
المجمع البابوي يدخل مرحلة الحسم السريع والمفاجآت
أسودَ كان الدخان الذي تصاعد من مدخنة «الكابيلّا سيستينا» مساء اليوم الأول من المجمع البابوي، ولم تكن مفاجأة، إذ لم يعد سراً أن الكرادلة على انقسام حاد حول مواصفات الربّان الذي سيقود دفّة الكنيسة في هذا الزمن الاجتماعي والسياسي المضطرب، وأن العواصم المسيحية الكبرى في العالم ضالعة منذ فترة في الجهود للتأثير على مآل هذا المجمع الحاسم المفتوح على كل الاحتمالات، فضلاً عن أنه لم يحصل أبداً أن انتُخب البابا منذ جولة الاقتراع الأولى. والدخان الأسود الذي تصاعد ظُهر الخميس، أيضاً كان في حسابات المراقبين والمراهنين الذين أطلقوا كل أنواع التوقعات والترجيحات.
تجمع الكرادلة قبل بدء المجمع المغلق لانتخاب بابا جديد في«الكابيلّا سيستينا» في مدينة الفاتيكان (إ.ب.أ)
المفاجأة جاءت، بعد انتظار طويل غير مألوف لمعرفة نتيجة الاقتراع الأول، عندما حطّ طائر النورس قرب المدخنة لحظة ظهور الدخان الأسود، مذكّراً بذلك النورس الذي حطّ في نفس المكان لحظة تصاعد الدخان الأبيض معلناً انتخاب البابا برغوليو عام 2013. لكن الرهانات ما زالت مفتوحة على كل الاتجاهات، والآلاف الذين يحتشدون في باحة القديس بطرس عند مدخل الفاتيكان، قلة منهم تصلّي وتتضرّع للروح القدس كي يلهم الكرادلة في خيارهم للبابا الجديد، والباقون يتابعون هذا المجمع كمن يتابع الدور النهائي لبطولة العالم لكرة القدم.
الإيطاليون، ومعهم جميع وسائل الإعلام الإيطالية، يريدون «استعادة» السُّدَّة الرسولية التي تَعاقب عليها ثلاثة من «الأجانب» في العقود الأربعة الأخيرة، ويعقدون الآمال على وزير خارجية الفاتيكان بيترو بارولين، لوسطيته بين التيارين الإصلاحي والمحافظ، ولدرايته الواسعة بشؤون الفاتيكان، وما نسجه من علاقات دولية. ويراقب بشيء من الحذر صعود أسهم الكاردينال بيرباتيستا بيزابالّا، أسقف القدس الذي قد يكون صغر سنه، 60 عاماً، الحائل الأساسي دون انتخابه.
الدخان الأسود تصاعد ظهر الخميس كان في حسابات المراقبين والمراهنين الذين أطلقوا كل أنواع التوقعات والترجيحات (إ.ب.أ)
الفرنسيون يحلمون بوصول أسقف مرسيليا، جان مارك آفيلين، إلى السُّدَّة البابوية، وهو المعروف بتبحره اللاهوتي، والذي يحظى بتقدير واسع بين زملائه. والإسبان لهم أكثر من مرشح، والفلبينيون أيضاً، وليس مستبعداً أن تأتي المفاجأة من الولايات المتحدة في شخص الكاردينال فرنسيس روبرت بريفوست، المتحدر من جذور إيطالية وفرنسية وإسبانية، وأمضى عشرين عاماً بين مرسل وأسقف في بيرو، إلى أن استدعاه البابا فرنسيس وكلّفه إدارة مجلس الأساقفة. ويقول عارفوه إنه يتميز بقدرته على الحوار والتعاون والإصغاء، ويحظى بتقدير الكرادلة من شتّى الاتجاهات، مما يجعل منه المرشح المناسب كي يلمّ شمل مجمع لم تعرف الكنيسة مثل تنوّعه.
بعد اليوم الأول الذي تُجرى فيه جولة اقتراع واحدة فحسب، يأتي اليوم الثاني بجولاته الأربع؛ اثنتان قبل الظُّهر واثنتان بعد الظُّهر، لكنَّ الدخان لا يتصاعد سوى مرتين في نهاية كلٍّ من الجلستين الصباحية والمسائية، إلا في حال فوز أحد المرشحين خلال جلسة الصباح. ومن المفترض في نهاية اليوم الثاني، إذا عجز المجمع عن اختيار البابا الجديد، أن تتضح صورة التوازنات الأولية، وتظهر تباشير التحالفات المحتملة، وتبدأ الاتصالات والمقايضات بين الكرادلة بعد خروجهم من «الكابيلّا سيستينا» إلى دير القديسة مرتا، على بُعد مائتي متر داخل الحرم الفاتيكاني.
ويرجّح في هذه الحالة أن تبدأ حظوظ المرشحين البارزين، وبخاصة بيترو بارولين، في التراجع لحساب آخرين مغمورين، أو أن يكون ذلك مؤشراً على ذهاب المجمع نحو مواجهة صدامية بين التيارين المحافظ والإصلاحي، من غير اكتراث للصورة التي يعطيها المجمع للخارج عن وجود انقسام حاد داخل الكنيسة.
