
بين البياتي وأصلان
قبل أقل من عام وقفتُ هنا عند إحدى حكايات إبراهيم أصلان في كتابه الشائق «خلوة الغلبان». قلتُ يومها إنه كتاب لا يملّ من العودة إليه. الكتاب سرد لوقائع عاشها الكاتب، ولكنه كحكّاء ماهر يقدّمها لنا بشكل جاذب، فلا نشعر أننا نقرأ مشاهدات الكاتب وإنما قصصاً قصيرة اجترحتها مخيلته.
وعدتُ يومها بأن أعود بين الحين والآخر لبعض حكايات الكتاب، ووفاءً للوعد أقف اليوم عند ما حكاه أصلان عن لقاء جمعه مع الشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي في العاصمة الأردنية عمّان، التي أتاها أصلان لتقديم محاضرة، فيما كان البياتي يقيم يومها فيها، حيث التقيا بداية في مقهى اسمه «الفينيق» قبل أن ينتقلا، في المساء نفسه، إلى مطعم اسمه «الياسمين» لتناول العشاء وإكمال السهرة. وسنفهم أن علاقة ودّ سابقة جمعت الرجلين، ويقول أصلان، إنه أحبّ البياتي لأسباب كثيرة هي نفسها التي أخذها الكثيرون عليه: «مناكفاته التي لم ينجُ منها أحد وابتكاراته الجارحة التي تملأ القلب غبطة»، ولن يخرج ما حكاه أصلان عما دار بينهما في «الفينيق» و«الياسمين»عن تلك المناكفات.
في البداية أخرج البياتي حبة دواء من علبة في جيبه وتناولها، وهو يقول: «الصيادلة يفتحون الزجاجات ويسرقون الحبات ثم يغلفونها ببراعة شديدة.. كانت الزجاجة تكفيني أسبوعاً. الآن تكفيني يومين أو ثلاثة»، قبل أن يدعو صبيّاً يعمل في المقهى ويعطيه نشرة علبة الدواء وورقة من خمسسة دنانير ويطلب منه أن يشتري له من الصيدلية علبة جديدة. عاد الصبي بالعلبة ودينارين ورقيين وبعض القطع المعدنية، والبياتي يعرض باقي النقود أمام أصلان قال له: «هناك نصف دينار ناقص»، ثم نادى الصبي ليقول له الشيء نفسه، وقبل أن يرد الصبي بادره بالقول: «أنت لا غبار عليك. الصيدلية هي المسؤولة». وحين عاد الصبي ثانية بالفاتورة لم يعلق البياتي. اكتفى بالقول: «إنهم يرفعون الأسعار دون أن يأخذوا رأينا».
وهما جالسان في المقهى يدخل إليه بين الحين والآخر بعض من يعرفون البياتي، ومن مكانهم يوجهون له التحية: «أهلاً يا أبا علي». يردّ البياتي على هؤلاء بفتور أو عدم اكتراث، وبعد غياب الزبون الذي حيّاه يقول لأصلان: «هذا مدسوس» وعن آخر: «يظنّ نفسه كاتباً». باختصار لا أحد ولا شيء يعجبه.
خطر في بال البياتي لحظتها أن يدعو أديباً ثالثاً ليشاركهما السهرة. أخرج من جيبه مفكرة وأعطى الجرسون رقم هاتف الرجل وطلب منه مهاتفته ودعوته للحضور. عاد الجرسون ليقول: قالوا لي إن الرجل خارج البيت. سكت البياتي قليلاً ثم خاطب أصلان: «لا عليك. إنه في البيت لكنه يخاف زوجته».
