
نزاع المسموح والمحظور... قصة قانون كينيدي
أدى اغتيال الرئيس جون كينيدي في الـ22 من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1963 إلى زلزال سياسي واجتماعي في الولايات المتحدة، وأثار موجة من الشكوك وعدم الثقة في الحكومة الأميركية، وعقوداً ظلت الوثائق المرتبطة بالحادثة طي الكتمان، مما عزز نظريات المؤامرة والمطالبات بالكشف عن السجلات الحكومية، وقد تساءل كثير من المواطنين والصحافيين عن مدى تورط أجهزة الاستخبارات والمؤسسات الأمنية في الحادثة، بخاصة بعد تقارير متضاربة من وكالات التحقيق الرسمية.
استجابة لهذا الضغط الشعبي الهائل، أصدر الكونغرس الأميركي ما يعرف بقانون سجلات اغتيال جون كينيدي (JFK Act) عام 1992، الذي كان يهدف إلى تعزيز الشفافية وتمكين الجمهور من الاطلاع على وثائق الاغتيال. وقد عكس هذا القانون إدراك الحكومة أهمية الشفافية في استعادة ثقة المواطنين، لكنه أيضاً أبرز الصعوبات المتأصلة في موازنة الإفصاح عن المعلومات مع متطلبات الأمن القومي.
مطالبات بالشفافية
قبل إصدار القانون، أجرت لجان عدة تحقيقات حول الاغتيال، منها لجنة وارن التي تشكلت عام 1964 وخلصت إلى أن المدعو لي هارفي أوزوالد تصرف بمفرده، ولجنة مجلس النواب المختارة حول الاغتيالات عام 1976، التي أشارت إلى احتمال وجود مؤامرة أوسع، مع ذلك بقي كثير من الوثائق سرياً بسبب مخاوف تتعلق بالأمن القومي وحماية المصادر الاستخباراتية.
أدى هذا الغموض المستمر إلى تزايد نظريات المؤامرة، إذ اعتقد البعض أن أجهزة الاستخبارات مثل وكالة الاستخبارات المركزية أو مكتب التحقيقات الفيدرالي أو حتى الجيش الأميركي قد تكون متورطة بطريقة أو بأخرى.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تصاعد اهتمام العامة بالموضوع بصورة كبيرة بعد صدور فيلم "جون أف كينيدي" (JFK) للمخرج أوليفر ستون عام 1991، الذي طرح سردية مشككة في الرواية الرسمية، وأشار إلى تلاعب محتمل في الأدلة والشهادات، دفعت هذه الضغوط الكونغرس إلى اتخاذ إجراءات تشريعية تلزم الكشف عن السجلات، مما أدى إلى إقرار قانون سجلات اغتيال جون كينيدي.
مرر القانون بالإجماع في الكونغرس ووقعه الرئيس جورج بوش الأب ليصبح نافذاً اعتباراً من الـ26 من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1992، أنشأ القانون مجلس مراجعة سجلات الاغتيال، وهو هيئة مستقلة منحت صلاحيات مراجعة الوثائق السرية واتخاذ قرارات في شأن نشرها. وبموجب القانون، كان يفترض الكشف عن جميع الوثائق المتعلقة باغتيال كينيدي ما لم تكن هناك أسباب مقنعة لحجبها، مثل المساس بالأمن القومي أو الخصوصية.
وقد ألزم القانون الوكالات الفيدرالية، بما في ذلك وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي والبنتاغون بمراجعة ونشر الوثائق ذات الصلة، ونتيجة لذلك أُفرج عن آلاف الصفحات من الوثائق التي ألقت الضوء على جوانب مختلفة من التحقيقات السابقة، بما في ذلك تقارير عن تحركات أوزوالد قبل الاغتيال، ومراقبته من قبل الاستخبارات، والاتصالات التي أجراها مع دبلوماسيين كوبيين وسوفيات.
عقبات وتحديات
على رغم أن قانون سجلات اغتيال جون كينيدي كان خطوة كبيرة نحو الشفافية، فإن التنفيذ واجه تحديات عدة، أولها المقاومة البيروقراطية، حين رفضت بعض الجهات مثل وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي الإفراج عن بعض السجلات، بدعوى أنها تحوي معلومات حساسة قد تؤثر في الأمن القومي أو تكشف عن مصادر وأساليب استخباراتية لا تزال مستخدمة.
