logo
لغز كليوباترا... الجمال والسياسة والأسطورة

لغز كليوباترا... الجمال والسياسة والأسطورة

العربي الجديدمنذ 7 أيام
لا تزال كليوباترا، آخر ملكات الأسرة البطلمية، شخصية تتقاطع عندها الخرافة بالتاريخ، والجمال بالقوة السياسية. وفي معرض لغز كليوباترا الذي يحتضنه معهد العالم العربي في باريس، تُقدَّم
الملكة المصرية
في سردية جديدة تجمع بين الدقة الأثرية وحس الحكاية، لتفكك الصورة النمطية التي كرستها الكتابات الرومانية القديمة والسينما الهوليوودية على حد سواء. المعرض، الذي يتواصل حتى 11 يناير/كانون الثاني 2026، يدعو الزائر إلى رحلة بصرية وذهنية تُبرز كيف تحولت سيرة الملكة من أسطورة إلى أيقونة نسوية وثقافية عابرة للحدود.
يقسم القيمون العرض إلى أربعة محاور كبرى، تبدأ بتسليط الضوء على الاكتشافات الأثرية المتعلقة بالحقبة البطلمية، من عملات ذهبية تحمل ملامح كليوباترا، وبرديات موقعة بخط يدها كما يُعتقد، وغير ذلك من لقى تكشف سياسات الإصلاح التي تبنتها لتحيي اقتصاد مصر وتثبت شرعيتها في مدينة الإسكندرية، أضخم حواضر العالم الهلنستي آنذاك. هذا الاستهلال العلمي يهدف إلى تثبيت وجه تاريخي صلب قبل الانزلاق الاختياري إلى عالم الأسطورة.
ينتقل الزائر بعد ذلك إلى محور الأسطورة، إذ تُستعرض تفاصيل الدعاية الرومانية ضد الملكة، فكُتاب روما، بطلب من أوكتافيوس، صاغوا صورة المرأة الطاغية والمُفسِدة، لتبرير ضم مصر إلى الإمبراطورية. يجمع "لغز كيلوبترا" لوحات تعود إلى عصر النهضة ترسم ملامح الشر الأنثوي كما صوّرته الكتابات الرومانية القديمة. بينما يكمل القسم الثالث، وهو بعنوان "الميثولوجيا" مسار التحولات البصرية عبر القرون وصولاً إلى السينما. يتتبع العرض صورة كليوباترا في السينما الهوليوودية، من فيلم كليوباترا (1917) لنجمة السينما الصامتة ثيدا بارا، إلى إليزابيث تايلور في فيلمها الشهير الذي أنتج عام 1963، الذي كان له دور رئيسي في جعل كليوباترا أيقونة ثقافية عالمية. يرسم لنا المحور الرابع للمعرض هذا الجانب الأيقوني لتلك الشخصية التاريخية؛ فيتتبع إعادة توظيف شخصية الملكة المصرية في خطابات التحرر القومي والنسوي. هنا، نجد ملصقات سياسية من مصر القرن الماضي تُمجدها رمزاً لمقاومة الاستعمار، إلى جانب أعمال لفنانات معاصرات من أوروبا يوظفن وجه كليوباترا لتفكيك الصور النمطية حول الهوية والجندر.
يضم المعرض أكثر من 250 قطعة جاءت من متاحف شهيرة، بينها تماثيل رخامية من اللوفر، ومخطوطات نادرة من المكتبة الوطنية الفرنسية، ولوحات استشراقية من مجموعات سويسرية وأميركية. هذا التنوع يتيح قراءة شاملة لكيفية تلقي الغرب لكليوباترا، ليس فقط بوصفها رمزاً شرقياً مثيراً، بل أيقونة ثقافية وسياسية.
سينما ودراما
التحديثات الحية
سلسلة "الملكة كليوباترا" على "نتفليكس"... هشاشة الجدل
على هامش المعرض، تُنظم أربع ندوات عامة تجمع مؤرخين وأثريين وفنانين وكُتاباً، ما يُعزز مهمة التظاهرة في نقل صورة كليوباترا من حيز الفرجة إلى فضاء النقاش النقدي. الباحث الفرنسي جورج شفونتسل، أحد القيّمين المشاركين في المعرض، يؤكد أن الهدف الرئيسي من هذه النقاشات هو كسر الصورة النمطية حول كليوباترا بوصفها امرأة لا تتقن شيئاً سوى الغواية. فالمصادر الأثرية، مهما كانت شحيحة، تبين أن كليوباترا كانت إصلاحية، ومدافعة شرسة عن سيادة مصر حتى لحظة انتحارها عقب هزيمة أكتيوم سنة 31 ق.م، ما يتناقض مع سردية الجمال المدمر التي كرست لها المرويات الرومانية والسينما الهوليوودية.
لا يقتصر اهتمام معهد العالم العربي في معرض "لغز كليوباترا" على استحضار لحظة تاريخية بارزة، بل يتجاوز ذلك نحو مساءلة أعمق لتاريخ التمثيل الثقافي. فالتساؤل عن الكيفية التي شُوّهت بها صورة ملكة مصرية في السرديات الغربية يلتقي مع نقاشات معاصرة حول تمثيل المرأة والشرق في الثقافة الشعبية.
يشير التعاون مع متاحف مصرية في إعارة قطع أثرية إلى رغبة واضحة في بناء سردية مشتركة، تُعيد كليوباترا إلى سياقها التاريخي والجغرافي، ليس كونها رمزاً غريباً مفصولاً عن جذوره، بل جزءا من البنية الثقافية للشرق. بذلك، يتحول المعرض إلى مساحة نقدية تطرح أسئلة تتجاوز الماضي، حول حدود العلاقة بين التأريخ والتخييل، وكيف تُستثمر الشخصيات التاريخية في الخطابات السياسية والتجارية؟ وكيف يمكن للمؤسسات المتحفية أن توازن بين سحر الأسطورة وصرامة الوقائع؟
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

