
غزّة.. حين تصبح الفكرة أقوى من الأرض
مرّت أكثر من ستمئة يوم على الحرب، أو لنقل: ستمئة يوم على الفضيحة.. ليست الفضيحة في عدد الشهداء، فهم شهداء العزة، ولا في ركام البيوت، فالبيوت تُبنى من جديد.. الفضيحة في صمت العالم، في التواطؤ باسم "مقتضيات الظروف الدولية"، في الدعم الغربي لمن جعل من الطفولة هدفًا مشروعًا، ومن المستشفى ثُكنةً مشروعة، ومن الحياة جريمة تستحق القصف.
ستمئة يوم، وغزة لم تُبدل، إنما كشفت مَن تبَدَّل، ومَن تبخر، ومن باع نفسه بثمن بخسٍ، أو تطلعٍ إلى صورة في صحيفة أجنبية تُمسح بها شبابيك القصور.
وإننا إن أردنا أن نتعلم من غزة، فلا بد أن نقرأها لا كخبر في نشرات تُبدأ بعواجل القتل والقصف فقط، بل كفكرة! ولا كأرض محاصرة فقط، بل كقيمة مطاردة. فغزّة ليست جغرافيا، إنما هي اختبار أخلاقي يومي، ومرآة تُري الناظر من يكون، بلا زيف ولا فلاتر ولا مكياج.
هل الحكمة تعني دفن المبادئ في التراب؟ وهل السياسة لا تمارَس إلا في سوق التنازلات؟ الحياد في الحرب بين الحق والباطل هو انحياز للباطل، وغزة وضعت الجميع أمام مرآة الحقيقة: إما أن تكون مع الحق، أو أن تكون جزءًا من الجريمة
القيمة لا تموت وإن مات أهلها
غزة، منذ ستمئة يوم وأكثر تُقصف وتُذبح وتُجوّع.. لكن هل ماتت؟ هل تخلت عن الفكرة؟ لا، بل ازدادت التصاقًا بها! الطفل الذي قُصف منزله في جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا، عاد يحمل دفتره المدرسي بين الأنقاض ليكون هو العنوان الأبرز والدرس الدامغ!
آلاء النجار -الطبيبة والأم الفلسطينية التي فقدت تسعةً من أكبادها بعد أن حملتهم 81 شهرًا، وظلت واقفةً- تقول بإيمان وتسليم: "هم أحياء عند ربهم يرزقون"! هذه ليست عبارة ارتجالية.. هذه مواقف.
الإنسان يُقاس بموقفه، لا بموقعه! وغزة، وإن ضاقت بها الأرض، وسُدّت في وجهها المنافذ، فإنّها اتسعت بالمعنى.. إنها تُعلّمنا أن من يحمل المعنى لا يُهزم، حتى لو خسر كل شيء.
الصمت خيانة لا حياد
ما الفرق بين صمت الجبان وصمت "المحايد"؟ لا شيء.. كلاهما يقف على جثة الحق ويتأمل.
الغرب، الذي ادعى أنه حامي حقوق الإنسان، صار يُبرّر قتل الأطفال بـ"حق الدفاع عن النفس"! كأن الإنسان هناك له كرامة، وهنا عليه أن يتعلم الموت صامتًا.
أما العرب، فهؤلاء قصة أخرى.. لم يكتفِ بعضهم بالصمت، إنما ذهبوا إلى التطبيع، بل إلى التبرير، بل إلى لوم الضحية. والعجيب أنهم يدّعون الحكمة!
وهل الحكمة تعني دفن المبادئ في التراب؟ وهل السياسة لا تمارَس إلا في سوق التنازلات؟ الحياد في الحرب بين الحق والباطل هو انحياز للباطل، وغزة وضعت الجميع أمام مرآة الحقيقة: إما أن تكون مع الحق، أو أن تكون جزءًا من الجريمة.
أزيد من 600 يوم مرت، وغزة ما زالت واقفة ثابتة تشد على الجرح، لا لأنه لا وجع فيها، بل لأن الفكرة التي تسكنها أقوى من الألم!
البطولة في الثبات
أكبر معجزة أن تبقى غزة ثابتة؛ فبعد كل هذا الخراب ما زالت تداوي جراحها، وتدفن شهداءها! غزة تُعلّمنا أن البطولة ليست صورة على منبر، بل هي ثبات في الزلزال.. هي ليست حربًا تُخاض بالسلاح فقط، هي بصبر الأم، بإصرار المدرّس، وشجاعة المسعف الذي يدرك أن طريقه إلى الضحايا مفخخ بألف قذيفة.. لكنه يكمل!
