
أوقاف سوريا.. ثروة عقارية تحت أنقاض الفساد
فعلى امتداد العقود الماضية، تحوّلت آلاف العقارات الوقفية في دمشق وحلب ومدن أخرى إلى أدوات للإثراء الخاص ومشاريع استثمارية بيد متنفذين في النظام المخلوع، في ظل غياب الشفافية واحتكار المزايدات.
ومع بداية مرحلة جديدة في سوريا، تسعى وزارة الأوقاف إلى استعادة هذه الأملاك، وتصحيح ما أفسده النظام المخلوع.
يتناول هذا التقرير حجم الثروة الوقفية في البلاد، وأبرز مظاهر الفساد التي طالتها، والآليات المقترحة لمعالجتها، والتحديات التي تواجه إعادة الاعتبار لمفهوم الوقف في سوريا.
من مؤسسة مجتمعية إلى أداة سلطوية
لم يكن الوقف في سوريا مجرد نظام قانوني لتنظيم التبرعات، بل كان لقرون عماداً للحياة الاجتماعية والاقتصادية، يمول التعليم والإسكان والرعاية الصحية، وحتى رعاية الحيوانات، لكن مع خروج العثمانيين عام 1918، بدأت هذه المؤسسة تواجه التسييس والتفكيك.
في ظل الانتداب الفرنسي خضعت الأوقاف لسيطرة الدولة، وبدأت تتآكل استقلاليتها، ثم استُكملت هذه السيطرة بعد الاستقلال، حيث تراجعت مصالح الأوقاف، وضربت قضية الوقف ضربة شديدة بإصدار قوانين تبيح عدم التقيد بشروط الواقف المتبرع.
لكن التحوّل الأكبر وقع مع وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى الحكم عام 1963، حين أصبحت وزارة الأوقاف خاضعة كلياً للسلطة التنفيذية، وتحولت العقارات الوقفية إلى مصدر تمويل سياسي وشخصي.
وبحسب إحصاءات وزارة الأوقاف ذاتها، فقد بلغ عدد العقارات الوقفية في سوريا نحو 33 ألفا و700 عقار موزعة كما يلي: حلب 18 ألف عقار، دمشق 8 آلاف عقار، إدلب 3 آلاف عقار، باقي المحافظات 4 آلاف عقار، ويقسم الوقف إلى 3 أقسام:
الوقف الخيري، وهو الذي يشترط فيه الواقف صرف عائداته إلى جهة خيرية مستمرة الوجود، مثل (الفقراء والمساكين والمساجد والمدارس والمستشفيات) وغيرها، وهو الأكثر رواجاً في سوريا.
والوقف الأهلي أو الذري، الذي يخصص عائده للذرية في البداية ثم لاحقاً لجهة خيرية.
والوقف المشترك، وهو ما اشترك في استحقاق عائده الذرية وجهات البر عامة.
بقيت الأوقاف مخصصة للأيتام والفقراء والمساجد على الورق، لكن في الواقع جرى تفريغ مضمونها، وأُبرمت آلاف العقود مع مسؤولين وتجار نافذين بأسعار رمزية أو بموجب نفوذ أمني، وهذا ما دفع السوريين إلى الإحجام عن التبرع بأراض أو أملاك للأوقاف منذ العام 1965، وذلك بحسب تقارير وتصريحات إعلامية لمسؤولين في وزارة الأوقاف.
منظومة فساد محمية بالقانون في قبضة النظام
لم تكن سياسات النظام السوري السابق في مؤسسة الأوقاف مجرّد فساد إداري، بل كانت، بحسب خبراء ومسؤولين حاليين في الوزارة، عملية مدروسة نفذت على مدى عقود، بدءاً من حافظ الأسد وحتى بشار، عبر منظومة فساد استخدمت القوانين لتجريد الوقف من استقلاله وتحويله إلى مصدر دخل دائم للنظام وشبكة المنتفعين المحيطة به.
ففي عهد الأسد الأب والابن، تحوّلت وزارة الأوقاف من جهة راعية للفقراء والمحتاجين إلى "خزينة غير رسمية" تُدار في الظل، بعقود استثمار طويلة الأمد أُبرمت مع رجال أعمال مقربين من السلطة، بأسعار لا تعكس أدنى قيمة لعقارات بعضها في قلب دمشق وحلب.