لغز كليوباترا... الجمال والسياسة والأسطورة
لغز كليوباترا... الجمال والسياسة والأسطورة

العربي الجديد

timeمنذ 7 أيام

  • العربي الجديد

لغز كليوباترا... الجمال والسياسة والأسطورة

لا تزال كليوباترا، آخر ملكات الأسرة البطلمية، شخصية تتقاطع عندها الخرافة بالتاريخ، والجمال بالقوة السياسية. وفي معرض لغز كليوباترا الذي يحتضنه معهد العالم العربي في باريس، تُقدَّم الملكة المصرية في سردية جديدة تجمع بين الدقة الأثرية وحس الحكاية، لتفكك الصورة النمطية التي كرستها الكتابات الرومانية القديمة والسينما الهوليوودية على حد سواء. المعرض، الذي يتواصل حتى 11 يناير/كانون الثاني 2026، يدعو الزائر إلى رحلة بصرية وذهنية تُبرز كيف تحولت سيرة الملكة من أسطورة إلى أيقونة نسوية وثقافية عابرة للحدود. يقسم القيمون العرض إلى أربعة محاور كبرى، تبدأ بتسليط الضوء على الاكتشافات الأثرية المتعلقة بالحقبة البطلمية، من عملات ذهبية تحمل ملامح كليوباترا، وبرديات موقعة بخط يدها كما يُعتقد، وغير ذلك من لقى تكشف سياسات الإصلاح التي تبنتها لتحيي اقتصاد مصر وتثبت شرعيتها في مدينة الإسكندرية، أضخم حواضر العالم الهلنستي آنذاك. هذا الاستهلال العلمي يهدف إلى تثبيت وجه تاريخي صلب قبل الانزلاق الاختياري إلى عالم الأسطورة. ينتقل الزائر بعد ذلك إلى محور الأسطورة، إذ تُستعرض تفاصيل الدعاية الرومانية ضد الملكة، فكُتاب روما، بطلب من أوكتافيوس، صاغوا صورة المرأة الطاغية والمُفسِدة، لتبرير ضم مصر إلى الإمبراطورية. يجمع "لغز كيلوبترا" لوحات تعود إلى عصر النهضة ترسم ملامح الشر الأنثوي كما صوّرته الكتابات الرومانية القديمة. بينما يكمل القسم الثالث، وهو بعنوان "الميثولوجيا" مسار التحولات البصرية عبر القرون وصولاً إلى السينما. يتتبع العرض صورة كليوباترا في السينما الهوليوودية، من فيلم كليوباترا (1917) لنجمة السينما الصامتة ثيدا بارا، إلى إليزابيث تايلور في فيلمها الشهير الذي أنتج عام 1963، الذي كان له دور رئيسي في جعل كليوباترا أيقونة ثقافية عالمية. يرسم لنا المحور الرابع للمعرض هذا الجانب الأيقوني لتلك الشخصية التاريخية؛ فيتتبع إعادة توظيف شخصية الملكة المصرية في خطابات التحرر القومي والنسوي. هنا، نجد ملصقات سياسية من مصر القرن الماضي