
الأسد وجنبلاط... اللقاء الأخير (4-6)
المقدمة: وثائق سرية سورية عن الدخول إلى لبنان واغتيال كمال جنبلاط
الحلقة الأولى: الأسد "يستجوب" جنبلاط عن خصومه في لبنان... ويرفض عودة "البعثيين" إلى سوريا
الحلقة الثانية: ما بعد عين الرمانة... لبنان على شفا الحرب الأهلية
الحلقة الثالثة: من "السبت الأسود" إلى الدامور: حوار وسط المجازر
تكللت جهود وساطة الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد بالنجاح في 22 يناير 1976. وأعلن الرئيس اللبناني سليمان فرنجية وقف إطلاق النار برعاية سورية.
جاء ذلك بعد يومين من زيارة زعيم "الحركة الوطنية اللبنانية" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" كمال جنبلاط الأخيرة إلى دمشق. ومن أولى النتائج الإيجابية كانت إعادة افتتاح مطار بيروت وسحب استقالة رئيس الحكومة رشيد كرامي.
كما نجحت الوساطة السورية أيضاً في جمع الأطراف على برنامج إصلاحي يتضمن المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في المقاعد النيابية والوظائف الحكومية، بالإضافة إلى إصلاحات اقتصادية واجتماعية. وزار فرنجية دمشق في فبراير 1976. وأعلن بعدها عن "الوثيقة الدستورية" التي نصّت على المناصفة ووجوب موافقة رئيس الوزراء على التشريعات. لكنها لم تتطرق إلى بقاء منصب قائد الجيش في الطائفة المارونية. كما نصت الوثيقة على عودة الفصائل الفلسطينية إلى حدود اتفاقية القاهرة 1969، قبل بدء الإصلاحات.
وفي 11 مارس 1976، قاد الضابط في الجيش اللبناني عزيز الأحدب انقلاباً فاشلاً على سليمان فرنجية سمي "الانقلاب التلفزيوني". ورغم تأييد جنبلاط له، فإن الانقلاب لم يكن له أي تأثير سوى في زيادة الاحتقان ضد فرنجية، ما دفع فصيل "جيش لبنان العربي" المنشق عن الجيش اللبناني (بقيادة أحمد الخطيب) إلى قصف القصر الرئاسي. وتصدّت له قوات "جيش التحرير الفلسطيني" الموالية لسوريا، وكان الأسد قد أرسل وحدات من هذا الجيش ومن منظمة "الصاعقة" الفلسطينية الموالية لدمشق، للفصل بين الميليشيات المتنازعة منذ نهاية عام 1975، قبل ستة أشهر من تدخل الجيش السوري في ليلة 31 مايو –1 يونيو 1976.
حاولت سوريا إيجاد مخرج للأزمة وفق تصورها، فتم التوصل لاتفاق مع رئيس الجمهورية سليمان فرنجية على تعديل الدستور لانتخاب رئيس جديد قبل شهر سبتمبر 1976. ورفض جنبلاط هذه الصيغة وأعلن في 22 مارس 1976 رفضه لمشروع التسوية، مطالباً سوريا برفع يدها عن لبنان لتتمكّن القوى الوطنية من إقامة حكم "تقدمي" مناديا بمعركة "شاملة لا رجعة عنها". تصاعدت المعارك ابتداء من 24 مارس، وقامت قوات "الحركة الوطنية" التي يتزعمها جنبلاط باجتياح الشطر المسيحي من جبل لبنان، بمساعدة من الفلسطينيين، وتوسعت سيطرتهم لتشمل معظم المناطق اللبنانية.
طلب ياسر عرفات من كمال جنبلاط الذهاب إلى دمشق للقاء الرئيس حافظ الأسد، لكن الأخير رفض استقباله قبل وقف القتال
اللقاء الأخير الفاصل: 27 مارس 1976
طلب ياسر عرفات من كمال جنبلاط الذهاب إلى دمشق للقاء الرئيس حافظ الأسد، لكن الأخير رفض استقباله قبل وقف القتال. ومع اشتداد حدة المواجهات، دعت أطراف وشخصيات لبنانية بارزة دمشق إلى التدخل لوقف تمدد جنبلاط، وعلى رأسها البطريرك الماروني مار أنطون بطرس خريش. وافق الأسد على استقبال جنبلاط، تزامنا مع تحرّك سريع من مجلس الأمن الدولي، وتكثيف الاتصالات الدبلوماسية الفرنسية، وتصاعد حالة الغليان الداخلي في لبنان، ما جعل الأنظار تتجه إلى دمشق بانتظار موقفها.
عشية اللقاء، اجتمع الأسد بوزير الخارجية عبد الحليم خدام واللواءين حكمت الشهابي وناجي جميل وقائد تنظيم "الصاعقة" زهير محسن، لبحث الوضع الميداني في لبنان. على الجانب الآخر، تمنى حلفاء جنبلاط عليه أن لا يخرج مختلفاً مع الأسد، إذ يقول جورج حاوي (عضو المكتب السياسي لـ"الحزب الشيوعي اللبناني" أثناء الحرب ثم أمينه العام) في مقابلة ضمن برنامج وثائقي عن الحرب اللبنانية: "بادرت جنبلاط بالقول: رغم أنني أعارض هذا اللقاء، لكن بما أنك قررت المضي فيه، أرجوك لا تخرج منه وأنت على خلاف مع حافظ الأسد. ناقش معه بكل صراحة حتى النهاية، لكن إذا وصلت إلى طريق مسدود، فمن الأفضل أن توافق على ما يطرحه. أعتقد أن حافظ الأسد سيكون صريحاً جداً معك، وأنا على علم بظروف معينة تمنعه من الموافقة على برنامجنا. لذا إما أن يُلغى اللقاء، أو إذا تم، فأرجو أن لا تختلف معه. وقد وعدنا جنبلاط بأنه سيبذل كل جهد ممكن، وأكد تفهمه لموقفنا. ودعناه بعدها وغادر (إلى دمشق)".
