
لبنان ومعادلة التنافس في العجز
ففي هذه الحرب، حقّق العدو السيناريو، الذي سخر أمين عام حزب الله السابق حسن نصر الله منه، حين تطرّق قبل سنوات إلى مقال كتبه صحافي إسرائيلي يقول فيه إن خطّة تصفية قيادات الصفوف، الأول والثاني والثالث، من حزب الله باتت جاهزة. فما كان من نصر الله إلّا أن اعتبر أن كاتب المقالة ينفع مخرجَ صناعة أفلام، وليس صحافياً متمرّساً. لكن سنوات عدّة مرّت أثبتت أن ما كتبه ذلك الصحافي كان حقيقياً، خصوصاً بعد أن تلقّى الحزب ضربات مكثّفة في فترة لا تتجاوز الأسبوعَين، أدّت إلى تدمير مجمل قدرته الصاروخية ناهيك عن تصفية قياداته، على منوال ما كتبه صاحب المقالة بالضبط، وها نحن اليوم أمام استهدافات مستمرّة لا تنال من قيادات الصفوف الأول والثاني والثالث فحسب، بل من الصفّ الخامس أو حتّى السادس. والجدير ذكره أن السيناريو نفسه تكرّر في الحرب على إيران، فالضربة التي تلقتها في اليوم الأول أدّت إلى تصفية جزء كبير من العلماء، ومن القيادات العسكرية والأمنية الإيرانية، ومجملها رفيعة المستوى، قبل أن تقضي الولايات المتحدة، بعد أيام عدّة على المنشآت النووية الإيرانية.
حزب الله بعد حرب الإسناد، لم يعد كما كان قبلها، سواء على مستوى صورته أو على مستوى قدراته القتالية
لكن ما يمكن (وما يتوجّب) الكلام عنه اليوم، هو نقد منطق المزايدة في العجز، فإن كان يمكن تفسير الذي جرى في الأشهر الماضية، فلا مهرب من ضرورة وضعه في إطار تأكيد أن المعادلة التي لطالما أراد حزب الله استبعادها، والتهرّب المستمرّ منها، هي المعادلة الواقعية. والقصد هو المعادلة التي تقول إنّ حزب الله ليس قادراً على مواجهة العدو عسكرياً، ولا يمتلك القدرات والتقنيات والأدوات اللازمة لذلك. بما يعني أن محاولات الحزب وبيئته وجمهوره في مهاجمة عجز الدولة اللبنانية لا يهدف إلّا إلى تبرير إبقاء السلاح بأيّ ثمن، على الرغم من أن الأحداث أثبتت تهافت الجدوى المتأتّية من السلاح، إذ باتت تكلفته أكبر بكثير من مردوده، وبأن خطاب التهديد والوعيد الذي لطالما اقترنت غايات (ومبرّرات) هذا السلاح به مجرّد لغو كلامي لا يبغي إلّا المزايدة. أو بأقلّ الأحوال، إن أردنا ترجمة مفاعيله داخلياً، لا يبغي إلّا نيل امتيازات في النظام وعلى مستوى الدولة اللبنانية، وفي مراكز صنع القرار فيها. وكأنّ المعادلة اليوم هي مجرّد مكابرة توضع مفاعيلها في إطار المنافسة التي تهدف إلى إثبات أن عجز الدولة اللبنانية عن حماية أرضها وشعبها أكبر من عجز حزب الله من خارج الدولة.
