
الدول المغلقة... رهينة "عقدة البحر" وتحديات المصالح
شهدت دولة تركمانستان في أغسطس (آب) الجاري، انعقاد المؤتمر الثالث للأمم المتحدة للدول الأقل نمواً التي لا تملك منفذاً بحرياً (LLDC3) الذي عقد في مدينة أوازا، تحت شعار "دفع عجلة التقدم من خلال الشراكات"، وشارك في المؤتمر ممثلون عن 32 دولة نامية غير ساحلية. ويأتي المؤتمر الذي يعقد مرة كل 10 أعوام كفرصة للدول النامية غير الساحلية للتداول حول المشكلات المترتبة، والعمل الجماعي لتحقيق مصالح مشتركة عبر تذليل المصاعب التي تواجهها.
الانغلاق وما تعيشه بعض الدول المسماة بـ"المغلقة"، يشكل عقبة حقيقية على طريق تحقيق كثير من المصالح الاقتصادية والتنموية والسياسية، إذ تتحمل هذه الدول أعباء وكلفاً معوقة لحركتها التجارية ونموها الاقتصادي، مما يمثل عقبة في التنافس الحر مع العالم، والاعتماد على غيرها من دول مجاورة، وعجزها النسبي في جذب الاستثمارات الأجنبية. كل ذلك يرتب نتائج سلبية على اقتصادها ونموها مقارنة بغيرها من الدول الساحلية. ويظل العامل السياسي في علاقاتها مع الجوار الساحلي مصدر خطر مستمر يجعل مصالحها الاقتصادية عرضة للتقلبات السياسية، مما يؤثر في حركة تجارتها، فضلاً عن تحملها أعباء فتح طرق برية طويلة وإنشاء سكك حديدية، وما لذلك من انعكاسات سلبية على التنمية، إلى جانب الحرمان النسبي من التواصل الحضاري النشط مع العالم الخارجي.
كسر الحواجز
توجد في العالم 44 دولة مغلقة (غير ساحلية) 16 منها في أفريقيا، إلى جانب 12 دولة في آسيا، و10 دول أوروبية، ودولتين في أميركا الجنوبية. وما يسمى أوقيانوسيا تضم أربع جهات هي عبارة عن "جزر داخلية" و"أقاليم غير ساحلية" داخل بعض الجزر. وتشكل تلك الدول مجتمعة موطناً لأكثر من 500 مليون شخص.
وشدد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في خطابه أثناء مشاركته في المؤتمر بتركمانستان على ضرورة ألا تحدد الجغرافيا مصير الشعوب، داعياً إلى خطة تنموية طموحة تمتد عقداً مقبلاً لكسر الحواجز الاقتصادية وتحقيق العدالة العالمية. وقال الأمين العام في افتتاح المؤتمر، "إن الهدف هو تحديد الحلول التي يمكن أن تزيل الحواجز التي تواجهها هذه الدول وتعيد الإنصاف إلى التنمية العالمية. وحث قادة العالم على إعادة التفكير في التنمية للدول غير الساحلية"، حين قال "نجتمع اليوم لنؤكد حقيقة أساسية، المصير لا ينبغي أبداً أن تحدده الجغرافيا".
حلول الأمم المتحدة
وفي القارة الأفريقية تمثل دول كإثيوبيا وتشاد والنيجر وأوغندا وزامبيا وجنوب السودان نماذج لدول أفريقية غير ساحلية (مغلقة)، وفي وقت تعاني فيه معظم دول القارة السمراء تخلفاً اقتصادياً واجتماعياً لأسباب عدة يأتي الواقع الجغرافي الذي تعيشه الدول الأفريقية غير الساحلية كعقبة أساس تجاه التنمية واللحاق بركب العالم.
وتعتبر إثيوبيا من أكثر الدول تأثراً بالانغلاق ضمن واقعها الإقليمي الذي تشكل فيه واحدة من أكثر الدول الأفريقية تعداداً للسكان (130 مليون نسمة)، إلى جانب حيثيات أخرى (تاريخية وآنية).
وهناك من الدول من يمثل لها الانغلاق واقعاً لا فكاك عن ظرفه إلا عبر اتفاقاتها مع الجوار الساحلي في نشاطها التجاري والاقتصادي، وحركة استثماراتها المتبادلة مع العالم الخارجي، ومعظم هذه الدول تخلق مع الجوار الإقليمي الساحلي اتفاقات متفاوتة، وهي رهينة مصالح وظروف غير ثابتة.
وبسبب ما تعاني الدول المغلقة من إشكال تبنت الأمم المتحدة عدداً من الاتفاقات كحلول وهي:
- اتفاق الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS) 1982
خصص الجزء العاشر منه لـ"حق المرور العابر" للدول غير الساحلية. ويعطي الاتفاق الدول المغلقة حق الوصول إلى البحر عبر أراضي الدول الساحلية المجاورة من دون فرض قيود، أو رسوم غير مبررة. وتنص على أن يكون المرور حراً وسريعاً للبضائع والأشخاص، مع احترام سيادة الدولة الساحلية.
