
ما بعد قمة واشنطن: الذكاء الاصطناعي يُبدع… والسعودية تُخطط للمستقبل
في الجلسات المخصصة لما يُعرف بـ«الذكاء الاصطناعي + العلوم» (AI + Science)، بدا واضحاً أن العالم لم يعد يناقش متى سيؤثر الذكاء الاصطناعي في العلوم، بل كيف يعيد كتابتها من جديد. لم تعد الخوارزميات مجرد أدوات خلف الشاشات، بل تحوّلت عقولاً مُساعدة تبتكر، وتقترح، وتتنبأ، وتُعيد تعريف علاقة الإنسان بالمجهول.
كانت الجلسات العلمية أشبه بماكينات تفكير جماعي، تتسابق فيها المعادلات والنماذج اللغوية مع الكواشف الجزيئية والمجاهر الكونية. هناك، لم يكن الحاضر مجرّد لحظة عابرة، بل مختبراً مفتوحاً يُصاغ فيه شكل المستقبل.
وما بين نماذج توليد البروتينات واكتشاف مواد طاقة جديدة وتحديد مسارات العلاج الجيني المعقّد، برز سؤال مفصلي: هل أصبح الذكاء الاصطناعي شريكاً في اختراع العلم ذاته؟ وهل نحن على أعتاب عصر جديد لا تُكتب فيه الأوراق البحثية فقط بواسطة العلماء، بل يُسهم الذكاء الاصطناعي نفسه في تصميم التجربة، وتحليل النتائج، وصياغة الاكتشاف.
في تلك اللحظة، لم يكن السؤال أميركياً فقط، بل عالمياً. وهنا، برزت السعودية مشاركاً فاعلاً، لا مراقباً من بعيد. فقد أشار كثير من المتحدثين إلى أن المملكة، التي وضعت الذكاء الاصطناعي في قلب «رؤيتها الطموحة 2030»، باتت تشكّل منصة علمية ناشئة قادرة على احتضان مثل هذه الطفرات العلمية – ليس فقط بالاستهلاك، بل بالإنتاج والتوجيه والتشريع.
في الجلسات التي شهدتها قمة واشنطن، لم يكن الذكاء الاصطناعي مجرد موضوع نقاش، بل كان الحاضر الأذكى في القاعة، إذ تحدّث روّاد العلم من الصف الأول، مثل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، والمؤسسة الوطنية للعلوم (NSF)، وشركة OpenAI صاحبة أشهر نماذج اللغة التوليدية (GPT)، لكنّ القيمة الحقيقية لم تكن في الأسماء، بل في التحوّلات التي كشفوا عنها.
لم نعد أمام برامج تنتظر أوامرنا، بل أمام «عقل معرفي» يصوغ الأسئلة قبل أن نفكر فيها، ويبتكر التجارب قبل أن نطلبها، ويقترح الحلول لأسئلة لم نطرحها بعد.
في أحد العروض، عُرض نموذج ذكي قادر على تصميم مواد جديدة للاستخدام في الفضاء والطاقة المتجددة، ليس عبر المحاولة والخطأ، بل عبر استنتاجات رياضية فورية من ملايين التركيبات الكيميائية. وفي عرض آخر، شاهد الحضور كيف أصبح من الممكن فك شيفرات الجينوم البشري وربط الطفرات الجينية بالأدوية الفردية في دقائق، باستخدام خوارزميات قادرة على تجاوز ما يُمكن لفريق بحثي كامل إنجازه في أشهر.
أما الأكثر إدهاشاً، فكان دخول الذكاء الاصطناعي إلى ميادين ما وراء المجهول: تحليل الظواهر الكمومية، مثل الجاذبية والمادة المظلمة باستخدام نماذج رياضية غير مألوفة، تُبنى ذاتياً من خلال التعلم العميق. لم تعد الفيزياء حكراً على الفرضيات القديمة... بل انفتحت على عقل اصطناعي لا يخضع للتقاليد المعرفية البشرية؛ ما قد يفتح أبواباً على اكتشافات لم نكن نحلم بها.