لكن الشروط الواقعية تكشف ما يخالف هذه المعادلة، فمن دون تبرير عجزها العسكري، تمتلك الدولة اللبنانية إمكانات دبلوماسية قد تفتح ثغرات في جدار التفاوض، بمعزل عن مدى نجاعتها، وبمعزل عن منطق القوة الذي يحكم عالم اليوم وتاريخ العرب الطويل مع عدائية إسرائيل وتفلتها من كلّ الاتفاقات ومن مختلف الالتزامات. لكن يبقى السؤال: ما هو البديل عن إمكانات رئاسة الجمهورية أو الحكومة اللبنانية؟ وما هو الأفق الذي يمكن الانطلاق منه لتغيير معادلة العجز هذه، وهل يمكن ذلك؟ وهل أن استمرار حزب الله بشكله الحالي قد يغيّر أيَّ شيء في هذه المعادلة؟
سؤال كهذا خارج مجال اهتمام حزب الله، لأنّ مفاعيله ستكون على حساب شكل وجود الحزب نفسه، بعد أن يفتقد كلّ شروط القوة التي كان يتمتع بها، حتى على المستوى الداخلي. لكنّ الحدّ الأدنى من العقلانية يستوجب مقارنة التزام لبنان بمصادرة سلاح الحزب من ناحية، مع استمرار الحزب بشكله العسكري من ناحية ثانية، وسرعان ما سيتبيّن أنه في حين تفتح معادلة الدبلوماسية إمكانات تفاوضية قد تفضي إلى أيّ شيء، تفتح معادلة السلاح أبواب جحيم الحرب على مصراعيه. الأولى قد تستثمرها الدولة اللبنانية لتحقيق بعض النتائج التي قد تصل إلى كبح جماع العدو، وإن من دون ضمانات، بينما تطيح الثانية الإمكانات والضمانات والتفاوض والنتائج والطاولة وتطيح ما تبقّى من دولة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ 41 دقائق
- العربي الجديد
الإبادة في غزّة والتواطؤ الغربي والخذلان العربي
ألهذه الدرجة حَكَم العالم على نفسه بالعجر والموت، فلم يعد قادراً حتّى على تمكين مدنيين عزّل من قطعة خبز وشربة ماء؟ ألم يدرك قادة القوى الكُبرى أنهم يتحمّلون مسؤوليةً أخلاقيةً وسياسيةً تجاه ما يحدث في غزّة من قتل وتدمير ممنهجَين، وعقاب جماعي وتجويع مروّع وحصار غير مسبوق؟ يعلم هؤلاء جيّداً أنهم السند الفعلي والداعم الرسمي والرئيس لإسرائيل، وهم الذين يُغدقون عليها المال والسلاح، ويحمونها من أيّ إجراءات عقابية يمكن أن تحدّ من حماقات حكومة متطرّفة هوجاء. كيف يمكن تفسير هذا الصمت والتواطؤ غير المبرَّرَين؟... ما يمكن اعتباره عقدةً أخلاقية تمترست في مخيال الغرب، وأخذت شكل الحاجز النفسي الذي يحول دون معاقبة الكيان الصهيوني ذريعة غير سليمة، وسردية مكشوفة، لا تعدو غطاءً تختبئ تحته الحكومات الغربية، لتترك إسرائيل تقوم بمهمتها الاستعمارية، إنهاك الشرق وتفتيته، وقولبته جغرافياً وجيوستراتجياً. فأن تتحكّم إسرائيل في مجمل التراب الفلسطيني بإعادة احتلال غزّة وضمّ الضفة الغربية والقدس الشرقية معناه أنها ستتمكّن من مدّ سيطرتها وتوسّعها إلى جغرافيات أخرى في سورية ولبنان، وربّما في مصر، إذا وجدت الشروط ملائمةً، وردّات الفعل محتشمة أو منعدمة. الممارسات الهمجية ووجبات القتل اليومي المتوحّشة، واستراتيجية الأرض المحروقة والتهجير القسري، وتسوية كلّ ما بنته سواعد أبناء غزّة بالأرض، وهدم المؤسّسات الحيوية والمنشآت الضرورية ومباني السكّان، وتدمير الشوارع والساحات والحدائق وأماكن العبادة، وتجريف المقابر والتنكيل والتمثيل بالجثث، والاعتقالات في شروط قاسية جدّاً، والتعذيب الذي يصل إلى الموت في عشرات الحالات، وإلى الهزال الشديد والعقوبات الجماعية... ألم يحرّك هذا التوحش كلّه، وهذا الجبروت كلّه، قادة العالمَين؛ العربي والإسلامي؟ ألم يصبهم بالصدمة التي كان من الممكن أن تتحوّل صرخةً أو صيحة مدوّيةً تتبعها قرارات ملموسة لفتح كوّة أمل (ولو كانت صغيرةً) أمام سكّان غزّة، وتمكينهم من الأكل والشرب والعلاج؟ أليس من البديهي والطبيعي أن يحصل هؤلاء على هذا الحقّ الضروري لاستمرارهم أحياء؟ ألا تخفق قلوب القادة وترفّ جفونهم أمام هول الكارثة التي تجاوزت كلّ خيال وتصوّر؟ ماذا سيحدث لو ضُغط على حكومة الكيان الصهيوني بُغية ردعها وكبح جماح تطرّفها وغطرستها، ولتتوقّف عن مخطّط الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب؟ هل ستزلزل الأرض وتقوم القيامة لأنّ دولة شعب الله المختار المؤمنة والمحروسة والمسيّجة برعاية إلهية ستصاب بنوبة غضب، وستمسّ في جوهرها؟ وصل الحقد والتوحّش بالكيان المحتلّ إلى منع الغزّيين من الاستحمام في مياه البحر الأبيض المتوسط، بهدف تعقيد الوضع وزرع مزيد من الإحباط لا. لا شيء من هذا. فقط الحكومة المتطرّفة بزعامة بنيامين نتنياهو، لمّا وجدت الساحة فارغةً وخلا لها الجو، وأدركت أن توقيع دول عربية على ما سمّيت "اتفاقيات أبراهام"، التي رعتها الولايات المتحدة، هو تفويض لها، وضوء أخضر لتنفذ أخطر جريمة ضدّ الإنسانية، وأفظع حرب إبادة في التاريخ، عوض أن تشكّل هذه الاتفاقيات، حاجزاً يمنعها من التغوّل والتنكّر لحقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم وعاصمتها القدس الشرقية. إلى متى ستظلّ دولة الاحتلال فوق القانون وخارج نظام العقوبات والردع؟ فهذا الكيان السرطانيّ عمد ضمن سياسة مُفكَّر فيها إلى تغيير المعادلة الديمغرافية في أرض الواقع، بقتل أكبر عدد من سكّان غزّة تحديداً، مع التلويح بورقة التهجير، قسراً أو طواعية. وهذا ما جعل حكومة هذا الكيان تجري اتصالات مع دول عدّة في أفريقيا وأوروبا الشرقية وأميركا الجنوبية وآسيا، إضافة إلى مصر، لاستقبال لاجئين من قطاع غزّة بمسمّيات مختلفة. ولا تخفي هذه الحكومة أنها مستعدّة لتقديم تسهيلات مالية لمن يغادر قطاع غزّة طواعيةً، مستغلّة في ذلك الحصار الطويل الذي فرضته على القطاع منذ 2007، وتضاعفت حدّته منذ "7 أكتوبر" (2023)، وظروف العيش القاهرة والتجويع المقصود. بل وصل الحقد والتوحّش بالكيان المحتلّ إلى منع الغزّيين من الاستحمام في مياه البحر الأبيض المتوسط، بهدف تعقيد الوضع وزرع مزيد من الإحباط، ودفع السكّان إلى التفكير في الهجرة الطوعية حلّاً وحيداً للنجاة من الموت. ينبغي التعامل مع ما تقوم به الحكومة اليمينية المتطرّفة في إسرائيل بكثير من الوعي واليقظة والحسّ الاستباقي. فهي لا تدمّر وتقتل وتبيد وتجوّع وتهجّر اعتباطاً وارتجالاً، بل تنفّذ استراتيجيةً متكاملة الأركان، ومدروسةً في الغرف المظلمة في تل أبيب وواشنطن وعواصم أخرى. وهذا ما أشار إليه الصحافي والكاتب الإسرائيلي الجريء جدعون ليفي، في صحيفة هآرتس، عندما كتب (12 يوليو/ تموز الجاري)، فقال: "ليست هذه حرباً متدحرجة، ولم يعد بالإمكان اتّهام نتنياهو بحرب لا جدوى منها. لهذه الحرب جدوى، وهي جدوى إجرامية. مرة أخرى، لا يمكن توجيه الانتقادات لقادة الجيش بأن الجنود يقتلون عبثاً، هم يقتلون في حرب من أجل التطهير العرقي. مهّدتْ الأرض، يمكن الانتقال إلى نقل السكّان، أمّا الإعلانات والمناقصات المطلوبة فأصبحت في الطريق. بعد استكمال عملية النقل واشتياق سكّان (المدينة الإنسانية) لحياتهم بين الأنقاض، مجوّعين ومرضى وتحت القصف، حينئذ يمكن الانتقال إلى المرحلة الأخيرة، وهي تحميلهم بالقوة في الشاحنات والطائرات تجاه الوطن الجديد الذي يطمحون إليه، ليبيا، وإثيوبيا، وإندونيسيا". إلى متى ستظلّ دولة الاحتلال فوق القانون وخارج نظام العقوبات والردع؟ ما كان الكيان الصهيوني ليصل إلى هذا المستوى من التغوّل والتطرّف والعجرفة لو كان هناك موقف دولي حازم ومبدئي وجدّي. غير أنه لما حصل العكس، وتبيّن أن الغرب، ولأسباب ثقافية وتاريخية وأيديولوجية وعقائدية، وحرصاً منه على مصالح استراتيجية مشتركة مع الكيان الصهيوني. امتنع عن اتّخاذ أيّ عقوبات ضدّ الحكومة الفاشية في إسرائيل، بل أكثر من هذا مدّها بالسلاح والمال، ومكّنها من الدعم الدبلوماسي، بما في ذلك حقّها في الدفاع عن النفس، على نحوٍ فضفاض من دون تحديد أو تدقيق، لأنّ ما يهمّ الغرب، وفي طليعته الولايات المتحدة، هو إرضاء اللوبي الصهيوني وعدم إزعاجه. هذا اللوبي الذي حول السردية الإسرائيلية عن المظلومية والهولوكست ريعاً تاريخياً، وورقةً لابتزاز الدول والمؤسّسات، واتهام كلّ مَن ينتقد جرائم وفظاعات الاحتلال بأنه معادٍ للسامية، علماً أن الصهاينة ارتبكوا في قطاع غزّة أسوأ هولوكست في التاريخ، وأبشع الجرائم التي يعاقب عليها القانونَين؛ الدولي والدولي الإنساني. بيد أن الحصانة التي تتمتّع بها إسرائيل جعلتها هي التي تتهم وتتطاول، حتى على أول مسؤول أممي وتتهمه بمعاداة السامية. وإمعاناً في التطرّف والغطرسة، لم تتوان في توجيه تهديدات إلى كريم خان، المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، التي سبق لها أن أصدرت مذكّرتَي اعتقال بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الأمن السابق يوآف غالانت. ورغم ترحيب دول ومنظّمات وحركات عربية بهذا القرار، انخرطت الحكومة الإسرائيلية ومعها حليفتها الإدارة الأميركية في حرب نفسية وإعلامية ودبلوماسية، لتحوير مسار الأحداث، وتحويل أنظار الرأي العام العالمي. الحملة المسمومة نفسها شملت المقرّرة الأممية الخاصة المعنية بحقوق الإنسان في فلسطين، فرانشيسكا ألبانيز، فلم يتردّد وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو في إعلان عقوبات بحقّ ألبانيز على خلفية كشفها تورّط شركات عالمية في ما وصفته باقتصاد الإبادة في فلسطين. وأوضحت المقرّرة الأممية في تقريرها أن هناك دولاً تساند إسرائيل في مشروعها للهيمنة وتهجير الفلسطينيين، وطالبت، في ضوء ذلك، بتعليق الاتفاقيات التجارية مع إسرائيل، التي تسهم في حرب الإبادة في غزّة، كما كشفت أن شركات صناعة أسلحة عالمية وفّرت لإسرائيل 35 ألف طنٍّ من المتفجرات، ألقتها على قطاع غزّة، وهي تعادل ستّة أضعاف القوة التدميرية للقنبلة النووية، التي ألقيت على مدينة هيروشيما اليابانية. الطريقة التي تتعامل بها إسرائيل مع الأمم المتحدة ومختلف المؤسّسات الدولية، واستهتارها بكلّ القرارات، وتماديها في ارتكاب الجرائم وإشعال الحرب في أكثر من منطقة، وتأجيج الصراعات الطائفية، وتغذية النعرات العرقية والمذهبية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الهدف منه هو إقناع الفلسطينيين والعرب بأنّ إسرائيل دولةٌ فوق القانون، فهي قوية، ولا أحد باستطاعته محاسبتها أو الردّ عليها، حتى ولو اعتدت عليه، وأن القانون الدولي في اعتقادها مجرّد خرافة، وأنها على حقّ بفضل القوة التي تملكها، وبفضل دعم الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة، وأيضاً بفضل الصمت والخذلان العربي الرسمي، اللذَين حوّلتهما سلاحاً لصالحها. فهي وفق هذا المنطق دولة يحقّ لها أن تفعل ما تريد، من دون أن تخضع لأيّ ردع سوى ما تقرّره هي، ومَن يفكّر في ردعها، فمصيره الدمار والهلاك.


