
ترامب و40 عاماً في حب التعريفات الجمركية
إعداد: محمد كمال
«نحن نثق في غرائز الرئيس»، كانت هذه العبارة اللافتة إحدى طرق دفاع الإدارة الأمريكية، عن التعريفات الجمركية غير المسبوقة التي أعلنها دونالد ترامب والتي اضطر إلى تعليقها مؤقتاً مستثنياً الصين، لكنها تكشف عن تاريخ طويل من إعجابه بها، لدرجة أنه في ثمانينيات القرن الماضي نشر إعلاناً مدفوع الأجر للمطالبة بفرض الرسوم الجمركية، معتبراً أنها قاعدة انطلاق مسعاه الرئاسي قبل أن يؤجل ترشحه.
وبحسب بعض المؤرخين، فقد زُرعت بذور خطط ترامب للرسوم الجمركية قبل عقود، عندما كان يُنظر إليه كمطور عقاري جرئ في نيويورك حيث كان العديد من عملائه من الأجانب الأثرياء، ما رسخ اعتقاده في أن نُظم الاقتصاد الأمريكي تسمح للآخرين بالاستفادة من أسواق الولايات المتحدة.
يقول نائب رئيس موظفي البيت الأبيض ستيفن ميلر خلال حلقة نقاشية عن ترامب: «طوال حياته المهنية، إذا عدنا إلى المقابلات التي أجراها في سبعينيات القرن الماضي كان يتحدث بشغف عن هذه القضية» وأضاف: «وقد حذّر في ثمانينيات القرن الماضي من انتقال جميع صناعاتنا الحيوية إلى اليابان آنذاك وحذر لسنوات من فقدان صناعة السيارات لدينا».
ولفترة من الزمن، تبلورت رؤيته للاقتصاد العالمي من خلال مبيعات الشقق في برج ترامب، كما ذكر في كتابه «فن الصفقة» الصادر عام 1987، حيث جاء المشترون الأجانب عندما كانت اقتصاداتهم قوية والدولار ضعيفاً، لكنه استطرد: «من المؤسف أنه على مدى عقود أصبح هؤلاء أكثر ثراءً إلى حد كبير من خلال استغلال سياسات تجارية أنانية لم يتمكن قادة أمريكا من مواجهتها بشكل كامل».
ـ إعلان مدفوع الأجر:
بدأ ترامب بالتعبير عن معتقداته الحالية بوضوح عام1987، عندما كان يفكر في الترشح للرئاسة، ثم أنفق 100 ألف دولار على إعلان وصفه بـ«رسالة مفتوحة» نُشر في صحف واشنطن بوست ونيويورك تايمز وبوسطن غلوب.
وخلال الإعلان صب ترامب غضبه آنذاك على اليابان، الدولة التي كانت تزدهر اقتصادياً وتزداد قوةً كمنافس، كما كان يراقب المصالح اليابانية وهي تشتري معالم اقتصادية أمريكية بارزة من بينها فنادق فاخرة وكتب يقول «إن اليابان ودول أخرى تستغل الولايات المتحدة»، مشتكياً من أن الجيش الأمريكي يتولى الدفاعات العسكرية بينما تنفق اليابان الأموال لبناء «اقتصاد قوي وحيوي يتمتع بفوائض غير مسبوقة».
ثم استطرد: «افرضوا الضرائب على هذه الدول الغنية، لا على أمريكا، أنهوا عجزنا المالي الهائل، وخفّضوا ضرائبنا، ودعوا الاقتصاد الأمريكي ينمو دون أن يثقل كاهله تكلفة الدفاع».
ـ تأثير صعود اليابان
وكتبت الاستاذة في كلية دارتموث جينيفر ميلر بحثاً في كيفية تأثير الصعود الاقتصادي لليابان على نظرة ترامب وقناعاته للاقتصاد العالمي وقالت ميلر: «اللافت حقاً في هذا الأمر هو مدى اتساقه في الماضي وحالياً».
