مجرد روايات، بل حقائق علمية مثبتة. لا تدخل في باب الدعاية، بل في صلب المعرفة الرصينة. وتستوجب نتيجة واضحة: المغرب بلد ولد مع الإنسانية. لم يكن أرضا تنتظر التمدن، بل موطنا تم فيه تصور الإنسان، وتشكيله، واستقراره. هذا الواقع يدعونا إلى مساءلة السرد الوطني كما شيد عبر الزمن. فقد بني، في كثير من الأحيان، على رؤية مجزأة، تقصي الفترات ما قبل الإسلامية إلى الهامش، وكأنها لا تنتمي إلى العالم نفسه. غير أن هذا الماضي ليس مجرد خلفية أثرية، بل هو نسيج حي، وهوية تأسيسية، ومصدر استمرار. ينبغي هنا استعادة حقيقة تاريخية كثيرا ما تم تمييعها: المغرب لم يكن في الأصل شعبا سامي الثقافة. بل تأسس على قاعدة أمازيغية قديمة، ضاربة الجذور في هذه الأرض. وبعدها، أغنى التفاعل مع الحضارات السامية – وخصوصًا الإسلام واللغة العربية – روحه، دون أن يمحو أساسه. إن الاعتراف بهذه الأسبقية التاريخية لا يعني نفي الإسهام العربي، ولا إنكار الهويات التي يعيشها اليوم جزء كبير من المغاربة. بل هو، بالعكس، إقرار بأن فرادتنا تنبع من قدرتنا على الاستقبال، والامتزاج، وبناء وحدة من التعدد. وهذا الرجوع إلى الأصل لا قيمة له إن لم يكن منصبا على مشروع مستقبلي. ليس القصد منه تقديس الماضي، ولا الاحتماء بنقاء مزعوم. بل هو إعادة بناء سيادة ثقافية قائمة على معرفة الذات. سيادة متجذرة، لا إقصائية، بل مستقلة. سيادة مطمئنة، متجذرة، قادرة على استشراف الآتي. تلك السيادة لا تبنى إلا من خلال إعادة الاعتبار للتنوع كمرتكز للوحدة. ففي مغرب التعدد، فإن التنوع اللغوي والثقافي والجهوي ليس مشكلةً يراد حلها، بل كنز يجب تنظيمه. فالوحدة الوطنية لا تقوم على التنميط، بل على الاعتراف المتبادل. ولن نستطيع بناء عيشٍ مشتركٍ صلبٍ ومشروعٍ ودائم، إلا إذا اعترفنا فعليًا بجميع مكونات تاريخنا. ومن هذا المنطلق، ينبغي إعادة كتابة مقرراتنا الدراسية. ليس ذلك مجرد فعل رمزي، بل هو ضرورة استراتيجية ملحة. ما دام أبناؤنا يتعلمون أن تاريخهم يبدأ مع 'الآخر'، فسيبقون أسرى تبعية رمزية. نحن بحاجة إلى بيداغوجيا تاريخية تعيد للمغرب عمقه، وتعقيده، وفرادته. بيداغوجيا تعلم أن هذا البلد ساهم، منذ بداياته، في صناعة التاريخ الإنساني، ولم يتوقف قط عن رسم مصيره بنفسه. ويجب أن ينعكس هذا العمل الاسترجاعي على علاقتنا بالحداثة. لمغرب يستطيع، ويجب عليه، أن يصير دولة حديثة، عادلة وفعالة، لكن هذه الحداثة لا ينبغي أن تكون نسخا. بل يجب أن تكون أمينة لذاكرتنا الجماعية، لجغرافيتنا البشرية، لثقافتنا السياسية. لا يتعلق الأمر بإحياء تقليد جامد، بل بإبداع حداثة صادقة مع ذاتها. نحن لا نحتاج إلى قومية ضيقة، بل إلى وطنية واعية، متجذرة، معتزة. إلى سيادة ثقافية تمكن المغرب من أن يكون سيد سرده، وسيد تنميته، وسيد مستقبله. في زمن تعيد فيه القوى الكبرى تأكيد هوياتها، وتتفتت السرديات، ينبغي لنا أن نقترح سردية مغربية عميقة، منفتحة، منتظمة، تربط الماضي بالحاضر، وتمنح المستقبل عمودا فقريا. نعم، المغرب لا يبدأ مع الفينيقيين. إنه يبدأ مع الإنسانية. والمطلوب منا أن نجعل من هذه الحقيقة قوة نبنى بها.