لم تكن هذه السيطرة لتتم دون غطاء قانوني، فقد أصدر النظام السوري منذ عهد حافظ الأسد، وبعده بشار جملة من التشريعات مكّنت وزارة الأوقاف من التصرف المطلق بالعقارات الوقفية، أبرزها القانون رقم 31 لعام 2018، الذي منح صلاحيات واسعة في التعاقد والاستثمار دون رقابة قضائية أو شفافية مالية.
وفي هذا السياق، كشف سامر بيرقدار، مدير الأوقاف في محافظة دمشق، ومعاون وزير الأوقاف لشؤون الوقف، عن منظومة فساد ضخمة كانت قائمة أيام النظام المخلوع تعمل على نهب عائدات الوقف، وتوزيعها ضمن شبكة من المقربين أيام حكم الأسدين، وعلى رأسهم بشار الأسد وزوجته أسماء ورامي مخلوف.
وعن تفاصيل هذه المنظومة، قال بيرقدار للجزيرة نت، "وزارة الأوقاف هي من أغنى الوزارات في سوريا من حيث العقارات، لكنها كانت الأفقر من حيث الواردات، نتيجة شبكة فساد ضخمة نسجت خيوطها أيام النظام البائد، واستغلت الغطاء القانوني لتحويل ريع الوقف إلى مصالح خاصة".
وبحسب القانون 31، الصادر عام 2018 تُعتبر عقارات الأوقاف ذات طبيعة خاصة، أي أنها ليست أملاك دولة ولا أملاك أفراد، وإن كان معظمها في الأصل من أملاك الأفراد ـالذين هُجِّر أغلبهم بسبب ظروف الحرب أو الملاحقة الأمنيةـ إلا أنهم تبرعوا بها. ومن عقارات الوقف، على سبيل المثال، الجوامع والتكايا ودور التوحيد والمدارس والمكتبات والمقابر والمقامات والمزارات.
شبكات فساد وملايين مسروقة
تحولت وزارة الأوقاف التي يفترض أن ترعى أموال الفقراء والمحتاجين، إلى واجهة قانونية لتمرير عقود إيجار واستثمار تخدم رجال السلطة والمقربين من عائلة الأسد، بينما كانت العائدات الفعلية تكاد لا تذكر مقارنة بالقيمة الحقيقية للأملاك المؤجرة.
ومن أمثلة النهب والفساد، بحسب بيرقدار، إنه في قلب دمشق نُقلت أرض وقفية قرب ساحة الأمويين لصالح محافظة دمشق بموجب مرسوم من بشار الأسد، ثم وُضعت تحت تصرف شركة تتبع أسماء الأسد.
ويتابع بيرقدار، إن هذه الأرض التي كانت تضم مدينة ألعاب موسمية، أُجّرت بعقد قيمته 60 ألف دولار فقط لكل ستة أشهر، قبل أن تكشف المزادات بعد تحرير سوريا أن قيمتها الحقيقية تصل إلى 320 ألف دولار لنفس الفترة.
أما مجمع يلبغا -يضيف المسؤول السوري- فهو مثال صارخ على تقلب العقود بحسب الأسماء المتنفذة، فبينما وُقّع عقد استثماري مع شركة خليجية عام 2007 مقابل 5.5 ملايين دولار سنوياً، أُلغي العقد وأُقيل الوزير بعد أن حاول رامي مخلوف الاستحواذ على المبنى.
ثم أُعيد المشروع لاحقاً إلى مستثمر مقرّب من بشار الأسد، بعقد جديد لا يتجاوز 340 ألف دولار سنوياً بدعم من وزير أوقاف النظام محمد عبد الستار السيد، ما يكشف بوضوح أن القرب من السلطة كان هو المعيار الحقيقي لتحديد "قيمة" العقار.
إلى جانب ذلك، كشفت تقارير إعلامية أنه في إدلب ظهر التفاوت جلياً بعد خروج المدينة على سيطرة النظام، حيث رُفعت الإيجارات الوقفية إلى قيمة السوق الرائجة، وبلغت العائدات السنوية 2.4 مليون دولار، وهو ما يفوق إجمالي عائدات الوقف في عموم سوريا قبل الثورة، والتي لم تكن تتجاوز 1.6 مليون دولار سنوياً.