كذلك كانت التأجيلات المتكررة عقبة أخرى في وجه القانون، إذ انتهت فترة عمل مجلس مراجعة سجلات الاغتيال خلال عام 1998، لكن لم يفُرج عن جميع الوثائق حينها، وفي عامي 2017 و2021 أُجل نشر بعض السجلات بأوامر رئاسية، مع تبريرات تتعلق بالأمن القومي والتأثيرات الدبلوماسية المحتملة.
كما أن تعديل الوثائق شكل تحدياً حين أُفرج عن بعض الوثائق ولكن بعد تنقيح أجزاء منها، مما أثار تساؤلات حول استمرار حجب المعلومات الحساسة، وما إذا كان التعديل قد تم لحماية أفراد معينين أو مؤسسات معينة.
وأخيراً لعب الضغط السياسي دوراً مهماً حين ظلت هناك ضغوط من جماعات بحثية ونشطاء مدافعين عن الشفافية يطالبون بالكشف الكامل عن السجلات، مما وضع الإدارات الرئاسية المتعاقبة في موقف معقد بين التزام الشفافية وحماية مصالح الدولة.
أسهم قانون سجلات اغتيال جون كينيدي في تعزيز ثقافة الإفصاح داخل الحكومة الأميركية، إذ أصبح نموذجاً لقوانين الشفافية المستقبلية، ويمكن مقارنة تأثيره بقانون حرية المعلومات الذي مُرر عام 1966، وأتاح للجمهور الوصول إلى الوثائق الحكومية غير السرية، لكن الفارق الأساس هو أن قانون حرية المعلومات يتطلب من الأفراد تقديم طلبات للحصول على المعلومات، بينما فرض قانون سجلات اغتيال جون كينيدي الكشف التلقائي عن وثائق محددة من دون الحاجة إلى تقديم طلبات.
ما لم يكشف عنه
وعلى غرار قانون سجلات اغتيال جون كينيدي أدى قانون الوثائق الرئاسية لعام 1978 إلى تعزيز الشفافية من خلال فرض متطلبات أرشفة وإتاحة السجلات الرئاسية، لكنه لم يفرض الكشف الإلزامي عن الوثائق الأمنية الحساسة كما فعل قانون سجلات اغتيال جون كينيدي.
من ناحية أخرى يمكن مقارنة تأثيره أيضاً بقانون لجنة 9/11 الذي أقر في 2004، ودفع إلى الإفراج عن وثائق التحقيق في هجمات الـ11 من سبتمبر (أيلول)، لكنه واجه عقبات مماثلة تتعلق بالحجب الجزئي والتأجيلات.
إضافة إلى ذلك عزز قانون سجلات اغتيال جون كينيدي دور الأرشيف الوطني الأميركي في إدارة الوثائق السرية وإتاحتها للجمهور، مما جعل عملية الكشف عن المعلومات أكثر مؤسساتية وتنظيماً، كذلك كشف القانون عن آلاف الوثائق التي كانت محجوبة عقوداً، مما أتاح للباحثين فهماً أوسع لما حدث عام 1963.