الجموع تجمهرت في باحة القديس بطرس في انتظار النتيجة (أ.ب)
الدخان الأبيض الذي يعلن انتخاب البابا الجديد لم يكن معروفاً قبل مطلع القرن الفائت. حتى ذلك الحين كان الدخان الأسود فحسب هو الذي يتصاعد من مدخنة «الكابيلّا سيستينا» كلما فشل الكرادلة في التوافق على مرشح. وفي عام 1914 تقرر استخدام الدخان الأبيض للإعلان عن انتخاب البابا الجديد وإطلاق عبارة «Habemus Papam»، أي «لنا بابا»، بعد أن ينال ما لا يقلّ عن ثلثي الأصوات، وبعد أن يقبل الفائز بصريح العبارة الجلوس على كرسي بطرس ويختار اسمه الحبريّ. وحتى عام 2005 كان هناك أيضاً دخان أصفر يُستخدم للتأكد من حُسن سير المدفأة، استُعيض عنه بجهاز إلكتروني حديث لا يحتاج إلى التجربة.
في عام 1958، عندما انتخب مجمع الكرادلة البابا يوحنا الثالث والعشرين، خرج دخان رمادي من مدخنة «الكابيلّا سيستينا» وأثار لغطاً في صفوف الذين كانوا يترقبون النتيجة من الخارج، وبعد توضيح السلطات المعنية أن السبب كان عائداً إلى تلبّد السماء بغيوم كثيفة، سرت إشاعات عن مؤامرة حيكت خيوطها في الغرف السرية، ومفادها أن الفائز كان الكاردينال جيوزيبي سيري، لكنه اضطر لعدم القبول أمام الضغوط التي تعرّض لها. ومنذ دلك التاريخ تقرر أيضاً أن تُقرع الأجراس مواكبةً لتصاعد الدخان الأبيض ومؤكدةً انتخاب البابا الجديد.
الكرادلة يقفون في «الكابيلّا سيستينا» قبل انعقاد المجمع لاختيار البابا القادم في الفاتيكان (رويترز)
عندما تُحرق قسائم الاقتراع في المدفأة القديمة، وينبعث الدخان الأبيض من المدفأة الثانية الموصولة بها، يكون الكاردينال الذي اختاره المجمع قد قبل التكليف، ويصبح من تلك اللحظة أسقفاً على روما، وبابا على الكنيسة، ورئيساً لمجمع الأساقفة له السلطان الأعلى. بعد ذلك يتوجه الحبر الأعظم الجديد إلى «قاعة الدموع» حيث يختار ثوباً أبيض، من بين ثلاثة أثواب جاهزة بمقاسات مختلفة، ويعطَى منديلاً ليكفكف به دمعه عند الصلاة.
ولدى دخول البابا إلى «الكابيلّا سيستينا» للمرة الأولى بثوبه الأبيض، يجلس على كرسي أسقف روما، ويستمع إلى الكاردينال الذي يرأس المجمع يقول له: «هي العناية الإلهية التي اختارتك لتجلس على كرسي بطرس»، قبل أن يردد ما قاله السيد المسيح لسمعان: «أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة سأبني بيعتي». يلي ذلك إعلان الكرادلة ولاءهم للحبر الأعظم الجديد، وهم يمرّون أمامه رافضاً أن يقبّلوا يده أو يسجدوا. وفي النهاية يخرج رئيس المراسم إلى الشرفة المطلة علـى ساحة القديس بطرس ليعلن اسم البابا الجديد ويقدمه للجماهير المحتشدة.
يصلون في «الكابيلّا سيستينا» قبل البدء في عملية التصويت (إ.ب.أ)
ومن الغرائب غير المعروفة في التقاليد والأعراف الكنسية العريقة، أن الجلوس على كرسي بطرس لا يشترط أن يكون المختار كاردينالاً. يكفي أن يكون ذكراً بالغاً وعازباً ومؤمناً، أو علمانياً معمَّداً من أتباع الكنيسة الكاثوليكية. وقد عرفت الكنيسة في العصور القديمة حالات عدة لم يكن فيها البابا كاردينالاً، أشهرها حالة بيترو دي مارّوني الذي أصبح البابا سيلستينو الخامس في عام 1294، وكان آخر البابوات، قبل بنديكت السادس عشر، الذي استقال من حبريته.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ ساعة واحدة
- الشرق الأوسط
جيورجيا ميلوني... من التطرف إلى البراغماتية
أواخر عام 2012، وبعدما كان نجم سيلفيو برلوسكوني قد بدأ يأفل في المشهدين السياسيين الإيطالي والأوروبي، أقدمت مجموعة من قيادات حزبه، تتزعمها رئيسة الوزراء الحالية جيورجيا ميلوني ورئيس مجلس الشيوخ إيغناسيو لا روسّا، على الانشقاق عن الحزب الذي كان أسسه برلوسكوني وحمله أربع مرات إلى رئاسة الحكومة، وقرّرت تأسيس حزب جديد تحت مسمّى «إخوان إيطاليا»؛ تيمناً بعنوان النشيد الوطني الإيطالي. الدافع المعلن لهذه الخطوة كان رغبة المجموعة المنشقّة في إبراز الهوية اليمينية للتيار الذي كانت تمثله، والذي كان في معظمه من ركام الحزب الفاشي الإيطالي المحظور بموجب الدستور تحت مسمّى «التحالف الوطني» الذي تدرّجت ميلوني في صفوفه صبيّة في التاسعة عشرة رئيسةً لتيّار الشباب. غير أن السبب الحقيقي غير المعلن للانشقاق كان التموضع في المشهد السياسي تحسباً للانهيار الذي كانت بدأت تظهر تباشيره في صفوف اليمين الإيطالي، والذي كان حزب «الرابطة»، الانفصالي سابقاً، يتربّص لوراثة