تفكيك إرث الفساد بعد سقوط النظام
منذ سقوط النظام السابق في ديسمبر/كانون الأول 2024، دخلت وزارة الأوقاف مرحلة جديدة من التصحيح والمحاسبة، تستهدف إعادة الاعتبار لمؤسسة الوقف بعد عقود من الاستغلال والنهب المنظم، فقد بدأت الوزارة بمعالجة ملفات الفساد المتراكمة، واسترجاع العقارات الوقفية التي استولى عليها نافذون في النظام السابق بطرق غير قانونية، وذلك بحسب عدة مصادر في وزارة الأوقاف.
من ناحيته، أكد معاون الوزير سامر بيرقدار، أن الوزارة تعمل على تفكيك منظومة الفساد التي أحكمت سيطرتها على قطاع الأوقاف كاملا، وتعمل الآن على "إعادة الوقف إلى أصوله الشرعية والاجتماعية، كما أراده الواقفون الأوائل".
وفي خطوة لافتة، أصدرت مديرية أوقاف دمشق تعميماً رسمياً بفسخ عقود الإيجار المبرمة مع أبناء عدنان الأسد، ابن عم الرئيس المخلوع، والمتعلقة بعقار تجاري في منطقة باب مصلى وسط العاصمة. العقار الذي تبلغ مساحته 745 متراً مربعاً كان مؤجّراً بعقد وُصف بـ"المجحف"، إذ لم تتجاوز قيمة إيجاره 300 دولار سنوياً، رغم موقعه التجاري الحيوي مقابل مستشفى الرشيد.
وبحسب نص التعميم، فإن المزاد رُسّي على أبناء عدنان الأسد دون منافسة حقيقية، وباستغلال مباشر للنفوذ، ما دفع الوزارة إلى مطالبتهم بإخلاء العقار فوراً، في أول إجراء رسمي ضد أحد رموز الأسرة الحاكمة السابقة في ملف الأوقاف.
وفي السياق ذاته، أوضح بيرقدار أنه تمت استعادة عدة عقارات بارزة، منها مجمع يلبغا ومدينة الألعاب في دمشق، إضافة إلى وقف القطط شمال الجامع الأموي ، الذي كان مؤجّراً لتجار بصفقات رمزية منذ عهد النظام المخلوع.
وإلى جانب الإجراءات التنفيذية، أعلنت الوزارة تأسيس صندوق مستقل لإدارة الاستثمارات الوقفية، منفصل عن خزينة الدولة، لضمان الشفافية والحوكمة الرشيدة في إدارة العائدات، بعيداً عن التدخلات السياسية السابقة.
كما باشرت الوزارة مراجعة شاملة لجميع عقود الإيجار التي أُبرمت خلال العقود الماضية. وقد بادر عدد من المستأجرين إلى مراجعة مديريات الأوقاف طوعاً لتعديل شروط عقودهم، تماشياً مع القواعد الجديدة التي تضع مصلحة الوقف في المقدمة.
وفي سياق متصل، أصدرت أوقاف دمشق في 10 يوليو/تموز الجاري قراراً يقضي بفسخ عقد سينما الكندي "الواقعة على العقار الموصوف بالمحضر رقم 2285 منطقة صالحية جادة، وببدل 30 دولارا أميركيا سنوياً لمساحة تتجاوز الـ700 متر مربع". وأوضحت المديرية أنها ستعيد تأهيل العقار المذكور "ليكون مركزاً ثقافياً يشع منه نور المعرفة والعلم على شباب سوريا".
عقبات كبرى وحلول جذرية للإصلاح
رغم التقدم الذي تحرزه وزارة الأوقاف السورية في جهود استرداد حقوق الممتلكات الوقفية، فإن مسار تفكيك المنظومة الفاسدة لا يزال محفوفاً بتحديات قانونية وإدارية وتنظيمية عميقة، تراكمت عبر عقود من التعتيم الممنهج في عهد النظام المخلوع.