يعد هذا القانون مثالاً مهماً على كيفية استجابة الحكومات لمطالب الشفافية، لكنه يسلط الضوء أيضاً على الصعوبات التي تواجه الكشف عن المعلومات الحساسة، وبينما حقق القانون نجاحات بارزة في توفير قدر من الشفافية، فإن التحدي المستمر يتمثل في تحقيق التوازن بين الإفصاح عن المعلومات وحماية الأمن القومي، وحتى اليوم لا تزال هناك تساؤلات عالقة حول ما لم يكشف عنه بعد.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ 9 ساعات
- الشرق الأوسط
«وول ستريت» تتراجع بعد إقرار قانون ترمب الضريبي
سجّل مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» تراجعاً طفيفاً في تداولات متقلبة يوم الخميس، بعد أن صوّت مجلس النواب الأميركي لصالح تمرير مشروع القانون الضريبي الذي وصفه الرئيس دونالد ترمب بأنه «مشروع قانون كبير وجميل»، والذي من المتوقع أن يضيف تريليونات الدولارات إلى الدين العام الأميركي. وبحسب مكتب الموازنة في الكونغرس، من المنتظر أن يؤدي المشروع – في حال تحوّله إلى قانون – إلى زيادة الدين الفيدرالي بنحو 3.8 تريليون دولار خلال العقد المقبل، ليرتفع من مستواه الحالي البالغ 36.2 تريليون دولار، وفق «رويترز». وينتقل مشروع القانون الآن إلى مجلس الشيوخ، حيث تسيطر الأغلبية الجمهورية، وإذا ما أُقر، فسيحقق جزءاً كبيراً من أجندة ترمب الشعبوية، عبر منح إعفاءات ضريبية جديدة على الإكراميات وقروض السيارات، وزيادة الإنفاق العسكري. وقال سام ستوفال، كبير استراتيجيي الاستثمار في شركة «سي إف آر إيه» للأبحاث: «بينما تحاول الحكومة خفض الإنفاق وخفض مستويات الديون، يبدو أن هذا المشروع سيؤدي إلى التراجع عن معظم ما تم تحقيقه حتى الآن». وفي تمام الساعة 09:49 صباحاً بتوقيت شرق الولايات المتحدة، انخفض مؤشر «داو جونز» الصناعي بمقدار 72.70 نقطة أو 0.17 في المائة إلى 41.790.95 نقطة، وتراجع «ستاندرد آند بورز 500» بنحو 8.11 نقطة أو 0.14 في المائة إلى 5.836.38 نقطة، في حين ارتفع مؤشر «ناسداك» المركب بمقدار 28.91 نقطة أو 0.15 في المائة ليصل إلى 18.901.55 نقطة. وتراجعت تسعة من أصل 11 قطاعاً فرعياً ضمن «ستاندرد آند بورز»، بقيادة قطاعي المرافق والطاقة اللذين انخفضا بأكثر من 1 في المائة لكل منهما. وسجلت عوائد سندات الخزانة الطويلة الأجل مستويات مرتفعة، حيث بلغت عوائد السندات لأجل 10 سنوات 4.606 في المائة، فيما قفزت عوائد السندات لأجل 30 عاماً إلى أعلى مستوى لها في 19 شهراً. ورغم هذا التراجع، حققت معظم أسهم شركات النمو الكبرى مكاسب، وتصدرت «ألفابت» الشركة الأم لـ«غوغل» القائمة بارتفاع قدره 3.4 في المائة. وقفز سهم شركة «سنو فليك» بنسبة 9 في المائة بعد أن رفعت الشركة توقعاتها لإيرادات منتجاتها خلال السنة المالية 2026. وكانت المؤشرات الثلاثة الرئيسية قد سجلت الأربعاء أكبر تراجع يومي لها منذ شهر، بعد أن ارتفعت عوائد السندات نتيجة القلق المتزايد بشأن تفاقم الدين الأميركي. ورغم ذلك، لا تزال الأسواق الأميركية تسجل أداء قوياً هذا الشهر، حيث ارتفع «ستاندرد آند بورز 500» بأكثر من 15 في المائة مقارنة بأدنى مستوياته في أبريل (نيسان)، التي بلغها عقب التصعيد في الرسوم الجمركية الذي هز الأسواق العالمية. وساهمت هدنة تجارية مؤقتة بين الولايات المتحدة والصين، إلى جانب بيانات تضخم معتدلة، في دعم الأسهم، رغم أن مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» لا يزال دون أعلى مستوياته التاريخية بنحو 3 في المائة. وفي تصريحات لشبكة «فوكس بيزنس»، أشار محافظ بنك الاحتياطي الفيدرالي كريستوفر والر إلى أن خفض أسعار الفائدة سيظل مطروحاً على الطاولة إذا تباطأت أجندة التعريفات الجمركية لإدارة ترمب. ويتوقع المتداولون حالياً تنفيذ ما لا يقل عن خفضين بمقدار 25 نقطة أساس لأسعار الفائدة بحلول نهاية العام، وفق بيانات «إل إس إي جي». وعلى صعيد البيانات الاقتصادية، أظهرت المؤشرات تحسناً في نشاط الأعمال خلال مايو (أيار)، إلى جانب انخفاض في طلبات إعانة البطالة الأسبوعية، ما يشير إلى استمرار النمو المطرد في سوق العمل. وفي بورصة نيويورك، فاقت الأسهم المتراجعة نظيرتها الصاعدة بنسبة 3.3 إلى 1، وفي بورصة ناسداك بنسبة 1.82 إلى 1. وسجّل مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» تسعة، أدنى مستويات في 52 أسبوعاً دون أي قمم جديدة، بينما سجل مؤشر «ناسداك» 20 قمة جديدة و59 قاعاً جديداً.


