logo
عبد الناصر والثورة المستمرة: هل تموت "العروبة" بموت الزعماء؟

عبد الناصر والثورة المستمرة: هل تموت "العروبة" بموت الزعماء؟

جو 24٣٠-٠٤-٢٠٢٥

أحمد عبدالباسط الرجوب
جو 24 :
بعد تأكيد أسرة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر صحة التسجيل الصوتي الذي جمعه بالعقيد معمر القذافي، والذي نُشر عبر قناتهم الرسمية، عاد سؤال قديم إلى الواجهة:
هل انتهى المشروع القومي لعبد الناصر بوفاته، أم أن "العروبة" كفكرة نضالية تجاوزت الرجل لتتحول إلى رمزٍ يتجدد مع كل تحدٍّ؟
لكن السؤال الأهم يظل: لماذا يُعاد استدعاء هذا التسجيل اليوم تحديدًا؟ ولمصلحة من يُستخدم لتقويض شرعية النضال العربي ضد التطبيع والاحتلال؟
الاستماع إلى ما وراء الصوت
استمعت إلى التسجيل الذي يدور بين عبد الناصر والقذافي، وفي قراءة متأنية لما دار بين الرجلين، تكشفت لي جوانب عميقة تعيد رسم مشهد تلك المرحلة. التسجيل لم يكن محض وثيقة صوتية، بل نافذة على عقلية زعيم أدرك عمق الأزمة، وتعامل معها بمنطق الممكن لا المثالي.
أعادني ذلك الحوار إلى ملامح الحقبة الناصرية التي تقاطعت مع ثلاث مراحل محورية:
1. عبد الناصر ما قبل العدوان الثلاثي (1954 -1956).
2. عبد الناصر قائد الصمود (1956 – 1967).
3. عبد الناصر في مواجهة ما بعد النكسة (1967 – 1970) .
وبرغم أنني لست من معاصريه سياسيًا، ولا أنتمي تنظيميًا إلى "الناصرية"، فإنني عروبي بالفطرة، وانتمائي غير القابل للمساومة هو للقضية المركزية: فلسطين، الجرح العربي النازف.وفي شغفي لفهم الحقيقة، وجدت في هذا التسجيل مدخلًا إلى تفكيك الخطاب، لا لمحاكمة عبد الناصر، بل لفهمه ... نشرح اكثر ونقول:
المنهج العلمي في تقييم التسجيل: السياق فوق النص
القاعدة الذهبية لفهم تصريحات الزعماء في لحظات الحرب هي تفكيك "معادلة الدم والحديد" التي تحكم قراراتهم. التسجيل يعود لمرحلةٍ هي الأكثر تعقيدًا في تاريخ الصراع العربي-الصهيوني:
1. السياق العسكري: مصر تحتضر بعد نكسة 1967، لكنها تبني "حائط الصواريخ" سرًا كتحضيرٍ لحرب أكتوبر، بينما تتفاوض علنًا لاسترداد سيناء.
2. السياق الإقليمي: عبد الناصر يواجه تمرد فصائل فلسطينية (كالجبهة الشعبية) ترفض أي تسوية، وعداءً بعثيًا عراقيًا يصفه بالخيانة، بينما يحاول الحفاظ على وحدة الصف العربي.
3. السياق الدولي: الاتحاد السوفييتي يرفض تزويد مصر بأسلحة متطورة، والضغوط الأمريكية تُحاصر أي خيار عسكري.
هنا، يُظهر التسجيل "عبقرية التكتيك" لدى عبد الناصر: التحدث بلغة الدبلوماسية لإرباك الخصم، بينما يخفي تحضيرات الحرب. هل يُلام على إدارته لـ"لعبة الثعالب" في زمن الذئاب؟
ماذا قال التسجيل؟ وما الذي أثار الجدل؟
التسجيل لم يكن "اعترافًا بالهزيمة"، بل تجسيدًا لما يمكن تسميته "الرسائل المشفرة" في إدارة الأزمات. يمكن تلخيص منهج عبد الناصر كما يلي:
•الهجوم كأفضل دفاع:
عبد الناصر يهاجم القذافي لفظيًا، لا رفضًا لفكرة المواجهة، بل رفضًا للمزايدة العاطفية على قرار الحرب دون الجاهزية.
•المرونة الثورية:
قبوله الظاهري بمبادرة "روجرز" – والتي وصفها لاحقًا بأنها "مسمومة" – كان خطوة لشراء الوقت وليس استسلامًا، كما فعل السادات لاحقًا باتفاق كامب ديفيد لاستعادة سيناء دون قتال مباشر.
الجدل المصطنع حول التسجيل لا يهدف إلى قراءة عبد الناصر بل إلى تشويهه؛ يُراد تحويله من "قائد في زمن الخسارة" إلى "متآمر"، لتفريغ التجربة الناصرية من دلالتها التاريخية.
لماذا الغضب العارم؟ استحقاقات الراهن تتجاوز الماضي
الضجة لا تتعلق بما قاله عبد الناصر، بل بما نعيشه اليوم. السياق الإعلامي الحالي يُعيد طرح التسجيل لهدفٍ واضح:
1. تفريغ الرموز:
تحويل عبد الناصر من "قائد مقاوم" إلى "دبلوماسي مهادن" يسهّل تمرير موجة التطبيع الحالية، تحت شعار "إذا فاوض الزعيم التاريخي، فلماذا لا نُفاوض نحن؟".
2. تزوير الوعي:
إخفاء حقيقة أن عبد الناصر رفض أي لقاء مباشر مع قادة الكيان الصهيوني، مثل مقترح لقاء جولدمان، بينما تتهافت أنظمة اليوم على التنازلات المجانية دون مقابل.
3. الاستعمار الناعم:
الهجوم على "العروبة المقاومة" هو جزء من مشروع أكبر لترويج ثقافة الخضوع على أنها واقعية، والنكوص على أنه حكمة سياسية.
عبد الناصر بين اللوم والعذر: زعيم لا قديس
ما يميز عبد الناصر هو أنه لم يطلب من أحدٍ أن يُقدّسه. تحمّل مسؤولية الهزيمة عام 1967 بشجاعة، وواجه تداعياتها كقائدٍ مدرك لحجم الأزمة، لا كبطل أسطوري. ومع ذلك، رفض الاستسلام.
•اللوم:
قبوله بوقف إطلاق النار وتجميد جبهات القتال، وتفاعله مع مبادرة روجرز، قد يُفسّره البعض على أنه تراجع.
•العذر:
كان كطبيب في غرفة الطوارئ: أوقف النزيف لينقذ المريض (مصر)، حتى وإن استخدم مشرطًا مؤلمًا في لحظة فارقة.
والسؤال الأهم: هل يمكن لقائد، في زمن المواجهات المكشوفة، أن ينجو من لعنة "إما التقديس أو التشويه"؟
عبد الناصر بين "اللوم" و"العذر": هل المطلوب قديس أم زعيم؟
الشاعر الجواهري وصف عبد الناصر بـ " كان العظيم المجد والأخطاء " ، وهذه إجابة بليغة:
•لا يُعذر عبد الناصر كليًا، لأنه كقائد تحمل مسؤولية قراراته، بما فيها قبول مبادرة روجرز رغم تداعياتها النفسية على الجماهير العربية.
•لكن لا يُلام كليًا، لأنه تصرف في سياق معادلة مستحيلة: إما التفاوض لإنقاذ ما تبقى من الجبهة، أو المخاطرة بانهيار كامل.
الأهم أن النقاش يجب ألا ينحصر في "تطهير" عبد الناصر أو "تدنيسه"، بل في استخلاص الدروس:
•كيف تُدار الصراعات في ظل اختلال موازين القوى؟
•ما حدود المرونة السياسية قبل أن تتحول إلى استسلام؟
خاتمة: التاريخ ليس محكمة.. بل مرآة
التسجيل المسرب ليس شهادة وفاة لعبد الناصر، بل صفعةٌ على وجه واقعنا العربي المهزوم! الرجل الذي حفر اسمه بدماء الثورة وأطلال الهزائم يطلُّ علينا اليوم من شريطٍ قديم ليسألنا: أين أنتم ممَّا صنعنا؟ لقد ترك لكم حائط الصواريخ فبنَيْتم جدرانًا من الخوف، وورثتم معركة العروبة فحولتموها إلى سوقٍ للمتاجرة بالدماء!
التسجيل يحرق الأسماع لأننا نعيش زمنًا باتت فيه المقاومة جريمةً، والاستسلام سياسةً. فليغضبوا من الغضب، ولتسقط الأقنعة.. فالشعب الذي لا يثور على هزائمه يستحقُّ أكثر من مجرد هزيمة!"
كاتب وباحث اردني
تابعو الأردن 24 على