تُمجدها رمزاً لمقاومة الاستعمار، إلى جانب أعمال لفنانات معاصرات من أوروبا يوظفن وجه كليوباترا لتفكيك الصور النمطية حول الهوية والجندر. يضم المعرض أكثر من 250 قطعة جاءت من متاحف شهيرة، بينها تماثيل رخامية من اللوفر، ومخطوطات نادرة من المكتبة الوطنية الفرنسية، ولوحات استشراقية من مجموعات سويسرية وأميركية. هذا التنوع يتيح قراءة شاملة لكيفية تلقي الغرب لكليوباترا، ليس فقط بوصفها رمزاً شرقياً مثيراً، بل أيقونة ثقافية وسياسية. سينما ودراما التحديثات الحية سلسلة "الملكة كليوباترا" على "نتفليكس"... هشاشة الجدل على هامش المعرض، تُنظم أربع ندوات عامة تجمع مؤرخين وأثريين وفنانين وكُتاباً، ما يُعزز مهمة التظاهرة في نقل صورة كليوباترا من حيز الفرجة إلى فضاء النقاش النقدي. الباحث الفرنسي جورج شفونتسل، أحد القيّمين المشاركين في المعرض، يؤكد أن الهدف الرئيسي من هذه النقاشات هو كسر الصورة النمطية حول كليوباترا بوصفها امرأة لا تتقن شيئاً سوى الغواية. فالمصادر الأثرية، مهما كانت شحيحة، تبين أن كليوباترا كانت إصلاحية، ومدافعة شرسة عن سيادة مصر حتى لحظة انتحارها عقب هزيمة أكتيوم سنة 31 ق.م، ما يتناقض مع سردية الجمال المدمر التي كرست لها المرويات الرومانية والسينما الهوليوودية. لا يقتصر اهتمام معهد العالم العربي في معرض "لغز كليوباترا" على استحضار لحظة تاريخية بارزة، بل يتجاوز ذلك نحو مساءلة أعمق لتاريخ التمثيل الثقافي. فالتساؤل عن الكيفية التي شُوّهت بها صورة ملكة مصرية في السرديات الغربية يلتقي مع نقاشات معاصرة حول تمثيل المرأة والشرق في الثقافة الشعبية. يشير التعاون مع متاحف مصرية في إعارة قطع أثرية إلى رغبة واضحة في بناء سردية مشتركة، تُعيد كليوباترا إلى سياقها التاريخي والجغرافي، ليس كونها رمزاً غريباً مفصولاً عن جذوره، بل جزءا من البنية الثقافية للشرق. بذلك، يتحول المعرض إلى مساحة نقدية تطرح أسئلة تتجاوز الماضي، حول حدود العلاقة بين التأريخ والتخييل، وكيف تُستثمر الشخصيات التاريخية في الخطابات السياسية والتجارية؟ وكيف يمكن للمؤسسات المتحفية أن توازن بين سحر الأسطورة وصرامة الوقائع؟

قوائم صيفية للجوائز الفرنسية.. روايات عن العنف والذاكرة
قوائم صيفية للجوائز الفرنسية.. روايات عن العنف والذاكرة