الشرق الأوسط
منذ يوم واحد
- الشرق الأوسط
رسميا... واشنطن تصدر ترخيصا عاما لتخفيف بعض العقوبات عن سوريا
أصدرت الولايات المتحدة، اليوم (الجمعة)، ترخيصاً عاماً يُخفف بعض العقوبات المفروضة على سوريا، وفقاً لموقع وزارة الخزانة الأميركية. ويحتاج رفع بعض العقوبات إلى قرارات تنفيذية من الرئيس دونالد ترمب لإزالة عقوبات راكمها الرؤساء السابقون على مر السنين على سوريا. غير أن إدارته ستحتاج إلى الكونغرس لإزالة بعض أشد العقوبات، ومنها «قانون قيصر» لعام 2019، وقانون عام 1979، الذي يدرج سوريا على قائمة الدول الراعية للإرهاب، وقانون أقرته إدارة الرئيس السابق جورج بوش عام 2003 لـ«محاسبة سوريا واستعادة السيادة اللبنانية». ويستطيع الرئيس الأميركي تعليق تنفيذ بعض هذه القوانين لمدة ستة أشهر فقط.


الشرق الأوسط
منذ يوم واحد
- الشرق الأوسط
بعد لقاء ترمب ورامافوزا... هل تنجح أميركا وجنوب أفريقيا في إنقاذ العلاقات من حافة الانهيار؟
جاءت القمة التي جمعت بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا في وقت حساس بالعلاقات بين البلدين، وسط تراكم الخلافات السياسية والاقتصادية وتباين المواقف من القضايا الدولية، ما يثير تساؤلات حول مستقبل الشراكة بين واشنطن وبريتوريا، وفق تقرير لـ«وكالة الأنباء الألمانية». وتقول الباحثة الأميركية ميشيل غافين، في تقرير نشره مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، إنه لا يمكن أن تكون خلفية الاجتماع الذي عُقِد في 21 مايو (أيار) بين ترمب ورامافوزا أكثر قتامة؛ ففي غضون أشهر قليلة، أوقفت الولايات المتحدة مساعداتها الخارجية لجنوب أفريقيا، وبدَّدت الآمال في تمديد اتفاقية تجارية قائمة، وهدّدت بفرض رسوم جمركية جديدة بنسبة 30 في المائة، وطردت سفير جنوب أفريقيا من واشنطن، ووجّهت مراراً اتهامات للحكومة بالتقاعس عن التصدي لإبادة جماعية جارية في البلاد. وبالفعل، ورغم أن إدارة ترمب لا تُعرف باهتمامها الخاص بالشؤون الأفريقية، فإن تركيزها اللافت على تطورات الأوضاع في جنوب أفريقيا، سواء كانت حقيقية أم متخيلة، يُعد استثناء واضحاً. الرئيس الأميركي دونالد ترمب يحمل مقالات إخبارية تتحدث عن عنف في جنوب أفريقيا خلال اجتماع مع رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا في المكتب البيضاوي للبيت الأبيض في واشنطن، 21 مايو 2025 (إ.ب.أ) وبحسب الباحثة غافين، توجد خلافات حقيقية وجوهرية بين الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا تعود إلى ما قبل الأزمة الدبلوماسية الحالية، وقد أثارت قلقاً مشتركاً بين الحزبين في الكونغرس الأميركي منذ وقت طويل قبل بداية الولاية الثانية للرئيس ترمب. وترى قيادة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، الذي لا يزال الحزب السياسي المهيمن في جنوب أفريقيا، رغم فقدانه للأغلبية المطلقة، العالم من منظور آيديولوجي تُعتبر فيه الولايات المتحدة عائقاً أمام إقامة عالم أكثر عدالة، بينما تقدّم دول مثل إيران وروسيا والصين، رغم قمعها العنيف للمعارضة في الداخل، صيغة أكثر إيجابية بكثير، وفق منظور هذا الحزب. ورغم أن جنوب أفريقيا تقول إنها تتبنى سياسة عدم الانحياز، فإن رد فعلها حيال غزو روسيا لأوكرانيا كشف عن استعدادها لمنح موسكو هامشاً واسعاً من التسامح، وأظهر أن معارضتها للإمبريالية تتسم