قيادته. في تلك المرحلة كان رصيد «إخوان إيطاليا» يقتصر على عشرة مقاعد في مجلس الشيوخ وستة في مجلس النواب. ولم يتمكن خلال الانتخابات العامة والإقليمية التي أجريت حتى عام 2020 من تجاوز حاجز الـ6 في المائة من أصوات الناخبين، أي ما يقارب نصف التأييد الذي كان يحظى به حزب «الرابطة» («رابطة الشمال» أساساً) الذي كان زعيمه ماتّيو سالفيني قد بدأ يحلم بقيادة اليمين الإيطالي على وقع تدهور صحة برلوسكوني. ولكن في عام 2022 انهارت الحكومة الائتلافية التي كان يقودها حزب «النجوم الخمس» بالتحالف مع «الرابطة»، فقرّر رئيس الجمهورية حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة عن موعدها أواسط صيف ذلك العام، خاضها اليمين ضمن تحالف ضمّ برلوسكوني وسالفيني وميلوني، بشرط أن يتولّى تشكيل الحكومة الحزب الذي يحصل على أكبر عدد من الأصوات في حال فوز التحالف. وفي المقابل، وكعادته، خاض اليسار الانتخابات منقسماً على نفسه وسط تناحر تياراته. وكانت المفاجأة نيل حزب «إخوان إيطاليا» أكبر عدد من الأصوات بين قوى اليمين. وهكذا أصبحت رئاسة الحكومة من نصيب ميلوني، التي كان يهزأ برلوسكوني من احتمال وصولها إلى ذلك المنصب. عندما أقسمت جورجيا ميلوني يمين الولاء لمنصبها كأول امرأة تتولّى رئاسة الحكومة في إيطاليا، كانت قد سبقتها صورة اليمين المتطرف الصاعد من كهوف الفاشية، الذي تتسع شعبيته باطراد ويوقظ أشباح الماضي المخيف في المشهد الأوروبي. وفي العواصم الأوروبية الكبرى، كما في بروكسل «عاصمة» الاتحاد الأوروبي، سادت أجواء الترقّب من تداعيات وقوع السلطة، للمرة الأولى في تاريخ الاتحاد، بيد حزب مناهض للمشروع الأوروبي، على الأقل في صيغته الراهنة. ومعلومٌ أن «إخوان إيطاليا» يرفض أن تصدر عن زعيمته إدانة صريحة للنظام الفاشي، وأن يُزال رمزه التاريخي «الشعلة» عن شعار الحزب، بينما يفاخر رئيس مجلس الشيوخ – وساعد ميلوني الأيمن – بتمثال نصفي للزعيم الفاشي بنيتو موسوليني في دارته. الزعيم المجري فيكتور أوربان (رويترز) إلا أن الخطوات الأولى التي أقدمت عليها ميلوني، خاصةً نحو الخارج، أظهرت استعدادها للبقاء ضمن «السرب» الأوروبي، والتنسيق مع الشركاء في جميع الملفات الكبرى، مع الحفاظ على تمايز في ملف الهجرة الذي كان الرافعة الأساسية في صعودها السريع حتى وصولها إلى رئاسة الحكومة. إذ سارعت ميلوني إلى تأكيد الاصطفاف الإيطالي بجانب التحالف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد الغزو الروسي لأوكرانيا، وبنت علاقات وثيقة مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون در لاين، وفتحت قنوات الحوار التي كانت متعثرة مع فرنسا، مُبحرة بذلك عكس التيار السائد داخل الائتلاف الحاكم الذي تقوده. لقد أدركت ميلوني بسرعة أن الخروج عن خط الحليف الأميركي في السياسة الخارجية ليس وارداً، وأن المواجهة الصدامية مع الشركاء الأوروبيين مكلفة جداً بالنسبة للبلد الذي يرزح تحت عبء أعلى نسبة من الدين الخارجي والعجز العام داخل الاتحاد، وأن العداء مع فرنسا يجرّ متاعب كثيرة لا قدرة لإيطاليا على تحملها في المدى الطويل. في غضون ذلك، كانت ميلوني ترسّخ شعبيتها في الداخل وتدفع بأجندتها اليمينية من دون عقبات تذكر، مطمئنة إلى رصيدها الشعبي، والغالبية الساحقة التي تدعمها في البرلمان قبالة معارضة ضعيفة مشتتة. إلا أنه مع ظهور البوادر الأولى لانهيار الديمقراطيين في الولايات المتحدة، وما يستتبعه ذلك الانهيار من تداعيات خارجية - بخاصة على الجبهة الأوروبية - ومع اتساع دائرة الصعود اليميني المتطرف في أوروبا، بدأ كثيرون يرون في ميلوني «المرأة الحديدية» الجديدة في أوروبا. صارت ميلوني، بالفعل، الشخصية السياسية التي تنظر إلى قيادتها القوى والأحزاب اليمينية المتطرفة الطامحة إلى السلطة في الاتحاد، الذي يعاني منذ سنوات تراجع الأحزاب التقليدية التي قام عليها مشروعه. من جهتها، حرصت ميلوني في التحالفات التي نسجتها على الجبهة اليمينية في أوروبا، على تجنّب الذهاب بعيداً نحو القوى المتطرفة في أقصى هذه الجبهة، مثل حزب «البديل من أجل ألمانيا» أو «التجمع الوطني» الذي تقوده مارين لوبان في فرنسا، بل حافظت دائماً على «شعرة معاوية» مع المؤسسات والأحزاب التقليدية، خاصةً بالنسبة للدعم الذي يقدمه الاتحاد لأوكرانيا منذ بداية الاجتياح الروس. رغم هذا، لم يمنع الحرص على تجنب