التعليم الطائفي في لبنان يعزز الهويات الطائفية على حساب الهوية الوطنية الجامعة. المدارس الطائفية تدرس تواريخ متناقضة، مما يعمق الانقسام ويكرس الصراع
جنبلاط
في السابع والعشرين من مارس 1976 وصل جنبلاط دمشق برفقة عباس خلف ومحسن دلول ورياض رعد من "الحزب التقدمي الاشتراكي"، واجتمع بالأسد لمدة سبع ساعات ونصف. حاول الأسد إقناعه بضرورة وقف القتال والبحث عن سبل تنفيذ التسوية السياسية المتفق عليها، مؤكداً أن سوريا لا تتمسك بالرئيس فرنجية "ولكنها تتمسك بوحدة لبنان".
بدأ اللقاء في أجواء ودية وأبدى الأسد اهتماماً بمعرفة مستجدات الحراك الذي يقوده أحمد الخطيب، من خلال "جيش لبنان العربي". روى جنبلاط أنه التقى بالخطيب ورأى فيه "خميرة وطنية"، ثم انتقل النقاش إلى تركيبة الجيش اللبناني، والممارسات السائدة بداخله من طبقية وتمييز بين الضباط والمجندين. وحسب جنبلاط، فإن هذه العوامل هي التي دفعت الخطيب إلى تأسيس ما يشبه الجيش الشعبي، والذي التف حوله الجنود.
وأشار جنبلاط إلى ظاهرة تجييش الشباب، وامتد حديثه ليشمل النظام التعليمي والتربوي في لبنان والاختلافات بين المدارس ومناهجها، مما أدى إلى انحسار تعليم المبادئ والأخلاق. وأكد أن "الجيل الجديد ينزع إلى التغيير الشامل"، وأن وعي الشباب ارتفع نتيجة انخراطه في القتال، وأصبح منضبطا أكثر لكنه "لم يصل إلى المستوى المطلوب، وهذا لأن الشباب لم يتربوا في المدرسة".
تابع في الحديث عن إشكالية التعليم، مشيراً إلى أن "التعليم الطائفي في لبنان يكرس الانقسام ويعزز الهويات الطائفية على حساب الهوية الوطنية الجامعة. المدارس الطائفية في لبنان تدرس تواريخ متناقضة، وكل طائفة تروي التاريخ من وجهة نظرها الخاصة، مما يعمق الانقسام ويكرس الصراع".
ومن جانبه، أبدى الأسد تفهما لهذه الإشكالية، مشيراً إلى أهمية توحيد المناهج التعليمية وبناء رواية تاريخية وطنية جامعة كمدخل أساسي لبناء هوية وطنية لبنانية.
إلى أين تريدون الوصول؟
استفسر الأسد عن القتال الدائر في بيروت، وخصوصاً معارك منطقة الفنادق، فشرح جنبلاط الواقع الميداني بالقول: "الحركة الوطنية حققت تقدماً ملموساً في معارك بيروت، و(الكتائب) تكبدت خسائر فادحة". وفي محاولة لفهم أهداف الحركة الوطنية، طرح الأسد سؤالاً مباشراً: "إلى أين تريد الحركة الوطنية الوصول؟ هل تهدف إلى إقامة نظام اشتراكي كامل في لبنان؟". أعجب جنبلاط بالسؤال ورد قائلاً: "فعلاً... هي ثورة شعبية ولها دور اجتماعي وسياسي، لذلك من الصعب أن تتوقف إلا في حال إقناع الناس بحد معين من المكاسب". وشبّه ما يجري بحرب الاستقلال في الولايات المتحدة الأميركية، مؤكداً أنه "من غير الممكن أن تسير الأمور على ما يرام في حل (نص على نص)". ثم حدّد الحد الأدنى من طموحات الحركة الوطنية بقوله: "على الأقل يجب أن نصل إلى مستوى نستطيع فيه فرض نظام سياسي جديد، يمكن من خلاله تطوير البلد بشكل ديمقراطي". وأضاف أن تحقيق هذا الهدف يحتاج إلى "نوع من الحسم العسكري حتى لو لم يكن شاملاً".
من الجيّد أن يتم تخفيف وجود الجيش السوري قليلاً لكيلا نعطي حجة لإسرائيل
جنبلاط
"سوريا خاسرة بالتأكيد"
أجابه الأسد: "لم تكن المصلحة هي التي دفعتنا لنتدخّل (في نهاية عام 1975). طبعا بلا شك هناك مصلحة بين الثورة في سوريا والمقاومة والحركة الوطنية في لبنان، لكن في حينها لم نفكّر كثيراً بعقولنا. عندما أدخلنا القوات السوريّة إلى لبنان، لم يكن هناك علم لدى الحركة الوطنية بذلك، ولا الثورة الفلسطينية لم يكن لديها خبر". اعترف الأسد بأن سوريا كانت الخاسر الأكبر من تدخلها وقال: "في حساب المصلحة والربح والخسارة، سوريا خاسرة بالتأكيد، لكن في الحقيقة نحن بشر... شعب واحد نعرفكم وتعرفوننا. الثورة بهذا الشكل بالفعل هي ثورة شعبية، وفي هذا العصر يجب أن تصل ثورة من هذا النوع إلى بناء اشتراكية كاملة لا حلول وسطاً فيها. ولكن، من المستحيل تحقيق النصر العسكري الشامل دون تحقيق تغيير جذري في كل مناحي الحياة. هذا الأمر يتحقق بنضال ديمقراطي لا بحسم عسكري".