- إعلان ألما آتا (1979)
صدر في المؤتمر الأول للأمم المتحدة عام 1979 حول الدول النامية غير الساحلية، وأكد مسؤولية المجتمع الدولي في دعم الدول المغلقة عبر البنية التحتية، وتسهيل الاتفاقات التجارية، وتخفيض كلف النقل.
- برنامج عمل فيينا (2014–2024)
يمثل وثيقة أممية استراتيجية تضع خطة شاملة لمعالجة التحديات الخاصة بالدول المغلقة، ترتكز على عدد من البنود المساعدة، إلى جانب آليات دعم أخرى.
ووصف غوتيريش المؤتمر كونه "يهدف إلى إطلاق عقد جديد من الطموح، من خلال 'خطة عمل أوازا' ونتائجها، وإطلاق العنان لإمكانات التنمية الكاملة للدول النامية غير الساحلية".
وتمثل "خطة عمل أوازا" التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر (كانون الأول) 2024، التزاماً عالمياً متجدداً ومعززاً لدعم تطلعات التنمية للدول النامية غير الساحلية.
على رغم وجود هذه القوانين فهي رهينة لواقع التطبيق الذي يظل تحدياً، وتعتمد جملة الاتفاقات إلى جانب متبنيات الأمم المتحدة على حسن النيات والعلاقات السياسية للدول لإقرار الحقوق.
وحدد الأمين العام للأمم المتحدة التحديات التي لا تزال الدول النامية غير الساحلية تواجهها، وهي "حواجز تجارية شديدة، وكلف نقل مرتفعة، ومحدودية الوصول إلى الأسواق العالمية". وحذر من أن "عبء الديون على الدول بلوغ مستويات خطرة".
وفي حديثه عن ضعف تمثيل الدول النامية غير الساحلية في الناتج الاقتصادي والتجارة العالميين، أرجع غوتيريش ذلك إلى التفاوتات العميقة التي تديم التهميش. وعزا ذلك إلى "هيكل اقتصادي ومالي عالمي غير عادل لا يعكس حقائق عالم اليوم المترابط"، إضافة إلى إرث الاستعمار.
ورحبت إثيوبيا ببرنامج عمل أوازا (2024–2034)، الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقال وزير النقل واللوجيستيات الإثيوبي، أليمو سيمي "إن هذه الحقوق يجب أن تنفذ بصورة شاملة ومتسقة مع القانون الدولي، لما لذلك من أهمية في دعم التنمية المشتركة وتحقيق سلام دائم".
ودعت إثيوبيا إلى اتباع نهج عالمي تحويلي يضمن حقوقاً بحرية متكافئة للدول النامية غير الساحلية، مشددة على ضرورة تجديد الالتزام الدولي تجاه شراكات شاملة وفعالة تعالج التحديات الهيكلية التي تواجه هذه الدول. واعتبر سيمي أن "ضمان الوصول الآمن إلى البحر لا ينبغي أن يختزل في مجرد العبور، بل يجب أن يشمل مشاركة الدول غير الساحلية في الفرص الاقتصادية البحرية، إلى جانب حماية البيئة وتعزيز الأمن البحري". وأضاف، "تعتقد إثيوبيا أن الموارد البحرية في أعالي البحار، التي تغطي نحو نصف مساحة الكوكب، يجب أن تسهم في ازدهار جميع الدول، وليس فقط تلك التي تملك منافذ بحرية"، داعياً إلى اعتماد نماذج جديدة تضمن عدالة في الحقوق البحرية.
ساحلية إثيوبيا
إثيوبيا كنموذج أفريقي، إلى جانب الثقل الكبير في عدد سكانها الذي يمثل أحد الضرورات الاقتصادية والاستراتيجية الدافعة نحو الارتباط بالساحل، ظلت ذات صلة مباشرة ولعقود طويلة بالبحر، واستخدمت ميناءي "عصب" و"مصوع" مباشرة، فعلى مدى العصور القديمة والعصور الوسطى كانت معظم الممالك التي ازدهرت في إثيوبيا تملك سواحل على البحر الأحمر. وخلال فترة الاتحاد الفيدرالي ما بين عامي 1952- 1962 ظل ميناءا عصب ومصوع منفذي إثيوبيا البحرية للإطلال على العالم.
أصبحت إثيوبيا دولة مغلقة بعد استقلال إريتريا الحديث في الـ24 من مايو (أيار) 1993 (التاريخ الرسمي لاستقلال إريتريا)، لتعتمد بنسبة كبيرة على موانئ الجوار الساحلي، سواء مع دولة جيبوتي التي تبعد عن أديس أبابا بنحو 910 كيلومترات تقريباً، أو استخدامها للميناءين الإريتريين "عصب" و"مصوع" اللذين يبعدان عن أديس أبابا توالياً بـ780 و10.60 كيلومتر تقريباً، وذلك بالاتفاق مع الحكومة الإريترية قبل الحرب الإثيوبية – الإريترية (1999-2000)، ثم أخيراً بعد تولي رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد السطلة في مارس (آذار) 2018، قبل أن تتوتر مجدداً علاقات البلدين مما حرمها أخيراً استخدام هذه الموانئ.