العربي الجديد
منذ 41 دقائق
- العربي الجديد
أوشفيتز - غزّة
تذكر المصادر التاريخية أن النسبة الأعظم من الموتى في معسكرات الاعتقال النازية ماتوا جوعاً، عبر سياسة ممنهجة كنت تستهدف التخلّص من هؤلاء الأعداء المفترضين. وينبغي التذكير هنا بأن الضحايا لم يكونوا يهوداً فحسب، وإنما كانوا خليطاً من الغجر واليهود والمعارضين سياسياً والفئات المصنّفة نازياً أنهم من "غير المرغوب فيهم". ومنذ أشرف هاينريش هيملر، في 27 إبريل/ نيسان 1940، على تأسيس معسكر أوشفيتز، شرع النازيون في تقييم علمي للمقاومة الجسدية للسجناء، وحساب دقيق للسعرات الحرارية والحصص الغذائية باسم نظام بيولوجي متفوّق، ينطوي على تحويل الضحايا "بشراً دون البشر"، يُستغلُّون بوحشية ثمّ يُهملون كنفايات عضوية. ورغم فظاعة هذه المظاهر وبشاعتها في ظلّ الحكم النازي، إلا أن اقتصاد الإبادة هذا لم يكن الأول من نوعه ولا الأخير. وإذا كان استخدام الجوع سلاحاً باستمرار في أوقات الحرب لإجبار العدوّ على الرضوخ، فقد ارتقى الكيان الصهيوني بتنظيم الجوع داخل غزّة إلى مستوى غير مسبوق من الإجرام. المفارقة الغريبة أن الصهاينة، الذين تاجروا طويلاً بضحايا معسكرات الاعتقال النازي، وفي مقدمتهم ضحايا معسكر أوشفيتز، استبطنوا الممارسات النازية ونقلوها بشكل أكثر وحشية لتطبيقها على الشعب الفلسطيني. لا تُخفي بعض القيادات الصهيونية توجّهاتها الاستئصالية التي تتبنّى الإبادة على الطريقة النازية منهجاً للتعامل مع قطاع غزّة المُحتلّ، فقد تباهى وزير التراث الصهيوني عميحاي إلياهو بالقول إن "الحكومة مندفعة نحو محو غزّة. نشكر الله على أننا نمحو هذا الشرّ ونمحو السكّان. غزّة ستكون يهودية". وبالتوازي، تتصاعد الدعوات إلى إنشاء ما تسمّى "المدينة الإنسانية"، وهي تسمية شاعرية لما سيكون معسكر اعتقال داخل القطاع لاستكمال مخطّط الإبادة الجماعية، ولكن هذه المرّة من خلال عملية فرز فردي للتمييز بين من ينبغي قتله في المحرقة، ومن سيُهجَّر. في المرحلة الحالية، تحاول سلطة الاحتلال استغلال المجاعة لممارسة هيمنتها. تصبح المجاعة، بالتالي، وسيلة تلاعب خطيرة، إذ لا يمكن لأيّ حاجة أخرى أن تحلّ محلّ الحاجة إلى الطعام. هذه الضرورة الأساسية هي التي تعرّض السكّان الجائعين لضعف شديد، وتضعهم في موقف اعتماد على أولئك الذين يتحكّمون في الوصول إلى الغذاء. يقيم استغلال المجاعة علاقة قوة بين من يعانون من الأزمة الغذائية ومن يتلاعبون بها لأغراض سياسية. تصبح المجاعة بذلك سلاحاً مرناً، يمكن