
الوعي السُّنني في زمن الفتن
ليست الفتنة في النظام السنني مجرد حادث عابر أو اضطراب عارض، بل هي ناموس إلهي جار، وسنة ربانية ماضية، تصيب الناس كما يصيبهم الليل والنهار، وتديرها يد الحكمة الإلهية لتحقيق غايات أعمق من أن يدركها عقلنا المجرد. يقول الله تعالى: {أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنَّا وهم لا يُفتنون} [العنكبوت: 2]؛ فليست الفتنة اختبارًا للإيمان فحسب، بل هي شرط لازم لكمال بلوغه وتثبيته.
ما أحوجنا إلى فقه سنني يقرأ الفتنة لا كأزمة عابرة فقط، بل كابتلاء تزكوي ومرشح تنقية، وفرصة لإعادة النظر في أنفسنا كأمة قبل أن ننشغل بخصومنا، وميزان نزن به مواقفنا ومناهجنا
إن الفتنة في ضوء السننية ليست حدثًا اعتباطيًّا يقع بلا غاية، بل هي مخلوق بأمر الله، تجري وفق نظام دقيق يختبر به اللهُ القلوب، ويغربل به الصفوف؛ فليست الفتنة مجرد أزمة، بل هي أشبه بـ"حجر اللمس" الذي يُجرّ عليه المعدن ليُختبر نقاؤه ويُعرف عياره؛ تحتك بها النفوس لا لتنكسر، بل ليُكشف ما فيها من صدق أو نفاق، من ثبات أو اضطراب، من صفاء الجوهر أو غش المظهر.
وأقسى الفتن تلك التي تتسلل في دهماء غفلتنا إلى جسد الأمة، فتنخر في بنيانها وتفكك أوصالها، وهي لا تأتي صريحة بل متخفية في لبوس الغيرة على الدين أو الانتصار للمبدأ، بينما حقيقتها أنها امتحان للثبات، وكشف لخلل في التصور أو اضطراب في الإرادة.
الفتنة سنة ربانية تحمل في طياتها رسائل متعددة: فهي تمحيص وتمييز، وتنبيه وردع، وتصحيح وتقويم، وتعبيد للطريق نحو التمكين، وهي اختبار لمراتب الصبر ومقام الاصطفاء. وقد يطول زمن الفتنة أو يقصر، وقد تشتد أو تخف، بحسب الوعي الجمعي للأمة والتيقظ لها، وقدرة تعاملها مع عللها وأسبابها، فإن أحسنت فهم نظامها وفك شفرتها كانت الفتنة كاشفة لا مدمرة، باعثة على النهوض لا سببًا في الانهيار.
فما أحوجنا إلى فقه سنني يقرأ الفتنة لا كأزمة عابرة فقط، بل كابتلاء تزكوي ومرشح تنقية، وفرصة لإعادة النظر في أنفسنا كأمة قبل أن ننشغل بخصومنا، وميزان نزن به مواقفنا ومناهجنا، لئلا نكون من الذين يساقون في تيارها دون بصيرة، أو يكونون وقودًا لها من حيث لا يشعرون!
"الوعي السنني" لا يعني الحياد البارد ولا الانسحاب الجبان، بل يعني أن لا نزج أنفسنا في معارك بلا تبصر، ولا نكون أداة في يد من يحسن إدارة الفتنة أكثر مما نحسن فهمها، فالمواقف المعاصرة الرشيدة ليست تلك التي ترفع الصوت أكثر، بل تلك التي تقرأ اللحظة جيدًا، وتقدر المآلات
في زمن الفتن الكبرى، لا شيء أخطر على الوعي الجمعي من الدخول في معارك صفرية، لا ناقة له فيها ولا جمل إلا ترف التنظير؛ حيث يحتدم الصراع في غير ميدانه، وتُشعل ناره في غير عدوه، وكثير منها يدار عبر منصات الإعلام ووسائل التواصل، وتُنفخ فيها نار الاصطفافات حتى تغدو في عيون الناس وكأنها المعركة الحقيقية، بينما العدو الحقيقي يراكم مكاسبه على موائد صمتنا وانقسامنا.