العربي الجديد

time٢٩-٠٧-٢٠٢٥

  • العربي الجديد

قوائم صيفية للجوائز الفرنسية.. روايات عن العنف والذاكرة

من بين عشرة أعمال روائية ناطقة بالفرنسية أُعلن مؤخراً عن ترشحها لجائزة "لوموند" الأدبية لعام 2025، تستحوذ الكاتبات موقع الصدارة ، إذ تشكل أعمالهنّ سبعة من بين هذه الأعمال العشرة. الجائزة، التي أطلقتها صحيفة Le Monde عام 2013، تُمنح سنوياً لأبرز الإصدارات الروائية قبيل موسم "الدخول الأدبي" في الخريف، ومن المقرر أن يتم الإعلان عن الفائز في الثالث من سبتمبر/ أيلول المقبل، تحت إشراف المدير العام للصحيفة جيروم فينوغليو ولجنة حكم مكوّنة من 13 صحافياً من مختلف الأقسام. تتنوّع الروايات المرشّحة هذا العام بين قضايا العنف الأُسَري، والذاكرة، والهوية، إضافة إلى التأمّلات النفسية والاجتماعية المعاصرة. ففي رواية "ليلة في القلب" لناتاشا أبّانا، تُروى قصص ثلاث نساء كنّ ضحايا عنف أزواجهنّ. أما في "غرباء يَصلُحون للتحدّث معهم" لكاميل بورداس، فتُستخدم الكوميديا أداةَ نقد، من خلال قصة طلاب في ورشة "ستاند أب" يواجهون تحديات التعبير والكتابة الذاتية. وتتناول رواية "بارانويا" لليز شارل عالَم التحليل النفسي ضمن أجواء مشوّشة ومضطربة، تتقاطع فيها هواجس طالبة مُراهِقة مع واقعها. توالي الإعلان عن قوائم جوائز روائية خلال الأسبوع الماضي وتقدّم كاترين جيرار في "في العنف تكمن الحقيقة" تحقيقاً أدبياً في جذور العنف العائلي المتوارث. بينما تسبر جوستين ليفي في "حزن غريب" العلاقة المعقدة بين الأم والابنة، وتأثير الطفولة المعطوبة على تشكيل هوية المرأة، وتضم القائمة أيضاً روايات: "البلد الذي مشيتَ على أرضه" لدانيال بوريون، و"الجميل الغامض" لكارولين لامارش، و"المنزل الفارغ" للوران موفينييه، و"سيمون إيمونيه" لكاترين ميليه، و"القوى" للورا فاسكيز. تم الإعلان عن جائزة "لوموند"، مع اقتراب موسم "الدخول الأدبي" في الخريف، بوصفه تقليداً سنوياً ينعش سوق الرواية الفرنسية في فترة أواخر الصيف. لكن هذا الحضور الأدبي لا يقتصر على هذه الجائزة فقط، فقد أُعلن مؤخراً أيضاً عن القائمة القصيرة لجائزة "ميزون روج"، والتي ستُمنح في 27 سبتمبر/ أيلول المقبل بإشراف الكاتب وعالم اللسانيات هيرفي لو تيلييه. وتتميز هذه الجائزة، التي تأسست عام 2019، برفضها للتصنيفات الأدبية وجداول النشر التقليدية بما في ذلك موسم "الدخول الأدبي". في نسخة العام الجاري، تضم القائمة المختصرة 11 رواية مختلفة المواضيع والأساليب، من بينها: "6 شارع جورج الخامس" لتوماس ب. ريفيردي، و"رغبة" لأنطوان هاردي، بالإضافة إلى روايات أخرى مثل "تاجرة المنسيين" لبيير غوردي و"الارتجاف" لماريا بورشيه. في موازاة هذا الحراك الصيفي، ثمة جوائز معنية بالأدب العربي داخل المشهد الثقافي الفرنكوفوني، حيث أُعلنت مند أيام القائمة القصيرة لجائزة لاغاردير للأدب العربي، التي تنظمها مؤسسة جان‑لوك لاغاردير بالشراكة مع معهد العالم العربي في باريس. تضيء الجائزة روايات عربية معاصرة مترجمة أو مكتوبة بالفرنسية. تضمّ القائمة ثماني روايات لكتّاب من مختلف أنحاء العالم العربي، خمس منها مترجمة، هي: "حكاية جدار" للفلسطيني ناصر أبو سرور، و"عراك في جهنم" لليبي محمد النعّاس، و"تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة" للمصري شادي لويس ، و"نهاية الصحراء" للجزائري سعيد خطيبي، و"عين الطاووس" للبنانية حنان الشيخ. أما الأعمال المكتوبة بالفرنسية، فتشمل: "بلد مرير" للبنانية جورجيا مخلوف، و"سأنظر في عيني" للمغربية ريم بطّال، و"التجنيس" للتونسي زيد بكير. وسيُعلن عن الفائز في 18 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل في معهد العالم العربي بباريس، ضمن احتفال رسمي. آداب التحديثات الحية الأدب الفلسطيني باللغة الهولندية.. ثلاث موجات للترجمة من العربية