استخدامه لممارسة هيمنة كلّية أو جزئية على السكّان، من طريق التمييز العرقي. لقد استخدمت المجاعة سلاحاً في سياق الحرب الصهيونية على القطاع، فبتجويع سكّان غزّة، لم يكن الصهاينة يأملون فقط في إضعاف قدرة الفلسطينيين على المقاومة، بل أيضاً في إيجاد بيئة مواتية للاحتلال الصهيوني، من خلال القضاء على (أو تهجير) السكّان، والهيمنة بشكل نهائي على قطاع غزّة. ينبغي أن نميّز هنا بين أمرَين: استغلال المجاعة لأغراض عسكرية للقضاء على الخصم، وهو الشائع في الحروب، ومن ناحية أخرى، المجاعة التي هدفها تدمير الإنسان، إذ تختزل هذه المجاعة الأفراد في طبيعتهم البيولوجية، وتجبرهم على عيش وجود يشبه حياة الحيوانات. في الواقع، ما يميز الماهية الإنسانية عن مجرّد الوظيفة الغذائية الحيوانية هو الثقافة الطهوية والقدرة على تجاوز الاحتياجات البيولوجية الأساسية، وهو ما يسمّى عادةً فنّ الطهو. لكن هذا الأخير يُهمل عند حدوث مجاعة. في لحظات الأزمات هذه، يصبح البقاء في قيد الحياة الهدف الأسمى، ويعيد الإنسانية إلى غرائزها الأكثر بدائية. تعتبر مؤسّسة غزّة للإغاثة الإنسانية والشركات التابعة لها تجسيماً لفكرة تجريد الفلسطيني من إنسانيته وتحويله هدفاً مستباحاً للقتل في أثناء رحلته للحصول على الطعام تكون عملية تحويل البشر حيواناتٍ شديدةً إلى درجة أن السكّان المتضرّرين من هذه المجاعة يُجرّدون من إنسانيتهم بالكامل. وبمجرّد اعتبار هؤلاء السكّان حيواناتٍ تماماً، من خلال التسلسل الهرمي القائم بين الحيوانات والبشر، تصبح الأعمال المرتكبة ضدّهم مبرّرة بهذه الدونية المزعومة، وهذا ما يفسّر سلسلة المجازر التي حدثت في نقاط توزيع المساعدات بقطاع غزّة، وتقع على عاتق مؤسّسة أُنشئت في الولايات المتحدة ويديرها جنود ورجال أعمال إسرائيليون، وشركاتها الخاصّة. وتعتبر مؤسّسة غزّة للإغاثة الإنسانية والشركات التابعة لها تجسيماً لفكرة تجريد الفلسطيني من إنسانيته وتحويله هدفاً مستباحاً للقتل في أثناء رحلته للحصول على الطعام. وتهدف هذه الازدواجية (مؤسّسة للإغاثة والتحكّم في المجاعة في الوقت نفسه) غالباً إلى إزالة أيّ شعور بالذنب لدى الجلّادين، فبتجريد الضحايا من إنسانيتهم، يسعى مرتكبو الإبادات الجماعية إلى التخلّص من أيّ مسؤولية أخلاقية تجاه أفعالهم. في الواقع، هذه طريقتهم لإقناع أنفسهم بأنهم لا يقمعون بشراً مثلهم. بالإضافة إلى ذلك، وعلى غرار الحيوان الذي يُضحّى به، ويُحوّل إلى لحم، فإن الفلسطيني لا يُسمح له بالبقاء إلا إن كان مفيداً.