وكثيراً ما وصف ترامب الرسوم الجمركية بأنها ضريبة على الواردات تدفعها الدول الأخرى للولايات المتحدة، ويُظهر التاريخ أن هذه ليست الطريقة المُعتادة، حيث يدفع المستوردون الضرائب، ولكنهم غالباً، هم والمصنعون وتجار التجزئة، يُحمّلون المستهلكين الأمريكيين هذه التكاليف.
وتقول ميلر: «لم يكن ترامب يستخدم كلمة تعريفات جمركية، بل ضريبة على دول أخرى ونرى ذلك حالياً في فكرة أن دولاً أخرى ستدفع ثمنها وليس أمريكا، مع أن هذا هو ما يتوقعه معظم الاقتصاديين الآن».
ـ مقابلة مع أوبرا وينفري
ولا يعتبر ترامب الرسوم الجمركية أداةً بيد الكونغرس فحسب، بل أداةً بيد سلطة تنفيذية قوية، فبعد وقت قصير من نشره الإعلان الصحفي قبل نحو 40 عاماً، ذهب ترامب إلى نيو هامبشاير وانتقد النظام الضريبي بشدة وقال: «لقد سئمت من الأشخاص الطيبين في واشنطن.. أريد شخصاً حازماً يعرف كيف يتفاوض وإلا فإن بلادنا تواجه كارثة» وفي نهاية المطاف، تراجع ترامب عن ترشحه للرئاسة، لكنه واصل انتقاده للنظام التجاري العالمي.
وفي مقابلة مع أوبرا وينفري عام 1988 قال: «إذا ذهبتِ إلى اليابان الآن وحاولتِ بيع شيء ما، فانسي الأمر يا أوبرا، انسي الأمر تماماً، إنهم يأتون إلى هنا ويبيعون سياراتهم وأجهزة تسجيل الفيديو الخاصة بهم، ويدمرون شركاتنا تماماً».
وكما هو الحال الآن، لم يُلقِ باللوم على الدول الأجنبية لاستغلالها سياساتٍ مواتية، بل وجه اللوم إلى قادة الولايات المتحدة لسماحهم بحدوث ذلك.
ـ مهاجمة بوش الأب
وفي مؤتمر للطيران عام 1989 حيث وصف قادة الأمة بأنهم «أكبر حمقى في العالم» ودعا إلى فرض ضريبة بنسبة 20% على الواردات، قائلاً: «لماذا نحن أغبياء إلى هذه الدرجة؟ نحن نخدم هؤلاء الناس والنتيجة النهائية هي أنهم لا يحترموننا».
ثم استطرد قائلاً: «إن عبارة أمريكا ألطف هي الأسوأ»، في انتقادٍ حادٍّ للرئيس آنذاك جورج بوش الأب، الذي استخدم هذه العبارة محاولًا تدشين عصرٍ من اللباقة الوطنية في ظلّ مشهدٍ عالميٍّ متغير، فعلق ترامب: «إذا أصبحنا ألطف وألين، فلن يكون لدينا أمريكا».
ـ الحلفاء أيضاً
كما يفعل الآن، تحدث ترامب منذ سنوات مضت، عن أن الأمر لا يقتصر على الخصوم فحسب، بل يشمل الحلفاء أيضاً، قائلاً: « إنهم يستخدمون العلاقات الدبلوماسية المواتية للحصول على ميزة..» واشتهرت عنه العبارة: «لا تكن سخيفًا، إنهم يسخرون منا، لا يوجد أصدقاء في الاقتصاد العالمي، بل متنافسون فقط».
وحالياً يردد ترامب كثيراً: «أعرف ما أفعله»، محاولاً طمأنة الأمريكيين، كما يطلب منهم التحلي بقدر هائل من الثقة والصبر مع انطلاقه في مناورة فرض رسوم جمركية محفوفة بالمخاطر الاقتصادية، حتى لو علقها جزئياً، لكن في الواقع، تشير استطلاعات رأي جديدة إلى أن الأمريكيين عموماً لا يقتنعون تماماً بمبرراته ويخشون العواقب الاقتصادية وتفاقم التضخم.