لقد تحوّل الذكاء الاصطناعي من خادم علمي إلى شريك في إنتاج المعرفة، بل وربما، كما وصفه أحد الباحثين، «أكثر العقول فضولاً على كوكب الأرض... حتى لو لم يكن بشراً».
قد يظن البعض أن خريطة الذكاء الاصطناعي العلمي تُرسم فقط في وادي السيليكون أو على طاولات كمبردج، لكن الحقيقة أن السعودية دخلت المعادلة العلمية بخطى واثقة، لا مستهلكاً متأخراً، بل مُصمّماً لقواعد اللعبة الجديدة.
فالتحول الجاري في المملكة اليوم لم يعد مجرد «رقمنة» للخدمات أو «تحديث» للأنظمة، بل قفزة معرفية تُعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والبيانات، بين الخوارزمية والمستشفى، بين الجينوم والمنهج الدراسي.
ويأتي ذلك عبر أربعة مسارات استراتيجية متكاملة:
1. مراكز ذكية للطب والجينوم. تم تأسيس مراكز وطنية متقدمة تُعدّ من الأحدث في الشرق الأوسط، تركّز على الطب التنبؤي والبيانات الجينية، وتستخدم نماذج تعلُّم عميق قادرة على التنبؤ باحتمال الإصابة بالأمراض قبل سنوات من ظهور الأعراض.
ولا تحلل هذه المراكز الفحوص، بل تتوقع المسارات الصحية للمريض، وتوجّه خطط الوقاية والعلاج بناءً على بيئته الجينية وأنماط حياته. إنه علم المستقبل... يُمارس اليوم على أرض المملكة.
2. شراكات دولية استراتيجية. في مشهد غير مسبوق، وقّعت المملكة اتفاقيات بحثية مع كبرى جامعات العالم مثل أكسفورد (Oxford) ومعهد MIT، لتبادل المعرفة وتطوير خوارزميات طبية مشتركة.
وهذه ليست شراكات رمزية، بل فرق بحث سعودية تشارك فعلياً في تصميم نماذج الذكاء الاصطناعي العلمية العالمية، وتُسهم في إنشاء قواعد بيانات طبية مخصصة للمجتمعات العربية، وهو أمر غائب تماماً عن معظم الجهود الغربية.
3. تعليم المستقبل... يُدرَّس الآن. انطلاقاً من «رؤية 2030»، تم إدراج الذكاء الاصطناعي ضمن مناهج التعليم العام والجامعي، خصوصاً في مجالات STEM (العلوم، التقنية، الهندسة، الرياضيات).
لا يُدرّس الطالب السعودي اليوم عن نيوتن فقط، بل يتعلم كيف تُصمم خوارزمية تتنبأ بقوة الجاذبية في بيئة فضائية مختلفة، أو كيف يمكن لنموذج لغوي أن يشرح قوانين الكم بأسلوب شخصي.
4. منظومة حوكمة وأخلاقيات رائدة. ولأن العلم بلا ضوابط قد ينقلب عبئاً؛ بادرت السعودية لتكون أول دولة عربية تطلق «منصة أخلاقيات الذكاء الاصطناعي الطبي» عام 2023، بالتعاون مع هيئة التخصصات الصحية؛ لضمان أن يظل الابتكار خادماً للإنسان... لا العكس.
5. التأثير في المعايير العالمية. لم تعد السعودية مجرد متلقٍّ للمعايير الدولية، بل أصبحت عضواً فاعلاً ومؤثراً في اللجان العالمية لوضع معايير الذكاء الاصطناعي، مثل اللجنة المشتركة ISO/IEC JTC 1، التي تُعد المرجع الأول لتقنين التقنيات الرقمية عالمياً.