"حرب تحرير شعبية"
عاد جنبلاط ليؤكد في مداخلة طويلة أن ما يحدث في لبنان هو "حرب تحرير شعبية تهدف لفرض نظام سياسي جديد"، وكشف عن هدفه الاستراتيجي المتمثل في "السيطرة على كامل الجبل وصولاً إلى بكفيّا معقل آل الجميّل". وأضاف: "في الجبل اليوم سقطت خمس قرى، وإذا بقيت هذه التطورات يمكن أن نصل إلى بكفيّا بعد يوم أو يومين، ومن هناك ننزل إلى بيت مري، ونستطيع أن نسيطر على النفط الذي هو عصب الحركة". سأله الأسد عن الهدف النهائي، فأجاب جنبلاط: "فرض نظام سياسي جديد بالقوة". تطرق إلى الطائفية، معتبراً أن لبنان يمر بمرحلة "انتصار العلمنة على الطائفية السياسية". وتحدث عن ضرورة إجراء إصلاحات سياسية وتعديلات تطال مجلس النواب، طارحاً فكرة التمثيل النسبي، وقيام مجلس شيوخ إلى جانب البرلمان، يتم تسمية أعضائه من النخب والشرائح اللبنانية المختلفة.
الوضع الدولي والتدخل السوري
قاطعه الأسد ليسأل عن الوضع الدولي بالنسبة للبنان، فأجابه جنبلاط: "أعتقد أننا تعدينا مرحلة التدخل الإسرائيلي، إلا بحجة الوجود السوري في لبنان. وهنا من الجيّد أن يتم تخفيف وجود الجيش السوري قليلاً لكيلا نعطي حجة لإسرائيل". حذَّر الأسد من أن تخفيف وجود الجيش السوري "قد يقلب الميزان العسكري على الحركة الوطنية"، لكن جنبلاط أصر على موقفه قائلاً: "الميزان العسكري اليوم مع الحركة الوطنية، وأنه من غير الوارد أن تتدخل إسرائيل". فاتح الأسد جنبلاط بأن قضية لبنان قد تعرض على مجلس الأمن من قبل الأميركيين والأوربيين، وتحدث عن الحراك البريطاني - الأميركي القائم في لبنان. أسهب بشرح موقفه من تدخلات الولايات المتحدة: "الأميركيون يعرفون، ونحن قلنا لهم، إننا إذا أردنا أن نتدخّل سنتدخّل، ولن نأخذ أو نعطي لا معهم ولا مع غيرهم. وعندما تدخلنا لم نأخذ رأيهم". ثم تطرق إلى موقف الولايات المتحدة من علاقة الموارنة بسوريا: "الأميركيون لا يريدون أن يسمع الموارنة كلام سوريا... يريدونهم كما كانوا سابقاً. لا شك أن في لبنان هناك لعبة دولية كبرى". وفي ما يتعلق بموقف إسرائيل، أوضح الأسد: "الإسرائيليون أيضاً هددوا عندما تدخل جيش التحرير الفلسطيني، والخطر من الفلسطينيين أكبر من الخطر من السوريين".
وفي شرحه لسبب التدخل السوري، قال الأسد: "عندما دخلنا في البداية، دخلنا لأسباب قومية، ونحن كل شيء نريده من لبنان هو العروبة. يمين أم يسار، كل ذلك له تقييم عندنا، لكن عروبة لبنان هي رقم واحد بالنسبة لنا. نحن في أي وقت مهما تكن الأخطار التي تترتب علينا سنتخذ هذا الموقف سواء صارت حرب محليّة أو حرب عالمية. في أي وقت نرى فيه مبرراً أخلاقياً ووطنياً وقومياً لاتخاذ أي موقف سنتخذه بمعزل عن نصائح الأميركيين والإنكليز والروس سواء كانوا أصدقاء أم خصوماً".
ثم وصف الأسد دور سوريا في الأزمة بأنه "وساطة حياد إيجابي" قائلاً: "نريد أن نتكلم مع كل الأطراف، فلا يمكن أن تكون وسيطاً دون أن تتكلم مع كل الناس. الوساطة شيء، وأن نقول إن هناك ثورة ندعمها شيء آخر".
إذا كنا نفتش عن احتواء أحد، فماذا يمكن أن يجلب لنا احتواء الثورة الفلسطينية؟ كيف نحتوي قضية نعيش من أجلها ونبذل كل جهودنا ودمائنا واقتصادنا من أجلها؟
الأسد
حول الوثيقة الدستورية
انتقد الأسد فكرة الانتخابات النسبية التي طرحتها الحركة الوطنية، محذراً من أنها قد تعمق الانقسامات الطائفية في لبنان: "ستطرح في لبنان قائمة شيعية، وقائمة سنية، وقائمة درزية، وقائمة مارونية، وقائمة كاثوليكية... وهذا الأمر يزيد الطين بلة. شخصياً، لا أذكر أنكم طرحتم قضية طائفية الرئاسات الثلاث، لا في تصريحاتكم ولا في أحاديثكم. نحن في سوريا والله، حريصون على نسف هذه الأسس، لكن عندما قام لبنان، هكذا قام". وذكّر الأسد بأن أغلب المطالب التي حملتها الوثيقة الدستورية ليست غريبة عن البرنامج السياسي للحركة الوطنية، واستعاد لقاءه السابق مع الرئيس سليمان فرنجية، قائلاً: "قلت له عندما ذهبت إلى لبنان (في 7 يناير 1975)، إن المرء عندما يصبح رئيساً للجمهورية يصبح رئيساً وأبا للجميع".