الشطط أوروبياً الزعيمة الإيطالية من الانفتاح على جهات يمينية متطرفة خارج الإطار الأوروبي، مثل خابيير ميلي في الأرجنتين، أو الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي تفاخر بصداقتها معه... وتطرح نفسها «وسيطاً» بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لاحتواء أزمة الرسوم الجمركية التي ما زالت تراوح مكانها. كذلك حافظت ميلوني، من موقعها رئيسةً للحكومة الإيطالية، أكثر من زعامتها لحزب يميني متطرف قام على أنقاض الفاشية، على علاقات جيدة مع البابا الراحل فرنسيس الذي كان طوال حبريته في مرمى سهام القوى اليمينية المتطرفة، خاصةً في موضوع الهجرة. ثم سارعت إلى تجديد هذه العلاقة مع خلفه لاوون الرابع عشر، مستفيدة من «الرافعة الفاتيكانية» لتعزيز حضورها على الصعيد الدولي. وحقاً، خلال أقل من سنتين تمكّنت ميلوني من تغيير صورة اليمين المتطرف في أوروبا، وأقامت علاقات مؤسسية سلسة مع كتلة الحزب الشعبي الأوروبي (يمين متطرف)، من غير أن تنضوي تحت لوائه، وأصبحت بمثابة «جسر» بين أقصى اليمين والمحافظين التقليديين، كما نجحت حتى الآن في احتواء الجناح المتطرف داخل حزبها. في هذه الأثناء، شكّلت القوى اليمينية المتطرفة التي حرصت ميلوني على النأي عنها في التحالفات التي نسجتها، بدورها «جبهتها» المستقلة. وبايعت هذه «الجبهة» رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، بمباركة مزدوجة من واشنطن وموسكو، ريثما تتضح الصورة التي سيرسو عليها اليمين الأوروبي بعد الانتخابات المقررة حتى أواخر العام المقبل لمعرفة الحصان الفائز بين ميلوني وأوربان. الخطوات الأولى التي أقدمت عليها ميلوني خاصةً نحو الخارج أظهرت استعدادها للبقاء ضمن «السرب» الأوروبي والتنسيق مع الشركاء في جميع الملفات الكبرى في الواقع، كثيرة هي الأمور التي تجمع بين ميلوني وأوربان، لكنهما يختلفان كثيراً من حيث أسلوب الزعامة وممارستها، وذلك بسبب التباين في المسار السياسي، وتاريخ البلدين، والعلاقة مع المؤسسات الأوروبية. أولاً، لا بد من التمييز بين الواقع السياسي في كل من المجر وإيطاليا. فالمجر خارجة من نظام خضع طيلة عقود للنير السوفياتي، غير أنها تحمل إرثاً غنيّاً بالنضال من أجل الاستقلال، أولاً عن الإمبراطورية النمساوية، ثم عن هيمنة موسكو. ويجمع كثيرون على أن الصفات اللغوية والثقافية والتاريخية التي تميّز المجريين عن جيرانهم السلاف والجرمان، تجعل منهم شعباً مندفعاً بقوة نحو التمرّد والإصلاح. أما الواقع السياسي الإيطالي، فهو وليد مخاض سياسي مديد يبدأ مع أول تجربة فاشية قبل الحرب العالمية الثانية، ويرسو عند نظام ضبابي سيطرت عليه الديمقراطية المسيحية طوال عقود، وقام لهدف أساسي هو كبح صعود الحزب الشيوعي، إلى أن تهشّم بفعل الفضائح والفساد، وانهار معه الحزبان الكبيران الاشتراكي والديمقراطي المسيحي اللذان تناوبا على السلطة في إيطاليا منذ سقوط موسوليني. من هنا يجد اليمين الأوروبي، التقليدي والجديد والناشئ، نفسه اليوم أمام زعامتين مختلفتين من حيث المسار والواقع السياسي. فيكتور أوربان، الذي ظهر في المشهد السياسي المجري عام 1989 زعيماً شاباً مناهضاً للشيوعية، تنقّل بين تجمّعات وأحزاب ليبرالية حتى انتخابه رئيساً للوزراء عام 2010. يومذاك قاد حكومة يمينية معتدلة إلى أن بدأت المفوضية الأوروبية تضغط عليه لإجراء تغييرات اقتصادية كان يرفض معظمها، أو يعجز عن تنفيذها، إلى أن راح يجنح نحو المواجهة الصدامية مع المؤسسات الأوروبية، بل ويطالب بالعودة إلى «جذور» المشروع الأوروبي وإعادة الصلاحيات إلى الدول الأعضاء، حتى أصبح القدوة التي ألهمت بعده العديد من قادة اليمين الأوروبي المتطرف. جورجيا ميلوني، من جهتها، هي وليدة التحول الذي شهده اليمين الإيطالي المتطرف في تسعينات القرن الفائت، إلى أن أصبح مقبولاً على الصعيد الأوروبي بفضل الذكاء الاستراتيجي الذي كان يتمتع به زعيمه (يومذاك) ورئيس مجلس النواب جيانفرنكو فيني، وتعاون سيلفيو برلوسكوني الذي كان يسعى إلى استقطاب أصوات اليمين من كل الاتجاهات. إلا أن ميلوني، التي تولّت إحدى الحقائب الوزارية في إحدى حكومات برلوسكوني، كانت لها الرؤية والشجاعة لتأسيس حزبها الخاص «إخوان إيطاليا» بالرصيد الضئيل الذي كان يملكه فيني مع حزب «التحالف الوطني». وعندما تولّى ماريو دراغي تشكيل «حكومة الإنقاذ الوطني» التكنوقراطية، انفردت