
رسالة لعواصم خليجية بعد زيارات ترامب
د. عبدالله باحجاج
زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لعدد من الدول الخليجية، لم تكن كغيرها؛ سواء أثناء فترته الرئاسية الأولى (2017- 2021) أو لأي زيارات أخرى لرؤساء أمريكا، الجمهوريين والديمقراطيين، على السواء؛ إذ كانت غير مسبوقة، وأظهرت المشهد للخليجيين والعرب عامةً مُلتبسًا ومثيرًا للجدل؛ فالكثيرون اعتبروا الزيارات ابتزازا أمريكيا جديدا للسيولة المالية الخليجية، في وقت تموت البشرية في غزة جوعًا، ويشتد الخِناق المالي على المواطنين الخليجيين بدواعي الأزمات والمديونية! ولو وُظِّفَت التريليونات والمليارات داخل المنطقة الخليجية؛ لوجدنا أهل الخليج يعيشون في جناتٍ لم يسبق لغيرهم في الأرض أن عاشوا فيها.
فهل يُمكن التسليم بالابتزاز على مَضضٍ أم ينبغي تفكيكه ووضعه في سياقات الدوافع الخليجية، رغم تسليمنا بأرقامه الفلكية؟
من هنا، يُمكن القول إنَّ كل مُتابِع عميق لغايات الصفقات التريليونية والهدايا الشخصية المليونية، سيخرج بنتيجة مفادها أنَّ وراءها تحقيق نتائج تاريخية لها وزنها الجيواستراتيجي، مما تبدو بأنها ضريبة باهظة الثمن ينبغي أن تدفعها الدول الخليجية الثلاثة، في هذا الوقت بالذات. ومرجعيتنا في ذلك تُوفِّر قناعة سياسية خليجية عامة وغير مسبوقة، لكن، للرياض ولأبوظبي النصيب الأكبر والأكثر إلحاحًا وتسارُعًا والأقدر ماليًا، وهذا يعني أن حماية كل دولة خليجية والدفاع عن أمنها واستقرارها يجب أن تعتمد فيه على نفسها، وبالتالي لا يُمكن الاستمرار في الاعتماد على غيرها، أي بالنيابة والوكالة الأجنبية، كما كان طوال العقود الماضية. ولقد نتج عن هذه القناعة المُطلقة، اختراق أمنها من قبل عدة طائرات مسيرة أطلقتها جماعة أنصار الله "الحوثي" في اليمن، ولم تستفِد من الاتفاقيات الدفاعية الغربية، وقد تركتها واشنطن في عهد الرئيس جو بايدن، تواجه ضعف تحصيناتها الدفاعية، وذلك عندما سحبت واشنطن جزءًا من القوات الأمريكية من الخليج لمُواجهة الصين.
وقد استوعبت القيادات الخليجية الجديدة كل الدروس القديمة والحديثة في ظل صراعاتها الجيوسياسية، فتلكم الصفقات الضخمة ستصنع مستقبل قوتها التكنولوجية- مدنية وعسكرية وتجارية- وتُعزِّز وتُحدِّث قوتها الخشنة، وتُوَطِّن صناعات استراتيجية بنسبة 50% بحلول عام 2030، مثل ما هو مُستهدف في السعودية، وهذا كله نجده في صفقات أسلحة مُتطوِّرة بقيمة 142 مليار دولار، وأخرى للتكنولوجيا، واستثمار بـ20 مليار دولار مع شركة كوالكوم تكنولوجيز الأمريكية؛ لتطوير مراكز بيانات ذكاء اصطناعي متقدمة وبنية تحتية، وهناك استثمارات تكنولوجية مشتركة بـ80 مليار دولار مع شركات تكنولوجية أمريكية مُتقدِّمة، وهناك إقامة برنامج نووي مدني، وهناك تخفيف القيود على استيراد الرقائق الأمريكية، وتطوير مشاريع الذكاء الاصطناعي.. إلخ. صحيحٌ أن الفاتورة ضخمة، وأرقامها خيالية، لكننا لو تأملنا نتائجها، فقد لا يكون تحقيقها إلّا بهذا الثمن في عهد ترامب.
هذه الدول لا تنطلق في توجهاتها الحديثة من البدايات؛ بل إنها قطعت أشواطًا تنافسية عالمية، وبعضها قد تجاوز الإقليمية؛ فالإمارات مثلًا تبوأت المراكز الخامس عالميًا بمؤشر الأمن السيبراني في سنة 2020، وحققت إنجازات نفتخر بها في مجال الفضاء، فلديها 10 أقمار اصطناعية، وقريبًا ستُطلق عددًا منها لأغراض مُتعددة، وكذلك الرياض التي أصبحت مُتقدِّمة في الأقمار الاصطناعية- تصنيعًا وروَّادًا- ولها تجربة واعدة في الطائرات المسيرة. وتأتي الصفقات التريليوينة لتُدشِّن انطلاقة مُستدامة لمستقبل قوتها الخشنة والتكنولوجية بأثمانٍ مرتفعة.