أمام هذه التحولات المتسارعة، لا يمكن للعقل العربي أن يظل في مقعد المتفرّج. فالسؤال لم يعد: هل نلحق بالركب؟ بل: هل نحن مستعدون لنكون جزءاً من القيادة؟
هل آن الأوان أن نكفّ عن الاكتفاء باستهلاك النماذج الغربية، ونبدأ في بناء أدوات علمية تتحدث لغتنا، وتفهم بيئتنا، وتحلل بياناتنا الجينية والمجتمعية؟ هل نستطيع أن نُعيد تعريف مختبراتنا وجامعاتنا لتصبح مراكز إبداع ذكائي عربي، لا تُقلّد بل تُبدع؟
جامعات لا تُخرّج باحثين فقط، بل تنتج خوارزميات، وتصمّم مجهراً ذكياً يتفاعل مع لغتنا، ومساعداً بحثياً يقرأ الشعر العربي بقدر ما يفهم تسلسل الجينات!
إن الفرصة متاحة الآن... لا بعد عشر سنوات.
ولدينا في العالم العربي من العقول، والموارد، والهمم، ما يكفي لبناء نسختنا الخاصة من ثورة الذكاء الاصطناعي العلمي.
لكن يبقى السؤال معلقاً فوق سبّورة كل قاعة في جامعاتنا: هل نحن مستعدون... أن نكون جزءاً من الحل؟ أم ننتظر أن يُكتب مستقبلنا بخوارزميات الآخرين؟
في زمن يُعاد فيه تعريف من هو «العالِم»، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة في يد الباحث، بل أصبح شريكاً فكرياً يكتب المعادلات، يقترح النظريات، بل ويوجّه دفة الاكتشاف العلمي نفسه.
نحن نعيش لحظة يتحوّل فيها «الذكاء» من صفة بشرية إلى قوة معرفية هجينة، تتكوّن من الإنسان والخوارزمية معاً. لحظة يُولد فيها العلم من تفاعلٍ لا سابقة له بين الإبداع البشري والدقة الحوسبية.
وفي هذه اللحظة المفصلية، لم تعد السعودية على الهامش. بل تقف اليوم في قلب السباق، تُنظّم، وتُشرّع، وتُبدع، وتُعلّم. ولذا؛ فإن السؤال الحقيقي لم يعد: هل سنلحق بركب الذكاء الاصطناعي؟ بل أصبح: هل سنرسم نحن وجهته... باللغة العربية، وبالعقل العربي، ومن أرضٍ تحمل رؤية لا تعرف المستحيل؟ وكما قال ابن رشد: «العقل نورٌ يُضيء في ذات الإنسان، وليس حكراً على أمة دون أخرى».

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صدى الالكترونية
منذ 4 ساعات
- صدى الالكترونية
كويكب YR4يهدد القمر بدل الأرض وناسا تحذر من تبعات غير مباشرة
بعد أن أثار قلقًا عالميًا لاحتمالية اصطدامه بالأرض، أعلنت الهيئات الفلكية أن الكويكب المعروف باسم «2024 YR4» لن يشكل تهديدًا مباشرًا لكوكبنا، إلا أن الأنظار تحولت مؤخرًا إلى هدف جديد أكثر قربًا: القمر. الكويكب، الذي رُصد للمرة الأولى نهاية عام 2024، كان يُعتقد أنه قد يصطدم بالأرض في 22 ديسمبر 2032 بنسبة احتمال بلغت 3.1%، وهو ما دفع وكالة ناسا حينها إلى إدراجه ضمن قائمة الأجسام السماوية الأكثر خطرًا. لكن، ومع استمرار عمليات الرصد الدقيقة من الأرض والفضاء، تم تحديث البيانات وتأكيد أن الكوكب الأزرق خارج نطاق الخطر المباشر. ومع انحسار القلق الأرضي، بدأت المخاوف تتجه نحو القمر، إذ تشير الحسابات الفلكية الأخيرة إلى أن اصطدامًا محتملًا قد يقع في نهاية عام 