إن غزّة ليست مأساة، بل محكًّا.. وإن المتابع لمجريات الأحداث يدرك أنه أمام اختبار عظيم: إما أن نثبت على المعنى، أو نُدفن في مزابل التاريخ؛ فالأمة التي لا تنهض لغزة، لا تستحق أن تحكم نفسها.
أزيد من 600 يوم مرت، وغزة ما زالت واقفة ثابتة تشد على الجرح، لا لأنه لا وجع فيها، بل لأن الفكرة التي تسكنها أقوى من الألم!
هذه هي غزة التي علّمتنا أن الإنسان ليس بمقدار ما يملك، بل بمقدار ما لا يتنازل عنه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 31 دقائق
- الجزيرة
مستوطنون يقتحمون باحات الأقصى وتواصل الاعتداءات بالضفة
قالت مصادر للجزيرة إن مجموعات من المستوطنين الإسرائيليين اقتحمت باحات المسجد الأقصى بحماية قوات الاحتلال الإسرائيلي، بينما تواصلت الاقتحامات والاعتداءات في مناطق عدة ب الضفة الغربية. ودعت جماعات ومنظمات الهيكل المتطرفة علنا إلى تصعيد اقتحامات المسجد الأقصى وإقامة الطقوس، وتتواصل هذه الاقتحامات بشكل يومي وتزداد وتيرتها خلال الأعياد والمناسبات اليهودية. وتتواصل اعتداءات المستوطنين على المقدسات والممتلكات المسيحية والإسلامية في مدينة القدس المحتلة. وتظهر مقاطع فيديو اقتحام مستوطنين متطرفين الحي الأرمني في البلدة القديمة بالقدس قبل يومين حيث نفذوا اعتداءات جديدة على دير الأرمن والمقدسات المسيحية وحاولوا إهانة رموز مسيحية مقدسة على مدخل دير الأرمن، في ظل تجاهل الشرطة لشكاوى سكان الحي. اعتداءات مكثفة في الضفة الغربية أيضا تتزايد اعتداءات المستوطنين وتترافق مع انتشار عشرات البؤر الاستيطانية التي تقطع أواصر الجغرافيا الفلسطينية وتحول بعض القرى إلى ما يشبه السجون والمعتقلات. وقد أصيب عشرات الفلسطينيين بجروح وحروق إثر هجوم مستوطنين على بلدتي دير دبوان وبيتين شرق رام الله. وقال رئيس بلدية دير دبوان للجزيرة إن الهجوم على البلدة أسفر عن 35 مصابا. وأفادت مصادر للجزيرة بأن أعدادا كبيرة من المستوطنين هاجموا البلدتين وأحرقوا منازل ومركبات ومحاصيل زراعية وسط حصار لعائلات داخل منازلهم. وذكرت المصادر أن فلسطينيين تصدوا للمستوطنين، كما أفادت مصادر للجزيرة بأن مستوطنين قاموا بإغلاق شارع الستين شرق رام الله وألقوا الحجارة على مركبات الفلسطينيين. يأتي ذلك بينما أفادت مصادر للجزيرة بسماع دوي انفجار وتحليق طائرة استطلاع إسرائيلية تزامنا مع اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي لمخيم بلاطة شرقي نابلس بالضفة الغربية المحتلة. وقالت مصادر للجزيرة إن قوات الاحتلال الإسرائيلي اقتحمت مخيم بلاطة للاجئين والمنطقة الغربية بمدينة نابلس في الضفة. اعتقالات وتصعيد في هذه الأثناء، اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي أسرى محررين قرب رام الله، وقالت مصادر فلسطينية إن قوات الاحتلال شنت حملة اعتقالات في صفوف أسرى محررين في قرية المغير شمال شرقي رام الله. وقالت مصادر فلسطينية إن قوات الاحتلال الإسرائيلي اقتحمت بلدة تقوع جنوب شرق بيت لحم. يشار إلى أنه بالتوازي مع حرب الإبادة في قطاع غزة ، صعّد الجيش الإسرائيلي والمستوطنون اعتداءاتهم بالضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، مما أدى إلى استشهاد أكثر من 967 فلسطينيا، وإصابة نحو 7 آلاف، واعتقال ما يزيد على 17 ألفا، وفق معطيات فلسطينية. وترتكب إسرائيل بدعم أميركي منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إبادة جماعية بغزة خلّفت نحو 173 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
