logo
لبنان ومعادلة التنافس في العجز

لبنان ومعادلة التنافس في العجز

العربي الجديدمنذ 6 أيام
يتجدّد الجدال بعد كلّ تصريح يدلي به الرئيس اللبناني جوزاف عون، أو رئيس الحكومة نوّاف سلام، ويتفعّل السجال بعد كلّ ذكر لمسألة بسط الدولة سلطتها في الأراضي اللبنانية، وما يستدعيه ذلك من حصر امتلاك السلاح استكمالاً لمعنى مفهوم السيادة. يترافق السجال مع أجواء المزايدة من حزب الله وجمهوره، لجهة عدم قدرة عون وسلام، ولا الدولة وأجهزتها وقواها العسكرية، على كبح جماح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووقف الخروق المستمرّة منذ اتفاق الهدنة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024. فمن نافل القول أنّ حزب الله بعد حرب الإسناد، لم يعد كما كان قبلها، سواء على مستوى صورته أو على مستوى قدراته القتالية، فقد ظهر للعلن، أن القدرات التي كانت تتغنّى بها قيادات الحزب وجمهوره لم تؤدِّ المهام المطلوبة منها، ولم تحقّق الآمال التي كانت معقودة عليها. فهي لم تستطع الدفاع عن الحزب ولا عن سلاحه، ولا عن قرى الجنوب والبقاع، ولا عن معقله في الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، كما أنها عجزت عن ردع الغارات والاستهدافات التي احتدمت بين سبتمبر/ أيلول ونوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2024.
ففي هذه الحرب، حقّق العدو السيناريو، الذي سخر أمين عام حزب الله السابق حسن نصر الله منه، حين تطرّق قبل سنوات إلى مقال كتبه صحافي إسرائيلي يقول فيه إن خطّة تصفية قيادات الصفوف، الأول والثاني والثالث، من حزب الله باتت جاهزة. فما كان من نصر الله إلّا أن اعتبر أن كاتب المقالة ينفع مخرجَ صناعة أفلام، وليس صحافياً متمرّساً. لكن سنوات عدّة مرّت أثبتت أن ما كتبه ذلك الصحافي كان حقيقياً، خصوصاً بعد أن تلقّى الحزب ضربات مكثّفة في فترة لا تتجاوز الأسبوعَين، أدّت إلى تدمير مجمل قدرته الصاروخية ناهيك عن تصفية قياداته، على منوال ما كتبه صاحب المقالة بالضبط، وها نحن اليوم أمام استهدافات مستمرّة لا تنال من قيادات الصفوف الأول والثاني والثالث فحسب، بل من الصفّ الخامس أو حتّى السادس. والجدير ذكره أن السيناريو نفسه تكرّر في الحرب على إيران، فالضربة التي تلقتها في اليوم الأول أدّت إلى تصفية جزء كبير من العلماء، ومن القيادات العسكرية والأمنية الإيرانية، ومجملها رفيعة المستوى، قبل أن تقضي الولايات المتحدة، بعد أيام عدّة على المنشآت النووية الإيرانية.
حزب الله بعد حرب الإسناد، لم يعد كما كان قبلها، سواء على مستوى صورته أو على مستوى قدراته القتالية