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

وانتهت الحرب على الإرهاب
وانتهت الحرب على الإرهاب

جفرا نيوز

timeمنذ 5 أيام

  • جفرا نيوز

وانتهت الحرب على الإرهاب

جفرا نيوز - إسماعيل الشريف التقارير التي تفيد بأنني قلت إن أوباما وكلينتون أسّسا داعش تأخذ كلامي بجدية زائدة. ألا يفهمون السخرية؟... سأكون صادقًا، لم تكن سخرية كبيرة- ترامب. في أوائل الثمانينيات، حين كنت طفلًا، كان الشيخ عبد الله عزام – رحمه الله – يحضر إلى مسجد الشريعة أثناء حرب أفغانستان، ويجلس بعد صلاة الجمعة مع بعض أصدقائه يحدّثهم عن مجريات الحرب. كانت قصصه تدور حول كرامات المجاهدين وظهور الملائكة التي تقاتل إلى جانبهم ضد جيش الاتحاد السوفييتي، فتأسر القلوب وتلهب المشاعر. أعلم أن نوايا الشيخ ورفاقه كانت صادقة، لكنه لم يحدثنا يومًا عن مجلته الجهاد، التي خُصصت لتغطية أخبار حرب أفغانستان بهدف جذب التمويل وتجنيد الشباب. كانت المجلة تُطبع بسبعين ألف نسخة على نفقة الولايات المتحدة، وتُوزَّع في مختلف أنحاء العالم الإسلامي والولايات المتحدة، وتصل إلى اثنين وخمسين مكتبًا مخصصًا لتجنيد الشباب للذهاب إلى هناك. بل إن القنصلية الأمريكية في جدة كانت تمنح تأشيرات للراغبين في «الجهاد» للسفر إلى الولايات المتحدة والتدرب هناك. وبعد هذه السنوات الطويلة، لا يختلف اثنان على أن المجاهدين قد خاضوا حربًا بالوكالة عن الولايات المتحدة وحلفائها في أفغانستان لقتال الروس هناك. ثم في أوائل التسعينيات، انتقل أولئك المجاهدون، بعد أن هزموا الاتحاد السوفييتي، إلى البوسنة والهرسك، حيث حاربوا إلى جانب الأمريكيين. لكن سرعان ما حوّلتهم الولايات المتحدة إلى أعداء، ليكونوا بيادق في خطتها التالية، حتى بلغ هذا العداء ذروته في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حين اتهمت واشنطن تنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن بالوقوف وراء الهجمات. وأثناء التحضيرات للحرب، التقى الصحفي الشهير روبرت فيسك بأسامة بن لادن في أحد كهوف أفغانستان. بدأ الشيخ أسامة الحديث بسؤاله عن مجريات الأحداث في العالم، ويذكر فيسك أن مصدر معلوماته آنذاك كان نسخة قديمة من مجلة نيوزويك يعود تاريخها إلى ثلاثة أشهر مضت. انطلقت بعدها ما عُرف بـ»الحرب على الإرهاب»، فتوجّهت الولايات المتحدة لمحاربة حلفاء الأمس في أفغانستان، ثم اتهمت العراق زورًا بوجود صلة له بتنظيم القاعدة، فغزته واحتلته. وقد بلغت كلفة هذه الحرب الطويلة نحو 8 تريليونات دولار، وراح ضحيتها قرابة 950 ألف إنسان تحت القصف المباشر، بالإضافة إلى 4.7 مليون شخص بشكل غير مباشر نتيجة لانهيار المنظومات الصحية وانتشار الأمراض. كما تسببت في تهجير ما يزيد على 38 مليون شخص من أوطانهم. ثم لم تلبث أن ظهرت عشرات التنظيمات الإرهابية التي تلقت دعمًا من جهات متعددة، وكان هدفها الأساسي تمزيق الدول الحاضنة لإيران، لكسر «الهلال الشيعي» الممتد من طهران إلى بيروت. وسرعان ما بلغت هذه التنظيمات من القوة ما مكّن «داعش» من السيطرة على مساحات واسعة من العراق وسوريا، لكنها كما ظهرت بسرعة، اختفت بسرعة أكبر. في عام 2017، قدّمت النائبة في الكونغرس الأمريكي تولسي غابارد مشروع قانون بعنوان قانون وقف تسليح الإرهابيين، بهدف منع الولايات المتحدة من تقديم أي دعم مالي أو عسكري لجماعات مثل القاعدة، وداعش، وجبهة النصرة. إلا أن المشروع تم تعطيل طرحه للتصويت، ولم يُقر. والآن، يأتي دونالد ترامب، رجل «السلام» و»أمريكا أولًا»، وصاحب الصفقات، الذي منع في ولايته الأولى رعايا سبع دول إسلامية من دخول الولايات المتحدة، ووصف الإرهابيين بأنهم «أسوأ حثالة في التاريخ». ومع ذلك، رأيناه حين أصبح أعداء الأمس شركاء اليوم.