ـ الولاية الأولى
اتسمت الولاية الرئاسية الأولى لترامب أيضاً بفرض رسوم جمركية، لا سيما على الصين، لكن العديد من الحواجز التي كانت قائمة قبل ثماني سنوات، بما في ذلك العديد من أعضاء مجلس الوزراء الذين عارضوا آراءه ونصحوه باتباع نهج مختلف، لم يعودوا موجودين وحل محلها أشخاص يتفقون إلى حد كبير مع رؤيته للعالم. ويقول مسؤولون في البيت الأبيض: إن الظروف قد تغيرت أيضاً، مع اقتصاد أقوى قادر على تحمل الاضطرابات التي تتطلبها خططه.
ويأتي مفهوم ترامب للرسوم الجمركية باعتبارها الحل السحري لسد العجز التجاري مع شركاء الولايات المتحدة ووسيلة لإنعاش التصنيع وتوفير آلاف فرص العمل، لكن التعريفات الكبيرة في ظل الثروات الطائلة والتحالفات التجارية الراسخة أحدثت دوياً دفع إلى التحذير من اضطراب الأسواق، مع خشية عدم الإلمام الكامل بآلية عمل التجارة العالمية بالنسبة لأمريكا وأن المسألة ببساطة، أن الشركات الأجنبية تحصل على الدولار في مقابل حصول الأمريكيين على المنتجات التي يريدونها.
وبعبارة صادمة، قال وزير الخزانة الأمريكية الأسبق لاري سامرز: «يدرك أصحاب النزاهة الفكرية في الإدارة الأمريكية أن الرسوم الحالية تعكس هوساً دام أربعين عاماً ولا يعتمد على أي نظرية اقتصادية مثبتة» وهو ما دفع إلى الاستشهاد بكلمات ترامب خلال تجمع انتخابي في نوفمبر/تشرين الثاني 2024: «أجمل كلمة في قاموسي هي التعريفة الجمركية، أعتقد أنها أجمل كلمة ستُثري بلادنا».

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


سكاي نيوز عربية
منذ ساعة واحدة
- سكاي نيوز عربية
أكسيوس: ساعر حذر نتنياهو من "خطأ" وقف مساعدات غزة
ونقل الموقع عن مسؤول إسرائيلي، أن إصرار الحكومة على مواصلة العمليات العسكرية دون اعتبار للكلفة السياسية، يضر بمكانة إسرائيل الاستراتيجية. وقال المسؤول إن إسرائيل أصبحت معزولة تقريبا عن معظم شركائها التقليديين بسبب موقفها في الحرب وسلوكها حيال القضايا الإنسانية. كما أفاد موقع أكسيوس أن جدعون ساعر رأى أن إسرائيل ستضطر للرضوخ واستئناف المساعدات بغزة تحت الضغط. ووفقا لأكسيوس، فقد تصاعدت الضغوط بشدة في وقت سابق من هذا الشهر عندما شنّت الحكومة الإسرائيلية عملية واسعة في غزة وتدميرها بالكامل، بدلا من قبول صفقة لتحرير الرهائن وإنهاء الحرب. وطالب الرئيس الأميركي دونالد ترامب وكبار مساعديه، بنيامين نتنياهو بضرورة إنهاء الحرب والسماح بدخول المساعدات، مع أن ترامب لم يعلن معارضة ترامب، على عكس القادة الآخرين في الغرب مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

البوابة
منذ 2 ساعات
- البوابة
"مطروح للنقاش" يرصد جدوى "القبة الذهبية" في ظل تصاعد المخاوف الاقتصادية