هذا فقط «غيض من فيض» ما حكاه الحكّاء أصلان من طرائف أمسيته مع البياتي.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الإمارات اليوم
منذ 4 أيام
- الإمارات اليوم
هيا صالح: الكتابة لليافعين كلها تحديات
قد يكون الانطلاق من الجانب النقدي هو أبرز ما ميز مسيرة الكاتبة الأردنية هيا صالح، التي تنوعت تجربتها بين الرواية، والمسرح، والكتابة للأطفال واليافعين. تعمل صالح في الكتابة دون استراحة، مركزة على الكتابة لليافعين بأسلوب أدبي تنسج لغته بين الواقع والخيال بشكل غرائبي، وهذا ما جعلها تحصد العديد من الجوائز الأدبية المرموقة في العالم العربي. في رصيد الكاتبة ما يقارب 27 عملاً أدبياً، الأكثرية الغالبة منها تركز على فئة اليافعين. وأكدت هيا صالح في حديثها مع «الإمارات اليوم» على وجود الكثير من التحديات التي تواجه الكاتب الذي يقرر الكتابة لفئة اليافعين، فهي من الفئات التي تتسم بالحساسية النفسية والجسدية، خصوصاً في مرحلة المراهقة التي تشهد الكثير من التغيرات الهرمونية، فضلاً عن الانفتاح التكنولوجي الذي أضاف العديد من التحديات إلى الكاتب، فالأخير عليه أن يلاحق كل جديد في التكنولوجيا، كي يتمكن من تمرير رسائله التربوية التي يجب أن تبقى موجودة في الأدب. واعتبرت صالح أن انتشار الذكاء الاصطناعي و«شات جي بي تي» لن يلغي دور الكتاب. وأضافت: «من خلال ورش الكتابة التي أقوم بها مع الفئات العمرية الصغيرة، وجدت أن الصغار يفضلون الكتاب الورقي على النسخ الإلكترونية، وهذا يؤكد الحفاظ على وجود ودور الكتاب». ولفتت إلى أنها أجرت تجارب علمية على فئة الصغار في إحدى الورش، بحيث أحضرت لهم الألعاب الخاصة بالفقاعات من جهة والكتب من جهة أخرى، ووجدت أن معظم الأطفال توجهوا نحو الكتاب، مشددة على أنه يصعب الحديث عن انقراض الكتاب الورقي حالياً. واعتبرت صالح أن الكتاب يجب أن ينطوي على التنمية الذاتية المرتبطة بمواجهة الصعاب، مستشهدة بالتجربة التي عرضتها في رواية «جرعة زائدة»، وكيفية معالجتها آفة المخدرات. ولفتت إلى انتشار أشكال للجريمة، وبالبحث خلف الأسباب يتبين دائماً أن التعاطي هو السبب الكامن وراء هذه الجرائم، مشيرة إلى أن الشخص المتعاطي يتعرض لتلف في أجزاء من الدماغ أو مرض ثنائي القطب. ولفتت إلى أن محاربة الآفة بالشكل البوليسي والاجتماعي تتطلب أيضاً المساندة من الناحية الأدبية، لمحاربتها عبر القلم، مؤمنة بأن الكتاب مازال قادراً على لعب دور التوعية، مع الإشارة إلى أن حجم الدور يتعاظم حين تقوم المؤسسات التعليمية بوضع الكتاب ضمن المنهاج المساند، أو مع تقديم الفيديوهات التي تنشر التوعية للفئات العمرية الشابة. وأكدت صالح أن الجانب التربوي يجب أن يكون الضوء في أي كتاب، ولكن يجب ألا يسيطر على الأحداث، فلابد من وضع المغامرات ضمن الكتاب، وإثارة العاطفة، وكذلك التركيز على جانب الحركة من أجل إثارة الحماس عند القارئ. حصدت صالح العديد من الجوائز في مجالات كتاباتها المتعددة سواء الكتابة للأطفال أو حتى في النقد والمسرح، واعتبرت أن الجوائز مهمة لأنها تشجع على الكتابة، وقد فتحت باب التنافس في العالم العربي. وأشارت إلى أن الكتب الفائزة لا يمكن أن تكون غير جيدة، ووضعت الجوائز في مرتبة الاستحقاق الجيد للكاتب. تتنوع الأنماط التي تكتب بها الكاتبة هيا صالح، وأشارت إلى أنها انطلقت من خلفية نقدية، وهذا ما جعلها تنغمس في البدء في أدوات الكاتب وكيف يجب أن تتعاطى مع الشخصيات ومفاتيح