حفريات تكشف عن أقدم استقرار بشري بشمال المغرب.. 'مستوطنة برونزية' تُوثق حياة متكاملة قبل 4000 عام
حفريات تكشف عن أقدم استقرار بشري بشمال المغرب.. 'مستوطنة برونزية' تُوثق حياة متكاملة قبل 4000 عام

لكم

time٠٧-٠٤-٢٠٢٥

  • لكم

حفريات تكشف عن أقدم استقرار بشري بشمال المغرب.. 'مستوطنة برونزية' تُوثق حياة متكاملة قبل 4000 عام

اكتُشفت مؤخرا مستوطنة تعود إلى العصر البرونزي عمرها نحو 4000 عام في شمال المغرب بنواحي تطوان، وتحديدا في منطقة 'كاش كوش' القريبة من نهر 'واد لاو' وهضبة 'كاش كوش'، ما يمثل نقطة تحول جوهرية في فهم تاريخ المغرب الكبير (المَغرِب) وعلاقاته مع الحضارات المحيطة في حوض البحر الأبيض المتوسط. ويقلب هذا الاكتشاف الجديد النظرة السائدة منذ عقود، والتي كانت تفترض أن المنطقة ظلت شبه خالية من التجمعات البشرية المنظمة قبل وصول الفينيقيين من المشرق حوالي 800 سنة قبل الميلاد. وفقا لما نشره الباحث حمزة بنعطية، أستاذ ما قبل التاريخ في جامعة برشلونة، في مقال له على منصة 'ذا كونفيرسايشن' ، فإن هذا الاكتشاف جاء نتيجة لحفريات جديدة قادها فريق من الباحثين الشباب المغاربة تابعين للمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث. ويُعد موقع 'كاش كوش' الآن أقدم مستوطنة معروفة من العصر البرونزي في المغرب الكبير، تعود جذورها إلى نحو 2200 سنة قبل الميلاد، ما يجعلها معاصرة لحضارات البحر الأبيض المتوسط الشرقية مثل الميسينيين Mycenaean. رغم أن الموقع كان قد تم التعرف عليه لأول مرة عام 1988 وأجريت به حفريات أولية عام 1992، إلا أن التقديرات الأولية اعتمدت على وجود فخار فينيقي، ما جعل الباحثين حينها يظنون أن الاستيطان لم يبدأ إلا بين القرنين الثامن والسادس قبل الميلاد. غير أن الحفريات الأخيرة، والتي أجريت خلال موسمي 2021 و2022، مستعينة بتقنيات متطورة مثل الطائرات المسيّرة ونظام التموضع العالمي التفاضلي (Differential GPS)، والنماذج ثلاثية الأبعاد، كشفت عن حقائق جديدة كليا. حيث تم اتباع بروتوكول دقيق لجمع العينات، مما مكن الباحثين من استخراج بقايا نباتية متحجرة، وفحم نباتي، واستخدام تقنيات التأريخ بالكربون المشع لتحديد أزمنة التواجد البشري بدقة. وتشير النتائج إلى أن الموقع عرف ثلاث فترات سكنية رئيسية، أولاها تمتد من حوالي 2200 إلى 2000 قبل الميلاد، لكنها كانت قصيرة ومحدودة، إذ لم يُعثر إلا على ثلاث شظايا فخارية غير مزخرفة، ورقاقة صوان، وعظمة بقرة. السبب في ندرة اللقى قد يعود لعوامل التعرية الطبيعية أو إلى طبيعة الاستيطان المؤقت. ثم جاءت المرحلة الأهم والتي بدأت حوالي 1300 قبل الميلاد، حيث استقر السكان بشكل دائم. وكان عددهم لا يتجاوز المئة نسمة، وقد بنوا مساكن دائرية من الخشب والقصب والطين، ونقبوا صوامع في الصخور لتخزين محاصيلهم الزراعية. أظهرت تحليلات العينات