من أبرز هذه العقبات، ما أشار إليه سامر بيرقدار، وهو غياب أرشيف منظم وموثق للعقارات الوقفية، حيث لا تزال معظم الأملاك مسجلة في "أضابير مهترئة" يعود بعضها إلى أكثر من خمسة عقود، في ظل غياب أي قاعدة بيانات إلكترونية. واعتبر بيرقدار هذا الإهمال المتعمد جزءاً من سياسة طمس المعلومات لتسهيل السيطرة على الوقف من شبكات النفوذ السابقة.
عقبة أخرى تتمثل في القوانين الموروثة، وعلى رأسها قانون الإيجار، الذي يكرّس ما يُعرف بـ"التمديد الحكمي"، والذي يسمح للمستأجرين بالاحتفاظ بالعقارات إلى أجل غير مسمى، هذا القانون كما تقول الوزارة لا يمكن أن يستمر في حكم العلاقة بين الوقف والمستأجر، ويجري العمل حالياً على تعديله بالشراكة مع وزارة العدل.
وتواجه الوزارة أيضاً ملفاً بالغ الحساسية، ويتمثل في العقارات الوقفية التي كانت مؤسسات حكومية مستولية عليها، ويبلغ عددها 543 عقاراً، منها مبانٍ كبرى كوزارة الزراعة في دمشق، وقد بدأت هذه المؤسسات فعلياً بإعادة العقارات إلى ملكية الأوقاف بعد صدور قرارات استرداد رسمية.
وفي مواجهة هذه التحديات، أطلقت الوزارة خطة شاملة للإصلاح، تتضمن، بحسب ما أفادت مصادر في الوزارة للجزيرة نت، أتمتة أرشيف الوقف بالكامل، وإنشاء قاعدة بيانات مركزية بالتعاون مع الأرشيف العثماني، ومراجعة قانون الإيجار وتعديل القانون رقم 31 بما يتوافق مع مصلحة الوقف وشروط الواقفين، وتشكيل غرفة قضائية وقفية متخصصة للنظر في نزاعات الوقف بما يراعي الطابع الشرعي والتاريخي له.
وكذلك مخاطبة الجهات العامة لإخلاء العقارات الوقفية التي كانت تحت إشرافها دون وجه حق، وفتح باب التعاقد مع مكاتب محاماة خاصة للتكفل باسترجاع الأوقاف المسلوبة، بما فيها تلك التي انتُزعت بقرارات سياسية أو عبر مزادات صورية.
وتسعى الوزارة في خطتها أيضا إلى تشجيع البحث الأكاديمي في مجال الوقف، بهدف تطويره، وتقديم العقارات الوقفية الكبرى للهيئة العامة للاستثمار، لضمان إدارتها بكفاءة ضمن إطار شفاف يخدم الصالح العام.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 5 ساعات
- الجزيرة
البيت الأبيض: الحرب على غزة أصبحت وحشية وترامب يريد وقفها
قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت إن الرئيس دونالد ترامب يريد وقف القتل في غزة ، مشددة على أن إنهاء الحرب أولوية بالنسبة له. وأضافت ليفيت -في إيجاز صحفي مساء أمس الاثنين- أن الحرب على غزة أصبحت وحشية للغاية في ظل تزايد أعداد القتلى خلال الأيام الأخيرة. وتابعت أن الرئيس ترامب يرى أن الحرب في غزة طالت، وأن القتال أصبح أكثر دموية خلال الأيام الأخيرة. كما قالت إن الرئيس يريد أن يتم التفاوض من أجل وقف إطلاق النار، والإفراج عن "الرهائن" (الإسرائيليين) وأنه يريد دخول المساعدات لغزة بطريقة آمنة. وقالت ليفيت إن الرئيس ترامب يتمتع بعلاقة جيدة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لكنه فوجئ بقصف سوريا وقصف الكنيسة في غزة. وكان ترامب استقبل نتنياهو مؤخرا في البيت الأبيض، وتحدث بعد ذلك مرارا عن إمكانية التوصل قريبا إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة. وتجري منذ أسبوعين في الدوحة مفاوضات غير مباشرة بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) بوساطة قطرية ومصرية وأميركية، وتحدثت وسائل إعلام إسرائيلية اليومين الماضيين عن تقدم قد يفضي لاتفاق. ويواجه رئيس الوزراء الإسرائيلي اتهامات بإطالة أمد الحرب لأسباب سياسية، إذ يرفض حتى الآن التعهد بعدم استئناف الحرب بعد هدنة محتملة لمدة 60 يوما.