لكن ما يمكن (وما يتوجّب) الكلام عنه اليوم، هو نقد منطق المزايدة في العجز، فإن كان يمكن تفسير الذي جرى في الأشهر الماضية، فلا مهرب من ضرورة وضعه في إطار تأكيد أن المعادلة التي لطالما أراد حزب الله استبعادها، والتهرّب المستمرّ منها، هي المعادلة الواقعية. والقصد هو المعادلة التي تقول إنّ حزب الله ليس قادراً على مواجهة العدو عسكرياً، ولا يمتلك القدرات والتقنيات والأدوات اللازمة لذلك. بما يعني أن محاولات الحزب وبيئته وجمهوره في مهاجمة عجز الدولة اللبنانية لا يهدف إلّا إلى تبرير إبقاء السلاح بأيّ ثمن، على الرغم من أن الأحداث أثبتت تهافت الجدوى المتأتّية من السلاح، إذ باتت تكلفته أكبر بكثير من مردوده، وبأن خطاب التهديد والوعيد الذي لطالما اقترنت غايات (ومبرّرات) هذا السلاح به مجرّد لغو كلامي لا يبغي إلّا المزايدة. أو بأقلّ الأحوال، إن أردنا ترجمة مفاعيله داخلياً، لا يبغي إلّا نيل امتيازات في النظام وعلى مستوى الدولة اللبنانية، وفي مراكز صنع القرار فيها. وكأنّ المعادلة اليوم هي مجرّد مكابرة توضع مفاعيلها في إطار المنافسة التي تهدف إلى إثبات أن عجز الدولة اللبنانية عن حماية أرضها وشعبها أكبر من عجز حزب الله من خارج الدولة.
لكن الشروط الواقعية تكشف ما يخالف هذه المعادلة، فمن دون تبرير عجزها العسكري، تمتلك الدولة اللبنانية إمكانات دبلوماسية قد تفتح ثغرات في جدار التفاوض، بمعزل عن مدى نجاعتها، وبمعزل عن منطق القوة الذي يحكم عالم اليوم وتاريخ العرب الطويل مع عدائية إسرائيل وتفلتها من كلّ الاتفاقات ومن مختلف الالتزامات. لكن يبقى السؤال: ما هو البديل عن إمكانات رئاسة الجمهورية أو الحكومة اللبنانية؟ وما هو الأفق الذي يمكن الانطلاق منه لتغيير معادلة العجز هذه، وهل يمكن ذلك؟ وهل أن استمرار حزب الله بشكله الحالي قد يغيّر أيَّ شيء في هذه المعادلة؟
سؤال كهذا خارج مجال اهتمام حزب الله، لأنّ مفاعيله ستكون على حساب شكل وجود الحزب نفسه، بعد أن يفتقد كلّ شروط القوة التي كان يتمتع بها، حتى على المستوى الداخلي. لكنّ الحدّ الأدنى من العقلانية يستوجب مقارنة التزام لبنان بمصادرة سلاح الحزب من ناحية، مع استمرار الحزب بشكله العسكري من ناحية ثانية، وسرعان ما سيتبيّن أنه في حين تفتح معادلة الدبلوماسية إمكانات تفاوضية قد تفضي إلى أيّ شيء، تفتح معادلة السلاح أبواب جحيم الحرب على مصراعيه. الأولى قد تستثمرها الدولة اللبنانية لتحقيق بعض النتائج التي قد تصل إلى كبح جماع العدو، وإن من دون ضمانات، بينما تطيح الثانية الإمكانات والضمانات والتفاوض والنتائج والطاولة وتطيح ما تبقّى من دولة.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