الكتابة، وبالتالي قادها إلى انتقاد كتابتها على نحو كبير، موضحة أن الكاتب الذي يمتلك أدواته ويكون متمكناً من الطابع العام للشكل الأدبي الذي يكتبه، ستكون عملية الكتابة يسيرة عليه، أما الكتابة للمسرح فأشارت الى أنها تتيح للكاتب خلق شخصيات محددة والالتزام بوقت محدد وإيجاد حوارات وفي الأخير إيصال فكرة من خلال النصوص، موضحة أن إحدى نقاط اعتزازها بنصوصها هي أنها تقدم على المسرح، وهو استحقاق لجهد سنوات في عالم الكتابة. ونوهت إلى أن العالم العربي واقعياً يعاني أزمة حقيقية في النصوص، مؤكدة على أن تواجدها في أكثر من لجنة تحكيم لمهرجانات مسرحية جعلها ترصد وجود أزمة حقيقية في الكتابة المسرحية. ولفتت إلى أن أسباب الأزمة متعددة، منها الاستعجال وعدم المعرفة، أو حتى السرد الكبير على حساب المشهد والأداء والفرجة، وإهمال بعض الأدوات التي يجب ألا يهملها الكاتب، كالطاقة التي يجب أن تستخدم على الخشبة، وكذلك السينوغرافيا، وغياب هذه التوليفة يوقع الكاتب في أزمة مع النص. جلسة نقاشية شاركت الكاتبة الأردنية هيا صالح في جلسة نقاشية في مكتبة محمد بن راشد، أخيراً، واعتبرت هذه المشاركة بمثابة جائزة تكريمية لوجودها في هذا الصرح الثقافي وسط جمهور من المهتمين. وسلطت الجلسة الضوء على روايتها «جرعة زائدة» التي تتوجه من خلالها لليافعين، وعلاقتها بهذا النوع من الكتابة. وجمعت الجلسة العديد من المهتمين بالأدب وعالم الكتابة، فيما كان اللافت حضور صغار مهتمين بتجربة الكاتبة، منهم الطفلة هيا أحمد التي حضرت صدفة، وكانت قد رسمت غلاف إحدى القصص التي نشرتها الكاتبة. هيا صالح: . الكتاب يجب أن ينطوي على التنمية الذاتية ومواجهة الصعاب. . الانفتاح التكنولوجي أضاف العديد من التحديات إلى الكاتب.


الإمارات اليوم
منذ 5 أيام
- الإمارات اليوم
«السهم والأغنية»
إنّ استكشاف بدايات الشعر الأميركي أشبه ما يكون بالولوج إلى برّيّة شاسعة، إنها رحلة ليست بالسهلة، لأن كثيراً من معالمها لايزال مطموراً تحت ظلال كبار الشعراء الذين جاؤوا من بعد، والتيارات الحديثة التي غمرت القديم بجديدها. في جامعاتنا العربية، قليلة هي المساقات التي تُدرِّس الأدب الأميركي المبكر، فنحن، في واقع الحال، لا نكاد نعرف إلا النزر اليسير عن الجذور الشعرية التي صاغت روح الثقافة الأميركية، وعن الشعراء الروّاد الذين برزوا في هذا المشهد التأسيسي، من أمثال الشاعر هنري وادزورث لونغفلو (1807–1882)، الذي مثّلت أعماله جسراً بين البساطة في التعبير وعمق المعنى الفلسفي. من أجمل ما قرأت له هي قصيدته «The Arrow and the Song» (السهم والأغنية)، التي تبدو للوهلة الأولى يسيرة التركيب، ففيها يفتح لونغفلو نافذة تطلّ على قدرة الكلمة والفعل على البقاء والامتداد. من خلال ثلاثة مقاطع شعرية قصيرة، يدعو القارئ إلى التأمّل في كيف يمكن لتعبيرات عابرة - سواء أكانت حادّة وسريعة كالسهم، أم رقيقة وعذبة كالأغنية - أن تمضي أبعد مما نتصوّر، وتترك آثارها الباقية في هذا العالم، وفي قلوب أولئك الذين يصغون. يقول الشاعر إنه أطلق سهماً في الهواء، لكنه لم يعرف أين سقط، لأن سرعته كانت كبيرة لدرجة أن بصره لم يتمكن من تتبّعه، ثم يقول إنه أنشد أغنية في الفضاء، ولم يعرف أين استقرّت أيضاً، إذ لا يوجد من يملك من الحدّة والقوة في الرؤية ما يكفي ليتتبّع رحلة الأغنية في مداها غير المرئي، ويختتم بقوله: وبعد زمنٍ طويل، طويل وجدتُ السهمَ في شجرة بلوط سليماً لم