أن السكان زرعوا القمح والشعير والبقوليات، وربّوا الماشية من أبقار وأغنام وماعز وخنازير. كما استخدموا أدوات حجرية لطحن الحبوب، وقطع صوانية، وفخار مزخرف يدويا. وفي مفاجأة أثارت اهتمام الأوساط الأكاديمية، وُثّق أقدم قطعة معدنية برونزية معروفة في شمال أفريقيا (باستثناء مصر)، وهي قطعة قد تكون ناتجة عن إزالة فائض المعدن بعد عملية صبّ في قالب. ما بين القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد، وبالتزامن مع فترة بداية الاستقرار الفينيقي في مواقع قريبة مثل 'ليكسوس'، استمرت الحياة في 'كاش كوش' بنفس النمط السابق، مع دخول عناصر ثقافية جديدة نتيجة التواصل مع الفينيقيين. فقد بدأ بناء منازل مربعة الشكل بجانب المساكن الدائرية التقليدية، باستخدام مزيج من الحجر والطين والخشب، كما ظهرت محاصيل جديدة مثل العنب والزيتون، واُستخدمت أدوات حديدية. كما عُثر على فخار عجيني مصنوع بالعجلة، مثل الأمفورات (Amphorae) والأطباق، وهي كلها من الطراز الفينيقي. وتم التخلي عن الموقع تدريجيا بحلول سنة 600 قبل الميلاد دون دلائل على حدوث عنف، ما يشير إلى انتقال سلمي للسكان نحو مستوطنات مجاورة، ربما نتيجة تحولات اجتماعية واقتصادية. ولا تزال هوية هؤلاء السكان غامضة من حيث التنظيم السياسي أو القبلي، إذ لا توجد مؤشرات واضحة على وجود هرم اجتماعي صارم. لكن يُعتقد أنهم كانوا يعيشون ضمن وحدات عائلية، وربما تحدثوا لغة قريبة من الأمازيغية الحالية، والتي لم تُكتب إلا بعد إدخال الأبجدية الفينيقية. ويقترح الباحثون أن سكان 'كاش كوش' هم على الأرجح أسلاف الموريتانيين الأوائل الذين سكنوا شمال غرب أفريقيا في العصور اللاحقة. وتكمن أهمية هذا الاكتشاف في كونه يعيد موضعة شمال أفريقيا داخل خارطة التاريخ المتوسطي القديم. فالاكتشاف يدحض الروايات التقليدية، والتي غالبا ما تأثرت بالمنظور الاستعماري، والتي كانت تُصوّر المغرب الكبير كأرض 'فارغة' أو 'بدائية' إلى أن جاءت 'الحضارة' من الخارج. وتشير أدلة 'كاش كوش' إلى وجود تواصل قديم بين المنطقة ومحيطها المتوسطي والأطلسي، وحتى مع المناطق الصحراوية جنوبا. يرى بنعطية أن هذا الحدث يمثل لحظة فاصلة في البحث الأثري، وفرصة لإعادة كتابة تاريخ شمال أفريقيا، ومنح المنطقة المكانة التاريخية التي لطالما استحقّتها. يدعو هذا الاكتشاف إلى مراجعة شاملة للفرضيات القديمة، وفتح المجال لأبحاث أعمق حول العلاقات الثقافية والتجارية بين ضفتي البحر المتوسط خلال عصور ما قبل التاريخ. بحسب ما جاء في المقال المنشور عبر 'ذا كونفيرسايشن'، فإن هذه النتائج تأتي لتكمل سلسلة من الاكتشافات الحديثة التي أظهرت أن شمال غرب أفريقيا لم يكن معزولا كما افترضت السرديات السابقة، بل كان فاعلا ومشاركا في شبكات التبادل والثقافة منذ آلاف السنين.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store