التجربة الساحلية الطويلة التي امتدت أعواماً عدة، هي التي تحمل إثيوبيا على الحديث عن المنفذ البحري كحق شرعي. وتقول استراتيجية الماءين التي أخرجها معهد الشؤون الخارجية (IFA)، التابع لوزارة الخارجية الإثيوبية، إنه "في مفهوم الدولة الحديثة، من بين الأشياء التي تجعل أي دولة تصنف كدولة، هو امتلاكها الحدود الخاصة بها، وإن حدود البلدين يتم ترسيمها وتحديدها بأوضاع مختلفة، بعض الدول ليس لديها منفذ بحري لذا تضطر إلى استخدام دول الجوار التي لديها منفذ بحري للوصول إلى البحر". وتضيف الدراسة أن "الحاجة الماسة لهذه الدول هي الوصول إلى البحر والحصول على منفذ بحري، والسبب أنه إذا لم تستطع الوصول إلى البحر فلن تستطيع تصدير البضائع أو توريدها، كما تحرم من فرصة الملاحة في المحيطات والاستفادة من مواردها".
وتشير الاستراتيجية إلى أنه "من الصعب الإشارة إلى الاتفاقات الدولية أو القوانين العرفية في ما يتعلق بطلب إثيوبيا الحصول على منفذ بحري، على أنها تساند هذا الطلب وتدعمه مباشرة. ومن هذا المنطلق ومع صعوبة الاعتقاد بأن إثيوبيا تحقق هدفها المطلوب بالقانون والحجج فقط إلا أنها إذا استطاعت الحصول على منفذ بحري باستخدام خياراتها الأخرى، سيكون لديها فرصة تقديم استدلالات وحجج من المبادئ القانونية لإسقاط القوانين التي حرمتها منفذها البحري".
ضمن هذه الحيثيات المشار إليها، شهد يناير (كانون الثاني) من عام 2024 توقيع مذكرة تفاهم بين إثيوبيا وإقليم أرض الصومال (غير المعترف باستقلاله)، تمنح أديس أبابا منفذاً بحرياً في الإقليم مقابل الاعتراف الإثيوبي به كدولة مستقلة، مما فجر أزمة بين إثيوبيا والصومال، أدت إلى تدخل أطراف إقليمية أخرى هي مصر وإريتريا، ولا تزال تداعياتها مستمرة حتى الآن على رغم الوساطة التركية.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الإشكالات الجيوسياسية
من جهته قال الباحث الإثيوبي في الشؤون الدولية علي حسين إن "الدول المغلقة أو الحبيسة تمثل واحدة من أبرز الإشكالات الجيوسياسية التي تتقاطع فيها العوامل الطبيعية مع التاريخية والسياسية. فغياب المنفذ البحري لا يعد مجرد عائق جغرافي، بل هو عامل يفرض واقعاً اقتصادياً وأمنياً معقداً، يجعل هذه الدول تعتمد بدرجات متفاوتة على جيرانها الساحليين للوصول إلى الممرات البحرية والأسواق العالمية. هذا الاعتماد قد يكون لبعض الدول جسراً للتكامل والتعاون، لكنه قد يتحول أحياناً إلى أداة ضغط سياسي واقتصادي إذا تداخلت المصالح الوطنية للدول مع حسابات النفوذ الإقليمي". وأضاف، "إن قدرة الدول المغلقة على تجاوز إشكالية الجغرافيا الانغلاقية تعتمد على إيجاد توازن ذكي بين الضمانات الدولية والترتيبات الإقليمية الخاصة، وبين حقها المشروع في الوصول إلى البحار وحق الدول الساحلية في حماية سيادتها. فالحلول الناجحة يجب أن تجمع بين رؤية استراتيجية طويلة المدى وسياسات عملية مرنة تراعي خصوصية كل حالة، مع الاستعداد الدائم لمواجهة المتغيرات الجيوسياسية".
عقدة البحر
أما في ما يتعلق بنظرة الدول الحبيسة إلى واقعها فيقول المتخصص في العلاقات الدولية محمد حسب الرسول "تتشكل لدى الدول الحبيسة عقدة اعتمادها اعتماداً كلياً على الدول الساحلية المجاورة لها للوصول إلى الموانئ البحرية. في ظل هذه الوضعية تبرز مخاوف من استغلال الدول الساحلية لوضعيتها في فرض رسوم أو أعباء كبيرة على الدولة المغلقة. وتؤدي الأزمات السياسية وغيرها إلى تهديد مصالح الدول المغلقة في ظل أي خلافات أو توترات سياسية بين الطرفين وهناك أمثلة كثيرة لذلك". ويتابع أن "الواقع الذي تعيشه الدول الحبيسة يظل غير مستقر تجاه المصالح الاقتصادية والتنموية وعملية الانفتاح على العالم، كل ذلك يدعو إلى حماية دولية لهذه الدول في تحقيق حياة طبيعية في ظل الحفاظ على مصالحها والعيش في استقرار". وفي ما يتعلق بمدى إمكان الدول المغلقة تحقيق مصالحها، يوضح حسب الرسول، أن "ذلك ممكن عبر علاقات طبيعية قائمة على الاحترام المتبادل بين الدولة المغلقة والساحلية، والاعتراف بالحقوق بين الأطراف في ظل التزام القوانين الدولية التي تمنح الدول المغلقة حقوقاً ثابتة في الوصول إلى البحر عبر أراضي الدول الساحلية من دون فرض رسوم غير مقنعة".