وكما أشرنا سابقًا، تلكم التوجهات مشروعة للأشقاء، لكن، لدينا هواجس مرتفعة من انعكاساتها على مستقبل التوازن الاستراتيجي بين دول المنظومة الخليجية من جهة، والمنطقة من جهة ثانية، والذي نخشاه هو تكريس الفردانية، وتعطيل مسيرة تحقيق كامل الأجندات الخليجية الجماعية التي تُراوِح مكانها منذ تأسيس مجلس التعاون الخليجي في 1981؛ كتطبيق الاتفاقية الاقتصادية، والسوق الخليجية المشتركة والاتحاد الجمركي، والسبب دائمًا الفردانية، والآن قد تتجدد عتمة الغرور بالقوة والتنافس الحاد عوضًا عن التكامل. وهنا ينبغي التحذير من هذه العتمة، مع التسليم بحق كل دولة المشروع في بناء أو تجديد قوتها؛ بما يتماهى مع تطور مفاهيم القوة الخشنة والتكنولوجية الحديثة للحفاظ على أمنها واستقرارها.
كما نُسلِّم بكل هواجسها الأمنية والعسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، ونُسلِّم في الوقت نفسه بوجود شخصية في البيت الأبيض الأمريكي تحكم ببراغماتية راديكالية، تمتطي السياسة للتربُّح الاقتصادي منها، وتُطفئ أزمات، وتُشعل أخرى لدواعٍ نفعية خالصة، ليس له أعداء يوصفون بالديمومة، وإنما مصالح مزدوجة له ولبلاده، واستدلالاتنا في ذلك كثيرة؛ ومنها: الحرب التجارية التي فجَّرها ترامب مع كل أعداء بلاده وحلفائها، وفي يومين فقط نجح في التوصل لاتفاق مؤقت مع الصين يُجنِّب الحرب التجارية العالمية، وكذلك المحادثات النووية مع طهران، واحتمالات التوصل معها إلى شراكة تجارية واقتصادية طويلة الأجل، على خلفية التوصل لاتفاق نووي معها، وكذلك التوصل إلى اتفاق- بوساطة عُمانية- مع جماعة أنصار الله في اليمن، يضمن عدم استهدافهم للسفن الأمريكية في البحر الأحمر، وتركهم يضربون الكيان الصهيوني حتى دون تنديد، إلى جانب وضع خطة للانسحاب من سوريا، ورفع العقوبات عنها، وكذلك تحويل عداء بلاده مع موسكو وأنقرة إلى صداقة، في تجسيد لشعاره المرفوع "أمريكا أولًا".
ويُطبَّق هذا الشعار من منظور منفعتين، عامة وخاصةً، ونستدلُ بها بمجموعة من الدلائل، نذكر منها، أنه قبل جولة ترامب للمنطقة الخليجية توجه نجلاه إريك إلى عاصمة خليجية ليُرَوِّج لشركته المتخصصة في العملات المُشفرة، والآخر جونيور إلى عاصمة أخرى للحديث عن الاستثمار "في أمريكا ترامب". وكشفت المصادر في مارس الماضي عن أول صفقة للتطوير العقاري الفاخر لها في الخليج، فيما كُشِفَ كذلك عن تفاصيل ناطحات سحاب بمليار دولار، يُمكن شراء الوحدات فيها بالعملات المُشفَّرة. وهذه نماذج لنجليْ ترامب، غير صهره (جاريد كوشنر) وفريق ترامب المُقرَّب من رجال أعمال أثرياء.. وما خفي أكبر!
هنا تتداخل السياسية مع الاقتصاد، وسيكون للأخير تأثيره الكبير على مستقبل المنطقة الخليجية، خاصة في مجال النفوذ والأسلحة والتكنولوجيا، وهذا من أبرز مُستوجِبات الوعي بطبيعة المرحلة الراهنة وآفاقها السياسية. ونحذر مُجددًا من عتمة الغرور أو الاستقواء الخليجي بعد الاتفاقيات التريليونية مع أمريكا- ترامب. لماذا؟ لأنها تمنح كل واحدة منها وَهْم الاستفراد المستقبلي بصناعة القوة الإقليمية الحديثة، والتأثير على الآخرين والسيطرة عليهم. والحذر كل الحذر من هذه الانفرادية التي تصنعها تلكم الاتفاقيات، والتي نرى من خلالها بمثابة تجديد الميل الأمريكي التاريخي نحوها لمدى طويل الأجل، ونرى فيها تحديد وظائف كل دولة في مستقبل المنطقة لسيناريوهات مُقبلة.