ارتفاع الأسعار وشحّ المواشي يحولان الأضاحي إلى مشهد رمزي في غزة
غزة- قبل الحرب، كانت مزرعة عائلة "صالح" في شمالي قطاع غزة تمتد على مساحة 8 آلاف متر مربع، وتضم مئات رؤوس الأبقار والأغنام وحتى الجمال. وبعد أن دمّر الاحتلال المزرعة في بداية حرب الإبادة الجماعية التي يشنها على قطاع غزة، تُقيم العائلة حاليا مشروعها على سطح شقة سكنية لا تتجاوز مساحته 100 متر مربع في بلدة جباليا ، التي يصنفها الاحتلال على أنها "منطقة قتال حمراء" ويأمر سكانها بالنزوح جنوبا. ومع اقتراب عيد الأضحى والشحّ الكبير في المواشي وارتفاع أسعارها الفاحش، تجد عائلة صالح أن موسم الأضاحي قد تحوّل إلى مشهد رمزي ليس إلا، حيث لا يقدر على شرائها إلا بعض الجمعيات الخيرية المموّلة من الخارج وبأعداد قليلة للغاية. ومنذ بداية الحرب قبل عام وسبعة أشهر، تمنع سلطات الاحتلال إدخال المواشي إلى غزة بشكل كامل، مما أدى إلى تدهور قطاع الثروة الحيوانية. ويقول خالد صالح، المُشرف على المزرعة، إن جميع الحيوانات التي كانت في مزارع قطاع غزة قد نفدت بشكل كامل، ولم يبق في القطاع سوى الخراف والماعز المملوكة لعائلات بدوية، تعيش على رعي ماشيتها في المناطق المفتوحة. ويضيف للجزيرة نت "لا توجد بالقطاع أي أبقار مطلقا، واشتريت هذه الخراف والماعز من عائلات البدو وسط وجنوب القطاع بأسعار عالية جدا لتلبية حاجات زبائني وخاصة من الجمعيات الخيرية حتى لا أفقدهم". وقفز سعر الخروف المتوسط الحجم من نحو 300 دولار إلى أكثر من 5000 دولار، بحسب صالح، وهو سعر هائل وغير مسبوق. ويضيف صالح "قبل الحرب كان سعر الكيلوغرام الحي من أفضل سلالات الخراف والماعز لا يتجاوز 21 شيكلا، اليوم يُباع الكيلوغرام نفسه بـ320 شيكلا رغم أن الحيوانات المعروضة من سلالات متوسطة أو ضعيفة". ويقتصر عمل مزرعة صالح الآن على تلبية بعض المبادرات الإنسانية والخيرية القادمة من الخارج، حيث تشترى أعداد قليلة من الخراف والماعز لتوزيعها على الفقراء كأضاح بتمويل من متبرعين عرب يقيمون خارج البلاد، ويحرصون على إبقاء شعيرة العيد حاضرة ولو بصورة رمزية. ويتابع صالح "نحاول أن نحافظ على تقليد الأضاحي ولو بشكل رمزي بتمويل من أهل الخير خارج فلسطين، لكن الحقيقة أن العيد هذا العام يمر على غزة دون أضاحٍ ودون بهجة". خسائر بمليون دولار ويعترف صالح بأن غالبية الأضاحي لديه من السلالات المتوسطة الجودة (بلدي أو مهجّن) بعد أن نفدت جميع السلالات الممتازة مثل العسّاف والروماني والليبي. ويقول، في وقت كان يساعد فيه أحد منسقي المبادرات في اختيار ثلاثة خراف لتوزيعها كأضاح، "ما ترونه من خراف وماعز هي إنتاج الحرب، حيوانات جمعناها من البدو، كل مواشينا الأصلية قتلت أو نفقت خلال القصف". ويقدّر صالح خسارة عائلته جراء تدمير مزرعتها بنحو مليون دولار، حيث كانت تضم 80 بقرة حلوب و135 عجلا للذبح و700 رأس من الخراف و60 جملا، إضافة إلى ثلاجات لحفظ اللحوم كلفتهم قرابة 100 ألف شيكل (نحو 28 ألف دولار)، ومنظومة طاقة شمسية متكاملة، ومنشآت