أما عن الأبعاد المترتبة على التحديات المفروضة، بين علاج الانغلاق والتنافس الجيوسياسي، فيشير المتخصص في العلاقات الدولية إلى أنه "في ظل علاقات الأطراف يمكن أن تبرز أيضاً مخاوف لدى الدول الساحلية من سطوة دول كبيرة حبيسة ذات أطماع سرية في استقلال نفوذها وقوتها في تحقيق غاية الوصول إلى البحر بأي طريقة من الطرق". يتابع "في كل الأحوال ينبغي على الدول الحبيسة والساحلية تبني الاحترام المتبادل للسيادة الوطنية سواء في الإنصاف والتعاون الاقتصاديين، وتسهيل التجارة والاستثمار في ما بينها، وأيضاً عدم المساس بالسيادة الوطنية للدول الأخرى، والتزام القوانين الدولية".
رهينة مرجعيات
الكاتب المتخصص في الشؤون الأفريقية يوسف ريحان يقول إن "قدر الجغرافيا في حظوظ تقسيمات الأرض بين الدول والجماعات ليس بجديد، فمنذ القدم يحكي التاريخ عن الممالك والإمبراطوريات والسلطنات التي كانت قائمة ومعظمها مشاطئة للبحر، فهي متقدمة بقوتها ونفذوها على بقية المناطق الأخرى البعيدة من المسطحات المائية وهذا أمر طبيعي في التميز السياسي. وعلى رغم أن ميزات الانفتاح البحري تزداد أهميته في عصرنا الحاضر، فإن التقسيمات الجغرافية للدول في عالمنا الثالث أخذت تموضعها الراهن على ضوء تقسيم المستعمر ورسمه للحدود وفق مصالحه". ويضيف أنه "بالنسبة إلى الدول الأفريقية فإن منظمة الوحدة الأفريقية بعد تأسيسها عام 1963 عملت على حسم جدل الاختلاف على الحدود بناءً على الواقع الذي خلفه المستعمر بعد خروجه، من دون تحديد مرجعية واضحة وهذا التقسيم بطبيعة الحال أوجد دولاً مشاطئة ومنفتحة على مسطحات مائية وأخرى حبيسة. في أفريقيا مثلاً هناك 16 دولة حبيسة، وهي تختلف بنسب بعدها عن البحر، فهناك دول حبيسة تفصلها عن الدولة المشاطئة دول عدة، وأخرى تجاورها دولة مشاطئة مباشرة، وتأثير ذلك يختلف من دولة إلى أخرى حسب المسافات والوضع الاقتصادي للدولة وحسب مساحتها كذلك. ولا أحد يختلف في أن الدول المشاطئة، بخاصة في شرق أفريقيا المنفتحة على البحر الأحمر (أحد أهم الممرات البحرية العالمية)، كونها في منطقة تعتبر مصدراً للطاقة العالمية ويتصل فيها البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط عبر قناة السويس، وهذا يكسب تلك الدول ميزة إضافية، وفقدان ذلك بالطبع يلقي على الدول الحبيسة أعباء اقتصادية تلقي بظلال سلبية عليها".
وعن قدر الجغرافيا الانغلاقية بالنسبة إلى الدول، يوضح أنه "على رغم أن للانغلاق آثاراً اقتصادية سلبية في اعتماد الدول على غيرها وارتباط اقتصادها بأقدار السياسة والجوار الساحلي، فإن تحدي الجغرافيا لم يكن في وقت من الأوقات بالحاجز الصلد الذي يقف حجر عثرة، ويحول دون انطلاق الدول الحبيسة، فهناك تجارب تقدم وتطور لكثير من تلك الدول التي حققت معدلات نمو عالية فاقت في بعض الأحيان بعض الدول المشاطئة. فعلى سبيل المثال، حققت إثيوبيا ورواندا والنيجر وفقاً لبنك التنمية الأفريقي معدلات نمو تجاوزت الخمسة في المئة في العام الماضي 2024 وهي دول حبيسة". ويتابع "القارة الأفريقية بجميع دولها تحقق نهضتها ببناء الاقتصادات المشتركة، وتنفيذ اتفاقات التجارة والتعاون بين الدول والأقاليم والربط بينها بشق الطرق وسكك الحديد، وهو الطريق الأمثل والأقل كلفة للتخفيف من انعكاسات الانغلاق الذي يحول دون الانفتاح المباشر على البحر. كذلك فإن الدول الحبيسة لديها فرص في تحقيق معدلات نمو عالية، إذا تحقق لها السلام والاستقرار الحقيقيين".