الدول الخليجية الستة في مجموعها وحدة سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية وديموغرافية واحدة ومُتَّحدة، لكنها مُوزَّعة على سِت كيانات مُستقلة، وأي اختلال أو اعتلال أمني وعسكري في إحداها، ستتداعى له بقية الوحدات، وكل المُعطيات الدولية والإقليمية وآفاقها تُحتِّم عليها الإسراع في تحقيق وحدتها السياسية والاقتصادية لا تكريس الفردانيات، ولا الاستمرار في تأجيل الأجندات الخليجية الكبرى، وعندما تطغى الفردانية، وتستقوى بميول عالمية قوية، تتراجع طموحات المسيرة الجماعية، وهذا ما يتوجَّب لفت الانتباه إليه، والتحذير منه، لا سيما وأن تاريخ الاستفراد بالقوة الخشنة (عسكرية وتكنولوجية) يُعلِّمُنا أنه ليس وحده كافيًا لصناعة الاستقرار والأمن للدولة، وإنما الأهم الأوضاع الداخلية في إطار محيطها الجيوسياسي المُستقر. والدول الخليجية عبارة عن محيط جيوسياسي مُتصل، يعتمد على بعضه في الانفتاح على العالم الخارجي، ويمكن تفكيك مناعة الدول دون إطلاق رصاصة واحدة.. وهنا جوهر رسالتنا.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


جريدة الرؤية
منذ 10 ساعات
- جريدة الرؤية
وثائق رسمية.. ترامب يخطط لترحيل فلسطينيين وسوريين ويمنيين
واشنطن - الوكالات كشفت صحيفة واشنطن بوست، استنادًا إلى وثائق رسمية، أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كانت تعتزم تمويل برامج ترحيل مهاجرين من عدة جنسيات، من خلال تحويل أموال مخصصة في الأصل للمساعدات الخارجية. ووفقًا للتقرير، فإن المخططات التي أعدتها وزارة الأمن الداخلي كانت تستهدف ترحيل مهاجرين من جنسيات متعددة، بينها فلسطينيون، سوريون، يمنيون، ليبيون وسودانيون، في خطوة أثارت حينها مخاوف من انعكاساتها الإنسانية والسياسية على المجتمعات المستهدفة. وتشير الوثائق إلى أن وزارة الأمن الداخلي سعت لاستخدام جزء من ميزانية المساعدات الخارجية – المخصصة عادة للتنمية والدعم الإنساني في دول أخرى – لتمويل عمليات ترحيل جماعي، في ما اعتبره مراقبون محاولة لتوسيع نطاق سياسة "أمريكا أولاً" إلى المجال الإنساني والهجرة. وفي السياق ذاته، نقلت الصحيفة عن مسؤولين في وزارة الأمن الداخلي قولهم إن القرار بشأن الوضع القانوني للمهاجرين القادمين من هاييتي وأوكرانيا، والذين يتمتعون حاليًا بوضع "الحماية المؤقتة" (TPS)، لم يُحسم بعد، مما يفتح الباب أمام احتمال التراجع عن هذه السياسة في حال قررت الإدارة الحالية إعادة تقييم الحالات الإنسانية. ويُذكر أن برامج الحماية المؤقتة تمنح مواطني بعض الدول المتضررة من الكوارث أو الصراعات حق الإقامة والعمل المؤقت في الولايات المتحدة، وهي موضع جدل سياسي متكرر بين الجمهوريين والديمقراطيين.