عرض برنامج "مطروح للنقاش" الذي تقدمه الإعلامية مارينا المصري، عبر شاشة "القاهرة الإخبارية"، تقريرًا تلفزيونيًا تحليليًا بعنوان: "هل ينجح مشروع القبة الذهبية في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة؟"، ناقش خلاله تداعيات الاستراتيجية الاقتصادية والتجارية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وتأثيرها على مشروعه الدفاعي الطموح المعروف باسم "القبة الذهبية". أوضح التقرير أن إعلان ترامب نيّته فرض رسوم جمركية بنسبة 50% على أوروبا، و25% على الهواتف غير المصنعة في الولايات المتحدة، أعاد إشعال مخاوف الحرب التجارية، وأدى إلى انخفاض أسعار الأسهم العالمية وتراجع قيمة الدولار إلى أدنى مستوياتها منذ عام 2023. وأشار إلى أن هذه التطورات جاءت بعد فترة من الهدوء الحذر في الأسواق، أعقبت سنوات من التوترات الاقتصادية العالمية التي أشعلتها سياسات ترامب التجارية خلال ولايته الأولى. في ظل هذه الأوضاع، يواجه مشروع "القبة الذهبية" – وهو منظومة دفاع صاروخية أمريكية متطورة يسعى ترامب لتطويرها خلال ثلاث سنوات – تساؤلات جادة حول جدواه وكلفته، التقرير بيّن أن التمويل الضخم المطلوب لتنفيذ المشروع قد يصطدم بعقبات حقيقية ناجمة عن العجز المتزايد في الميزانية الأمريكية وتراجع ثقة المستثمرين في الاقتصاد الأمريكي. أغلبية الشباب الأمريكيين يعتقدون أن أوضاعهم المالية كانت ستكون أفضل لولا الرسوم الجمركية استعرض التقرير نتائج استطلاع أجرته وكالة بلومبيرج، أظهر أن أغلبية الشباب الأمريكيين يعتقدون أن أوضاعهم المالية كانت ستكون أفضل لولا الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب، بينما توقع 69% من المشاركين ارتفاع أسعار السلع الأساسية كنتيجة مباشرة لهذه الرسوم.


البيان
منذ 2 ساعات
- البيان
القوة الناعمة الإماراتية.. مفهوم عالمي جديد
تعد دولة الإمارات العربية المتحدة، إحدى الدول السباقة في تطبيق مبادئ القوة الناعمة، واستغلال أدواتها منذ إعلان الاتحاد في عام 1971، وذلك حتى قبل ظهور هذا المصطلح، الذي صاغه السياسي والأكاديمي الأمريكي جوزيف ناي في عام 1990، فمصطلح القوة الناعمة يعد مصطلحاً حديثاً نسبياً، إلا أن القوة الناعمة موجودة كممارسات منذ القدم، من خلال أدوات متعددة، كالدبلوماسية الدولية والسياسة الخارجية للدول والإعلام والثقافة والسياحة والرياضة، وغيرها من أدوات جذب الآخر، التي تتبناها الدول والمؤسسات. لقد عرَّف جوزيف ناي مفهوم القوة الناعمة، بأنه قدرة دولة ما أن تجعل دولة أخرى تريد ما تريده الدولة الأولى، ولكن في عام 2004، توسع استخدام هذا المصطلح بشكل كبير جداً من قبل السياسيين والأكاديميين والباحثين والخبراء، بالإضافة إلى انتشاره من خلال وسائل الإعلام، وذلك مع صدور كتاب «القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولة»، والذي ألفه جوزيف ناي نفسه، وليس من المبالغة القول بأن مصطلح القوة الناعمة قد تحول إلى مصطلح علمي، وأنه في طريقه إلى أن يكون أحد التخصصات العلمية المهمة في فرع العلوم الإنسانية والاجتماعية. وفي المقابل، فإن القوة الناعمة يناقضها مصطلح القوة الصلبة، المتمثلة في قدرة التأثير في الآخر من خلال الإكراه وإصدار الأوامر، باستخدام إحدى وسيلتين، هما القوة العسكرية والعقوبات الاقتصادية، وقد ظهر لاحقاً مصطلح آخر، يعبّر عن عملية المزج بين استخدام كل من القوة الناعمة والقوة الصلبة في آن واحد، وهو ما يسمى بـ «القوة الذكية»، ومن