وعن التحديات ما بين علاج الانغلاق والتنافس الجيوسياسي يقول ريحان، "تظل تطلعات الدول الحبيسة للحصول على منفذ بحري رهينة بمرجعيات واثقة لا بد من الرجوع إليها لأنه ومن دون مرجعيات سينفتح باب كبير للاختلاف. وترك الباب مفتوح على عواهنه في أحوال كهذه سيقود إلى توترات يمكن أن تتطور لتصبح حروباً في منطقة مستهدفة وتسعى جهات خارجية إلى ضرب استقرارها وإعادة رسمها من جديد".
الجغرافيا لعبة نفوذ
من جهته يقول الكاتب والباحث في الشؤون الأفريقية عمار العركي إن "الدراسات الجغرافية والسياسية تشير إلى أن الدول المغلقة تواجه معضلة استراتيجية مزدوجة، بين الحلول العامة التي توفرها المواثيق الدولية، والحلول الخاصة التي تفرضها تفاهمات أو ترتيبات ثنائية مع جيرانها". ويضيف أن "الحلول العامة، مثل ما نص عليه اتفاق الأمم المتحدة لقانون البحار، تمنح هذه الدول حق الوصول إلى الموانئ، لكنها تصطدم بعوائق التنفيذ عندما تتشابك المصالح أو تتوتر العلاقات السياسية. أما الحلول الخاصة فتعتمد على اتفاقات ثنائية تمنح ممرات تجارية أو مناطق عبور، لكنها غالباً تأتي مشروطة بمكاسب سياسية أو اقتصادية للدول الساحلية. هذه الدول تنظر إلى واقعها كقيد جغرافي يحد من قدرتها على المنافسة في التجارة العالمية وجذب الاستثمارات، ويجعلها عرضة لتأثيرات الأطماع الجيوسياسية. وعلى رغم أن القانون الدولي يضمن لها مصالح عادلة، فإن ميزان القوة الفعلي يجعلها في موقع تفاوضي أضعف من نظيراتها الساحلية".
وفي ما يتعلق بالتحديات يوضح العركي أن "التحديات تمتد من الأبعاد الاقتصادية، مثل ارتفاع كلف النقل، إلى الأبعاد الأمنية والسياسية، حيث تصبح خطوط الإمداد عرضة للانقطاع، والسيادة الوطنية عرضة للتأثر بمواقف الجيران". ويضيف "في عالم اليوم لم تعد الجغرافيا قدراً جامداً بقدر ما أصبحت ورقة في لعبة النفوذ. الدول المغلقة ليست مجرد 'ضحايا' موقع جغرافي، بل أطراف فاعلة أو مستهدفة في معادلات القوة الإقليمية والدولية. التاريخ المعاصر يكشف عن أن من امتلك أدوات التفاوض والتحالف نجح في كسر عزلة اليابسة، كما فعلت إثيوبيا حين ضمنت منفذاً عبر جيبوتي، أو كازاخستان حين ربطت اقتصادها بالموانئ الروسية والصينية. لكن الوجه الآخر للصورة أكثر قتامة، فالدول التي عجزت عن إدارة اعتمادها على جيرانها تحولت إلى ساحات ضغط ومساومة، وأحياناً إلى بؤر توتر، وقد يصبح المنفذ البحري ورقة مساومة في ملفات سياسية وأمنية أكبر بكثير من حجم التجارة أو النقل. في الجغرافيا السياسية من يملك الممرات يملك القرار، ومن لا يملكها يحتاج إلى ذكاء سياسي وشبكة تحالفات تبقيه على الخريطة كلاعب، لا كمجرد رهينة لموقعه".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


Independent عربية
منذ ساعة واحدة
- Independent عربية
نائب إيراني يتحدث عن سيناريو لاستهداف مدن أميركية من البحر
وسط تصاعد التوترات بين إيران والدول الغربية، أطلق أحد النواب الإيرانيين المقربين من "الحرس الثوري" تصريحات مثيرة للجدل تضمنت تهديدات لأوروبا والولايات المتحدة، وذلك بعد تحذير هيئة الأركان الإيرانية للولايات المتحدة وإسرائيل من ارتكاب أي "أخطاء" مؤكدة أن طهران لن "تتحلى بضبط النفس" إذا حدث أي عمل عسكري ضدها. وقال النائب أمير حياة مقدم، عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية وهو جنرال في "الحرس الثوري"، إن "إيران قادرة على استهداف الولايات المتحدة من البحر". وقال: "ربما لن يصيب الصاروخ الإيراني المقبل واشنطن ونيويورك، لكن يمكننا استهداف أميركا من داخل البحر". وأشار إلى أن "الوحدة الصاروخية في (الحرس الثوري) قد عملت لمدة 20 عاماً على استهداف أميركا عبر السفن والقطع البحرية الإيرانية". وأضاف: "حتى لو لم نصل بعد