جريدة الرؤية
منذ 12 ساعات
- جريدة الرؤية
إيران تتلقى مقترحا لجولة خامسة من المحادثات النووية
عواصم - الوكالات نقلت وسائل إعلام رسمية عن نائب وزير الخارجية الإيراني كاظم غريب آبادي قوله اليوم الثلاثاء إن بلاده تلقت مقترحا لجولة خامسة من المحادثات النووية مع الولايات المتحدة وتدرسه حاليا. وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد ذكر قبل أيام أن إبرام اتفاق نووي جديد مع طهران بات قريبا للغاية بعد تقديم مقترح إلى إيران. وأضاف أنه يتعين على الإيرانيين "التحرك بسرعة وإلا سيحدث أمر سيء". وحذر ترامب طهران مرارا من أنها ستتعرض للقصف وعقوبات قاسية ما لم يتم التوصل إلى تسوية بشأن البرنامج النووي الإيراني. وقال مسؤول إيراني لرويترز إن الجولة المقبلة من المحادثات قد تعقد في مطلع الأسبوع في روما، وإن كان ذلك لم يتأكد بعد. وعلى الرغم من أن المتحدث باسم وزير الخارجية قال إن طهران ستواصل المفاوضات، فإن المحادثات لا تزال على أرض غير صلبة نظرا للخلاف بين إيران والولايات المتحدة بشأن مسألة تخصيب اليورانيوم. وقال مجيد تخت روانجي، وهو نائب آخر لوزير الخارجية الإيراني أمس الاثنين إن المحادثات ستفشل إذا أصرت واشنطن على تخلي إيران عن تخصيب اليورانيوم الذي تقول الولايات المتحدة إنه طريق محتمل لصنع قنابل نووية. وتقول طهران إن برنامجها النووي مخصص لأغراض سلمية بحتة. وخلال فترة ولايته الأولى بين 2017 و2021، انسحب ترامب من الاتفاق النووي المبرم عام 2015 بين إيران والقوى العالمية والذي فرض قيودا صارمة على أنشطة تخصيب اليورانيوم في مقابل تخفيف العقوبات الدولية. وأعاد ترامب، الذي وصف اتفاق 2015 بأنه يخدم إيران، فرض عقوبات أمريكية شاملة على طهران التي ردت بزيادة تخصيب اليورانيوم.


جريدة الرؤية
منذ 15 ساعات
- جريدة الرؤية
النفط يرتفع وسط مؤشرات على تعثر المحادثات النووية
سنغافورة-رويترز صعدت أسعار النفط اليوم الثلاثاء وسط تعثر محتمل في المحادثات بين الولايات المتحدة وإيران بشأن برنامج طهران النووي، وضعف احتمالات دخول المزيد من إمدادات الخام الإيرانية إلى السوق العالمية. وبحلول الساعة 0008 بتوقيت جرينتش، زادت العقود الآجلة لخام برنت 12 سنتا إلى 65.66 دولار للبرميل. وارتفعت العقود الآجلة لخام غرب تكساس الوسيط الأمريكي 16 سنتا إلى 62.85 دولار. نقلت وسائل إعلام إيرانية رسمية أمس الاثنين عن نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون السياسية مجيد تخت روانجي قوله إن المحادثات النووية مع الولايات المتحدة "لن تفضي لأي نتيجة" إذا أصرت واشنطن على وقف طهران عمليات تخصيب اليورانيوم تماما. وجدد المبعوث الأمريكي الخاص ستيف ويتكوف يوم الأحد التأكيد على موقف واشنطن بأن أي اتفاق بين الولايات المتحدة وإيران يجب أن يتضمن وقف تخصيب اليورانيوم الذي يشكل مسارا محتملا نحو تطوير قنابل نووية. وتقول طهران إن أغراض برنامجها النووي سلمية بحتة. وقال أليكس هودز، المحلل في شركة ستون إكس، إن تعثر المحادثات أضعف الآمال في التوصل إلى اتفاق كان من شأنه أن يمهد الطريق لتخفيف العقوبات الأمريكية ويسمح لإيران بزيادة صادراتها النفطية بما يتراوح بين 300 ألف و400 ألف برميل يوميا. في الوقت ذاته، أدى تخفيض وكالة موديز التصنيف الائتماني للديون السيادية الأمريكية إلى إضعاف التوقعات الاقتصادية لأكبر مستهلك للطاقة في العالم ومنع أسعار النفط من الارتفاع. وكانت الوكالة قد خفضت التصنيف الائتماني للديون السيادية لأمريكا درجة واحدة يوم الجمعة، مشيرة إلى المخاوف بشأن ديون البلاد المتزايدة البالغة 36 تريليون دولار. وتعرضت أسعار الخام لضغوط إضافية بسبب البيانات التي أظهرت تباطؤ نمو الإنتاج الصناعي ومبيعات التجزئة في الصين، أكبر مستورد للنفط في العالم. وقد تتأثر الأسعار على المدى القريب بالرسوم الجمركية والمحادثات الأمريكية الإيرانية وحالة عدم اليقين الاقتصادي والحرب بين روسيا وأوكرانيا. وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بعد مكالمة هاتفية مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمس الاثنين، إن موسكو مستعدة للعمل مع أوكرانيا على مذكرة حول اتفاق سلام مستقبلي مضيفا أن الجهود المبذولة لإنهاء الحرب تسير على الطريق الصحيح.