أبرز النماذج لاستخدام القوة الذكية، هو ما قام به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في فترة رئاسته الأولى، من تعامل مختلف عن سابقيه، بما يخص الملف الكوري الشمالي، فقد كان يستعرض قوته الناعمة من خلال الترويج الدائم لمبادرته بمد يد السلام والتفاوض مع الرئيس الكوري الشمالي، وفي نفس الوقت، يستمر باستخدام القوة الصلبة الأمريكية، من خلال العقوبات الاقتصادية المفروضة على كوريا الشمالية. لقد برزت القوة الناعمة الإماراتية، وبدأت عالميتها من خلال القائد المؤسس، المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان -طيب الله ثراه- فقد كانت شخصيته الصادقة النقية، وفكره الوحدوي الجمعي، أحد أهم وسائل جذب الآخرين وكسب قلوبهم، كما حرص -رحمه الله تعالى- على نقل هذا الفكر إلى كل إماراتي، سواء كان مسؤولاً أو مواطناً عادياً، وقد قامت حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة باستكمال هذا النهج وتطويره، من خلال عمل استثنائي، ليس له مثيل على مستوى العالم، ففي عام 2017، تم تشكيل مجلس القوة الناعمة لدولة الإمارات، والذي «يهدف لتعزيز سمعة الدولة عالمياً، ويختص برسم السياسة العامة واستراتيجية القوة الناعمة للدولة». وهذه الاستراتيجية تشمل مختلف المجالات الدبلوماسية والعلمية والثقافية والإنسانية والاقتصادية، التي تعمل على ترسيخ التواصل مع المحيطين الإقليمي والعالمي. كل ذلك أدى إلى ريادة دولة الإمارات العربية المتحدة في مؤشر القوة الناعمة لعدة سنوات، كان آخرها في عام 2025، فقد تصدرت الإمارات هذا المؤشر عربياً، واحتلت المركز العاشر عالمياً، من خلال أضخم تصنيف عالمي، وأكثرها مصداقية في مجال القوة الناعمة، حيث شمل التصنيف 193 دولة، وبمشاركة أكثر من 170 ألف مستجيب متخصص في مجالات الأعمال وصنع السياسات، وغيرهم من أفراد المجتمع المدني، واستطاعت دولة الإمارات العربية المتحدة -التي تم تأسيسها في عام 1971- تجاوز عدد كبير من الدول ذات الاقتصادات المتقدمة، مثل النرويج وفنلندا والدنمارك وإسبانيا والنمسا وهولندا وروسيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة. إن عملية سرد القصة التي تتضمن الكيفية التي استطاعت هذه الدولة الفتية الوصول بها لهذا المستوى، لا يمكن التعبير عنها من خلال مجلدات ضخمة، أو برامج وثائقية طويلة، ولكن سأحاول في هذا المقال أن أقوم باستعراض النموذج العالمي للتجربة الإماراتية في مجال القوة الناعمة، من خلال التحليلات التالية: إن الدور الرئيس للقوة الناعمة لأي دولة، يكون من خلال تعزيز سمعتها الخارجية، وفرض احترامها، ولا يكون ذلك موجهاً فقط للمجتمع الدولي أو للدول الأخرى، بل يوجه أيضاً إلى شعوب الدول الأخرى، ويكون ذلك من خلال السياسة الخارجية المتزنة للدولة، ومواقفها على الساحة الدولية. تعد دولة الإمارات العربية المتحدة، صاحبة أقوى نفوذ عربي وإقليمي في مجال القوة الناعمة، وواحدة من أهم اللاعبين الرئيسين في هذا المجال على مستوى العالم، ويعود الفضل في ذلك إلى الفكر الحكيم والمستنير للمؤسس -المغفور له بإذن