أزمتي مع كليوبترا
أزمتي مع كليوبترا

العربي الجديد

time٢٦-٠٧-٢٠٢٥

  • العربي الجديد

أزمتي مع كليوبترا

ورثت شغف القراءة عن والدي رحمه الله. وأذكر جيّداً، أنّه لكي يحفّزني على القراءة، ذكر لي قصّته مع كتاب "كليوباترا". فما قصّة هذا الكتاب؟ وما علاقته بشغف القراءة؟ بُعيد وصول عائلة والدي من فلسطين إثر النكبة عام 1948، إلى بيروت، اضطرت العائلة أن يعمل أبناؤها، الفتيات والفتيان. وكان من نصيب والدي أن يمتهن النجارة، ويبدو أنّها توجيهات جدي، الذي كان وأشقاؤه من أشهر النجارين في عكا، ولاحقاً حيفا. التحق والدي بالمدرسة في بيروت، لكنّه ترك الدراسة في وقت مبكِّر، وعمل فتى في ورش النجارة، ليُعيل العائلة. حلَّ العيد ولم يكن في جيب والدي المال الكافي ليخرج مع أصدقائه، وهذا طبيعي لأنه يعيل العائلة، فاقتنى بما يملك من مال قليل، كتاباً ضخماً يحكي قصّة "كليوبترا". فهل اشترى والدي الكتاب لأنه رخيصٌ فحسب، أم ليستوعب الأيّام الثلاثة من العيد، أم أغرته كليوبترا الجميلة؟ وهل كانت صورتها على غلاف الكتاب؟ ربما أحجم والدي عن ذكر هذا السبب، لأنني سأخبر والدتي؟ سيبقى السبب لغزاً، ويا ليتني سألت. حبس والدي نفسه ثلاثة أيّام متواصلة، مع "كليوباترا"، يقرأ الكتاب ليل نهار، حتى انتهت أيّام العيد الثلاثة. أما عن الحجّة التي أخبرها لأصدقائه عن سبب غيابه في العيد، فستبقى سرّاً مخبوءاً لأنني لم أسأل أيضاً. أخبرني والدي هذه القصّة، وكنت فتى في ذلك الوقت. تساءلت في نفسي: ما هو المحفّز في هذه القصّة؛ أن يحبس فتى نفسه في أيام العيد في المنزل مع كتاب، فيما أصدقاؤه، يمرحون ويسرحون! كيف استطاع أن يجد في الكتاب السلوى، بعيداً عن أصدقائه؟ لماذا لم يحزن وتُصبْهُ كآبة ما؟ كان والدي عاملاً في النهار، ومثقّفاً في الليل ربما حزنوا (والدي وأقاربه) بما فيه الكفاية بعد ضياع عكا، والمنزل، وورشة جدي للنجارة، فما عاد للأحزان الأخرى مكان. بل هي أيضاً الظروف القاهرة التي تفرض نفسها على كلّ البشر، لكنني عرفت ما يقصد والدي بعد سنوات طويلة، عن قيمة الكتب. استمر والدي باقتناء الكتب، وهو يمتهن النجارة، وطرق أبواباً كثيرة من أبواب الثقافة، من الأدب النثري، إلى الشعر، وقرأ كتب التاريخ، والسياسة. وكانت مجالسه مزيجاً من هؤلاء جميعاً، فهو عامل في النهار، ومثقّف في الليل. وأذكر في إحدى المرّات أنّ طالبة جامعية في القرية التي كنّا نسكن فيها، استعارت من مكتبة والدي كتاب "الأجنحة المتكسرة" لجبران خليل جبران. تعلَّق بمجلة "المختار"، صغيرة الحجم، ومجلة "العربي" الكويتية، التي لم يخلُ منزلنا من أعدادها الكثيرة، وكان يقرأ في الليل، على ضوء المصباح الغازي، عندما كنا نسكن في مدينة بعلبك، في ثمانينيات القرن الماضي، بسبب الانقطاع شبه الدائم للكهرباء، وكما كان يقتني الكتب، كانت الكتب تجده في الطرقات، وهي متناثرة بعد أن رماها أصحابها، فيعود بتلك الكنوز إلى