إلى هذه التكنولوجيا، فإن أميركا تبعد عنا نحو 10 آلاف كيلومتر، ويمكننا إرسال سفننا إلى مسافة ألفي كيلومتر من سواحلها، ومن هناك نستطيع ضرب واشنطن ونيويورك ومدن أخرى بالصواريخ". وفي نفس السياق، أضاف حياة مقدم أن "جميع الدول الأوروبية الآن في مرمى صواريخنا، ويمكننا باستخدام الصواريخ الحالية ضرب كل هذه الدول. صواريخنا لا تصل فقط إلى فرنسا، بل إلى ألمانيا وبريطانيا وجميع أنحاء أوروبا الغربية والشرقية". اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) "آلية الزناد" أما بشأن رسالة "الترويكا" واستعدادها لتفعيل "آلية الزناد"، قال: "آلية الزناد لا محل لها من الإعراب؛ لأن إيران تعيش أصلاً في ذروة العقوبات، عندما يبلغ المنحنى قمته لا يمكن أن يرتفع أكثر، ومن ثم فإن أي خطوة جديدة لن تؤدي إلى تفاقم الوضع". وأوضح في تصريح لموقع "إيران أوبزرفر" أن "العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة اليوم بلغت أقصى ما يمكن أن يُفرض على دولة، ومن ثم فإن إعادة عقوبات مجلس الأمن لن تضيف شيئاً جديداً، بل تمثل مجرد خطوة سياسية". وأضاف حياة مقدم أن "الولايات المتحدة تقف خلف معظم العقوبات، وحتى إذا أضاف الأوروبيون بعضها، فلن يكونوا أقوى من الأميركيين"، معتبراً أن وضع إيران تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة "لا يشكل تهديداً جديداً، إذ لن يجعل الظروف أسوأ من الوضع الراهن". ولفت إلى أن "الأوروبيين يحاولون تمديد مهلة تفعيل آلية الزناد، وإذا تحقق ذلك فلن يكون هناك أي أساس قانوني لإعادة القرارات الملغاة بموجب القرار 2231، ومن ثم لن تُدرج إيران تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة". وقال إن "الظروف الحالية تختلف جذرياً عن فترة توقيع الاتفاق النووي"، مضيفاً أن "هيبة مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل قد انهارت بالنسبة لإيران". وأوضح حياة مقدم: "في السابق كانت مواجهة أميركا وإسرائيل تُعد تحدياً كبيراً، لكننا اليوم خضنا مواجهات مباشرة معهما، وأثبتنا قدرتنا على الرد؛ لذلك لا نخشى من اندلاع حرب جديدة، بل أعتقد أن الولايات المتحدة وإسرائيل لن تبادرا إلى مهاجمة إيران؛ لأنهما تدركان حجم رد الفعل الإيراني". وأضاف أن إيران "أثبتت قدرتها في الحرب من خلال قصف إسرائيل بالصواريخ"، معتبراً ذلك "تحولاً مهماً في موازين الردع".


عكاظ
منذ 5 ساعات
- عكاظ
نتنياهو في القرن التاسع عشر
«المصير الواضح» أو «القدر المتجلي» هما ترجمتان وردتا في المراجع لمصطلح Manifest Destiny، الذي يمثّل رؤية أيديولوجية عبّر عنها لأول مرة الصحفي جون أوسوليفان في مجلة Democratic Review، وذلك في العام 1985، وكان موجهاً لتبرير ضم ولاية تكساس للولايات المتحدة الأمريكية، الذي كان موضع جدل حينها. والقدر المتجلي هي رؤية تستند إلى أن الأمريكيين المهاجرين من أصول أوروبية بروستانتية موكلون بمهمة إلهية من المحيط الأطلسي شرقاً إلى المحيط الهادي غرباً، ونتج عن ذلك بطبيعة الحال تهجير قسري للسكان الأصليين، وكانت هذه الرؤية تستند على أهداف سياسية واقتصادية بطبيعة الحال، لكن غُلّفت بإطار ديني يرى تفوق الأمة الأمريكية. بل إن أصحاب هذه العقيدة يرون أن مشروعهم يحتوي على قيم لا تجعلهم في ميزان المساواة مع الاستعمار الأوروبي التقليدي حينها، رغم توسعهم وتهجيرهم للسكان الأصليين وحتى صفقات شراء الأراضي مثل صفقة لوزيانا. وامتدت هذه الفكرة بتصرف في السردية الأمريكية لتصبح في العقود الماضية تحت عنوان «نشر الديموقراطية». هذه العقيدة تذكرنا بما ذهب له رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في لقائه قبل أيام، حين أجاب صحفياً بأنه يؤمن بشدة بإسرائيل الكبرى، وهي ما تعني في شكلها المصغر