ترامب يعيد الإمبراطورية.. بوجه ناعم
ترامب يعيد الإمبراطورية.. بوجه ناعم

جهينة نيوز

timeمنذ 6 أيام

  • جهينة نيوز

ترامب يعيد الإمبراطورية.. بوجه ناعم

تاريخ النشر : 2025-05-20 - 11:21 am د.منذر الحوارات جاءت فخامة استقبال الرئيس ترامب وهيبته في السعودية وقطر والإمارات، مخالفة تماماً للطريقة الفظة التي يستقبل بها قادة ورؤساء الدول الذين يزورون المكتب البيضاوي، فهناك يتعرضون لشتى أنواع الابتزاز والتعنيف، أما في الخليج، فقد كانت الأناقة والفخامة عنوان اللحظة، من ناحية الشكل على الأقل في انعكاس صارخ للتناقض الجوهري بين ثقافتين، لكن، إذا تعمقنا في تفاصيل الحدث مبتدئين من عنوانه الذي طرحه ترامب، نراه يبشر بعهد جديد ينهي الحروب والمآسي، عنوانه «الاستقرار والاستثمار»، في تجاهل واضح للماضي الأميركي الدموي في المنطقة. لقد أدركت الولايات المتحدة أهمية المنطقة وحيويتها، منذ الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي، فدخلتها تحت عنوان «الاحتواء المزدوج»، ثم عزز الغزو العراقي للكويت وجودها العسكري مع نهاية تلك الحرب، فأطلقت «عاصفة الصحراء» عام 1991، تلتها عملية «ثعلب الصحراء» عام 1998، ثم «حرية العراق» عام 2003، وكل ما تلا ذلك من حملات «الحرب على الإرهاب»، وصولاً إلى «عملية الحارس البحري» التي انتهت قبيل الزيارة، ولا يمكن تجاهل أن الولايات المتحدة كانت منغرسة في معظم الحروب الأهلية العربية التي اندلعت منذ الربيع العربي عام 2011 وحتى اليوم، حوّلت تلك الحروب والصراعات المنطقة إلى مختبر حقيقي للفوضى، وهو ما أدى إلى استنزافها اقتصادياً وتفكيكها سياسياً، برعاية أميركا وحضورها المباشر، ثم فجأة، يقرر ترامب أن هذا الماضي الأميركي ملطخ بالدماء، وأنه أوصل المنطقة إلى هذا الخراب، ليعلن قراره بإعادة تأطيرها وفق عنوانه الخاص، خدمةً لمرحلة أميركية جديدة، دون أي حساب لسيل الدماء والدمار الذي سببه التدخل الأميركي. لكن، هل يريد ترامب حقا تحويل مصادر الصراع (الدين، الهويات، الفقر) التي ساهمت الولايات المتحدة في تعميقها إلى فرص حقيقية؟ وهل سيحوّل منطقة مسكونة بالقلق، أتعبتها الحروب والموت والتشرد، إلى فضاءٍ للاستقرار والسلام والاستثمار؟ أم أن السيطرة الاقتصادية أصبحت أذكى من القمع العسكري؟ وهل نحن أمام انتقال من الهيمنة الصلبة إلى الهيمنة الناعمة والذكية؟ الواقع أن خطة الهيمنة الأميركية الجديدة تستند إلى «نظرية الليبرالية المؤسسية»، التي تفترض أن التعاون ممكن لكن تحت سقف هيمنة من نوع جديد تتركز فيه المصالح الكبرى بيد الأقوياء، وبالتالي فإن ترامب يفتتح عصرا جديدا في المنطقة والعالم، أركانه الأساسيين أباطرة المال والتكنولوجيا؛ لا يأتي بالدبابات والصواريخ والطائرات، بل بالأسواق والتبادل التجاري؛ لا يفرض لغة جديدة أو نمطاً استهلاكياً معيناً، بل يزرع الخوارزميات؛ لا يرفع أي علم فوق المباني، بل يزرع تطبيقات في كل جهاز، وإلا، كيف يمكن تفسير وجود كل هذا الحشد من أباطرة التقنية والمال ؟ واحد منهم فقط، يمتلك الصواريخ العابرة للفضاء، والعملة المشفرة، ونظاما يخترق خصوصية كل شخص، يتفوق على أي جهاز مخابرات في العالم، ويملك شبكة اتصال عالمية، إنه إيلون ماسك، الذي، بما يملك، أسقط من يد الدول كل مقومات هيبتها: من البنك المركزي إلى السلاح إلى جهاز الأمن. إن صدق الحدس، فإننا ذاهبون إلى استقطاب عالمي-إقليمي، اقتصادي-تكنولوجي تتركز فيه السيطرة بيد أوليغارشية جديدة، مؤلفة من نخب وشركات ودول، سيزيد هشاشة الدول الفقيرة والضعيفة، بينما الدول التي تملك موارد سيادية واستقراراً أمنياً، فيمكنها أن تكون إحدى منصات وروافع هذا الواقع، ودول الخليج العربي تمتلك هذه المقومات، وبإمكانها دخول هذا النظام العالمي الجديد من بوابته العريضة، أما الدول الفقيرة في المنطقة، فعليها أن تدخل في عملية تكيّف معقدة مع هذا الواقع، إذ لا خيار أمامها سوى إعادة التموضع ضمن أحد احتمالين: إما كشركاء ثانويين، أو كأوراق ضغط. وهكذا، تطرح عودة ترامب المتأنقة إلى المنطقة تساؤلاً جوهرياً: هل هي محاولة لتصحيح المسار الدموي للولايات المتحدة؟ أم تسوية نهائية لما بقي عالقاً من قضايا الشرق الأوسط؟ إذا تقف المنطقة من جديد على مفترق طرق خطير، مما يعيدنا إلى السؤال الجوهري : ماذا نريد نحن، لا ماذا يريد ترامب؟ فالواضح أنه يسعى إلى «العودة إلى الإمبراطورية بوجه ناعم». أما نحن، فعلينا الإجابة على سؤالنا قبل كل شيء. أما فيما يتعلق بدول الخليج فقد حررها هاجس «ما بعد النفط» من القيود الأيديولوجية الجامدة، فقررت دخول هذا العالم الجديد من بوابة اللحظة، انطلاقاً من مقولة أساسية ،(إذا كانت النقود المتوفرة حالياً والشحيحة غداً، قادرة على شراء لحظة وموقع مميز في المستقبل، فلمَ لا) كل ذلك على أمل بأنها ستصبح قادرة على تجاوز هزات ما هو آت، عندما تتلاشى مكانة النفط كمحرك للاقتصاد العالمي؟ لقد قامت هذه الدول بعملية تحوط إستراتيجية، في محاولة لوضع أقدامها في المستقبل عبر بوابتين محتملتين: الصين والولايات المتحدة، وكلاهما يبحث عن إمبراطوريته بأسلوب المستقبل المتوقع، ودول الخليج بما تمتلك من أدوات، تحاول الاستفاد من لعبة التحول الكبرى للأستفادة منها والدخول الآمن لمرحلة ما بعد النفط. تابعو جهينة نيوز على