علماء كردستان إيران يصدرون فتوى للجهاد دفاعاً عن غزة
علماء كردستان إيران يصدرون فتوى للجهاد دفاعاً عن غزة

العربي الجديد

timeمنذ 8 ساعات

  • العربي الجديد

علماء كردستان إيران يصدرون فتوى للجهاد دفاعاً عن غزة

أصدر علماء السنة في محافظة كردستان غربي إيران فتوى تدعو لـ"الجهاد" دفاعاً عن سكان غزة في مواجهة حرب الإبادة الإسرائيلية وسياسة التجويع التي أدخلت القطاع المحاصر بمرحلة مجاعة قاتلة. جاء ذلك في مؤتمر جماهيري حاشد عُقد داخل مسجد قباء، أكبر مساجد مدينة سنندج عاصمة المحافظة، بحضور عدد كبير من العلماء الكرد ولفيف من الناشطين والجمهور. وأكد العلماء المشاركون أن "الجهاد الدفاعي ضد الكيان الصهيوني المعتدي، الذي يمعن في قتل الأطفال والنساء، هو واجب شرعي على كل الأمة الإسلامية"، معتبرين أن الصمت والتقاعس عن نصرة غزة يبقى "خيانة تاريخية لا تُغتفر". وأضافت فتوى علماء كردستان إيران أن "المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة حماس والمجاهدين الفلسطينيين، سيبقون رمزاً لعزة الأمة وخط الدفاع الأول عن كرامتها". الصورة مؤتمر في كردستان إيران لنصرة غزة، 26 يوليو 2025 (العربي الجديد) وشدد بيان الفتوى على أن "الصمت واللامبالاة تجاه هذه المجازر يعدان جريمةً لا تغتفر وخيانة تاريخية"، مؤكداً أن "إيمان أهل غزة ومقاوميها وصبرهم وثباتهم يمثل حجة دامغة على الضمائر الغافلة، وإنذاراً لكل المسلمين حول العالم". ودعت الفتوى الأمة الإسلامية إلى "اليقظة والنهوض العاجل، وجعل المساجد منصات لإحياء الوعي ودعم القضية، ورفض التطبيع مع الاحتلال ومقاطعة بضائع الكيان الصهيوني وأعوانه". كما دعت لتوظيف المنابر الدولية والإعلامية في "حشد الشعوب وتحريك الضمائر"، مشددة على أن "دعم فلسطين اختبار إلهي لمدى إخلاص المسلمين للعدالة وبرهان على التضامن الإسلامي". وحذرت الفتوى "الحكام والدول المطبّعة" مع إسرائيل من عواقب "المواقف المرتجفة"، مؤكدة أن "التاريخ سيشهد عليكم، والأمة الإسلامية لن تغفر خيانة القدس الشريف. إن غضب الله وصحوة الشعوب ستطاردكم عاجلاً أم آجلا". وطالب العلماء المنظمات الدولية والأممية والحقوقية، ومنظمة التعاون الإسلامي، بالخروج عن صمتهم "المميت" واتخاذ خطوات عملية وقانونية عاجلة للانتصار لغزة، رافضين الاكتفاء بالبيانات "الفارغة" في مواجهة الإبادة الجماعية التي يشهدها القطاع. وشهد المؤتمر كلمات مؤثرة لعدد من العلماء؛ إذ دعا ماموستا أيوب غنجي إلى "بذل الغالي والنفيس لنصرة غزة"، وأدان صمت الحكام والمجتمعات الإسلامية والعربية، مشيرا إلى أن شعب غزة "يسجل أسمى معاني التضحية والثبات بينما يمعن الاحتلال في جرائمه". أما العالم عبد الجبار لطفي، فشدد على ضرورة التوحد لنصرة غزة وكسر الحصار، مُشيداً بصمود أهلها "الأسطوري"، بينما ركّز العالم فؤاد محمدي على وحشية الحرب الإسرائيلية ومسعاها لإبادة شعب بأكمله، منوهاً بصبر الفلسطينيين وقدرة مقاومتهم على إرباك الحسابات الإسرائيلية وتكبيدها الهزائم رغم عامين من حرب الإبادة. تقارير عربية التحديثات الحية تهديدات ترامب لـ"حماس".. انقلاب أميركي إسرائيلي على مباحثات غزة وشارك في المؤتمر عبر رسالة مسجّلة من غزة الشيخ فیصل سهیل مزید، عضو رابطة علماء فلسطين وأمين سر المؤسسات العاملة للقدس والمسجد الأقصى، إذ أكد ثبات أهل غزة رغم ما يحيط بهم من جوع ومجازر، داعياً علماء الأمة عامة لقيادة نهضة جماعية نصرة لغزة والقدس. من جانبه، عبّر المستشار علاء الدين العكلوك، رئيس التجمع الوطني للقبائل والعشائر الفلسطينية، عن شكره لعلماء كردستان إيران، مُستذكراً الروابط التاريخية الممتدة بين غزة وكردستان من زمن القائد الكردي صلاح الدين الأيوبي. وتوجّه العكلوك لعلماء ومفكري الأمة بتساؤل: "أين أنتم مما يجري على أرض فلسطين؟ أطفالنا يُذبحون، نساؤنا تُهان، أرضنا تُغتصب، ومساجدنا تُدنس، والعالم يلوذ بصمته المرير". واختتم المؤتمر بكلمة لخطيب الجمعة في مسجد قباء، ماموستا أحسن حسيني، مزج فيها بين البيان الشعري والوصف الواقعي لمظلومية أهل غزة وجرائم الاحتلال الإسرائيلي، وسط تفاعل الحضور بالأناشيد التي تمجد المقاومة وتدعو لنصرة فلسطين من كل الأعراق والقوميات الإسلامية.