الجزيرة
منذ 6 ساعات
- الجزيرة
هذا هو حلم إسرائيل الأكبر في سوريا
دعا حكمت الهجري، أحد المرجعيات الدرزية الروحية في محافظة السويداء السورية، إلى فتح معبر دولي بين السويداء والأردن جنوبًا، وفتح الطرقات التي توصل السويداء بمنطقة شرق الفرات شمالًا، وهي المنطقة التي تسيطر عليها قوات حماية الشعب الكردية "قسد". هذه الدعوة من الرجل المعروف بتعاونه مع الاحتلال الإسرائيلي، جاءت مباشرة عقب مغادرة الجيش السوري والأجهزة الأمنية محافظة السويداء نتيجة قصف الطيران الإسرائيلي المكثف لها. وكانت تعبيرًا عن شعور بالانتصار على الدولة السورية بدعم إسرائيلي مباشر، وبأن الوقت حان لتمهيد الطريق لخروج السويداء عن حكم السلطة في دمشق، ما دام الحديث بات عن معبر سيادي خاص بالمحافظة مع الأردن. الطائفية وإسرائيل الهجري لا يمثل بالضرورة الأغلبية الدرزية في سوريا، في ظل وجود مرجعيات روحية أخرى أمثال الحنّاوي وجربوع، رافضة للتدخل الإسرائيلي، بالإضافة إلى الشيخ ليث البلعوس، القيادي في تجمع رجال الكرامة، الذي يقف ضد الهجري ويتمسك بوحدة الدولة السورية. خروج الهجري عن الصف الدرزي والوطني، منذ سقوط نظام الأسد، تقاطع مع سياسات إسرائيل التي عملت على تدمير مقدرات الجيش السوري عبر مئات الغارات الجوية، بالإضافة إلى احتلالها مرتفعات جبل الشيخ، وأراضيَ سورية تقع خلف خط هدنة العام 1974، بعمق يصل إلى نحو 3 كيلومترات. وما كان له أن يقف ضد الحكم الجديد في دمشق، لولا دعم إسرائيل له بالمال والسلاح، وبتدخلها مباشرة عبر سلاح الطيران لصالحه، ما يعني أن إسرائيل هي المحرك، وهي من يرسم حدوده وسقفه. إسرائيل، المتهمة بالإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية، ورئيس وزرائها مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، والتي تقتل يوميًا 28 طفلًا فلسطينيًا منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وحتى الآن، حسب إحصاءات الأمم المتحدة، ليست أخلاقية أو إنسانية، وليست أهلًا لدعم حقوق شريحة من طائفة في بلد آخر. وواقع الحال يشير إلى أن إسرائيل تستخدم الهجري لتحقيق أهدافها السياسية الاستعمارية في سوريا، ومنها إقامة ما يسمى بـ"ممر داود" في عمق الأراضي السورية، والذي يمر حُكمًا بمحافظة السويداء التي يقطنها الرجل وأتباعه. ما هو "ممر داود"؟ حسب التنظير الصهيوني التوراتي، فإن إسرائيل تتطلع لإقامة محور أو ممر جيوسياسي ينطلق من شمال فلسطين عبر الجولان ومحافظتي درعا والسويداء، ومن ثم التمدد في الأراضي السورية الشرقية نحو الشمال، عبر منطقة التنف (نقطة التقاء الحدود السورية مع الأردن والعراق) وصولًا إلى شرق الفرات على الحدود التركية العراقية، والدخول بلسان جغرافي من محافظة الأنبار العراقية إلى كردستان العراق. هذا المخطط يرتبط بفكرة إسرائيل الكبرى ودولة بني إسرائيل في عهد النبي داود، وهي دولة مزعومة، ليس لها ما يدل عليها في علم الآثار في بلاد الشام أو العراق، ما يشير إلى أهداف إسرائيل الاستعمارية الرامية إلى التمدد والسيطرة عبر التحكم بالجغرافيا. إسرائيل تحتل الآن أجزاء واسعة من محافظة القنيطرة السورية المحاذية لفلسطين، وهي تعمل