عبّر الأسد عن اعتقاده بأن مطالب جنبلاط– وإن كانت تحمل بعداً إصلاحياً مشروعاً– بدت أحيانا وكأنها تميل إلى فرض الشروط، أو طرح "طلبات تعجيزية في لحظة توازنات دقيقة". قال الأسد: "أنا أعتقد أن النقاط التي كانت مطروحة قد تحقق منها 90%، وأعني التي كانت مطروحة بشكل جدي، والوساطة لا تسمح بأكثر من ذلك". كما لفت الرئيس السوري إلى أن الحركة الوطنية اللبنانية نفسها غير متجانسة في فهم آليات العمل وأساليبه: "أعتقد أنكم لو تركتم بعضكم فترة بعد هذه المناقشات والاجتماعات، وعدتم وجلستم مع بعضكم ستجدون أنه ليس لديكم فهم موحد حول كثير من هذه الأمور المطروحة".
وتابع الأسد حديثه باستعراض المنعطفات التي مرت بها الأزمة اللبنانية بعد الوثيقة الدستورية، وأشار إلى ما طرحته لاحقاً "حركة عزيز الأحدب" الانقلابية الفاشلة التي وصفها بغير المريحة: "إن ما تحقق في الوثيقة كان جيداً في ضوء المعطيات القائمة في لبنان، ثم جاءت (حركة عزيز الأحدب) فيما بعد وطرحت إقالة رئيس الجمهورية، ولكن حسب معلوماتي فإن هذا مطروح من قبل الحركة الوطنية قبل أن تطرحها حركة الأحدب".
وانتقل الأسد بعد ذلك إلى تقييم قضية رئاسة الجمهورية اللبنانية، مشيراً إلى محادثات سابقة أجراها مع جنبلاط، قال فيها: "كل الناس يعرفون أن علاقتنا بالأستاذ كمال قديمة وليست جديدة، وتتذكر وقتها قلت لك ما معناه أنه لا شيء يستحق هذه المعركة الآن، فأصلاً رئيس الجمهورية في نهاية رئاسته. حتى في الولايات المتحدة الأميركية يكون الرئيس مشلولاً خلال الأشهر الأخيرة، بل وفي السنة الأخيرة من رئاسته، فبالأحرى رئيس جمهورية في لبنان وهو في الـ3–4 أشهر الأخيرة من رئاسته".
ومن النقاط التي أراد الأسد توضيحها أن موقف سوريا من المسألة الطائفية لم يكن نابعا من حسابات دينية: "يهمنا أن لا يشعر أحد بأننا منطلقون من منطلقات دينية. هؤلاء الآخرون (المسيحيون) عرب مثلهم مثل المسلمين، ويجب أن تستوعبهم الحركة العربية. لا يجب أن نترك عندهم هذا الشعور".
"نخجل من مثل هذه الأقوال"
تابع الأسد في مداخلته الطويلة، متحدثاً عن الاتهامات الموجهة لسوريا في الصحف اللبنانية، لا سيما عبارة "النفوذ السوري" التي اعتبرها مسيئة بحق سوريا. رفض الأسد تصوير سوريا كدولة أجنبية تمارس الهيمنة، معللاً: "يقال: النفوذ السوري في لبنان يحجم فلاناً ويقوي فلاناً آخر... يخلخل نفوذ كمال جنبلاط، ويؤثر على نفوذ ياسر عرفات! نحن نخجل من مثل هذه الأقوال".
وتابع الأسد متحدثاً عن العلاقة المعقّدة مع منظمة التحرير الفلسطينية، مؤكداً أن دعم سوريا لـ"فتح" سابق على تأسيس حركة "الصاعقة"، قائلاً: "حتى في وقت من الأوقات عندما كانت (فتح) محاربة، كنا نقدم مساعدات كبيرة لها". وأشار إلى العلاقة الشخصية التي تربطه بأبو عمار (ياسر عرفات) ورفض الاتهامات التي تروّج لفكرة أن سوريا تسعى لاحتواء القرار الفلسطيني، ساخراً: "إذا كنا نفتش عن احتواء أحد، فماذا يمكن أن يجلب لنا احتواء الثورة الفلسطينية؟ كيف نحتوي قضية نعيش من أجلها ونبذل كل جهودنا ودمائنا واقتصادنا من أجلها؟".
وعن ياسر عرفات قال: "صحيح أنه يخطئ كثيراً... لكن لا يجوز أن نبرز شخصاً ونضربه في اليوم التالي".
ذكر الأسد أن المقاومة الفلسطينية نفسها طلبت "هليكوبترات للهجوم على تل الزعتر" وأكّد أنه "غامر من أجل لبنان". نفى أي صراع بين سوريا و"فتح" أو جنبلاط، قائلاً: "لا أعرف كيف يمكن لقوة سورية أن تتضارب مع قوة الحركة الوطنية. لو رأينا أن قوتنا تتعارض معهم، لما تعاملنا معهم من الأساس".
"الخلاف بين اللبنانيين أزمة نظام، لا مجرد خلاف سياسي أو أمني. ومع بداية الوساطة السورية في لبنان، ظهرت بعض الاجتهادات والاختلافات في وجهات النظر"
جنبلاط
الانقسامات اللبنانية وحدود المناورة
كما روى الأسد أن ياسر عرفات طلب منه دعم إقالة سليمان فرنجية، لكنه رفض قائلاً: "إذا استقال، فلن أتمسك به". وأضاف لجنبلاط: "أفهمت أبو عمار أن لا تلجأوا إلى استخدام القوة لأنها لن تحل المشكلة. عرض الأسد بتفصيل شديد لقاءه مع "التجمع المسيحي"، وقال: "أفهمتهم أنه إذا كانت مهمتهم أن يجلبوا لي قرارات فقط كناقلي بريد، فهذا غير مجدٍ"، رافضاً أن يبدأ الحل من الجيش. وحذّر الأسد جنبلاط من التورط في مغامرات غير محسوبة، قائلاً: "إذا لم يكن الهدف هو بناء نظام اشتراكي حقيقي، فلا مبرر لاستمرار القتال". ثم حذّر من خطر التدويل: "نحن على أبوابه، وهو بطابع ديني". وفي الوقت الذي عبّر فيه عن رفضه لأي تفكير بالتقسيم أو تدويل للأزمة، كشف عن اتصالات يومية تجريها الإدارة الأميركية مع سوريا، معتبراً أنها "تعمل على تعميق الطائفية في لبنان. واشنطن لن تُفاجأ إذا دخلت القوات السورية إلى لبنان، بل ربما تراهن على ذلك لإعادة صياغة التوازنات الطائفية".