الطيران الإسرائيلي يشن غارة على سيارة جنوب لبنان
الطيران الإسرائيلي يشن غارة على سيارة جنوب لبنان

القدس العربي

timeمنذ 10 ساعات

  • القدس العربي

الطيران الإسرائيلي يشن غارة على سيارة جنوب لبنان

إسطنبول: شنّت طائرة مسيّرة إسرائيلية، السبت، غارة على سيارة في قرية الطويري الواقعة بين بلدتي الغندورية وصريفا في قضاء صور جنوبي لبنان، في خرق جديد لاتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل و'حزب الله'، والذي دخل حيّز التنفيذ في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024. وذكرت الوكالة الوطنية للإعلام اللبنانية أن 'الطيران المسيّر الإسرائيلي أغار على سيارة في الطويري، بين الغندورية وصريفا في صور'، من دون أن تورد مزيدًا من التفاصيل. وفي سياق متصل، أفادت الوكالة أن الطيران المسيّر الإسرائيلي حلق على علو منخفض فوق بلدات القاسمية وازرارية وأنصارية في قضاء صيدا جنوبي البلاد. وأضافت أن طائرة مسيّرة إسرائيلية من طراز 'هيرمز 900' حلقت على علو متوسط فوق أجواء بلدات عربصاليم وحبوش والوادي الأخضر في محافظة النبطية جنوب لبنان. وكانت وزارة الصحة اللبنانية قد أعلنت، الجمعة، مقتل شخص إثر غارة إسرائيلية استهدفت سيارة في بلدة برعشيت في قضاء بنت جبيل (جنوب)، كما أُصيب عضو مجلس بلدية الضهيرة، بسام سويد، بجروح خطيرة جراء إطلاق نار من قبل الجيش الإسرائيلي. 🔻مراسل المنار | الطيران المسّير المعادي إستهدف سيارة في الطويري بين الغندورية وصريفا جنوب لبنان، وفرق الإسعاف تتوجه إلى مكان الاستهداف. — HANZALAH حنظلة (@revolt_hanzalah) July 26, 2025 من جانبه، زعم المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، في منشور على منصة 'إكس'، أن الغارة على برعشيت أسفرت عن 'مقتل محمد حسن قصان، مسؤول القوة البشرية في قطاع منطقة بنت جبيل ضمن حزب الله'. ولم يصدر تعليق فوري من 'حزب الله' اللبناني بشأن ما أورده أدرعي. وتأتي هذه التطورات في ظل تصاعد التوتر على الجبهة الجنوبية، واستمرار الغارات الإسرائيلية على مناطق مدنية، رغم سريان اتفاق وقف إطلاق النار منذ أواخر عام 2024. يُذكر أنه في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، شنت إسرائيل عدوانًا على لبنان، تطور إلى حرب واسعة في 23 سبتمبر/ أيلول 2024، وأسفرت عن أكثر من 4 آلاف قتيل ونحو 17 ألف جريح. وفي 27 نوفمبر 2024، بدأ سريان اتفاق وقف إطلاق النار بين 'حزب الله' وإسرائيل، لكن تل أبيب خرقت الاتفاق أكثر من 3 آلاف مرة، ما أدى إلى مقتل 260 شخصًا وإصابة 563 آخرين، وفق بيانات رسمية. ورغم سريان الاتفاق، نفّذ الجيش الإسرائيلي انسحابًا جزئيًا من جنوب لبنان، لكنه ما زال يحتل خمس تلال لبنانية كان قد سيطر عليها خلال الحرب الأخيرة، في تحدٍ مباشر للاتفاق. (الأناضول)

الإبادة في غزّة والتواطؤ الغربي والخذلان العربي
الإبادة في غزّة والتواطؤ الغربي والخذلان العربي