ضم كامل أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان، وفي شكلها الموسع الأرض الموعودة من النيل للفرات. التقطت التيارات اليمينية المتطرفة داخل إسرائيل تصريحات نتنياهو لتعبّر عن أفكارها المتطرفة، مثل وزير المال ذي الأصول الأوكرانية بزيايل سموتريتش، عبر دعم مشاريع توسعية مثل خطة E1، التي تقطع الأراضي الفلسطينية وتفصل القدس الشرقية عن الضفة الغربية، وهو ما يهدّد عملياً فكرة دولة فلسطينية قابلة للحياة. من الصعب الاعتقاد أن تصريح نتنياهو محض صدفة، بل قُصد توقيته بوضوح، لكي يكون أولاً مستفزاً لكل الدول التي اجتمعت في نيويورك واعترفت بدولة فلسطين أو أعلنت نيتها الاعتراف في شهر سبتمبر القادم خلال اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة. ويأتي التصريح أيضاً لشد عصب الداخل الإسرائيلي الذي تعب من طول الحرب، ومن امتداد فترات طلب قوات الاحتياط للخدمة العسكرية، كما أن سردية إعادة الأسرى والقضاء على حماس يقابلها تشكك كبير داخلياً، وقد عبّر عن ذلك نتنياهو بالقول «استعادة الأسرى أحياء أو أمواتاً»، ليبرر مبكراً للمجتمع الإسرائيلي جلبهم أمواتاً على الأرجح بعد احتلال غزة. معركة غزة التي بلغت شهرها الـ22 هي الأطول بين قطاع غزة وإسرائيل منذ سيطرة حماس على القطاع، مما يؤكد حاجة نتنياهو لإبقاء نار الحرب مشتعلة، مستغلاً الدعم الأمريكي، رغم كل التحديات الأخرى من مؤتمر نيويورك وصولاً إلى قرارات محكمة العدل الدولية. تصريحات نتنياهو هي هروب إلى الأمام، ومسعى للاستفادة من المعركة سياسياً، لكنها في نفس الوقت تصريحات خطيرة جداً، ومقلقة جداً، خاصة للعالم العربي، واجترار لأيديولوجيات من قرون خلت سبقت وجود قانون دولي وقرارات أمم متحدة وحدود معترف بها. إن الوسيلة الوحيدة التي يفهمها نتنياهو وقد تثنيه عن استمرار الأعمال الوحشية هي حشد المزيد من الضغط الأوروبي والأمريكي، مثلما حصل من ألمانيا تجميد جزئي لتصدير السلاح لإسرائيل، أو تصريح رئيسة وزراء الدنمارك مته فريدريكسن بأن نتنياهو أصبح «مشكلة بحد ذاته»، موضحة أنها ستحاول الضغط على تل أبيب بشأن الحرب على قطاع غزة، في ظل رئاسة بلادها الحالية للاتحاد الأوروبي. أخبار ذات صلة


الوطن
منذ 5 ساعات
- الوطن
"إسرائيل الكبرى" مروراً بـ "قمة ألاسكا"
غضبٌ وإدانة واستنكار «بأشد العبارات» لإثارة «رؤية إسرائيل الكبرى»، ثم ماذا؟ بنيامين نتنياهو يتحدّث عن ارتباطه بتلك الرؤية كـ«مهمة تاريخية وروحية»، فلا يختلف عن أي طاغية يخوض حروبه ويدّعي بأنها «وحي إلهي». بتسلئيل سموتريتش يصف مشروعه الاستيطاني بأنه مصمَّم لـ«دفن» الدولة الفلسطينية. الجيش الإسرائيلي يكمل استعداداته لاحتلال قطاع غزّة بكامله، وميليشيات ايتمار بن غفير من المستوطنين تواصل الاعتداءات وأعمال التهجير في الضفة الغربية، ثم ماذا؟.. ولا يلقى كلّ ذلك سوى تصريحات رفض وإدانة عربية وحتى غربية (باستثناء الولايات المتحدة). قادة إسرائيل يستخدمون القوة الغاشمة مرتكبين الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فتصرخ الجهات المستنكرة مذكّرة بالقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، لكن هذين يُعاملان أميركياً وإسرائيلياً، كالعادة، بأسوأ تجاهل وتحقير. «إسرائيل الكبرى»، كما شرح مؤرخون وبحاثة، مشروع ومخطط معروفان، قديمان مستجدّان وكامنان في عقلية اليمين المتطرف الإسرائيلي، سبق أن اختُصرا بـ «من النيل إلى الفرات» كشعار للحدود المفترضة للدولة. وبعد معاهدتي السلام مع مصر والأردن، ثم بعد «اتفاقات أوسلو» مع منظمة التحرير الفلسطينية، ولاحقاً بعد اعتماد المبادرة العربية للسلام (قمة بيروت 2002)، وأخيراً بعد توقيع «الاتفاقات الإبراهيمية» (2020)، ساد اعتقادٌ بأن البحث عن تسوية سلمية