"الدولة اللبنانية باتت مهترئة"
بدوره، تحدث جنبلاط مطولاً وأكد أن الخلاف بين اللبنانيين هو "أزمة نظام، لا مجرد خلاف سياسي أو أمني. نحن في لبنان تعودنا على حرية الانتقاد، والعلاقة مع سوريا كانت في الماضي أكثر توافقاً. لكن مع بداية الوساطة السورية في لبنان، ظهرت بعض الاجتهادات والاختلافات في وجهات النظر". وأشار إلى أن الجيش هو "عمود النظام الطائفي وبقاء المارونية السياسية"، واصفاً الدولة اللبنانية بأنها "مهترئة على كافة الصعد، سياسياً واقتصادياً وإدارياً وقضائياً". وأشار إلى أن النظام القائم لا يمكنه الاستمرار، وأن كثيراً من الإصلاحات التي طرحتها الحركة الوطنية باتت تحظى بقبول واسع، حتى من خصومها السياسيين، مضيفاً أن "جذور المشكلة تكمن في النظام نفسه، وبمجرد بناء نظام وطني تقدمي ستزول كل الأزمات الأخرى، بما فيها الاحتكاك مع الفلسطينيين".
الأسد يغادر الاجتماع
غادر الأسد القاعة لإجراء مكالمة هاتفية، فتداول جنبلاط أثناء غيابه مع أعضاء الوفد اللبناني رأيه بما دار بينهما من حديث. رأى أن التدويل غير وارد "حالياً" بسبب الفيتو السوفيتي والصيني، كما أشار إلى حالة الإرباك في صفوف "الكتائب"، مستشهدا بدعوة بيار الجميّل للناس بالعودة للقتال، معتبرا أن هذه المناشدة دلالة على الانهيار المعنوي.
الحلقة القادمة: الأسد وجنبلاط وجها لوجه... جدال ومواجهة
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ 32 دقائق
- الشرق الأوسط
ترمب... السلام أو الغرق في رمال المنطقة؟
بعد ضربِ الطائرات الأميركية مفاعلات إيران قال الرئيس ترمب: «دمّرنا مفاعلات إيران»، وعندما قصفت الطائرات الإسرائيلية دفاعات إيران وقتلت قادتَها صرح نتنياهو: «سنرسم خريطة الشرق الأوسط»، وعندما أخرجت إيران مفتشي الأمم المتحدة من أراضيها احتجاجاً على ضرب مفاعلاتها قال وزير خارجيتها: «نحن قادرون على إعادة بناء ما تهدم من برنامجنا النووي». هذه التصريحات تؤكد حقيقة واحدة أن إيران كما كانت، وينصب اهتمامها الآن على حماية نظامها وترميم دفاعاتها، وكيفية التفاوض مع ترمب دونما أن تفقد ماء الوجه. في المنطقة لم تعد إيران لاعباً مؤثراً، وهناك لاعبان مهمان: إسرائيل وتركيا، وهما يتنافسان الآن على مناطق نفوذ، وقد يتقاتلان إذا لم يفرمل الرئيس ترمب إغراءاتهما بالتوسع. وسارعت إسرائيل بعد سقوط الأسد إلى احتلال مناطق سورية في الجولان، وثبتت مناطق نفوذ في الجنوب مع الدروز، ودمرت قواعد عسكرية، ومعدات، لكي تحرم سوريا من إمكانية الدفاع عن أراضيها ومصالحها. هذا التحرك الإسرائيلي يُعيد المنطقة إلى ما يسمى «أحزمة النفوذ» (Spheres of influence) التي كرسها الرئيس الأميركي جيمس مونرو عام 1823، وتُعرف بمبدأ مونرو. وبموجبه لا يحق لدول أوروبية أن تتدخل في أميركا اللاتينية، وكُرّس كذلك في مؤتمر برلين 1884-1885، وفي اتفاقية مالطا عام 1945، وبه ستتذرع تركيا، وربما غداً دول أخرى. نتنياهو يؤمن بنظرية انتهاز الفرصة، وتكريس وقائع على الأرض، لكنه بعد إخراجه إيران فتح الباب أمام إردوغان، وبالتالي أصبح يتنافس معه على الكعكة السورية، والأهم على رسم مسار المنطقة. هذا التنافس أوصلهما بعد ضرب إسرائيل للدولة السورية الوليدة إلى شفا المواجهة لولا تدخل الرئيس ترمب، وتهديده لنتنياهو بالتوقف عن مواجهة إردوغان، وحذره بأن إردوغان صديقه، ونصحه بأن يعود إليه عند الاختلاف على أحزمة النفوذ. بهذا القول الحاسم أصبح واضحاً أن المايسترو الجديد للشرق الأوسط هو الرئيس ترمب، وأن الصراع في المنطقة على أحزمة نفوذ ليس مسموحاً به، وأن ترمب وحده يوزع صكوك النفوذ في منطقة تتشكل من جديد. وبالفعل رتب ترمب لهما خطاً عسكرياً ساخناً لكي يتفاهما بسرعة قبل أن يدخلا في معركةٍ تبعاتها خطيرة على إسرائيل، وبالذات على