العربي الجديد
منذ ساعة واحدة
- العربي الجديد
التطبيع بالبلطجة وفرض الإذعان
لن يكون وضع نهاية لحرب الإبادة على غزّة خاتمة المطاف في السُعار الإسرائيلي، وهو ما يُستدَّل عليه من السلوك العسكري والسياسي لحكومة بنيامين نتنياهو، فهذا الشخص بات يرى في دولته قوةً إقليمية كُبرى، وما يوصف بالشرق الأوسط بات مسرحاً لعمليات الجيش بترخيص ضمني من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بعدما اقتنع الأخير بأن الضغوط العسكرية "أفضل ضمان للمطامح السياسية، ولانتزاع تنازلات كبيرة"، وحتى باتت تسريبات صحافية إسرائيلية بأن اتفاقاً سورياً إسرائيلياً سيُنجز قبل نهاية العام الجاري أمراً مألوفاً وحسناً، إلا أن السلطات الانتقالية في دمشق نفت ذلك. وفي لبنان، لن يطوي تسليم سلاح حزب الله للدولة اللبنانية ملفّ الأزمة المحتدمة، فلن تتأخّر تل أبيب في المجاهرة بضرورة صياغة اتفاق سلام، وإلا فإن قوات الجيش سوف تواصل قصف بؤر حزب الله ومستودعاته ورموزه. أمّا إيران، فسوف يسعى نتنياهو إلى انتزاع تفويض من ترامب بضرورة معاودة قصفها، إذا ما عاودت بناء منشآتها، ولن يوقف مثل هذه المخطّطات سوى تصدّع في بنية النظام الإيراني. وفي غزّة، لن يُترك الغزّيون وشأنهم، فتل أبيب ماضية على قدم وساق في التمهيد لاقتتال داخلي يؤسّس له ويرعاه ويغذّيه الاحتلال، وقد يعزّزه من غير قصد قمعٌ "حكومي" لمواطنين منكوبين يمارسون حقّهم في حرية التعبير، أو من خلال نشر قوات متعدّدة الجنسيات بغير تمهيد أو اتفاق، ومن دون تحديد مهماتها مسبقاً. وواقع الحال أن ثمّة تناغماً موضوعياً بين التطلّعات المُعلَنة لإدارة ترامب لفرض مزيد من التطبيع الإبراهيمي في المنطقة وعمل نتنياهو على تغيير الشرق الأوسط، على نحو تكون فيه تل أبيب مركزاً لنفوذ إقليمي واسع، وبالسطوة المسلّحة، وسط شلل عربي، وانكفاء داخلي أو استعداد للتعامل مع الأمر الواقع حين يقع. ومن المهازل أن يربط نتنياهو مصير المنطقة بمصير حكومته، فهذه الحكومة كما يقول رئيسها ستكون مهدّدةً بالانهيار إذا وضعت نهاية للحرب على غزّة، من دون تهجير سكّانها والقضاء على حركة حماس. أمّا معاودة استهداف إيران فهو مطلب غالبية أعضاء الحكومة، وكذلك الاستيلاء (يسمونه فرض السيادة) على الضفة الغربية، فهو مطلب عزيز على قلوب الوزراء ممّن لديهم مطالب أخرى تتعلّق بسورية ولبنان، وربّما بتركيا وباكستان. وبهذا، فإنه على العالم أن يتفهّم أن صمود ائتلاف حكومة نتنياهو يقتضي إطلاق يد الجيش في استهداف أيّ رقعة في الشرق الأوسط، ولن ينجو أحد من العقاب الاسرائيلي إلا إذا زحف نحو التطبيع مُذعناً لشروط نتنياهو ووزرائه. وسيجري تصوير ذلك من إدارة ترامب بأنه طيٌّ لصفحة الحروب، وإغلاق للصراعات، وفتح الأبواب أمام سلام عظيم، تتطلّع إليه الشعوب. لا يتورّع ترامب عن تحويل كلمة فلسطيني شتيمةً يصف بها من لا يروق له ومع أنه سبق أن اتهم نتنياهو بأنه يسعى إلى أن يتلاعب به، لم يواظب ترامب على الاتصال بأحد في العالم كما يفعل مع نتنياهو، ولم يلتقِ أحداً من الزعماء ثلاث مرّات منذ بدء ولايته سوى نتنياهو، ومن المرجّح أن تتواصل هذه الوتيرة، رغم أن ترامب قد لا يكون مُحبّاً لهذا الأخير (هل يحبّ أحداً على الإطلاق؟)