وفي ظل هذا المشهد الملتبس؛ يصبح فقه التعامل مع الفتن ضرورة فكرية وسلوكية ملحة، لا ترفاً معرفياً.
ولنا في مواقف كبار الصحابة الذين عاشوا زمن الفتن الكبرى عِبر شاهدة على عمق فقههم وبصيرتهم في التعامل معها؛ فهذا الزبير بن العوام رضي الله عنه، وقد كان من العشرة المبشرين بالجنة، وأحد أوائل من أسلم، لم يكن جبانًا ولا عاجزًا عن خوض المعارك، بل فارسًا شجاعًا.. ومع ذلك، لما تبين له أنه يسير نحو مواجهة قد يختلط فيها الحق بالباطل، وكان ذلك في فتنة الجمل، رجع القهقرى وقال: "إن هذا الأمر لا أقاتل فيه، لقد ذكرني عليٌّ بحديث سمعته من رسول الله ﷺ: لتقاتلنه وأنت له ظالم"! فانصرف وكف يده، وفضل الاعتزال على أن يكون طرفًا في دم مشتبه. هذا الوعي النبوي السنني جعله ينسحب من مشهد الفتنة، ويمتنع عن صب الزيت على النار، لأنه أدرك أن الفتنة لا تعالج بالحد القاطع دائمًا، بل أحيانًا بالصمت والاعتزال حتى تنجلي، خاصة إذا كانت مظنة شقاق الأخوة.
وهنا تكمن العبرة: أن الفتنة ليست لحظة انتصار لخطابك أو اصطفافك، بل اختبارًا لبصيرتك وقدرتك على الإمساك بالحق، دون أن تسهم في سفك الدم أو تمزيق الأمة، أو تأجيج النزاعات باسم الانتصار للحق وللمبدأ.
إن "الوعي السنني" لا يعني الحياد البارد ولا الانسحاب الجبان، بل يعني أن لا نزج أنفسنا في معارك بلا تبصر، ولا نكون أداة في يد من يحسن إدارة الفتنة أكثر مما نحسن فهمها، فالمواقف المعاصرة الرشيدة ليست تلك التي ترفع الصوت أكثر، بل تلك التي تقرأ اللحظة جيدًا، وتقدر المآلات، وتفرق بين التوقيت المشروع والفخ المنصوب، وبين من يستنصر للحق، ومن يستثمر في ناره.
فالوعي السياسي الجماهيري لا يعني تبرئة من له مواقف خاطئة، ولا يعني شيطنة من نختلف معه، بل أن نحسن ترتيب الأولويات، وأن نفرق بين ساحة النقد وساحة المعركة؛ فكل معركة وهمية تؤجج هي طعنة في خاصرة الأمة، وتفكيك لجبهتها الداخلية، وأن الفلاح أحيانًا يكون في كف اليد والتزام الصمت.
ليس المطلوب أن نطبل لأحد، ولا أن نخاصم كل من خالفنا، بل أن نحفظ بوصلة الوعي متجهة نحو الحق والعدالة، لا تتيه في دوامة الشعارات والانفعالات، فلماذا نستنزف أنفسنا في حصر الحق كل الحق في ضفتنا، وننهمك في إثبات شرعية موقفنا، حتى لو كان ذلك على حساب سحق الرأي الآخر وشيطنته، في حين يتحمل الأمر الاجتهاد والرأي والرأي الآخر؟!
في زمن الفتن، لا تقاس البطولة بكثرة الصخب، ولا يوزن الحق بشدة الاصطفاف، بل بالبصيرة.. فكونوا زبيريين إذا اختلطت الأصوات، أصغوا لصوت النبوة في أعماق ضمائركم
أليس من الحكمة أن نفرق بين من يخطئ في التقدير والاجتهاد، وبين من يناوئ القضية من أصلها؟ فقد فرقت شريعتنا الغراء نفسها في الأحكام وطرق التعامل بين الكافر الأصلي وبين الباغي الذي خرج بتأويل، ولم تضعهما على مسافة واحدة من الأحكام. إننا حين نحصر الصواب في مسار واحد، ونجعل من الاختلاف تهديدًا، نسهم دون أن نشعر في تفكيك الصف، وتآكل الوعي، وتبديد الطاقات في معارك لا جبهة لها.