الله- الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، فقد كان سابقاً لعصره، عندما استطاع، وبفضل حكمته وتبنيه لسياسة خارجية متزنة، جذب عدد كبير من الدول الكبرى في المنطقة والعالم نحو ملفات عديدة، تبنتها دولة الإمارات العربية المتحدة، وهو ما استمرت به القيادة الحالية للدولة، بقيادة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله. ولا يسع المجال هنا لذكر جميع المواقف السياسية التي تبنتها دولة الإمارات، وأدت إلى نتائج تم الإشادة بها من قبل المجتمع الدولي، فقد نجحت في إنهاء حالة الحرب بين إثيوبيا وإريتريا، من خلال جهودها ومبادرتها المتمثلة في توقيع اتفاقية سلام بين البلدين، بعد عقدين من الحروب بينهما، كما استطاعت أن تقوم بدورٍ لم تستطع الدول العظمى في العالم أن تلعبه في الحرب الروسية الأوكرانية، فدولة الإمارات تعد أهم وسيط مقبول لدى الطرفين، وقد قامت بجهود استثنائية في هذا الملف، من خلال المحادثات الهادفة إلى التهدئة وتسوية الحرب، والوساطة في مجال تبادل الأسرى، وتقديم الدعم الإنساني. منذ الإعلان عن فوز مدينة دبي بتنظيم هذا الحدث الدولي في عام 2013، وبإجمالي 116 صوتاً من أصل 167 صوتاً، بدأت التقارير الصحافية والبرامج التحليلية بالتحدث عن ضرورة استفادة دبي من تنظيم هذا الحدث، خاصة أنه يقام لأول مرة في منطقة الشرق الأوسط وجنوب آسيا. وبمجرد بداية أحداث المعرض، أثبتت دبي أن تلك التقارير كانت مخطئةً في تحليلها للواقع، فقد تبيّن أن معرض إكسبو، هو أكبر مستفيد من ارتباطه بهذه المدينة العالمية، كما أثبتت الوقائع أن استضافة دبي لهذا المعرض، قد ساهمت بالتعريف به لعدد كبير من سكان العالم، بل إن الكثيرين في منطقتنا وخارجها، لم يسبق لهم أن سمعوا عن هذا المعرض العالمي، إلا بعد الإعلان عن ترشح مدينة دبي، وذلك بالرغم من تنظيمه بشكل مستمر منذ عام 1851 م، وفي عواصم ومدن عالمية لها شهرتها ووزنها. لقد منحت دبي معرض إكسبو 2020 هذا الترويج الدعائي، خلال أحد أسوأ الأزمات التاريخية التي مرت بالعالم، وهي جائحة «كورونا»، فقد حقق المعرض أرقاماً قياسية في عدد الزوار، حيث بلغ إجمالي عدد الزوار 23 مليون زائر، بالإضافة إلى 200 مليون زيارة افتراضية، في ما وصف بأنه أكبر تجمع عالمي خلال جائحة «كورونا». أنشئ المركز الدولي للتميز في مكافحة التطرف العنيف، والمعروف باسم مركز «هداية»، بناء على مبادرة قدمتها دولة الإمارات العربية المتحدة، أثناء انعقاد اجتماع المنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب في مدينة نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية في عام 2011، وتم تأسيس المركز في العام الذي يليه، وبعضوية 12 دولة ومنظمة دولية، وهي: الإمارات ومصر والولايات المتحدة الأمريكية والمغرب والجزائر وإندونيسا والمملكة المتحدة وهولندا وكندا وأستراليا وتركيا، بالإضافة إلى منظمة الاتحاد الأوروبي. وتقديراً لدور الإمارات القيادي في مجال مكافحة التطرف، فقد تم اختيار أبوظبي مقراً للمركز، حيث يعمل المركز على مكافحة التطرف والتطرف العنيف، من خلال