زراعية والعديد من المرافق والمعدات. مهدَّدة كالبشر ويبدي صالح خوفه الشديد على ماشيته من الاعتداءات الإسرائيلية، خاصة أن مزرعته تقع في منطقة "قتال"، بحسب التصنيف الإسرائيلي، ومطلوب من سكانها مغادرتها فورا. ويقول في هذا الصدد "نخاف على ما تبقى من ماشيتنا من القصف، وتنزح معنا من منطقة لأخرى، من شارع لآخر، كانت أولا في منطقة "زمّو"، ثم إلى نصف جباليا، ثم نزحنا بها إلى جنوب جباليا". وقبل خمسة أيام تعرضت المنطقة لقصف عنيف، فحملت عائلة صالح الحيوانات إلى مكان أبعد قرابة كيلومتر، وبعد أن هدأت الأوضاع عادوا بها. ويتابع "لا مكان آمن بالفعل، نحن ننزح بها كما ينزح الناس، ونسعى لحمايتها كأنها بشر، هي كل ما تبقى لنا". تحدي إطعامها ويعدّ تقديم الطعام للماشية تحديا كبيرا أمام عائلة صالح نظرا لمنع إسرائيل إدخال الأعلاف منذ بداية الحرب وارتفاع أسعار البدائل المتاحة في السوق. وحول هذا يقول "منذ بداية الحرب لا يدخل أي نوع من الأعلاف، أصبحنا نطعمها عدسا أو معكرونة أو تبنًا، وحتى الحشائش التي نقطعها من الشوارع نجففها ونطحنها" لتقديمها للماشية. وقبل الحرب كان سعر كيلوغرام العلف لا يتجاوز شيكل وسبعة أغورات، واليوم يكلف المزرعة 45 شيكلا. ويتابع "نعتمد على ما تبقى من البقوليات في السوق، لكن الآن الناس أنفسهم يشترون العدس والفاصوليا لطحنها وخبزها، وهذا يعني أننا قد نفقد حتى هذه البدائل، وإذا نفدت قد أضطر للذهاب إلى مناطق بعيدة وخطرة لجمع أوراق الشجر أو ما تبقى من الأعشاب". للعام الثاني ولا تخفي السلطات الحكومية في قطاع غزة قلقها من واقع الأضاحي التي باتت مفقودة، خصوصا مع حلول عيد الأضحى للعام الثاني على التوالي دون أي قدرة على إحياء هذه الشعيرة الدينية، وفي ظل تفاقم المجاعة. ويقول المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة "للأسف، الاحتلال يحرم شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة من أداء شعيرة الأضاحي للعام الثاني تواليا". إعلان وأوضح الثوابتة للجزيرة نت أن الاحتلال يمنع إدخال المواشي منذ بداية الحرب، مما أدى إلى شلل شبه كامل في قطاع الثروة الحيوانية، ودمار مباشر للمزارع والبنية التحتية المرتبطة بهذا القطاع، مما ينعكس بشكل مباشر على قدرة الناس على تقديم الأضاحي. وحول ارتفاع أسعار الأضاحي، قال الثوابتة "لقد باتت تكلفة الأضاحي خيالية، والمساعدات الخيرية تواجه تعقيدات لوجستية وميدانية مفتعلة. ونوجّه التحية لكل من حاول أن يمد يده لغزة". 3 خراف بـ13 ألف دولار بصعوبة بالغة، اختار خالد عبدو، منسق إحدى المبادرات الخيرية، ثلاثة خراف من مزرعة صالح لتقديمها كأضاح لمجموعات صغيرة من فقراء غزة خلال العيد. وقال عبدو للجزيرة نت "اشترينا 3 خرفان فقط، كلفونا حوالي 45 ألف شيكل (حوالي 13 ألف دولار)". وذكر أن المتبرعين، وهم من لبنان وسوريا وتركيا وليبيا، اختاروا تقديم الأضاحي "لأنهم يريدون أن يحصلوا على الأجر من الله هنا في غزة التي تعاني من المجاعة". ويضيف عبدو "المتبرعون يرغبون في إحياء شعيرة الأضحية في غزة رغم كل شيء". ورغم السعر الكبير الذي دُفع ثمنا للخراف الثلاثة، فإنها لن تعطي سوى قرابة 80 كيلوغراما فقط من اللحم الصافي، وسيتم توزيعها على العائلات الأكثر فقرا في مدينة غزة.