ميلوني وحدها بمعارضة حكومته... لتغدو الملاذ الأول للناخبين اليمينيين بعد الفشل الذريع الذي أصاب حزب برلوسكوني المترهّل. > إيطاليا، كما يرى كثيرون، هي أقرب ما يكون إلى المختبر السياسي الأوروبي. والسياسة الإيطالية دائماً «مشفّرة» ليس من السهل قراءتها واستبيان مندرجاتها. والحقيقة أن الإيطاليين ليسوا في اليمين ولا في اليسار... ليسوا جمهوريين ولا ملكيين... بل إنهم يرفضون دائماً التموضع في مواقف متطرفة، أو الذهاب إلى المواجهة الصدامية لحسم الخلافات العقائدية. ومن هذا المنطلق يسهل فهم التقلبات التي طرأت على المشهد اليميني الإيطالي، والتي لم يرصدها المراقبون الأوروبيون قبل حدوثها أو حتى بعده. في البداية، تعرضت ميلوني لهجوم لاذع في وسائل الإعلام الأوروبية وكواليس العواصم الكبرى في الاتحاد. ولكن مع مرور الوقت اكتشف الأوروبيون زعيمة جديدة لليمين الأوروبي تحظى بنفوذ دولي غير مسبوق منذ أيام المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. ويوم الأربعاء الماضي، وبعد المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس الأميركي دونالد ترمب بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، وإطلاعه الأوروبيين على ما دار فيها، سارعت ميلوني إلى الاتصال بالبابا لاوون الرابع عشر للتنسيق معه حول العرض الذي قدمه الفاتيكان الأسبوع الماضي لاستضافة مفاوضات سلام بين موسكو وكييف. ويذكر أن رئيسة الوزراء الإيطالية جمعت نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون در لاين على مائدتها بُعيد تنصيب الحبر الأعظم؛ بهدف «فتح قناة» حوار بين واشنطن وبروكسل حول حرب الرسوم الجمركية. وثمة كلام أيضاً عن احتمال استضافة إيطاليا مفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بمباركة أميركية وفاتيكانية. في أي حال، أسهُم ميلوني في الداخل الإيطالي مرشحة للصعود، أو الاستقرار في أسوأ الأحوال؛ نظراً للانقسامات الحادة في صفوف المعارضة. وهي إلى صعود أيضاً على الجبهة الأوروبية، شريطة ألاّ تسير في ركاب الرئيس ترمب وسعيه إلى التفرقة بين الشركاء الأوروبيين خلال الأشهر المقبلة. وللعلم، لعل ميلوني الوحيدة بين الزعامات اليمينية المتطرفة في أوروبا، التي صعدت إلى السلطة على متن الانتقاد المباشر للمؤسسات الأوروبية والعديد من سياساتها، لكنها منذ وصولها إلى الحكم تتصرف بحرص شديد على هذه المؤسسات وتسعى إلى تغييرها من الداخل. وتساعدها في ذلك التقلبات الجيوسياسية الأخيرة وانعطاف أقصى اليمين الأوروبي نحو الواقعية السياسية التي تفرضها ممارسة السلطة.


الشرق الأوسط
منذ ساعة واحدة
- الشرق الأوسط
المفاوضات الروسية ــ الأوكرانية تواجه مأزق اختلاف الأولويات
لم يتوقع أي طرف من الفاعلين الرئيسيين في الصراع الروسي الغربي، في أوكرانيا وحولها، اختراقات كبرى في جولة المفاوضات المباشرة الأولى من نوعها منذ ثلاث سنوات. إذ ذهبت الوفود إلى إسطنبول، تسبقها سجالات حادة حول مستوى التمثيل، وأجندة الحوار المنتظرة، وسقف التقدم الذي قد يسمح للبعض بالحديث عن نجاح محدود. ومع أن الضغط المباشر الذي مارسته إدارة الرئيس دونالد ترمب على الطرفين الروسي والأوكراني لعب دوراً حاسماً في انعقاد الجولة الخاطفة، لكنها لم تستمر سوى ساعتين. وأثمرت اتفاقاً محدوداً على تبادل الأسرى، وتفاهماً على العودة إلى طاولة المفاوضات بـ«ورقتي عمل»، يحدد كل طرف فيها رؤيته لآفاق السلام. بيد أن هذه النتيجة ليست كافية لإعلان انطلاق مسار السلام في أسوأ أزمة سياسية وعسكرية منذ الحرب العالمية الثانية، زلزت أوروبا ورمت بثقلها على العالم كله. لقد اتضح أن وعود الرئيس دونالد ترمب الانتخابية بوقف الحرب الأوكرانية في 24 ساعة، لم تكن خيالية فقط، بل عكست تجاهلاً مريعاً لأبعاد الصراع وتعقيداته الكثيرة. كذلك أظهر اللقاء المحدود مستوى التباعد، الذي خلقته الحرب خلال السنوات الثلاث الماضية بين الروس والأوكرانيين، ليس على المستوى السياسي فحسب، بل على صعيدي البُعدين النفسي والإنساني أيضاً، لدرجة أن الوفدين اللذين يتقن كلاهما جيداً اللغة الروسية تكلما بالإنجليزية عبر مترجمين. ثم إن الأهم من ذلك برز مع اتضاح مستوى التباين في أولويات الطرفين، إذ مقابل «شروط بوتين» للوصول إلى تسوية شاملة ونهائية، التي وصفها الأوكرانيون بأنها «تعجيزية»، هدفها إحباط أي تقدم