2032، ما يُعيد النقاش حول استعداد البشرية لمثل هذا النوع من السيناريوهات الفضائية النادرة. ورغم نفي وكالة ناسا لأي تأثيرات مباشرة على الأرض، فإن بعض النتائج غير المباشرة تبقى مطروحة، خصوصًا ما يتعلق بزخات نيزكية قد تنجم عن تطاير الغبار والصخور القمرية بعد الاصطدام. الدكتور بول ويجرت، الباحث في جامعة ويسترن الكندية، أوضح في تصريحات لشبكة CNN أن 'YR4' يبلغ قطره نحو 60 مترًا، ما يضعه ضمن فئة «قاتلي المدن»؛ أي الكويكبات القادرة على تدمير مدينة بالكامل. ويتوقع العلماء أنه في حال ارتطامه بالقمر، قد يُحدث فوهة عملاقة بقطر يُقارب الكيلومتر، لتكون بذلك أضخم حفرة تصطدم بالقمر منذ 5 آلاف عام. وقد تؤدي الجسيمات المتطايرة، التي تتحرك بسرعات تتجاوز سرعة الرصاص، إلى إرباك أنظمة الاتصالات أو إلحاق أضرار بالأقمار الصناعية التي تدور في مدارات منخفضة حول الأرض. السيناريو المحتمل يعيد إلى الأذهان حادثة 'تشيليابينسك' في روسيا عام 2013، عندما انفجر نيزك قطره 19 مترًا فوق المدينة، وتسبب بإصابة أكثر من 1500 شخص، وتحطيم آلاف النوافذ. الفرق أن 'YR4' أكبر بثلاثة أضعاف تقريبًا، ما يجعل من الاصطدام القمري حدثًا يستحق المتابعة العلمية المكثفة. ورغم غياب خطة حالية للتعامل مع الكويكب، فإن تجربة ناسا الناجحة عام 2022 في تحويل مسار كويكب 'ديمورفوس' ضمن مهمة 'دارت'، تفتح باب الأمل أمام جهود الدفاع الفضائي، بل وربما مستقبلاً، الدفاع عن القمر نفسه، خاصة في ظل التوجهات العالمية لاستيطانه. وفي هذا السياق، يرى الدكتور جولين دو ويت من معهد MIT أن مثل هذا الحدث قد يكون نقطة تحول في فهم تفاعل القمر مع الصدمات، وفرصة لتطوير هياكل مقاومة للصدمات على سطحه. ومن المقرر أن يقترب الكويكب 'YR4' مجددًا إلى نطاق يمكن رصده بدقة في عام 2028، وهو ما سيمنح العلماء فرصة جديدة لتقييم الوضع وتحديث التوقعات بشأن مساره.


الشرق الأوسط
منذ 2 أيام
- الشرق الأوسط
ما بعد قمة واشنطن: الذكاء الاصطناعي يُبدع… والسعودية تُخطط للمستقبل
في قلب العاصمة الأميركية واشنطن، حيث تتقاطع خيوط السياسة بالتكنولوجيا، التأم العالم في قمة «كسب سباق الذكاء الاصطناعي» (Winning the AI Race). لكن ووسط الضجيج المعتاد لكواليس القمم الكبرى التي عرضت مناقشتها عبر الإنترنت، لم يكن للعلماء مجرد دور المُراقب أو المحلل، بل كانوا في طليعة المشهد. في الجلسات المخصصة لما يُعرف بـ«الذكاء الاصطناعي + العلوم» (AI + Science)، بدا واضحاً أن العالم لم يعد يناقش متى سيؤثر الذكاء الاصطناعي في العلوم، بل كيف يعيد كتابتها من جديد. لم تعد الخوارزميات مجرد أدوات خلف الشاشات، بل تحوّلت عقولاً مُساعدة تبتكر، وتقترح، وتتنبأ، وتُعيد تعريف علاقة الإنسان بالمجهول. كانت الجلسات العلمية أشبه بماكينات تفكير جماعي، تتسابق فيها المعادلات والنماذج اللغوية مع الكواشف الجزيئية والمجاهر الكونية. هناك، لم يكن الحاضر مجرّد لحظة عابرة، بل مختبراً مفتوحاً يُصاغ فيه شكل المستقبل. وما بين نماذج توليد البروتينات واكتشاف مواد طاقة جديدة وتحديد مسارات العلاج الجيني المعقّد، برز سؤال مفصلي: هل أصبح الذكاء الاصطناعي شريكاً في اختراع العلم ذاته؟ وهل نحن على أعتاب عصر جديد لا تُكتب فيه الأوراق البحثية فقط بواسطة العلماء، بل يُسهم الذكاء الاصطناعي نفسه في تصميم التجربة، وتحليل النتائج، وصياغة الاكتشاف. في تلك اللحظة، لم يكن السؤال أميركياً فقط، بل عالمياً. وهنا، برزت السعودية مشاركاً فاعلاً، لا مراقباً من بعيد. فقد أشار كثير من المتحدثين إلى أن المملكة، التي وضعت الذكاء الاصطناعي في قلب «رؤيتها الطموحة 2030»، باتت تشكّل منصة علمية ناشئة قادرة على احتضان مثل هذه الطفرات العلمية – ليس فقط بالاستهلاك، بل بالإنتاج والتوجيه والتشريع. في الجلسات التي شهدتها قمة واشنطن، لم يكن الذكاء الاصطناعي مجرد موضوع نقاش، بل كان الحاضر الأذكى في القاعة، إذ تحدّث روّاد العلم من الصف الأول، مثل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، والمؤسسة الوطنية للعلوم (NSF)، وشركة OpenAI صاحبة أشهر نماذج اللغة التوليدية (GPT)، لكنّ القيمة الحقيقية لم تكن في الأسماء، بل في التحوّلات التي كشفوا عنها. لم نعد أمام برامج تنتظر أوامرنا، بل أمام «عقل معرفي» يصوغ الأسئلة قبل أن نفكر فيها، ويبتكر التجارب قبل أن نطلبها، ويقترح الحلول لأسئلة لم نطرحها بعد. في أحد العروض، عُرض نموذج ذكي قادر على تصميم مواد جديدة للاستخدام في الفضاء والطاقة المتجددة، ليس عبر المحاولة والخطأ، بل عبر استنتاجات رياضية فورية من ملايين التركيبات الكيميائية. وفي عرض آخر، شاهد الحضور كيف أصبح من الممكن فك شيفرات الجينوم البشري وربط الطفرات الجينية بالأدوية الفردية في دقائق، باستخدام خوارزميات قادرة على تجاوز ما يُمكن لفريق بحثي كامل إنجازه في أشهر. أما الأكثر إدهاشاً، فكان دخول الذكاء الاصطناعي إلى ميادين ما وراء المجهول: تحليل الظواهر الكمومية، مثل الجاذبية والمادة المظلمة باستخدام نماذج رياضية غير مألوفة، تُبنى ذاتياً من خلال التعلم العميق. لم تعد الفيزياء حكراً على الفرضيات القديمة... بل انفتحت على عقل اصطناعي لا يخضع للتقاليد المعرفية البشرية؛ ما قد يفتح أبواباً على اكتشافات لم نكن نحلم بها. لقد تحوّل الذكاء الاصطناعي من خادم علمي إلى شريك في إنتاج المعرفة، بل وربما، كما وصفه أحد الباحثين، «أكثر العقول فضولاً على كوكب الأرض... حتى لو لم يكن بشراً». قد يظن البعض أن خريطة الذكاء الاصطناعي العلمي تُرسم فقط في وادي السيليكون أو على طاولات كمبردج، لكن الحقيقة أن السعودية دخلت المعادلة العلمية بخطى واثقة، لا مستهلكاً متأخراً، بل مُصمّماً لقواعد اللعبة الجديدة. فالتحول الجاري في المملكة اليوم لم يعد مجرد «رقمنة» للخدمات أو «تحديث» للأنظمة، بل قفزة معرفية تُعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والبيانات، بين الخوارزمية والمستشفى، بين الجينوم والمنهج الدراسي. ويأتي ذلك عبر أربعة مسارات استراتيجية متكاملة: 1. مراكز ذكية للطب والجينوم. تم تأسيس مراكز وطنية متقدمة تُعدّ من الأحدث في الشرق الأوسط، تركّز على الطب التنبؤي والبيانات الجينية، وتستخدم نماذج تعلُّم عميق قادرة على التنبؤ باحتمال الإصابة بالأمراض قبل سنوات من ظهور الأعراض. ولا تحلل هذه المراكز الفحوص، بل تتوقع المسارات الصحية للمريض، وتوجّه خطط الوقاية والعلاج بناءً على بيئته الجينية وأنماط حياته. إنه علم المستقبل... يُمارس اليوم على أرض المملكة. 2. شراكات دولية استراتيجية. في مشهد غير مسبوق، وقّعت المملكة اتفاقيات بحثية مع كبرى جامعات العالم مثل أكسفورد (Oxford) ومعهد MIT، لتبادل المعرفة وتطوير خوارزميات طبية مشتركة. وهذه ليست شراكات رمزية، بل فرق بحث سعودية تشارك فعلياً في تصميم نماذج الذكاء الاصطناعي العلمية العالمية، وتُسهم في إنشاء قواعد بيانات طبية مخصصة للمجتمعات العربية، وهو أمر غائب تماماً عن معظم الجهود الغربية. 3. تعليم المستقبل... يُدرَّس الآن. انطلاقاً من «رؤية 2030»، تم إدراج الذكاء الاصطناعي ضمن مناهج التعليم العام والجامعي، خصوصاً في مجالات STEM (العلوم، التقنية، الهندسة، الرياضيات). لا يُدرّس الطالب السعودي اليوم عن نيوتن فقط، بل يتعلم كيف تُصمم خوارزمية تتنبأ بقوة الجاذبية في بيئة فضائية مختلفة، أو كيف يمكن لنموذج لغوي أن يشرح قوانين الكم بأسلوب شخصي. 4. منظومة حوكمة وأخلاقيات رائدة. ولأن العلم بلا ضوابط قد ينقلب عبئاً؛ بادرت السعودية لتكون أول دولة عربية تطلق «منصة أخلاقيات الذكاء الاصطناعي الطبي» عام 2023، بالتعاون مع هيئة التخصصات الصحية؛ لضمان أن يظل الابتكار خادماً للإنسان... لا العكس. 5. التأثير في المعايير العالمية. لم تعد السعودية مجرد متلقٍّ للمعايير الدولية، بل أصبحت عضواً فاعلاً ومؤثراً في اللجان العالمية لوضع معايير الذكاء الاصطناعي، مثل اللجنة المشتركة ISO/IEC JTC 1، التي تُعد المرجع الأول لتقنين التقنيات الرقمية عالمياً. أمام هذه التحولات المتسارعة، لا يمكن للعقل العربي أن يظل في مقعد المتفرّج. فالسؤال لم يعد: هل نلحق بالركب؟ بل: هل نحن مستعدون لنكون جزءاً من القيادة؟ هل آن الأوان أن نكفّ عن الاكتفاء باستهلاك النماذج الغربية، ونبدأ في بناء أدوات علمية تتحدث لغتنا، وتفهم بيئتنا، وتحلل بياناتنا الجينية والمجتمعية؟ هل نستطيع أن نُعيد تعريف مختبراتنا وجامعاتنا لتصبح مراكز إبداع ذكائي عربي، لا تُقلّد بل تُبدع؟ جامعات لا تُخرّج باحثين فقط، بل تنتج خوارزميات، وتصمّم مجهراً ذكياً يتفاعل مع لغتنا، ومساعداً بحثياً يقرأ الشعر العربي بقدر ما يفهم تسلسل الجينات! إن الفرصة متاحة الآن... لا بعد عشر سنوات. ولدينا في العالم العربي من العقول، والموارد، والهمم، ما يكفي لبناء نسختنا الخاصة من ثورة الذكاء الاصطناعي العلمي. لكن يبقى السؤال معلقاً فوق سبّورة كل قاعة في جامعاتنا: هل نحن مستعدون... أن نكون جزءاً من الحل؟ أم ننتظر أن يُكتب مستقبلنا بخوارزميات الآخرين؟ في زمن يُعاد فيه تعريف من هو «العالِم»، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة في يد الباحث، بل أصبح شريكاً فكرياً يكتب المعادلات، يقترح النظريات، بل ويوجّه دفة الاكتشاف العلمي نفسه. نحن نعيش لحظة يتحوّل فيها «الذكاء» من صفة بشرية إلى قوة معرفية هجينة، تتكوّن من الإنسان والخوارزمية معاً. لحظة يُولد فيها العلم من تفاعلٍ لا سابقة له بين الإبداع البشري والدقة الحوسبية. وفي هذه اللحظة المفصلية، لم تعد السعودية على الهامش. بل تقف اليوم في قلب السباق، تُنظّم، وتُشرّع، وتُبدع، وتُعلّم. ولذا؛ فإن السؤال الحقيقي لم يعد: هل سنلحق بركب الذكاء الاصطناعي؟ بل أصبح: هل سنرسم نحن وجهته... باللغة العربية، وبالعقل العربي، ومن أرضٍ تحمل رؤية لا تعرف المستحيل؟ وكما قال ابن رشد: «العقل نورٌ يُضيء في ذات الإنسان، وليس حكراً على أمة دون أخرى».


الشرق الأوسط
منذ 3 أيام
- الشرق الأوسط
روبوتات تتعلم من البشر عبر المراقبة... دون شفرة برمجية
لطالما كان تعليم الروبوتات مهارات جديدة يتطلب خبرة في البرمجة، لكن ابتكاراً جديداً من معهد «ماساتشوستس للتكنولوجيا» (MIT) قد يُحدث تحولاً جذرياً، حيث يتيح لأي شخص تقريباً تدريب روبوت باستخدام طرق طبيعية وبديهية، دون الحاجة إلى أي خبرة تقنية. طوَّر باحثون من قسم الطيران والفضاء ومعمل علوم الحاسوب والذكاء الاصطناعي (CSAIL) في «MIT» أداة جديدة تُعرف باسم «واجهة العرض متعددة الاستخدامات» (Versatile Demonstration Interface – VDI)، تتيح للمستخدمين تدريب الروبوتات التعاونية أو ما يُعرف بـ«الكوبوتس» على أداء المهام بثلاث طرق شائعة: التحكم عن بُعد أو التوجيه الجسدي (التعليم الحركي) أو العرض الطبيعي المباشر (التعليم بالمحاكاة). هذا الجمع بين الطرق الثلاث لا يُعد فقط إنجازاً تقنياً، بل خطوة مهمة لجعل الروبوتات أكثر قابلية للاستخدام في البيئات الواقعية، من المصانع إلى المنازل وحتى أماكن الرعاية الصحية. في طريقة التحكم عن بُعد التي تتبع تقليدياً، يستخدم الشخص عصا تحكم لتوجيه الروبوت. أما في التعليم الحركي، يقوم المستخدم بتحريك ذراع الروبوت يدوياً لتنفيذ الحركات المطلوبة. وفي التعليم بالمحاكاة، يراقب الروبوت شخصاً يؤدي المهمة بنفسه ثم يتعلم من المشاهدة. إلا أن معظم الروبوتات اليوم لا يمكنها التعلم إلا باستخدام واحدة من هذه الطرق فقط. وهنا يأتي دور واجهة «VDI» من جامعة «MIT»، التي تجمع بين هذه الأساليب الثلاثة في أداة يدوية واحدة مزودة بأجهزة استشعار، يمكن تثبيتها على أذرع