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
الشاباك يهتز من الداخل.. روح معنوية متراجعة وقيادة مثيرة للجدل
القدس المحتلة – في وقت تشهد فيه إسرائيل واحدة من أكثر الفترات الأمنية والسياسية اضطرابا مع استمرار الحرب على غزة ، يجد جهاز الأمن العام (الشاباك) نفسه في قلب أزمة غير مسبوقة تهدد صورته الداخلية واستقلاله المؤسسي. فقد أزاح تحقيق صحفي حديث الستار عن سلسلة من الأزمات المتلاحقة التي هزت الجهاز، بدءًا من تسريبات داخلية صادمة وتسجيلات مثيرة للجدل، وصولا إلى تعيين رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو -المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة- اللواء ديفيد زيني ، القادم من خارج المنظومة، رئيسا للجهاز خلفا لرونين بار ، في خطوة أثارت قلقا واسعًا داخل صفوفه. وفي ظل هذا القلق، كشفت شهادات غير معتادة من عناصر فاعلة في الجهاز عن تدهور في الروح المعنوية، وشعور متنامٍ بالقلق إزاء محاولات "تسييس" الجهاز من قبل القيادة السياسية، وعلى رأسها نتنياهو. أبعاد الأزمة واستعرضت تحليلات وقراءات إسرائيلية أبعاد الأزمة التي تعصف بالشاباك، والتحديات التي تواجهه بين مسؤولياته الأمنية الثقيلة والضغوط السياسية المتزايدة، في وقت دقيق يفرض على المؤسسة الأمنية الحفاظ على تماسكها المهني وحيادها الكامل. وفي تحقيق موسع نشره الموقع الإلكتروني لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، كشف النقاب عن عمق الأزمة التي تعصف بالشاباك وسط اتهامات بتدخلات سياسية ومحاولات لإحكام السيطرة عليه من نتنياهو. واستند التحقيق إلى شهادات نادرة من أعضاء في الشاباك الذين عادة ما يتجنبون الظهور الإعلامي، لكنهم خرجوا عن صمتهم في ظل ما وصفوها بـ"سلسلة من العواصف الإعلامية" التي هزَّت استقرار الجهاز، واعترافهم بأنه "تلقى ضربة مؤلمة". ومن التحديات التي يواجهها الجهاز الكشف عن تسريبات مسجلة لرئيس القسم اليهودي يسمع فيها وهو يدعو لاعتقال مشتبه فيهم يهود بتهمة الإرهاب دون أدلة، وكان قد أعلن في فبراير/شباط الماضي تعليق عمله إلى حين انتهاء التحقيق المفتوح في قضيته، وفق هيئة البث الإسرائيلية. وتصاعدت الأزمة حين قررت الحكومة الإسرائيلية في مارس/آذار الماضي إقالة رئيس الشاباك رونين بار، وهو الملف الذي وصل إلى أروقة المحكمة العليا الإسرائيلية، التي طعنت بالقرار وأوصت بمواصلة مهامه لحين انتهاء ولايته. وفي المقابل، قدم بار للمحكمة تصريحا مشفوعا بالقسم وأعلن في أبريل/نيسان الماضي قراره إنهاء مهامه رسميا يوم 15 يونيو/حزيران الجاري. وكانت وحدة التحقيق مع أفراد الشرطة في وزارة القضاء قد فتحت تحقيقا في أبريل/نيسان الماضي مع عنصر احتياطي في جهاز الشاباك كان قد اعتقل للاشتباه في تسريبه معلومات داخلية وسرية لوزير الشتات عميحاي شيكلي من حزب الليكود ولمجموعة من الصحفيين، حسب ما كشفه الموقع الإلكتروني "واي نت". ووفق التحقيقات، ارتبط اعتقاله بعد نشر الصحفي عميت سيغال من القناة 12 الإسرائيلية يوم 23 مارس/آذار الماضي وثائق داخلية تكشف تحقيق الشاباك في الاشتباه بتسلل أفراد من التنظيمات "الكاهانية" المرتبطة بالحاخام مائير كهانا في أجهزة إنفاذ القانون ومؤسسات الدولة والشرطة الإسرائيلية. وتصاعدت الأزمة الداخلية في جهاز الشاباك خلال مايو/أيار الماضي عندما أعلن نتنياهو تعيين زيني رئيسا للجهاز، حيث من المتوقع أن يستلم مهامه منتصف يونيو/حزيران الحالي. وجاء هذا التعيين دون تنسيق مع المستشارة القضائية للحكومة غالي بهاراف