بالتعاون مع حكمت الهجري لإنشاء كيان موالٍ لها في محافظة السويداء، في وقت تدعم فيه قوات "قسد" الكردية المسيطرة واقعيًا على شرق الفرات. إذا استطاعت إسرائيل، تحت إشرافها وسيطرتها، الوصل جغرافيًا بين محافظة القنيطرة التي تحتل أجزاء منها جنوب غرب سوريا، وبين السويداء جنوب شرق سوريا، ومن ثم فتحت طريقًا بين السويداء جنوبًا وشرق الفرات شمالًا- وهو ما طالب به حكمت الهجري كما أُشير له في بداية المقال- فإن ذلك سيُعد نجاحًا إستراتيجيًا لإسرائيل، سيكون له الكثير من التداعيات الجيوسياسية. التمدد الجغرافي داخل الأراضي السورية، وصولًا إلى شرق الفرات، سيكون توطئة للوصول إلى كردستان العراق عبر محافظة الأنبار العراقية، فيكتمل هنا ما يسمى "ممر داود". إنجاز هذا المشروع الاستعماري يعتمد على مستوى نجاح إسرائيل في توظيف الأقليات الطائفية (الدروز) والعرقية (الأكراد)؛ وهذا ما تعمل عليه إسرائيل وقوى الاستعمار بإثارتها الأبعاد الطائفية والعرقية، بعيدًا عن الحس الوطني أو الانتماء لفكرة الأمة، لإبقاء دول المنطقة ممزقة، مستنزفة، وغير قادرة على حماية نفسها. التهديد الوجودي لطالما كان للجغرافيا تأثير كبير على سلوكيات البشر والكيانات السياسية، فالدول المطلة على البحار، سلوكها ونظريات أمنها القومي تختلف عن الدول الداخلية، كما الدول ذات المساحة الصغيرة والدول التي تحظى بمساحات كبيرة ارتباطًا بالتعداد السكاني. إسرائيل، منذ إنشائها وحتى الآن، تعيش عقدة الديمغرافيا قليلة العدد، وانحسار الجغرافيا لمحدودية مساحة فلسطين المحتلة، ما يجعلها على الدوام تتحدث عن مواجهتها تهديدات وجودية، وذلك لعدة أسباب، منها: 1- الشعور العميق لدى الإسرائيليين بالاغتراب، وعدم الأصالة، وانعدام اليقين؛ فإسرائيل نبتٌ من خارج نسيج المنطقة العربية، واتصالها بالغرب وسياساته الاستعمارية يجعلها دائمة القلق. وهذا يفسر سبب حرصها الدائم طوال 77 سنة من الاحتلال على اعتراف الشعب الفلسطيني بشرعية وجودها كدولة يهودية. 2- محدودية مساحتها وفقدانها العمق الجغرافي؛ فرغم قوتها العسكرية المدعومة من واشنطن وعموم المنظومة الغربية، فإنها تعيش خشية متعاظمة مع مرور الزمن، لا سيما في السنوات الأخيرة، مع التقدم الكبير في منظومات الصواريخ والمسيرات الهجومية التي أصبحت متاحة لأغلب الدول، كما هو الحال مع إيران التي قصفت بعنف مواقع إسرائيلية حساسة بصواريخها الفَرط صوتية ردًا على العدوان الإسرائيلي عليها في الشهر الماضي. 3- توسع ظاهرة المقاومة المناهضة للاحتلال الإسرائيلي من داخل فلسطين وعبر الحدود، كما تقوم بذلك حركة حماس والمقاومة الفلسطينية وحزب الله اللبناني، إضافة إلى خشية إسرائيل من تداعيات ارتفاع منسوب العداء لها من قبل الشعوب العربية؛ بسبب سياساتها وجرائمها بحق الشعب الفلسطيني، والتي دفعت الشعب اليمني لنصرة غزة في مواجهة الإبادة الجماعية. في ظل هذه البيئة السياسية الرافضة للاحتلال، تعيد إسرائيل النظر في محددات أمنها القومي، بإدخال عنصر التوسع الجغرافي في المنطقة لمواجهة تحدياتها الأمنية الوجودية، مستعينةً بأساطير توراتية لتضفي القداسة والشرعية اللاهوتية على احتلالها أراضي الدول العربية