، بيد أنه من الواضح أنه معجب باندفاعه المتوحّش، لدرجة أنه دعا المؤسّسات الاسرائيلية إلى وقف محاكمته، وتكريمه بدلاً من جعله يقف أمام القضاء، وقد جاء ذلك في أعقاب الهجوم الإسرائيلي على إيران. وسبق لنتنياهو أن قال إن ترامب يحبّ الأقوياء على شاكلته لا الضعفاء، ممّا يؤدّي في النهاية إلى انتزاع الإعجاب به من طرف سيّد البيت الأبيض. والمسألة بطبيعة الحال تتعدّى التفاعل الشخصي المركّب بين الرجلَين، إذ إنهما يلتقيان أساساً عند رفض الامتثال للقواعد السياسية المألوفة التي تحكم علاقات الدول في عالمنا، ويؤمنان بعسكرة السياسة الخارجية، والاستيلاء على ما يملكه الغير بطرق شتى، بما يُعيد صورة الاستعمار القديم، ولكن مع استخدام مصطلحات حديثة للهيمنة منها إحلال التعاون ونشر السلام، والإفادة من خبرات وكفاءة القوة الغازية في المجالات التقنية والاقتصادية والعلمية، وأخيراً في مجال الذكاء الاصطناعي. لن ينجو أحد من العقاب الاسرائيلي إلا إذا زحف نحو التطبيع مُذعناً لشروط نتنياهو ووزرائه وبينما تتعزّز هذه التوجّهات بميول قومية مفرطة، أميركية وإسرائيلية، يُستهان بقومية الآخرين، وفي مقدمّهم الفلسطينيون، ولا يتورّع ترامب عن تحويل كلمة فلسطيني شتيمةً يصف بها من لا يروق له من شخصيات في بلده، وهو ما يجيب عنه أحرار العالم، بمن فيهم شبّان أميركا، بالهتاف لفلسطين حرّة، وإدانة الولوغ في حرب الإبادة، وحرب التجويع من واشنطن وعواصم غربية، مع تخاذل عربي وإسلامي لا نظير له، ما سوف تسير بذكره الرُّكبان في مقبل الأيام وبما يليق به. في سنوات سابقة، كانت تُجرى حوارات عربية دورية ذات طابع "استراتيجي" مع الولايات المتحدة، غير أن صفحة الحوارات طويت لاحقاً، فواشنطن ترغب في حوار منفرد مع الدول العربية، وبما يلاقي رغبةً مماثلةً لدى أطراف عربية بالتفاهم المنفرد مع واشنطن في أمور ثنائية وإقليمية، وهو ما ترسّخ خلال العقد الماضي، ما يسهم في استثمار واشنطن لهذه التباينات، وعلى نحو تعيد فيه تأكيد أولوية تطبيع عربي مع دولة الاحتلال، وتردف تل أبيب ذلك بتوجيه ضغوط عسكرية، والتهديد باستخدام القوة واليد الطويلة للوصول إلى كلّ من يعارضها، وذلك هو عنوان المرحلة الراهنة والمرشّحة لأن تمتدّ حتى الانتخابات الإسرائيلية في خريف العام المقبل (2026)، إلا إذا حدثت حالة نهوض عربية، وجرى فيها استثمار الأوراق الاقتصادية والسياسية من أجل حمْل إدارة ترامب على التعامل باحترام أكبر مع العالم العربي، يتعدّى العبارات المنمّقة، ويضع حدّاً لترخيص البلطجة الإسرائيلية، التي يفوق خطرها ما كان يمثّله التحدّي الإيراني من مخاطر على المنطقة العربية.