ترامب يعيد الإمبراطورية.. بوجه ناعم
ترامب يعيد الإمبراطورية.. بوجه ناعم

الانباط اليومية

timeمنذ 6 أيام

  • الانباط اليومية

ترامب يعيد الإمبراطورية.. بوجه ناعم

الأنباط - جاءت فخامة استقبال الرئيس ترامب وهيبته في السعودية وقطر والإمارات، مخالفة تماماً للطريقة الفظة التي يستقبل بها قادة ورؤساء الدول الذين يزورون المكتب البيضاوي، فهناك يتعرضون لشتى أنواع الابتزاز والتعنيف، أما في الخليج، فقد كانت الأناقة والفخامة عنوان اللحظة، من ناحية الشكل على الأقل في انعكاس صارخ للتناقض الجوهري بين ثقافتين، لكن، إذا تعمقنا في تفاصيل الحدث مبتدئين من عنوانه الذي طرحه ترامب، نراه يبشر بعهد جديد ينهي الحروب والمآسي، عنوانه «الاستقرار والاستثمار»، في تجاهل واضح للماضي الأميركي الدموي في المنطقة. لقد أدركت الولايات المتحدة أهمية المنطقة وحيويتها، منذ الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي، فدخلتها تحت عنوان «الاحتواء المزدوج»، ثم عزز الغزو العراقي للكويت وجودها العسكري مع نهاية تلك الحرب، فأطلقت «عاصفة الصحراء» عام 1991، تلتها عملية «ثعلب الصحراء» عام 1998، ثم «حرية العراق» عام 2003، وكل ما تلا ذلك من حملات «الحرب على الإرهاب»، وصولاً إلى «عملية الحارس البحري» التي انتهت قبيل الزيارة، ولا يمكن تجاهل أن الولايات المتحدة كانت منغرسة في معظم الحروب الأهلية العربية التي اندلعت منذ الربيع العربي عام 2011 وحتى اليوم، حوّلت تلك الحروب والصراعات المنطقة إلى مختبر حقيقي للفوضى، وهو ما أدى إلى استنزافها اقتصادياً وتفكيكها سياسياً، برعاية أميركا وحضورها المباشر، ثم فجأة، يقرر ترامب أن هذا الماضي الأميركي ملطخ بالدماء، وأنه أوصل المنطقة إلى هذا الخراب، ليعلن قراره بإعادة تأطيرها وفق عنوانه الخاص، خدمةً لمرحلة أميركية جديدة، دون أي حساب لسيل الدماء والدمار الذي سببه التدخل الأميركي. لكن، هل يريد ترامب حقا تحويل مصادر الصراع (الدين، الهويات، الفقر) التي ساهمت الولايات المتحدة في تعميقها إلى فرص حقيقية؟ وهل سيحوّل منطقة مسكونة بالقلق، أتعبتها الحروب والموت والتشرد، إلى فضاءٍ للاستقرار والسلام والاستثمار؟ أم أن السيطرة الاقتصادية أصبحت أذكى من القمع العسكري؟ وهل نحن أمام انتقال من الهيمنة الصلبة إلى الهيمنة الناعمة والذكية؟ الواقع أن خطة الهيمنة الأميركية الجديدة تستند إلى «نظرية الليبرالية المؤسسية»، التي تفترض أن التعاون ممكن لكن تحت سقف هيمنة من نوع جديد تتركز فيه المصالح الكبرى بيد الأقوياء، وبالتالي فإن ترامب يفتتح عصرا جديدا في المنطقة والعالم، أركانه الأساسيين أباطرة المال والتكنولوجيا؛ لا يأتي بالدبابات والصواريخ والطائرات، بل بالأسواق والتبادل التجاري؛ لا يفرض لغة جديدة أو نمطاً استهلاكياً معيناً، بل يزرع الخوارزميات؛ لا يرفع أي علم فوق المباني، بل يزرع تطبيقات في كل جهاز، وإلا، كيف يمكن تفسير وجود كل هذا الحشد من أباطرة التقنية والمال ؟ واحد منهم فقط، يمتلك الصواريخ العابرة للفضاء، والعملة المشفرة، ونظاما يخترق خصوصية كل شخص، يتفوق على أي جهاز مخابرات في العالم، ويملك شبكة اتصال عالمية، إنه إيلون ماسك، الذي، بما يملك، أسقط من يد الدول كل مقومات هيبتها: من البنك المركزي إلى السلاح إلى جهاز الأمن. إن صدق الحدس، فإننا ذاهبون إلى استقطاب عالمي-إقليمي، اقتصادي-تكنولوجي تتركز فيه السيطرة بيد أوليغارشية جديدة، مؤلفة من نخب وشركات ودول، سيزيد هشاشة الدول الفقيرة والضعيفة، بينما الدول التي تملك موارد سيادية واستقراراً أمنياً، فيمكنها أن تكون إحدى منصات وروافع هذا الواقع، ودول الخليج العربي تمتلك هذه المقومات، وبإمكانها دخول هذا النظام العالمي الجديد من بوابته العريضة، أما الدول الفقيرة في المنطقة، فعليها أن تدخل في عملية تكيّف معقدة مع هذا الواقع، إذ لا خيار أمامها سوى إعادة التموضع ضمن أحد احتمالين: إما كشركاء ثانويين، أو كأوراق ضغط. وهكذا، تطرح عودة ترامب المتأنقة إلى المنطقة تساؤلاً جوهرياً: هل هي محاولة لتصحيح المسار الدموي للولايات المتحدة؟ أم تسوية نهائية لما بقي عالقاً من قضايا الشرق الأوسط؟ إذا تقف المنطقة من جديد على مفترق طرق خطير، مما يعيدنا إلى السؤال الجوهري : ماذا نريد نحن، لا ماذا يريد ترامب؟ فالواضح أنه يسعى إلى «العودة إلى الإمبراطورية بوجه ناعم». أما نحن، فعلينا الإجابة على سؤالنا قبل كل شيء. أما فيما يتعلق بدول الخليج فقد حررها هاجس «ما بعد النفط» من القيود الأيديولوجية الجامدة، فقررت دخول هذا العالم الجديد من بوابة اللحظة، انطلاقاً من مقولة أساسية ،(إذا كانت النقود المتوفرة حالياً والشحيحة غداً، قادرة على شراء لحظة وموقع مميز في المستقبل، فلمَ لا) كل ذلك على أمل بأنها ستصبح قادرة على تجاوز هزات ما هو آت، عندما تتلاشى مكانة النفط كمحرك للاقتصاد العالمي؟ لقد قامت هذه الدول بعملية تحوط إستراتيجية، في محاولة لوضع أقدامها في المستقبل عبر بوابتين محتملتين: الصين والولايات المتحدة، وكلاهما يبحث عن إمبراطوريته بأسلوب المستقبل المتوقع، ودول الخليج بما تمتلك من أدوات، تحاول الاستفاد من لعبة التحول الكبرى للأستفادة منها والدخول الآمن لمرحلة ما بعد النفط.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store