العربي الجديد

timeمنذ 19 ساعات

  • العربي الجديد

الإبادة في غزّة والتواطؤ الغربي والخذلان العربي

ألهذه الدرجة حَكَم العالم على نفسه بالعجر والموت، فلم يعد قادراً حتّى على تمكين مدنيين عزّل من قطعة خبز وشربة ماء؟ ألم يدرك قادة القوى الكُبرى أنهم يتحمّلون مسؤوليةً أخلاقيةً وسياسيةً تجاه ما يحدث في غزّة من قتل وتدمير ممنهجَين، وعقاب جماعي وتجويع مروّع وحصار غير مسبوق؟ يعلم هؤلاء جيّداً أنهم السند الفعلي والداعم الرسمي والرئيس لإسرائيل، وهم الذين يُغدقون عليها المال والسلاح، ويحمونها من أيّ إجراءات عقابية يمكن أن تحدّ من حماقات حكومة متطرّفة هوجاء. كيف يمكن تفسير هذا الصمت والتواطؤ غير المبرَّرَين؟... ما يمكن اعتباره عقدةً أخلاقية تمترست في مخيال الغرب، وأخذت شكل الحاجز النفسي الذي يحول دون معاقبة الكيان الصهيوني ذريعة غير سليمة، وسردية مكشوفة، لا تعدو غطاءً تختبئ تحته الحكومات الغربية، لتترك إسرائيل تقوم بمهمتها الاستعمارية، إنهاك الشرق وتفتيته، وقولبته جغرافياً وجيوستراتجياً. فأن تتحكّم إسرائيل في مجمل التراب الفلسطيني بإعادة احتلال غزّة وضمّ الضفة الغربية والقدس الشرقية معناه أنها ستتمكّن من مدّ سيطرتها وتوسّعها إلى جغرافيات أخرى في سورية ولبنان، وربّما في مصر، إذا وجدت الشروط ملائمةً، وردّات الفعل محتشمة أو منعدمة. الممارسات الهمجية ووجبات القتل اليومي المتوحّشة، واستراتيجية الأرض المحروقة والتهجير القسري، وتسوية كلّ ما بنته سواعد أبناء غزّة بالأرض، وهدم المؤسّسات الحيوية والمنشآت الضرورية ومباني السكّان، وتدمير الشوارع والساحات والحدائق وأماكن العبادة، وتجريف المقابر والتنكيل والتمثيل بالجثث، والاعتقالات في شروط قاسية جدّاً، والتعذيب الذي يصل إلى الموت في عشرات الحالات، وإلى الهزال الشديد والعقوبات الجماعية... ألم يحرّك هذا التوحش كلّه، وهذا الجبروت كلّه، قادة العالمَين؛ العربي والإسلامي؟ ألم يصبهم بالصدمة التي كان من الممكن أن تتحوّل صرخةً أو صيحة مدوّيةً تتبعها قرارات ملموسة لفتح كوّة أمل (ولو كانت صغيرةً) أمام سكّان غزّة، وتمكينهم من الأكل والشرب والعلاج؟ أليس من البديهي والطبيعي أن يحصل هؤلاء على هذا الحقّ الضروري لاستمرارهم أحياء؟ ألا تخفق قلوب القادة وترفّ جفونهم أمام هول الكارثة التي تجاوزت كلّ خيال وتصوّر؟ ماذا سيحدث لو ضُغط على حكومة الكيان الصهيوني بُغية ردعها وكبح جماح تطرّفها وغطرستها، ولتتوقّف عن مخطّط الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب؟ هل ستزلزل الأرض وتقوم القيامة لأنّ دولة شعب الله المختار المؤمنة والمحروسة والمسيّجة برعاية إلهية ستصاب بنوبة غضب، وستمسّ في جوهرها؟ وصل الحقد والتوحّش بالكيان المحتلّ إلى منع الغزّيين من الاستحمام في مياه البحر الأبيض المتوسط، بهدف تعقيد الوضع وزرع مزيد من الإحباط لا. لا شيء من هذا. فقط الحكومة المتطرّفة بزعامة بنيامين نتنياهو، لمّا وجدت الساحة فارغةً وخلا لها الجو، وأدركت أن توقيع دول عربية على ما سمّيت "اتفاقيات أبراهام"، التي رعتها الولايات المتحدة، هو تفويض لها، وضوء أخضر لتنفذ أخطر جريمة ضدّ الإنسانية، وأفظع حرب إبادة في التاريخ، عوض أن تشكّل هذه الاتفاقيات، حاجزاً يمنعها من التغوّل والتنكّر لحقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم وعاصمتها القدس الشرقية. إلى متى ستظلّ دولة الاحتلال فوق القانون وخارج نظام العقوبات والردع؟ فهذا الكيان السرطانيّ عمد ضمن سياسة مُفكَّر فيها إلى تغيير المعادلة الديمغرافية في أرض الواقع، بقتل أكبر عدد من سكّان غزّة تحديداً، مع التلويح بورقة التهجير، قسراً أو طواعية. وهذا ما جعل حكومة هذا الكيان تجري اتصالات مع دول عدّة في أفريقيا وأوروبا الشرقية وأميركا الجنوبية وآسيا، إضافة إلى مصر، لاستقبال لاجئين من قطاع غزّة بمسمّيات مختلفة. ولا تخفي هذه الحكومة أنها مستعدّة لتقديم تسهيلات مالية لمن يغادر قطاع غزّة طواعيةً، مستغلّة في ذلك الحصار الطويل الذي فرضته على القطاع منذ 2007، وتضاعفت حدّته منذ "7 أكتوبر" (2023)، وظروف العيش القاهرة والتجويع المقصود. بل وصل الحقد والتوحّش بالكيان المحتلّ إلى منع الغزّيين من الاستحمام في مياه البحر الأبيض المتوسط، بهدف تعقيد الوضع وزرع مزيد من الإحباط، ودفع السكّان إلى التفكير في الهجرة الطوعية حلّاً وحيداً للنجاة من الموت. ينبغي التعامل مع ما تقوم به الحكومة اليمينية المتطرّفة في إسرائيل بكثير من الوعي واليقظة والحسّ الاستباقي. فهي لا تدمّر وتقتل وتبيد وتجوّع وتهجّر اعتباطاً وارتجالاً، بل تنفّذ استراتيجيةً متكاملة الأركان، ومدروسةً في الغرف المظلمة في تل أبيب وواشنطن وعواصم أخرى. وهذا ما أشار إليه الصحافي والكاتب الإسرائيلي الجريء جدعون ليفي، في صحيفة هآرتس، عندما كتب (12 يوليو/ تموز الجاري)، فقال: "ليست هذه حرباً متدحرجة، ولم يعد بالإمكان اتّهام نتنياهو بحرب لا جدوى منها. لهذه الحرب جدوى، وهي جدوى إجرامية. مرة أخرى، لا يمكن توجيه الانتقادات لقادة الجيش بأن الجنود يقتلون عبثاً، هم يقتلون في حرب من أجل التطهير العرقي. مهّدتْ الأرض، يمكن الانتقال إلى نقل السكّان، أمّا الإعلانات والمناقصات المطلوبة فأصبحت في الطريق. بعد استكمال عملية النقل واشتياق سكّان (المدينة الإنسانية) لحياتهم بين الأنقاض، مجوّعين ومرضى وتحت القصف، حينئذ يمكن الانتقال إلى المرحلة الأخيرة، وهي تحميلهم بالقوة في الشاحنات والطائرات تجاه الوطن الجديد الذي يطمحون إليه، ليبيا، وإثيوبيا، وإندونيسيا". إلى متى ستظلّ دولة الاحتلال فوق القانون وخارج نظام العقوبات والردع؟ ما كان الكيان الصهيوني ليصل إلى هذا المستوى من التغوّل والتطرّف والعجرفة لو كان هناك موقف دولي حازم ومبدئي وجدّي. غير أنه لما حصل العكس، وتبيّن أن الغرب، ولأسباب ثقافية وتاريخية وأيديولوجية وعقائدية، وحرصاً منه على مصالح استراتيجية مشتركة مع الكيان الصهيوني. امتنع عن اتّخاذ أيّ عقوبات ضدّ الحكومة الفاشية في إسرائيل، بل أكثر من هذا مدّها بالسلاح والمال، ومكّنها من الدعم الدبلوماسي، بما