محتمل، أصرّ الجانب الأوكراني على التمسك بورقة الهدنة المؤقتة التي تحظى بدعم أوروبي كامل. بوتين كان قد أعلن قبل أسبوع أنه مستعد لمفاوضات «من دون شروط» رداً على طلب مُلِحّ من جانب قادة أوروبيين، وبدعم أميركي، بإعلان هدنة مؤقتة لمدة شهر، ولكن في الواقع جرت جولة المفاوضات بشروط وضعها بوتين بنفسه. فهو حدّد «الخطوط الحمراء» التي لا يمكن تجاوزها عند التطرق إلى أي حوار مباشر مع الأوكرانيين، أولها أنه لا كلام مسبقاً عن هدنة، وأي وقف لإطلاق النار يجب أن يكون نتيجة الحوار، وليس مقدمة له. أيضاً، بوتين اختار مكان وزمان عقد المفاوضات. وبالذات، في إسطنبول في القصر الرئاسي الذي استضاف المفاوضات قبل 3 سنوات، ليقول للأوكرانيين: رفضتم عروضاً سابقة هنا، والآن تعودون للمكان ذاته وأنتم أضعف ونحن أقوى. لكن شروط بوتين، التي يمكن وصفها بأنها تشكل «استراتيجية التفاوض» الروسية لا تقتصر على ذلك. إذ إن المفاوضات الحالية تنطلق من المكان نفسه الذي توقفت فيه المفاوضات في مارس (آذار) 2022، ولكن مع مراعاة التغيرات الميدانية التي وقعت خلال السنوات الثلاث الماضية. المغزى الواضح أنه لا مكان للكلام عن تراجع روسيا عن ضم 4 مقاطعات أوكرانية، فضلاً عن ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، والاحتمال التفاوضي قد يتعلق بالحدود الإدارية لهذه المقاطعات فقط، التي لا تسيطر عليها روسيا بشكل كامل عسكرياً. والمقصود أن هامش المناورة يراوح عند خطوط التماس الحالية، وتستحيل تماماً العودة إلى حدود عام 1991 عندما أعلنت أوكرانيا استقلالها بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي. الشرط الثاني الرئيسي لبوتين اتضح مع رفض أي وجود لأوروبا على طاولة الحوار. وتمسك وزير الخارجية برفض التكلم مع الأوروبيين الذين يواصلون «السعي إلى إلحاق هزيمة استراتيجية بموسكو». وهذه العبارات أوضحتها لاحقاً الناطقة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، عندما قالت إن موسكو ترفض بحزم مشاركة ألمانيا وبريطانيا وفرنسا في المفاوضات، انطلاقاً من مواقف هذه العواصم في الدعم العسكري لكييف. هنا يقول مقرّبون من الكرملين إن بوتين يرفض أي مشاركة لأوروبا في جولات التفاوض، وإن عرضه للمفاوضات اقتصر على قبول رعاية تركية أميركية. طبعاً، يدرك الكرملين أن الحضور الأوروبي سيكون مطلوباً في مرحلة لاحقة عند التطرق إلى ملفات الأمن في أوروبا وقضايا التسلح في إطار اتفاقية سلام شاملة، لكن رفض المشاركة الأوروبية حالياً هدفه الضغط لتقليص الدعم العسكري لأوكرانيا، ورفض أفكار أوروبية حول هدنات مؤقتة يمكن استخدامها لتسريع عمليات التسليح وإعادة تأهيل الجيش الأوكراني. وأيضاً، رفض الحضور الأوروبي مرتبط بأهمية إفشال أي افكار قد تؤسس لاحقاً لطرح فكرة وجود قوات حفظ سلام أوروبية في أوكرانيا، وهو أمر ترفضه موسكو بشكل قاطع. الشرط الثالث المهم لبوتين هو ضمان موضوع حياد أوكرانيا المستقبلي، ورفض إعادة تسليح جيشها. وهنا يقول الرئيس الروسي إنه يريد وثيقة مكتوبة وموقعة بهذا الشأن. وهذا يتعارض مع المطالب الأوروبية بضمانات أمنية مستقبلية، ومع تعهدات أميركية بمواصلة حماية مصالح أوكرانيا. الخطاب التفاوضي الصارم للروس، الذي تجسد في الجلسة الخاطفة، بمطلب انسحاب القوات الأوكرانية من المناطق التي ضمّتها روسيا ولم تنجح لتاريخه في السيطرة عليها عسكرياً بالكامل، تعاملت معه أوكرانيا وأوروبا بأنه مطلب للاستسلام. وأصرّت على أولوية الهدنة المؤقتة لتمهيد الطريق لأي جولات تفاوضية حقيقية في المستقبل. الرئيس الروسي فاديمير بوتين (آ ب) لكن تباين الأولويات لم يظهر في الشقّ المتعلق بالعلاقة الروسية الأوكرانية، والرؤية المطروحة لشكل التسوية المحتملة فقط. بل ظهر أيضاً في آلية تعامل كل من موسكو وواشنطن مع ملف التسوية ومع أولويات الحوار الروسي الأميركي كله. واتضح هذا مع انطلاق جولة المفاوضات. ففي حين ركّز ترمب على أهمية عقد لقاء سريع «يدفع عملية السلام في أوكرانيا»، فضّل الكرملين التأكيد على ضرورة «إطلاق تحضيرات وإعداد دقيق لقمة شاملة تبحث كل الملفات المطروحة على الطاولة، وبينها الوضع في أوكرانيا». وجاء ردّ الكرملين سريعاً على دعوة ترمب لعقد لقاء عاجل مع بوتين. فأعرب الرئيس الأميركي عن قناعته بأن «العالم سيصبح أكثر أماناً خلال أسبوعين إلى 3 أسابيع» بمجرد ترتيب اللقاء المنتظر مع