مشروع ترمب للسلام في الشرق الأوسط. أمام ترمب الآن فرصة ثمينة في المنطقة حيث لا نفوذ روسياً ولا إيرانياً، بل أميركي بامتياز، والعقبة الوحيدة أمامه هي نتنياهو، ورؤيته لـ«إسرائيل الكبرى»؛ لذلك قال وزير خارجية تركيا فيدان في مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي مؤخراً: «لا يوجد مشكلة فلسطينية ولا لبنانية ولا سورية ولا يمنية، بل مشكلة إسرائيلية». هذا يعني أن الأتراك يرفضون أن تكون إسرائيل المهيمن في المنطقة، بل يريدونها أن تكون دولة مثل غيرها، وأن يتشارك الجميع عرباً وأتراكاً وإسرائيليين في خيرات وتنمية المنطقة وأمنها. في المقابل، ترى الدول العربية المؤثرة أن لا «إسرائيل الكبرى» مقبولة، ولا نظرية «القرن التركي» لإردوغان مرغوبة، بل إن الحل تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، واحترام سيادة الدول، والابتعاد عن نظرية الأحزمة الأمنية التي ستنزل بالدول العربية المجاورة أكبر الضرر، وهي لم تتعافَ بعدُ مما حدث. ويبدو أن ترمب يميل إلى نزع فتيل غزة، ثم طرح حل للقضية الفلسطينية، ويعتقد أنه قادر على جر كل الأطراف إلى توقيع اتفاقية جديدة قد تكون تطويراً لـ«الاتفاق الإبراهيمي». بالرجوع لتاريخ الشرق الأوسط، ثمة حقيقة ثابتة أن الانتصار في حرب لن يعقبه بالضرورة سلام، وأن رمال المنطقة المتحركة ابتلعت آمالاً كباراً، وفيها غرقت دول، وعلى الرئيس ترمب أن يتعظ بهذا الماضي، ويستلهم حلاً لا يستبعد أحداً من التسوية الكبرى. ويكمن الخوف في استجابته لنتنياهو الذي ينتظر صرف انتصاراته العسكرية سياسياً، بتسويق اتفاقيات منفردة مع دول عربية، وهو مطلب قديم تمسكت به إسرائيل، وبه مزقت قدرات العرب التفاوضية؛ لذلك فإن قبول ترمب بهذا المسار سيرتب أخطاراً كبرى على رؤيته للسلام، وأي توجه منه لإجبار سوريا «الوليدة» دونما مراعاة لمصالح تركيا، ودونما موافقة عربية، سيكون بمثابة السير في حقل ألغام، وكذلك أي حل لا يُشرك الدول الأوروبية والإسلامية، وبالذات روسيا والصين، ولو شكلياً، سيكون انتقاصاً لهيبة الكبار، وربما سيوفر لتلك الدول ذريعة لتفخيخه، ثم تفجيره في المستقبل. الآمال كلها معلقة الآن على ترمب؛ لأنه الوحيد القادر الآن على صناعة السلام العادل، ودفن مشروع «إسرائيل الكبرى»، وإلغاء «القرن التركي» بعدما أزاح مشروع إيران الثوري. إن ترمب يقف على عتبة التاريخ؛ فإما أن يفرض السلام العادل ويخلده التاريخ، أو ينصاع لرغبات نتنياهو فيغرق في رمال المنطقة كما غرق قبله ملوك وأباطرة ورؤساء عظام.


الشرق الأوسط
منذ 34 دقائق
- الشرق الأوسط
الشرق الأوسط ومحنة الفقر السياسي
دفعَت المنطقة، على امتداد نصف قرن، أثماناً مرعبة جراء النزاع مع إسرائيل، إذ صُورتْ إسرائيل بأنَّها كيانٌ هش، قائم على الدعم الخارجي أكثر مما هو قائم على تماسك داخلي أو شرعية وجود. وهذا أفرز سرديات قومية وإسلامية ويسارية كاملة تدعو لانتظار سقوطِها الحتمي والوشيك. ونابت هذه الترسانة العقائدية دوماً عن الحاجة إلى تطوير مشاريع سياسية، وبررت لأصحابها افتقارهم للمسؤولية التاريخية عن أحوالهم وأحوال شعوبهم وبلدانهم. يتسلل، في الاتجاه المعاكس، وهم قد يكون أخطر، مفاده أن إسرائيل ما عادت بحاجة إلى السياسة وأفكارها، وأن فائض القوة ومنطق الردع الدائم ينوبان عن الاعتراف بها عبر ترتيبات السلام والتطبيع والتسويات، ويتيحان لها أن تعيد تشكيل الإقليم وحدها بلا مفاوضات أو شراكات. هذا تماماً ما أفصحت عنه الضربة التي تعرّضت لها دمشق في أعقاب أحداث السويداء. قصف مذهل بتوقيته، وقوته، وبالاستعراض العنيف الذي انطوى عليه في قلب العاصمة؛ فهي رسالة جيو - سياسية، تفيد بأن إسرائيل ما عادت تكتفي بإجهاض تهديدات قائمة، بل جاهزة لتوظيف تفوقها العسكري بغية فرض معادلات سياسية