ديبلوماسية ربما يطوي هذا المشروع ويحول دون تداوله ليس فقط لأنه نقيضٌ للسلام، بل خصوصاً لأنه ينمّ عن عقلية توسعية وعدوانيةٍ راسخة يُضفى عليها بعدٌ ديني توراتي. غير أن كل تلك الخطوات أُحبطت وحُرّفت فلم تتوصّل إلى بداية حلّ لقضية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، كما أن اتفاقات التطبيع الأخيرة تزامنت مع طرح «صفقة القرن» الترامبية، فاستغلّتها إسرائيل لتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية تمهيداً لضمّها، ولتشديد الحصار على قطاع غزّة. وما إن وقعت عملية «طوفان الأقصى» (7/10/2023) حتى استعيدت إسرائيلياً مخططات التوسّع التي عبّر عنها نتنياهو عشية الاجتياح البرّي للقطاع بـ «تغيير وجه الشرق الأوسط». وحين تعمّد أخيراً إعادة «إسرائيل الكبرى» إلى الواجهة كان يستبعد مسبقاً «صفقة شاملة» تعدّ لها مصر وقطر بالتنسيق مع واشنطن، وكذلك مع «حماس». بل كان يُقصي أيضاً فكرة «إنهاء الحرب» لأن مشروعه أكبر من غزّة وقضم أجزاء منها، وأكبر من استعادة الرهائن ومن «القضاء على حماس». فمنذ منتصف العام الماضي لم تعد الحرب سوى وسيلة للبقاء في الحكم وللحفاظ على ائتلافه الحكومي مع المتطرفين، وغدت غزّة رأس الحربة التي استخدمها لترهيب الضفة وتقويض قوة «حزب إيران/ حزب الله» في لبنان ثم غزو الأراضي السورية قبل خوض حرب على إيران. في قمة ألاسكا الأميركية- الروسية، كانت نقطة القوّة الرئيسية لدى فلاديمير بوتين أن جيشه يحتلّ المناطق الأوكرانية التي استهدفها وأعلنت موسكو «ضمّها»، ثم توسّع باحتلال أراضٍ إضافية يمكن التخلّي عنها بالتفاوض على «معاهدة سلام» تتضمن «اعتراف» كييف بالوضع الجديد، أي بخسارة مناطقها الشرقية وبعضاً من أراضيها الجنوبية، وبموجب المعاهدة تحصل أوكرانيا والدول الأوروبية المتاخمة لها على «تعهّد» روسي وضمانات أميركية بعدم الاعتداء عليها. واشنطن سمّت ذلك «تبادل أراضٍ من أجل السلام» لكنه واقعياً فرضٌ لأمر واقع «باعتداء دولة على أراضي دولة أخرى والاستيلاء عليها بالقوة». وإذ طالت الحرب ولامست الخطر النووي في قلب أوروبا فإن إنهاءها يحتّم البحث عن السلام خارج «صندوق» القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة: هذا يتناسب مع عقلية ترمب (صفقات ومقايضات)، ويتطابق مع أهداف بوتين (استعادة الإمبراطورية الروسية)، ولا يبقى أمام أوروبا الأطلسية سوى الحصول على «ضمانات» للتأقلم مع واقع «التفاهم» الأميركي- الروسي الجديد. هذه التسوية للمأزق الأوكراني تتناسب أيضاً مع طموحات الصين بالنسبة إلى «استعادة تايوان»، وقال ترمب لـ «فوكس نيوز» إن شي جين بينغ أبلغه أنه «لن يغزو تايوان طالما أنه (ترمب) في البيت الأبيض»، وبرّر ذلك بأن «الصين صبورة، وتستطيع أن تنتظر». أما نتنياهو وزمرته فلا يريدون/ ولا يستطيعون الانتظار طالما أنهم حققوا خطوات متقدمة نحو «إسرائيل الكبرى»، ويريدون استثمار النتائج المحققة في غزّة ولبنان وسوريا للذهاب إلى «ما بعد بعدها»، من الضفة الغربية إلى إعادة جغرافية سوريا، إلى ما كان يُفترض أن تصبح عليه قبل «سايكس- بيكو»، وبالتالي سعياً إلى إعادة صوغ المنطقة على حساب مصالح مصر والأردن وغيرهما... لو أن الاعترافات «الغربية» بدولة فلسطينية حصلت فعلاً عندما طُرحت قبل عام ونيّف لبدت أكثر جدوى في ردع الجنون الإسرائيلي مما هي الآن بصيغتها الافتراضية الخجول، «من دون عقوبات»... قد يكون نتنياهو «مشكلة في ذاته» (رئيسة وزراء الدانمارك) أو أنه «فقد صوابه» (رئيس وزراء نيوزيلندا) أو «مجرم مختلّ عقلياً ينفذ إبادة جماعية» (كما وصفه الأمير تركي الفيصل)، لكن نتنياهو يتحدّى المنطقة والمجتمع الدولي متأبطاً دعماً مطلقاً من ترمب. * ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»