في ذلك حقّها في الدفاع عن النفس، على نحوٍ فضفاض من دون تحديد أو تدقيق، لأنّ ما يهمّ الغرب، وفي طليعته الولايات المتحدة، هو إرضاء اللوبي الصهيوني وعدم إزعاجه. هذا اللوبي الذي حول السردية الإسرائيلية عن المظلومية والهولوكست ريعاً تاريخياً، وورقةً لابتزاز الدول والمؤسّسات، واتهام كلّ مَن ينتقد جرائم وفظاعات الاحتلال بأنه معادٍ للسامية، علماً أن الصهاينة ارتبكوا في قطاع غزّة أسوأ هولوكست في التاريخ، وأبشع الجرائم التي يعاقب عليها القانونَين؛ الدولي والدولي الإنساني. بيد أن الحصانة التي تتمتّع بها إسرائيل جعلتها هي التي تتهم وتتطاول، حتى على أول مسؤول أممي وتتهمه بمعاداة السامية. وإمعاناً في التطرّف والغطرسة، لم تتوان في توجيه تهديدات إلى كريم خان، المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، التي سبق لها أن أصدرت مذكّرتَي اعتقال بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الأمن السابق يوآف غالانت. ورغم ترحيب دول ومنظّمات وحركات عربية بهذا القرار، انخرطت الحكومة الإسرائيلية ومعها حليفتها الإدارة الأميركية في حرب نفسية وإعلامية ودبلوماسية، لتحوير مسار الأحداث، وتحويل أنظار الرأي العام العالمي. الحملة المسمومة نفسها شملت المقرّرة الأممية الخاصة المعنية بحقوق الإنسان في فلسطين، فرانشيسكا ألبانيز، فلم يتردّد وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو في إعلان عقوبات بحقّ ألبانيز على خلفية كشفها تورّط شركات عالمية في ما وصفته باقتصاد الإبادة في فلسطين. وأوضحت المقرّرة الأممية في تقريرها أن هناك دولاً تساند إسرائيل في مشروعها للهيمنة وتهجير الفلسطينيين، وطالبت، في ضوء ذلك، بتعليق الاتفاقيات التجارية مع إسرائيل، التي تسهم في حرب الإبادة في غزّة، كما كشفت أن شركات صناعة أسلحة عالمية وفّرت لإسرائيل 35 ألف طنٍّ من المتفجرات، ألقتها على قطاع غزّة، وهي تعادل ستّة أضعاف القوة التدميرية للقنبلة النووية، التي ألقيت على مدينة هيروشيما اليابانية. الطريقة التي تتعامل بها إسرائيل مع الأمم المتحدة ومختلف المؤسّسات الدولية، واستهتارها بكلّ القرارات، وتماديها في ارتكاب الجرائم وإشعال الحرب في أكثر من منطقة، وتأجيج الصراعات الطائفية، وتغذية النعرات العرقية والمذهبية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الهدف منه هو إقناع الفلسطينيين والعرب بأنّ إسرائيل دولةٌ فوق القانون، فهي قوية، ولا أحد باستطاعته محاسبتها أو الردّ عليها، حتى ولو اعتدت عليه، وأن القانون الدولي في اعتقادها مجرّد خرافة، وأنها على حقّ بفضل القوة التي تملكها، وبفضل دعم الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة، وأيضاً بفضل الصمت والخذلان العربي الرسمي، اللذَين حوّلتهما سلاحاً لصالحها. فهي وفق هذا المنطق دولة يحقّ لها أن تفعل ما تريد، من دون أن تخضع لأيّ ردع سوى ما تقرّره هي، ومَن يفكّر في ردعها، فمصيره الدمار والهلاك.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store