المجاورة لفلسطين المحتلة. الجغرافيا والأمن القومي مشروع "ممر داود" يشكل رأس جسرٍ بري لاختراق بلاد الشام حتى شمال العراق، توطئة لاختبار إمكانية تمدد الاحتلال في أراضي الدول العربية، تحقيقًا لفكرة إسرائيل الكبرى. الأهداف المنشودة لمشروع "ممر داود"، تتمثل في عدة أمور منها: توسيع مساحة إسرائيل بالسيطرة على أراضٍ عربية كجزء من إسرائيل الكبرى إن استطاعت إلى ذلك سبيلًا، وإن لم تتوفر الظروف والبيئة المناسبة لذلك، فيمكن تحويل الممر إلى منطقة هيمنة لإسرائيل بالتعاون مع "الدروز" جنوبًا و"الأكراد" شمالًا، وبغطاء أميركي، حيث تتواجد القوات الأميركية شرق الفرات. خلق بيئة لتقسيم سوريا على أساس طائفي وعرقي؛ كيان درزي جنوب سوريا في السويداء، وكردي شرق الفرات، وعَلوي على الساحل، وسني عربي في الوسط، ما يؤدي إلى إضعاف سوريا وإنهاكها على المدى الطويل. الفصل بين سوريا والعراق، وإضعاف فرص التنسيق بينهما كدولتين عربيتين مهمتين مناهضتين للاحتلال الإسرائيلي. إضعاف النفوذ الإيراني بقطع خط التواصل بين طهران وبيروت، عبر السيطرة على الحدود الشرقية لسوريا مع العراق، ما يعني إضعاف حزب الله كقوة مقاومة ضد إسرائيل. الاقتراب من حدود تركيا الجنوبية وتهديد أمنها الإقليمي كدولة منافسة ومزاحمة لإسرائيل في الشرق الأوسط، وتقليص نفوذها داخل سوريا بعد نجاح الثورة السورية. التدخل في الشؤون العراقية الداخلية عبر المكونات الطائفية والعرقية. الاستفادة من مصادر الطاقة والأراضي الزراعية شرق الفرات. ختامًا اشتباكات محافظة السويداء بين مليشيات درزية تابعة لـ (حكمت الهجري) وبين العشائر العربية في منتصف يوليو/ تموز الجاري، ربما كانت فعلًا مقصودًا بتحريض إسرائيلي، لدفع الجيش السوري والأجهزة الأمنية للتدخل، ما يؤدي إلى تكرار تدخل إسرائيل في المشهد السوري بذريعة الدفاع عن الدروز، لتثبيت واقع نزع سلاح الدولة السورية في المحافظات الجنوبية، ولتدمير ما يمكن تدميره لإعاقة البناء والنهوض في سوريا، بعد نجاح الإدارة السورية الجديدة في اختراق الحصار المضروب عليها. هذا الاشتباك بين الدروز من أتباع (حكمت الهجري) والعشائر العربية، أعطى مؤشرًا مهمًا على دور إسرائيل التخريبي في سوريا، ولعبها على وتر الطوائف والأقليات، لإنهاك سوريا، وتعظيم التدخل والنفوذ الإسرائيلي فيها. إسرائيل متحفزة لاستمرار ضغطها على دمشق لدفعها للقبول بشروطها، وفي مقدمتها الاعتراف بإسرائيل، والتطبيع معها، والتنازل عن هضبة الجولان وأراضٍ سورية أخرى في الجنوب السوري. إن حصل اعتراف دمشق بوجود إسرائيل على أرض فلسطين المحتلة، وهو أمر مستبعد، فلن يحول دون أطماع إسرائيل في سوريا والأراضي العربية، لقناعة إسرائيل بأن العرب لا يأتون إليها إلا مذعنين ضعفاء تحت سيف القوة، ما يزيد شراهتها الاستعمارية وتطلعها لكسب المزيد. في هذا السياق، فإن فكرة مشروع "ممر داود" تُعد تحديًا إستراتيجيًا لسوريا والعراق ولبنان وإيران وتركيا، ما يستدعي النظر إليه باهتمام، والنظر في كيفية مواجهته، ومواجهة عبث إسرائيل في أمن المنطقة التي تعيش حالة من انعدام اليقين، بسبب رعونة إسرائيل التي ترى نفسها فوق القانون وخارج نطاق المحاسبة.