البيت. تنقلنا بين منازل عدّة، ودائماً كانت مكتبة والدي تُرافقنا أينما حللنا. وانتقلت تلك العادة إلى مكتبتي الصغيرة، التي كوَّنها والدي لي عبر شرائه الكتب، باللغة العربية والإنكليزية. وبعد مرور سنوات طويلة من القراءة، غادرها، لكنه كان يكتب أبياتاً من الشعر بين الفينة والأخرى. لكن يبدو أنّ كليوبترا، لم تكتف من والدي، بل انتقلت عدوى القراءة إليّ بالوراثة، وتحولت لاحقاً إلى شغف وسلوى، خصوصاً بعد أن هاجر الكثير من أصدقائي اللاجئين الفلسطينيين إلى خارج لبنان، وتعزّزت أكثر بعد عملي في الإعلام والصحافة. أين تكمن أزمتي مع كليوبترا؟ أورثني والدي حبّ القراءة، لكنه لم يورثني منزلاً، وأصبح تنقلي بين بيوت الإيجار كلّ سنوات عدّة، هماً مؤرِّقاً لنقل مكتبتي، فما عدت أهتم لنقل الأثاث كما أهتم بنقل المكتبة. وكان من المفترض، بي وبأمثالي، أن نلجأ إلى القراءة عبر الألواح الإلكترونية، أو عبر تطبيقات القراءة، إلّا أنّ هذا لم يحصل، فما زلت كعهد والدي مع الكتاب الورقي، ويبدو أنّ كليوبترا تأبى ذلك. لو قرّر والدي أن يفعل شيئاً غير الانفراد بكليوبترا، ألم أكن مرتاحاً الآن من الكتب وهموم نقلها؟ تنقلت في منازل عدّة، وكانت المكتبة رفيقة الدرب. وعندما تزوجت وانتقلت إلى مخيّم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين، كان لديّ هم كبير، يتمثّل بكيفيّة نقل مكتبتي من منزل أهلي إلى المخيّم، حيث لا يمكن لشاحنة أن تدخل أزقته. وما زاد الطين بلّة، أنّ أونروا كانت تحفر الطرق بجانب المنزل، لتغيير البنية التحتية. وبالتالي، كان مرور شخص على رجليه فيه صعوبة، فكيف بنقل مكتبة؟ لكن ما باليد حيلة، اضطررت للتخلّص من بعض الكتب الموسوعية التي يمكن الاستعاضة عنها بالمواقع الإلكترونية، ونقلنا المكتبة بأعجوبة. بعد سنوات لاحقة، ازداد حجم المكتبة، وما زالت المشكلة كما هي؛ كلّ سنوات عدّة أغادر منزلاً إلى آخر، وتلحقني مكتبتي. وحتى عندما غادرت منزلي مؤقّتاً في الضاحية الجنوبية لبيروت بعد العدوان على لبنان، إلى منطقة أخرى، كنا نجهّز أمتعتنا للمغادرة، رافقتني مجموعة لا بأس بها من الكتب، لكن المكتبة الأساسية بقيت في المنزل، ولم أعد أفكر طوال الحرب إلّا بها، واضطررت للنزول إلى الضاحية من جديد أثناء الحرب للحصول على المزيد من الكتب. أستعدّ هذه الأيام لمغادرة المنزل، فما عادت الإيجارات في بيروت تتناسب ودخلي المالي، بسبب ارتفاعها بعد الحرب، وعاد الهمُّ من جديد لتوضيب الكتب، فضلاً عن تذمّر عائلتي وشكواهم من تلك "البلية". عندما سُئل الكاتب الكبير عباس محمود العقّاد، لماذا لم تغادر منزلك، كان يقول: كيف سأنقل المكتبة، الآن أستطيع أن أصل إلى أي كتاب أقرؤه، وكيف سأنقل منزلي؟ من سيرتب المكتبة غيري؟ يا ترى، لو قرّر والدي أن يفعل شيئاً غير الانفراد بكليوبترا، ألم أكن مرتاحاً الآن؟

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store