ينكسر ووجدتُ الأغنية، من أولها إلى آخرها في قلبِ صديق. يتّخذ لونغفلو من السهم رمزاً للفعل الطائش أو الكلمة المنطلقة بلا رجعة، ومن الأغنية رمزاً لما هو وجداني، عابر، لكنه نافذ الأثر. وبين هذين الرمزين، يُقدّم لنا قصيدة تتجاوز بساطتها الظاهرة إلى تأمل أخلاقيّ وشعريّ عميق. فالسهم، وإن اختفى عن النظر، يُكتشف بعد حين مغروساً في شجرة بلوط، رمز الثبات والذاكرة، أما الأغنية، فتهبط في قلب صديق، نابضةً بالحياة، كأنّ الأثر، وإن تأخّر، لا يضيع. ورغم أنّ القصيدة كُتبت في سياق أميركي، فإنّ رموزها تتجاوز الجغرافيا، لتخاطبنا في كل مكان ولتقول لنا ببساطة إنّ ما نزرعه في صمت الأيام، يعود إلينا يوماً، على هيئة وفاء، أو ذاكرة، أو قلب لا ينسى لنا قولاً حسناً. * باحث زائر في جامعة هارفارد لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه


الإمارات اليوم
منذ 6 أيام
- الإمارات اليوم
في مكتبة محمد بن راشد.. أدب اليافعين تحت المجهر
تحت عنوان «أدب تحت المجهر: مخاطبة عقول الشباب»، استضافت مكتبة محمد بن راشد الكاتبة الأردنية، هيا صالح، أول من أمس، في جلسة نقاشية حول أدب اليافعين والدور الذي يلعبه في تشكيل الوعي. كما طالت الجلسة، التي قدمها الصحافي محمد الرفاعي، العديد من روايات هيا صالح التي حققت جوائز أدبية، ورواية «جرعة زائدة»، التي تتوجّه فيها إلى الشباب، وتناقش من خلالها واحدة من الآفات التي تواجهها هذه الفئة وهي المخدرات. وتناولت هيا صالح العديد من الموضوعات المرتبطة بالأدب، منها أهميته في تشكيل وعي الناشئة، مشددة على أهمية الاهتمام بالمكتبات، لأن الكتب تنمي مهارات الناشئة الفكرية والنقدية، ورأت أن الكتابة للطفل بشكل خاص تتطلب الحفاظ على الرسالة التربوية، على أن يعمل المبدع على تمرير هذه الرسائل بأسلوب أدبي خفي. ولفتت إلى التحديات التكنولوجية التي ينغمس فيها الناشئة والشباب اليوم، واصفة الكتاب بأنه أقوى منها، ملقية بالمسؤولية على الأهل في توجيه الأبناء إلى الكتاب، فضلاً عن المسؤولية التي تقع على عاتق المبدع؛ إذ لابد أن يقدم محتوى جاذباً لقراء هذا العصر. وأوضحت الكاتبة الأردنية أن الكتابة لليافعين تحمل العديد من التحديات، إذ تخاطب مرحلة عمرية يواجه فيها المراهق الكثير من التغيرات، مشددة على أنه من الممكن أن يستثمر الكاتب هذه التحديات وينطلق منها إلى تقديم موضوعات مهمة تخص الناشئة. وقالت إنها توازن بين قوة الطرح وسلاسة الأسلوب المقدم للناشئة، علاوة على العمق في الطرح الذي لا يعني تقديم نصوص تحمل تحدياً، فضلاً عن أهمية استخدام الحوارات الخاصة بهذه الفئة والتي قد لا يفهمها الآخرون. ونوهت بأن هناك مفاتيح بين المبدع والقارئ الواعد، من أبرزها استخدام لغة الفتيان، كما لاحظت في الآونة الأخيرة أن العديد من الروائيين يستخدمون لغتهم الخاصة وليس كلمات تلك الفئة التي يتوجهون إليها. واعتبرت أن هناك خيطاً بسيطاً بين الواقع والخيال في الكتابة، وذكاء المبدع يكمن في انتزاع هذا الخيط أو أن يتماهى بالسير عليه بشكل خفي، من دون أن يسقط في الواقعية أو الخيال الزائد، وأشارت إلى أنها في حال كانت تتأمل شيئاً من كل كتاباتها، فهو خلق نوع من التعاطف مع كل بطل من أبطال قصصها، لأنهم يستحقون التعاطف، لاسيما المقهورون من الحروب أو الأمراض أو أي واقع اجتماعي معين. الكاتبة الأردنية: . خيط بسيط بين الواقع والخيال في الكتابة، وذكاء المبدع يكمن في أن يتماهى بالسير عليه.