بوتين. لكن الكرملين رأى أن «مثل هذه اللقاءات يتطلب تحضيراً واسعاً وإعداداً دقيقاً»، وبدا أن التباين بين الطرفين ينحصر برؤية كل طرف للأهداف المتوخاة من القمة المنتظرة طويلاً. وفي حين ركّز ترمب على ملف أوكرانيا وقضايا الأمن، رأى الكرملين وجوب أن تكون القمة شاملة، وتناقش كل الملفات المطروحة على أجندة الطرفين. أكثر من ذلك، وجّهت موسكو رسالة مباشرة لترمب بأن حضوره الشخصي عملية التفاوض «ليس ضرورياً، بل قد يأتي بنتائج عكسية». وقلّل روديون ميروشنيك، سفير المهام الخاصة في الخارجية الروسية، من أهمية تدخل ترمب بشكل مباشر في ملف التسوية في أوكرانيا. وأوضح السفير المكلف بإدارة ملف «الانتهاكات وجرائم نظام كييف» أن موسكو «تثمن عالياً رغبة إدارة الرئيس الأميركي بحلّ الصراع في أوكرانيا سلمياً، لكننا نحتاج إلى تفاصيل ومناهج عملية وعمل دؤوب وجادّ، ونحن مستعدون لهذا العمل». كذلك علق على قول إنه «من دونه لن ينجح شيء»، بالتأكيد على أنه «يمكن إجراء المفاوضات ببساطة من دون مشاركة ترمب. ولم تكن مشاركة ترمب الشخصية متوقعة، طبعاً، لأن هذه مبادرة روسية. إنها مفاوضات عمل يجب أن تُشكّل موقفاً موحداً، وأن تجد خيارات تسوية، وتصنفها، وتضعها على الورق، وتبلوِر مشاريع. مثلما حدث مع جولة المفاوضات السابقة في 2022، عندما ظهرت وثيقة معيّنة وقّع عليها الطرفان بالأحرف الأولى. ولذا، فإن فريقي التفاوض حالياً مدعوان لإنجاز هذه المهمة». خلف هذا السجال، تظهر فكرة أميركية رفضها الروس بشدة. فواشنطن عملت لدفع «تسوية إلزامية» بطريقة ترمب، أي عبر ترتيب لقاء رئاسي أولاً، يجمع بوتين وترمب، ثم بوتين وترمب وزيلينسكي، ربما بحضور الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، ما يضع إطاراً تفاوضياً إلزامياً يسبق شروط الطرفين. لقاء من هذا النوع كان ليمنح دفعة جدية للجهود المبذولة، ويضع العملية التفاوضية على مسار لا رجعة فيه. لكن الكرملين فضّل التريث لحين اتضاح الملامح الأولية للعملية التفاوضية، بعد أن يقدم الجانبان الروسي والأوكراني رؤيتيهما لشكل الحوار وأولويات كل طرف فيه. أمر مهم هنا، أن بوتين لو ذهب فعلاً إلى إسطنبول، فسيذهب للقاء ترمب وإردوغان، وليس للجلوس على طاولة مفاوضات مع زيلينسكي. ولقد عكس تصريح وزير الخارجية سيرغي لافروف، الذي وصف كلام زيلينسكي عن ضرورة حضور بوتين اللقاء، أن مستوى الفهم الروسي للعلاقة مع الرئيس الأوكراني حالياً «مثير للشفقة». لذا، حرص ترمب بعد الجولة التفاوضية مباشرة على إجراء اتصال هاتفي حاسم مع بوتين. وسبق الاتصال تلميحات أميركية لتدابير محددة، بينها الموافقة على رزمة عقوبات قاسية اقترحها أعضاء في الكونغرس، من شأنها وضع قيود صارمة على الأطراف والبلدان التي ما زالت تنتهك العقوبات الحالية وتتعامل مع روسيا. وأيضاً لوّحت واشنطن بانسحاب أميركي من العملية التفاوضية إذا فشلت جهودها الحالية. هذا التطور دفع بوتين للموافقة على فكرة «الهدنة المؤقتة» بشروط محددة. على رأسها؛ إعداد مذكرة تفاهم توضح آليات الهدنة المقترحة، وطريقة التعامل مع الرقابة عليها. هذه المناورة وُصفت في كييف بأنها محاولة لكسب الوقت والمماطلة. لكن ترمب تمسك بها، ودعا الطرفين الروسي والأوكراني إلى بدء المفاوضات فوراً، ومن دون وسطاء، للتوصل إلى تفاهم في هذا الشأن. ولاحقاً، أعلن وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، أنّه يتوقع أن تعرض روسيا «خلال أيام» شروطها لإبرام اتفاق لوقف إطلاق النار مع أوكرانيا، معتبراً أنّ هذه الخطوة ستسمح لواشنطن بتقييم مدى جدّية موسكو في سعيها للسلام. في المقابل، بدا الموقف الأوروبي أكثر تحفّظاً وتشكيكاً بنيّات موسكو. وأقرّ الاتحاد الأوروبي رسمياً الحزمة السابعة عشرة من العقوبات على موسكو، مستهدفاً 200 سفينة من أسطول «الشبح». وأيضاً هاجم كيريل دميترييف، رئيس صندوق الاستثمار المباشر الروسي، والمفاوض الاقتصادي الرئيس مع واشنطن، هذا القرار بالقول: «يبذل السياسيون ووسائل الإعلام الغربية جهوداً جبارة لتعطيل الحوار البنّاء بين روسيا والولايات المتحدة». روبيو قال إن ترمب يعارض حالياً فرض عقوبات جديدة خشية امتناع روسيا عن المجيء إلى طاولة المفاوضات. وأبلغ مصدر مطلع «رويترز» أن ترمب اتصل بزعماء أوكرانيا وأوروبا إثر مكالمته مع بوتين وأخبرهم بأنه لا يريد فرض عقوبات الآن، بل إتاحة الوقت