ميارا ، التي عارضت إقالة بار، وأكدت أن تعيين زيني غير قانوني، مشيرة إلى وجود تضارب مصالح وإجراءات معيبة في عملية اتخاذ القرار. وأقرت المحكمة العليا بعدم قانونية قرار إقالة رئيس الشاباك، إذ شددت المستشارة القضائية على أنه يتوجب على نتنياهو الامتناع عن أي إجراء يتعلق بتعيين رئيس جديد للجهاز حتى بلورة تعليمات قانونية تضمن نزاهة الإجراءات. ولكن الحكومة عادت وألغت قرار إقالة بار عقب إعلانه الاستقالة منتصف الشهر الجاري، في حين سارع نتنياهو للإعلان عن تعيين اللواء زيني رئيسا للشاباك. وأثارت هذه الأزمات مجتمعة، وإن اختلفت طبيعتها، جدلا داخليا وخارجيا كبيرا، وفتحت باب النقاش داخل الجهاز بشأن المسار الذي يسير فيه حاليا مع تعيين زيني، مما أثار تحفظات داخلية واسعة. وترى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية في هذا التعيين خطوة تحمل تضاربا في المصالح لنتنياهو، خاصة أنه تم دون إشراك رئيس الأركان إيال زامير أو وزير الدفاع يسرائيل كاتس. وحيال ذلك، يسود قلق عميق داخل الجهاز من أن يؤدي تعيين زيني إلى اضطرابات داخلية واحتكاكات في صفوف القيادة، وأن يؤثر على تماسك الجهاز واستقراره، خاصة في ظل الأوضاع الأمنية المعقدة التي تمر بها إسرائيل. تقويض وإخضاع ويرى المحلل السياسي عكيفا إلدار أن تحقيقات بار في تسريبات طالت مكتب نتنياهو وضعته في مواجهة مباشرة مع رئيس الحكومة وحلفائه، خاصة الوزير إيتمار بن غفير ، في صراع يتجاوز البعد الإداري ليعكس خلافا عميقا حول هوية الدولة وحدود صلاحيات الحكومة. وأوضح للجزيرة نت أن محاولات إقالة رئيس الشاباك، مثل إقالة وزير الدفاع السابق يوآف غالانت المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة، تعكس نمطًا متكررا لدى نتنياهو يتمثل في تقويض كل مركز قوة مؤسسي لا يخضع تماما لإرادته. غير أن حالة بار والمستشارة بهاراف ميارا تحمل بعدا أعمق كونها تمس بشكل مباشر الملفات القضائية التي يواجهها نتنياهو. إعلان وأكد إلدار أن القلق المتنامي داخل المؤسستين الأمنية والقانونية نابع من ازدياد التدخل السياسي العلني في عمل الشاباك والنيابة العامة، حيث بات وزراء في الحكومة يتدخلون في مسائل مهنية حساسة، ويطالبون بإقالات واستدعاءات، مما يهدد بتسييس أجهزة الدولة وتحويلها إلى أدوات تابعة للسلطة التنفيذية. وأشار إلى أن نتنياهو، إلى جانب وزرائه مثل ياريف ليفين و بتسلئيل سموتريتش ، يشكلون جبهة تسعى إلى تغيير جذري في بنية النظام السياسي الإسرائيلي. ورغم اختلاف دوافعهم، فإنهم يتفقون على هدف تقويض استقلال القضاء والأمن ووسائل الإعلام لصالح سلطة تنفيذية مطلقة تمسك بمفاصل الدولة. تحذيرات وتهديدات وكان الجنرال السابق وخبير الاستخبارات ومكافحة الإرهاب باراك بن تسور قد حذَّر من تعيين زيني رئيسا للشاباك في هذا التوقيت الحساس، واصفا الخطوة بأنها "خطر مهني جسيم". وأكد في تقرير نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" أن الشاباك يحتاج قيادة خبيرة في مواجهة التهديدات الداخلية المتعددة، مثل التجسس الإيراني والتعاون الأمني الدولي المعقد. وانتقد طريقة تعيين زيني التي تمت عبر محادثة داخلية دون إشراك المسؤولين العسكريين، واعتبر ذلك ضربة لثقة الجهاز وإدارته، محذرا من "صدمة تنظيمية" قد تؤثر سلبا على أداء الشاباك في وقت حساس. وأكد أن الشاباك يمر بمرحلة دقيقة تعاني من أزمة ثقة داخلية وتدخل سياسي غير مسبوق، وأن مستقبل استقراره مرتبط بالقرارات السياسية القادمة التي ستحدد مسار هذا الجهاز الأمني.