برامج وبحوث واستشارات تقدم لكل من الحكومات والمؤسسات وأفراد المجتمع المدني، من أجل تحقيق هدف رئيس، يتمثل في تحقيق استدامة الوقاية والمكافحة من التطرف والإرهاب. إن مركز «هداية»، يعد أحد أهم أذرع القوة الناعمة لدولة الإمارات العربية المتحدة، كونه الأول من نوعه في العالم، ويعد حالياً أحد أهم المنظمات الدولية غير الحكومية، التي توفر الآليات لدعم جهود الحكومات في مواجهة التطرف العنيف، حيث وصل تأثيره لأكثر من 21 ألف مستفيد، في ما يقارب 100 دولة، وذلك من خلال أكثر من 200 برنامج، لترسيخ مبادئ التواصل والحوار، وبناء القدرات، وتقديم الدعم لضحايا الإرهاب، بالإضافة إلى النشاطات المتعلقة بالبحث العلمي في مجال مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف على المستوى الدولي. تعد جائحة «كورونا» حدثاً تاريخياً، مر على البشرية بشكل وسرعة لم يسبق لهما مثيل، وقد تسببت هذه الجائحة بأكبر أزمة اقتصادية عالمية عُرفت خلال القرنين الماضيين، كما شهد العالم سقوط العديد من الدول -منها دول عظمى- في مجال كيفية التعامل مع هذه الأزمة. وفي المقابل، فقد مثلت هذه الأزمة فرصة سانحة لإبراز مدى تطور دولة الإمارات العربية المتحدة في مجالات التقنية والبنية التحتية ومرونة القوانين والتشريعات، بالإضافة إلى الصورة الإيجابية لمدى تلاحم القيادة مع الشعب، سواء كانوا مواطنين أو مقيمين وزواراً أيضاً، في مشهد لم يُشاهد في أي مكان خارج دولة الإمارات. لقد تبنت حكومة دولة الإمارات عدداً من استراتيجيات الاستجابة للجائحة على المدى الفوري والقصير والمتوسط والطويل، لا بل أعلنت الحكومة الإماراتية عن إعداد استراتيجية مخصصة لفترة ما بعد التعافي من الجائحة، شملت مختلف القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والمالية والخدمية. لم تكتفِ الإمارات بذلك، بل وضعت على عاتقها -وبتواضع- مسؤولية تقديم المساعدة لكل المتأثرين من الأزمة، دون استثناء، سواء كانت دولة أو منظمة دولية أو حتى أفراد، دون أن تقوم بالإعلان عن ذلك، وقد تفاجأ العالم بأن معظم المبادرات والمساعدات والدعم الإنساني الذي قدم في القارات الست، كانت تحمل بصمةً إماراتيةً. لقد أثبتت دولة الإمارات العربية المتحدة، أن القوة الناعمة للدولة تضاهي، بل تتفوق على القوة العسكرية لأي دولة أخرى في العالم، ويتضح ذلك من خلال النتائج المتميزة التي حققتها الدولة في مختلف المجالات، فدولة الإمارات العربية المتحدة، تقوم بعقد تحالفات سياسية، واتفاقيات اقتصادية وتجارية، مع أقوى الدول في العالم، كما استطاعت أن تكون أحد أكبر الاقتصادات على مستوى العالم، بالرغم مع عدم اعتمادها على النفط، وذلك عائد إلى كونها أهم نقطة جذب لرؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية، وجدير بالذكر، أن دولة الإمارات، وبفضل قوتها الناعمة، استطاعت أن تفرض احترام المواطن الإماراتي على المستوى الدولي، وهو ما شجع معظم دول العالم على استقبال الحاملين للجواز الإماراتي دون قيود أو شروط، أو تأشيرات، حتى أصبح الجواز الإماراتي «أقوى جواز في العالم».