بتناقض عميق. وفي عام 2023، وبتعبير عن التعاطف الواسع مع القضية الفلسطينية المنتشر عبر القارة، رفعت حكومة جنوب أفريقيا دعوى أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها إسرائيل بشن حملة إبادة جماعية في غزة. وتعرّض الدعم العسكري الأميركي المستمر لإسرائيل لانتقادات لاذعة، ويتهم العديد من الجنوب أفريقيين الولايات المتحدة بالنفاق وازدواجية المعايير في تعاملها مع قضايا حقوق الإنسان. وترى غافين أن حرص جنوب أفريقيا، شأنها شأن العديد من الدول الصغيرة، على التعددية وسعيها لإصلاح المؤسسات الدولية بما يعكس بشكل أفضل مصالح القارة الأفريقية، أدى مؤخراً إلى اصطدام مع ازدراء إدارة ترمب لتلك المؤسسات نفسها، وإصرارها على أن تعيد تشكيل نفسها لتعكس أولويات واشنطن. ولا يوجد مثال أوضح على ذلك من الرفض الأميركي الظاهر لقمة مجموعة العشرين المقبلة المزمع عقدها في جنوب أفريقيا، وهو موقف تم تفسيره تارةً على أنه اعتراض على شعارات القمة التي تركز على شعارات «المساواة والتضامن والاستدامة»، وتارة أخرى كاحتجاج على ما تقول إدارة ترمب إنه اضطهاد للأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا. خلال لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترمب بنظيره الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض، 21 مايو 2025 (إ.ب.أ) وتقول غافين إن الحسابات السياسية الداخلية تلعب أيضاً دوراً في مواقف كلا الرئيسين. فرامافوزا، من جهته، يرى أن الوقوف في وجه الرئيس ترمب والتأكيد على أن جنوب أفريقيا لن ترضخ للترهيب أمر بالغ الأهمية. وقد رجح خصومه السياسيون أن زيارته إلى واشنطن مغامرة غير محسوبة، وأي إشارة إلى التراجع أو الضعف ستُعد خيانة لقيم جنوب أفريقيا وسيادتها. وفي الوقت نفسه، فإن مواجهة محتملة في البيت الأبيض قد تحمل مكاسب سياسية؛ إذ يدرك رامافوزا جيداً أن استهداف ترمب لشخص ما يمكن أن يتحول إلى ورقة قوة سياسية قادرة على توحيد الرأي العام، كما أظهرت نتائج الانتخابات الأخيرة في كندا وأستراليا. وقد يرى ترمب في جنوب أفريقيا ساحة مثالية لإيصال رسالة، مفادها أن الولايات المتحدة ستعاقب الدول الأضعف التي لا تصطف خلف مواقفه المفضلة. ومن المرجح أن يؤتي هذا التوجه السياسي بنتائج سلبية على الولايات المتحدة؛ فالشركات الأميركية العاملة في جنوب أفريقيا ستتضرر إلى جانب نظيراتها الجنوب أفريقية، وستؤدي النتيجة إلى ازدياد حماس جنوب أفريقيا للتقارب مع الصين وروسيا، وإلى معوقات اقتصادية تصب في مصلحة فاعلين سياسيين داخل جنوب أفريقيا أكثر عداء للولايات المتحدة من الحكومة الحالية. ووفق الباحثة غافين، سينشأ جيل جديد من الجنوب أفريقيين يرى في الولايات المتحدة خصماً حريصاً على إفشال ديمقراطيتهم، بينما سيستغل خصوم واشنطن على الساحة العالمية سعي إدارة ترمب لمعاقبة جنوب أفريقيا لتصوير أميركا كقوة شريرة على المسرح الدولي. وتخلص غافين إلى أنه حتى لو توصل ترمب ورامافوزا إلى اتفاق، فقد تكون هذه الخطوة تراجعاً مؤقتاً عن حافة الهاوية، لا بداية لمرحلة جديدة؛ إذ لا بد لأي اتفاق أن يحقق نتائج إيجابية على ضفتي الأطلسي، كي يتمكن من تجاوز التباينات العميقة في الرؤى والضغوط الداخلية المستمرة التي لا تزال تشد الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا في اتجاهين متباينين.