الجزيرة
منذ 6 ساعات
- الجزيرة
وزير الإعلام السوري يتهم 4 دول بنشر خطاب طائفي مزيف لتأجيج الوضع
اتهم وزير الإعلام السوري حمزة المصطفى 4 دول بنشر خطاب طائفي وتأجيج الوضع في بلاده، مشيرا إلى أن خصوم الدولة السورية الجديدة ينشرون أخبارا زائفة ويقومون بحملات وفق وتيرة غير مسبوقة. وجاء حديث المصطفى للجزيرة في إطار تعليقه على أحداث محافظة السويداء جنوبي سوريا والتدخل الإسرائيلي تحت ذريعة "حماية الدروز" وجعل منطقة الجنوب "منزوعة السلاح" وحسب المصطفى، فإن للدولة السورية الجديدة خصوما في 4 دول -لم يسمها- ينشرون خطابا طائفيا مزيفا لتأجيج الوضع، مشيرا إلى أن البعض يحاول الاستثمار في خطاب الكراهية الذي تبناه النظام السابق. وقال الوزير السوري إن "التدخل الإسرائيلي لمحاولة قلب الوقائع في السويداء حال دون تدخل الدولة السورية". ودارت اشتباكات دامية منذ الأحد الماضي بين عشائر بدوية ومجموعات درزية في السويداء تطورت إلى عمليات انتقامية، في حين عرقلت غارات جوية -شنتها إسرائيل على محافظات سورية بزعم "حماية الدروز"- جهود القوات الحكومية لاحتواء الأزمة. وكشف المصطفى أن دمشق وافقت على مطالب الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز حكمت الهجري ، لكنه تبرأ من الاتفاق لاحقا مستقويًا بالخارج. وأطلق الهجري مناشدات للرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالتدخل من أجل ما سمّاه "إنقاذ السويداء". كما طالبت الرئاسة الروحية لطائفة الموحدين الدروز -في بيان- بما وصفتها بالحماية الدولية على خلفية خطورة الوضع في المحافظة. واتهم الوزير السوري مجموعات الهجري بارتكاب جرائم في السويداء بهدف إحداث تغييرات ديمغرافية، مشيرا إلى أن "الخطاب الانعزالي" لبعض الجماعات في السويداء قوّض الجهود السياسية. وأعرب عن ثقته في أن السويداء "لن تبدل انتماءها الوطني"، كما ترحب الدولة بمشاركتها في العملية السياسية، مؤكدا أن الشعب السوري تمكن عبر تاريخه من التغلب على السياسات الانعزالية. وأكد أن الدولة الجديدة تعهدت بأن تكون الحاميةَ لمواطنيها، فالدولة الجديدة قائمة على أساس شعب واحد وجيش واحد وحكومة واحدة. وحسب المصطفى، فإن الاشتباكات توقفت في المناطق المركزية من محافظة السويداء، في وقت تعمل فيه الدولة على إعادة الاستقرار للمحافظة وتثبيته لإنجاح الحلول السياسية. وكانت الاشتباكات قد تصاعدت عقب انسحاب القوات الحكومية مساء الأربعاء الماضي بموجب اتفاق مع الجماعات المحلية في المحافظة. وأعلنت وزارة الداخلية السورية لاحقا توقف الاشتباكات في مدينة السويداء وإخلاء المنطقة من مقاتلي العشائر عقب انتشار قوات الأمن السورية لتطبيق وقف إطلاق النار ، في حين توعد مجلس القبائل والعشائر بالرد على أي خرق للاتفاق. وأفادت وزارة الصحة السورية بمقتل 260 شخصا وإصابة 1698 آخرين في اشتباكات السويداء، في حين وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل 321 شخصا خلال القتال منذ الأحد الماضي، من بينهم عاملون في الخدمات الطبية ونساء وأطفال. ومنذ مايو/أيار الماضي يتولى إدارة الأمن في السويداء مسلحون دروز بموجب الاتفاق بين الفصائل المحلية والسلطات، لكن ينتشر في ريف المحافظة أيضا مسلحون من عشائر البدو السنة.