الروبوتات التعاونية. يقول مايك هاجيناو، الباحث في «MIT» والمشارك الرئيسي في الدراسة إنه يحاول تصميم زملاء عمل آليين أذكياء وماهرين يمكنهم التعاون بفاعلية مع البشر لإنجاز المهام المعقدة. ويتابع: «هدفنا هو تزويد المستخدمين بطرق أكثر مرونة لتعليم الروبوتات، لتصبح العملية بديهية وقابلة للتكيّف مع مختلف الأشخاص والمهام». وسيتم عرض هذا البحث خلال مؤتمر «IEEE» لأنظمة الروبوتات الذكية (IROS) في أكتوبر المقبل. اختبر فريق «MIT» الواجهة الجديدة في مركز ابتكار صناعي محلي، حيث طُلب من مجموعة من الخبراء في التصنيع تعليم روبوتين أداء مهمتين شائعتين في خطوط الإنتاج هي التركيب بالضغط (Press-fitting) والتشكيل (Molding). استخدم المتطوعون الثلاث طرق التدريب. أولاً عن طريق التحكم عن بُعد باستخدام عصا تحكم، ثم من خلال تحريك ذراع الروبوت يدوياً، وأخيراً عبر فصل أداة «VDI» واستخدامها يدوياً لأداء المهمة فيما يسجل الروبوت الحركات والضغطات كمادة تدريبية. أظهرت النتائج أن المتطوعين فضّلوا الطريقة الطبيعية (التعليم بالمحاكاة) على غيرها، كونها أقرب لطريقة تعليم الإنسان. ومع ذلك، نوّهوا إلى فوائد كل طريقة حسب طبيعة المهمة. فمثلاً، يفضّل استخدام التحكم عن بُعد عند التعامل مع مواد سامة، بينما يصلح التعليم الحركي لضبط مواضع الأجسام الثقيلة، في حين يُستخدم التعليم بالمحاكاة للمهام الدقيقة التي تتطلب مرونة وحساسية. تركز أبحاث فريق «MIT» على تطوير روبوتات قادرة على العمل إلى جانب البشر ليس فقط في المصانع، بل أيضاً في المستشفيات والمنازل. وتُعد سهولة التدريب من أكبر العوائق أمام اعتماد الروبوتات على نطاق واسع، إذ لا يستطيع معظم الناس برمجتها. ويعد الباحثون أن هذا المشروع يدور حول ابتكار أدوات تمكّن الأشخاص العاديين، وليس فقط المهندسين، من التفاعل مع الروبوتات بشكل فعّال ومباشر. تُزوّد واجهة «VDI» بكاميرا وأجهزة استشعار للحركة والضغط، وتُسجّل الحركات والبيانات أثناء أداء المهام، سواء كان الروبوت مثبتاً أو تم فصل الأداة عن ذراعه. بذلك، يصبح بالإمكان تدريب الروبوتات دون الحاجة إلى أي برمجة، فقط من خلال إظهار ما يجب فعله. يخطط الباحثون لتطوير التصميم الحالي بناءً على ملاحظات المستخدمين، وإجراء تجارب إضافية باستخدام النموذج الجديد. ويأملون أن تُستخدم هذه التقنية مستقبلاً في بيئات صناعية مرنة حيث يمكن للروبوت أداء مهام متنوعة، يتعلم كل منها من مستخدمين مختلفين. ويرى هاجيناو أن فتح باب التفاعل البشري الطبيعي مع الروبوتات يزيد من إمكاناتها، ويمنحها القدرة على التكيّف في سيناريوهات مختلفة من المصانع إلى المطابخ والمستشفيات. بدعم من زمالة «MIT» للتميّز الهندسي ومؤسسة «والنبرغ»، يمثل هذا الابتكار خطوة حقيقية نحو مستقبل أكثر تعاوناً بين الإنسان والآلة حيث لا حاجة فيه تعليم الروبوت إلى أكثر من لمسة، أو حركة يد.