تناسبها. ولئن جاء القصف في أعقاب سيل من التقارير عن مفاوضات سلام بين دمشق وتل أبيب، فإن رسائله آذت كثيراً الرهان العاقل على أن تحييد مهددات الاستقرار في الاقليم يمر عبر تطوير التحالفات وتعميق التفاهمات والبناء على المصالح المشتركة. كأن إسرائيل تعيش اليوم لحظتها «الناصرية» بشكل معكوس، وتتقمص مقولة إن «ما أُخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة»، باعتبارها عقيدة سيطرة مستدامة، لا ترى في التسويات إلا تهديداً لوجودها ولا في الحاجة للاعتراف السياسي إلا عبئاً، يعطل قدرتها على فرض نموذج إقليمي جديد يعيد إنتاج التوازنات من الجو، بلا شركاء، بلا تفاوض، وبلا حاجة حتى إلى وسطاء. بيد أن الناصرية سقطت حين أوهمت الجماهير أن امتلاك الميكروفون يغني عن امتلاك المشروع، وهذا يكاد يؤشر إلى مصير النموذج الإسرائيلي الراهن الذي يرى أن طائرات «إف - 35» تغني عن الأفق السياسي، وتحرر تل أبيب من الحاجة لتقديم «رؤية»، لا لخصومها فقط، بل لحلفائها، ولمجتمعها، وللعالم. ثمّة خلط قاتل بين حاجة إسرائيل لامتلاك أدوات ردع فعالة، وأن تُحسن توظيف هذه الأدوات ضمن استراتيجية مستدامة يحميها غطاء سياسي داخلي متماسك، ودعم إقليمي ودولي واضح، بغية تحقيق مشروع سياسي للمنطقة؛ لأن البديل الذي يلوح في الأفق الآن هو حالة استنزاف دائمة تدخلها إسرائيل (والمنطقة)، تستهلك مواردها، وتفاقم التشظي المجتمعي، وتضعف شرعية القرار السياسي والاستراتيجي، على نحو يجعل من السعي إلى فرض الاستقرار بالقوة، مجرد دينامية اضطراب مزمن. كما يهدد هذا النموذج بضرب ما تبقى من مراكز التوازن في المنطقة، ويُضعف منطق الواقعية، ويُحرج كل رهانٍ على الاعتدال والتجسير بين إسرائيل ومحيطها. إن مثل هذا الافتقار المرعب لأي أفق سياسي، حتى لإدارة الصراع، وتحويل التفوق العسكري إلى ما يشبه الهوية، والإقليم إلى حقل عمليات مفتوح، يحرر على المقلب الآخر، جماعات الرفض من عبء التأقلم والتغيير، ويسمح لها بإعادة إنتاج سردياتها عن وجود إسرائيل ودورها في «تقسيم الدول العربية وإضعافها»! قبلاً، فشلت إسرائيل، رغم ما راكمته من تفوق عسكري وتكنولوجي، في تثبيت شرعية موقعها الإقليمي، لأنها لم تغادر، إلا لماماً، منطق الدفاع الدائم؛ فكثيراً ما عرفت نفسها من خلال ما ترفضه، لا ما تقترحه، ومن خلال ما تخشاه، لا ما تأمله. واليوم، تبدو إسرائيل مكتفية بمنطق الهجوم الدائم، من خان يونس إلى أصفهان. وبين المنطقين، يكاد يندر أن يُعثر على أي جهد لبناء سردية سياسية أو أخلاقية تسمح لها بتثبيت وجودها في زمن الشرق الأوسط، لا في جغرافيته فقط. ما يفوت إسرائيل الحالية، وما يفوتنا أيضاً، أننا في الشرق الأوسط، لا نعيش سباق تسلّح، بل سباق سرديات. وفي هذا الخصوص، ثمة مسؤولية عربية أيضاً، عن إنتاج أفق سياسي متماسك، يكف عن التعامل مع الأزمات في غزة وسوريا ولبنان واليمن والسودان والعراق، بمنطق التجزئة، ومن دون أن يُطرح تصور إقليمي شامل يُعيد تعريف ما هو ممكن. يضاف إلى ذلك أنَّ هناك بعض الارتياب والتردد لدينا حيال فكرة أن الأنظمة المأزومة قابلة لإعادة التشكيل السياسي، وليست محكومة سلفاً بضرورة إرجاعها إلى «ما قبل» الانهيار، من دون تغيير؛ فانفجار الأنظمة ليس مجرد «حالة يجب استيعابها»، بل فرصة لفرض هندسات سياسية مختلفة، تفتح الباب أمام تسويات داخلية قابلة للبقاء. والحال، يكمن التهديد الحقيقي لإسرائيل ولنا، في الجفاف السياسي. العرب يحتمون بقوة الجغرافيا كأنها شرعية دائمة، وإسرائيل تهاجم بقوة العسكرة كأنها مشروع مستدام. إن اختزال السياسة إلى تفوق جوي واستخباراتي، والشرعية إلى معطى جغرافي وتاريخي فقط، مصيره أن يصنع فراغاً عملاقاً، والفراغ، في هذا الإقليم، لا يطول أبداً قبل أن يملأه خصمٌ ما، أو كارثة.