للمباحثات. تزامناً، أعلنت أوكرانيا أنها ستطلب من الاتحاد الأوروبي الأسبوع المقبل بحث خطوات جديدة كبيرة لعزل موسكو، تشمل مصادرة أصول روسية وفرض عقوبات على بعض مشتري النفط الروسي. وستُقدم وثيقة أوكرانية إلى التكتل الذي يضم 27 دولة لاتخاذ موقف مستقل أكثر صرامةً بشأن فرض العقوبات في ظل الضبابية التي تكتنف دور واشنطن مستقبلاً. وستشمل الوثيقة المتضمنة 40 صفحة من التوصيات، دعوات لتبني تشريع «يسرِّع» مصادرة الاتحاد الأوروبي أصول الأفراد الخاضعين للعقوبات وإرسالها إلى أوكرانيا. ويمكن حينئذٍ للخاضعين للعقوبات المطالبة بتعويضات من روسيا. عموماً، تظهر تحركات اللاعبين الأساسيين مستوى التباين في الأهداف والآليات المقترحة لتسوية الصراع، وتؤكد صعوبة التوصل إلى تدابير سريعة لوقف الحرب وإطلاق عملية سياسية جادة. في غضون ذلك، بدا أن الاستعدادات الجارية لتسريع وتيرة المفاوضات وتقريب احتمال إعلان «هدنة مؤقتة» تمهد الطريق لمفاوضات السلام النهائية، تجري بالتزامن مع تصعيد الطرفين الروسي والأوكراني استعداداتهما لتصعيد ميداني في حال فشلت جهود التهدئة الحالية. كييف تزعم أن موسكو تواصل حشد آلاف الجنود على طول الحدود بالقرب من منطقتي سومي وخاركيف، مع توقع محاولة توغل واسعة في المنطقة. ووفق خبراء عسكريين، وضعت موسكو خططاً لإنشاء «منطقة عازلة» على طول الحدود مع المنطقتين اللتين شكَّلتا نقطة انطلاق مهمة للقوات الأوكرانية التي هاجمت كورسك ومناطق مجاورة ونجحت الصيف الماضي في السيطرة على أجزاء واسعة من المقاطعة الروسية، قبل نجاح الروس في طرد القوات الأوكرانية منها قبل أسابيع بعد معارك ضارية استمرت لأشهر. وتشير مصادر أوكرانية إلى أن بوتين قد يضع بين أهدافه، في حال انهارت جهود الهدنة، محاولة فرض سيطرة مطلقة على مدينة خاركيف، التي تقول السردية الروسية إنها بين أبرز «المدن الروسية» في أوكرانيا الحالية. وكان بوتين قد زار قبل يومين منطقة كورسك للمرة الأولى منذ إعادة فرض سيطرة الجيش الروسي عليها الشهر الماضي. والتقى حاكمها بالإنابة ألكسندر خينشتين، وممثلي منظمات تطوعية. ونقل بيان الكرملين عن خينشتين قوله إن «عملية لإزالة الألغام» تجري حالياً في منطقة كورسك، حيث «تُزال عشرات العبوات الناسفة يومياً». هذا، وبثّ الكرملين صوراً للقاء بين بوتين ومتطوعين، حول طاولة كبيرة وهم يتناولون الشاي والسكاكر. واقترح إنشاء متحف مخصص «للأحداث التي وقعت في منطقة كورسك خلال 2024 و2025 من أجل الحفاظ على ذكرى ما جرى هنا، وذكرى بطولة المدافعين عنا»، وهي فكرة حظيت بدعم بوتين. أيضاً، أعلن الرئيس الروسي خلال الزيارة خططاً لإعادة الإعمار في المنطقة. وتجول في محطة الطاقة النووية «كورسك 2» قرب المدينة، مذكّراً بـ«ذراع روسيا النووية الطويلة» إذا تعرض أمنها ووجودها لخطر أو تهديد. في المقابل، تقول مصادر روسية إن أوكرانيا تؤدي دورها بتحضيرات لتصعيد عسكري في حال فشل جهود التهدئة. ووفق تقارير، فإن كييف تواصل تجهيز أفواج من طائرات مسيَّرة حديثة لمهاجمة المدن الروسية. ويبدو أن الضغط العسكري من الجانبين يواكب مسار التحضير للمفاوضات، إذ تبادلت موسكو وكييف ضربات جوية خلال اليومين الماضيين، وشنّت مسيَّرات أوكرانية هجمات قوية على موسكو ومدن أخرى خلال الأيام الأخيرة، بينما تعرضت مدن أوكرانية لهجمات صاروخية ومدفعية مكثفة في الفترة نفسها.


الشرق الأوسط
منذ ساعة واحدة
- الشرق الأوسط
عملية تبادل كبيرة للسجناء بين روسيا وأوكرانيا
بدأت روسيا وأوكرانيا، أمس، عملية تبادل كبيرة لأسرى الحرب بينهما جرى الاتفاق عليها خلال محادثات عقدت أخيراً في إسطنبول. وقالت وزارة الدفاع الروسية إن موسكو وكييف بدأتا أكبر عملية لتبادل الأسرى حتى الآن. وذكرت الوزارة أن كل جانب سلم 270 أسير حرب و120 مدنياً. بدوره، أكد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن بلاده استعادت 390 شخصاً في إطار المرحلة الأولى من عملية تبادل للأسرى مع روسيا، تشمل في المجموع 1000 شخص من كل جانب على أن تستمر أياماً عدة. وأعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب إتمام عملية التبادل. وكتب ترمب على منصته «تروث سوشيال»: «اكتملت للتو عملية تبادل سجناء كبيرة بين روسيا وأوكرانيا»، مضيفاً: «تهانينا للطرفين على هذه المفاوضات. فهل يُفضي هذا إلى أمرٍ مهم؟»، من دون أن يذكر مزيداً من التفاصيل.