الشرق الأوسط
منذ 34 دقائق
- الشرق الأوسط
هوس نتنياهو وخيارات المنطقة
مفهومُ الدَّولة في ميثاق الأممِ المتحدة ينطوي على الاعتراف بحدودٍ واضحةٍ وبسيادةٍ للدولة، وكانت ولادةُ المفهومِ في أوروبا بعد حرب الثلاثين عاماً الدينية؛ ولكيلا يتقاتل الأمراءُ آنذاك اتَّفقوا على قيامِ إماراتٍ بحدودٍ ثابتةٍ، وعلى المقيمينَ فيها من ديانات متنازعة الخضوعُ لأمير الإمارة، ومن لا يريد يغادر إلى سلطة أميرٍ آخر يحمل معتقدَه. هكذا خرجت أوروبا من دائرة الاقتتال والتنازع إلى الاستقرار والأمان. أمَّا في عالمنا العربي فلا تزال للأسف فكرة مفهوم الدَّولة غير مستقرة، ولا تزال آيديولوجية المعتقد، أو القبيلة، سائدةً، ومعه تغدو الحدودُ مطاطيةً قابلةً للتَّمدّدِ أو الانكماش؛ طراوة المفهوم تحوَّلت صنارةً تصطادُ بها دولٌ ذاتُ أطماع أقلياتٍ دينية وعرقية لتحقيقِ مصالحها الخارجية على حساب السيادة والحدود. لذلك شدَّدَ ميثاقُ الأمم المتحدة على أنَّ الحدودَ مقدسة، وأنَّ التَّدخلَ في الشؤون الداخلية للدول انتهاكٌ سافر، وبقيت نصوصُه بالممارسة حبراً على ورق. التَّدخلُ الإسرائيلي الأخير في السويداء وقصف قوى الأمن السورية، وكذلك العاصمة، والتهديدُ للحكومة السورية الوليدة بإسقاطها، يؤشر إلى رغبة بانتهاك الميثاق وبالذَّات قدسية الحدود، وعدم التدخل في الأمور الداخلية للدول. بهذا يكرّس نتنياهو أنَّ أي دولةٍ لها الحق بأن تفرضَ منطقَها على أخرى بحجة حماية أقلية، أو تحصين أمنِها القومي. لكنَّه في حمأةِ فائضِ القوة، وتمكنه من الإفلات من العقاب في غزة، نسي أنَّ هذه المنطقة رمالُها متحركة، وتعقيداتها أكثر مما يتصورها، ومنها أن الدروز ليسوا كتلة متراصة إزاء مشاريعه، والعرب لا يرغبون في سلام متفجر معه، وتركيا لن ترضى بتوسعه على حساب أمنها في سوريا. فالعرب من باب البراغماتية، بعد قضم ميليشيات إيران لسيادة دولهم، وبعد الربيع العربي وتبعاته، مالوا للمصالحة من باب الواقعية مع إسرائيل ليتفاجأوا أنها أصبحت أكثر تغولاً على مفهوم الدولة. فإيران تسترت دائماً بقناع الميليشيات، بينما إسرائيل تجاهر بقصف قصر رئيس عربي، وتدمر هيئة الأركان لدولة خرجت للتو من هيمنة التدخل الإيراني، كانت إسرائيل تتذرع أنه تهديد لها؛ فإذا هي بعد كل التنازلات التي قدمها الرئيس السوري الجديد من سكوت على احتلال للجولان والتوسع باتجاه مدينة دمشق، وتسليم متعلقات تعود للجاسوس كوهين، وقبول سلام متدرج شرط استعادة الأراضي السورية المحتلة، وقبول حل عادل للقضية الفلسطينية، يجد نفسه مهدداً بالموت من طائراتها، وموصوفاً بالتطرف، رغم اعتراف كل الدول به. إنَّ مصير الدول مرتبط عادة بسيكولوجيا قادتها، ونتنياهو، بعد عشرين عاماً في السلطة، يريد أن يكون صانع معجزات لشعب إسرائيل، وقاهراً لكل أعدائها، ولن يرضى بسلام إنَّما فقط باستسلام؛ لذلك طلب من الرئيس الشرع أن ينسى الجولان ومساحات احتلها مؤخراً من جبل الشيخ، وألا يمارسَ سيادة الدولة في السويداء؛ وغداً سيمنعه من شراء طائرات أو منظومات دفاعية بحجة أنها ستهدد أمنه. وبجانب هذه النزعة القيادية التاريخية يعاني نتنياهو من عقدة خطيرة: هوس الخوف. هذا الهوس المرضي يسبب مشكلة أكبر لمن يحيطون به لأنَّهم سيتخوفون منه أكثر، وسيضطرون إلى الاستعداد بكل ما لديهم لمواجهته، وبهذا تصبح المعركة حتميةً ودمويةً وعصيةً على الحل. نتنياهو المهووس هو مشكلة أيضاً للولايات المتحدة وأوروبا اللتين تدعمانه؛ وقد نشر موقع «المونيتر» الإخباري عن مسؤولين أميركيين قولهم لنتنياهو: «لا يمكنك أن تدخل حرباً جديدةً كل بضعة أيام. نحن نحاول إطفاء اللهب، وتخفيض الحروب وأنت تزيدهما»؛ وأوروبا كذلك بدأت تخجل من إسرائيل، التي كانت تتباهى بأنَّها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة. لقد تعدَّت تجاوزات نتنياهو ما يُسمى في علم الاقتصاد «الإشباع الحدي»، بمعنى أنَّه وصل قمة الإشباع، بالتالي سيبدأ حتماً رحلة العد التنازلي، ولأسباب أهمها أنه أثبت للجميع أنَّ السلام يتحقق فقط بتوازن القوى وإلا أصبح استسلاماً، وبرهن للولايات المتحدة على أنَّه عقبة أمام رؤية ترمب للسلام في المنطقة؛ وثبت لأوروبا أنَّه لطخة عارٍ على الديمقراطية والإنسانية؛ ودفع تركيا الأطلسية إلى التكشير عن أنيابها حمايةً لمصالحها، والتقرب أكثر من العرب. كما دفع الشرع للتهديد المبطن أنَّ القتال حرفته، ولا يخاف مواجهته لحماية وحدة بلاده. وما رأيناه مؤخراً من تحرك للقبائل والعنف المتبادل أيقظ المعنيين بضرورة دعم الدولة السورية، وإلا فالعنف سيجر عنفاً، ويعود الأمر إلى ما كانت عليه سوريا في السابق على حساب أمن المنطقة وأميركا نفسها وأيضاً إسرائيل. ثمة خياران لا غير: أن يتوقف نتنياهو عن هوسه، وعن فكرة الزعيم التاريخي، ويرضخ للمطالب المحقّة في المنطقة، ويصبح مثل غيره، يحترم مفهومَ الدولة، وسيادتها، ويقبل بالتعايش مع الحق الفلسطيني، أو يرفس هذه المصطلحات كلها لإقامة إسرائيل الكبرى، والكوارث التي سيجنيها من جرَّاء ذلك. إنْ اختار الأول عاش بسلام، وإلا سيدرك بعد فوات الأوان أنَّ مُشعلَ النار لا يستطيع إطفاءَها.