وفي خضم هذه المعارك الوهمية، نغفل أحيانًا حقيقة مهمة جداً: أن كثيرًا من هذه الخلافات والاصطفافات لا تتعدى أن تكون رمزية في الموقف أو عاطفية في التصريح، لا هو دعم مالي يحدث فرقًا وأثراً فعلياً، ولا دعم لوجستي يغير موازين القوة، ومع ذلك، يبنى عليه خلاف وانقسام عنيف، ويعاد تشكيل الولاءات والعداوات، وكأن المعركة كلها باتت في كلمات لا في أفعال.
ومن وعى هذا البعد السنني اليوم، أدرك أن كثيرًا من الاصطفافات في عصر الأزمات، كالصراعات الراهنة في العالم الإسلامي، لا تتجاوز رمزية التأييد، بينما لا تغير واقعًا ولا تحقن دمًا؛ فالحكمة ألا نُستنزف في معارك وهمية نشيطن فيها بعضنا دون وعي بمآلاتها، ونتعامى عن الفتنة الأصل التي تدور في الخلفية.
في زمن الفتن، لا تقاس البطولة بكثرة الصخب، ولا يوزن الحق بشدة الاصطفاف، بل بالبصيرة.. فكونوا زبيريين إذا اختلطت الأصوات، أصغوا لصوت النبوة في أعماق ضمائركم، وقفوا حيث وقف الزبير، حين تذكر الحديث وانحاز للبصيرة بدل الحماسة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
حتى نتجنب مصير مُجير أم عامر
لم يكن القصف الأميركي للمواقع النووية الإيرانية أمرًا مفاجئًا لكل ذي بصيرة. في مؤتمره الصحفي صبيحة القصف قال وزير الدفاع الأميركي إن العملية استغرقت شهورًا طويلة من التخطيط والإعداد، وهذا يعني أن قرار القصف كان متخذًا حتى من قبل عودة دونالد ترامب للبيت الأبيض، وأن الغارات الجوية الإسرائيلية على إيران التي سبقت القصف بحوالي أسبوع، لم تكن إلا تمهيدًا ودكًا قويًا للأهداف الإيرانية وافقت عليه واشنطن، بل قل هي التي أمرت به، حتى لا يتخلل القصف ما يضر بترامب كما حدث مع الرئيس الراحل جيمي كارتر إثر فشل عملية "مخلب النسر" في صحراء لوط الإيرانية التي أمر بها كارتر لتخليص الرهائن المحتجزين في السفارة الأميركية بطهران في أبريل/ نيسان عام 1980. أما وقد تم وقف إطلاق النار فهل يصمد؟ أم إن واشنطن وحلفاءها الغربيين سيطالبون إيران بأمور جديدة يرقى القبول بها إلى مستويات الاستسلام والرضوخ، وأولها العودة عن قرار وقف عمليات التفتيش على المنشآت النووية الذي أعلنه مجلس الشورى الإيراني مشروعَ قرار، وقالت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إنها لن تقبل به. وقد يكون هذا هو الذريعة لمطالب أخرى ربما تصل حد المطالبة بتسليم البرنامج النووي برمته، كما طالب وزير الدفاع البريطاني، أو ربما يطالبون بنسفه من قواعده، وكذلك تفكيك برنامج الصواريخ الإيرانية. لا أريد أن أخوض في المآلات النهائية، فثمة أسئلة كثيرة تطرحها الأقلام والشاشات، وكل كاتب ومتحدث يجيب وكأنه من أصحاب القرار، أو المطلعين على خفايا الأمور. لم يعد أحد يتحدث عن غزة ودمائها تهرق أغزر من ذي قبل، الكل يخوض في مآلات الحرب على إيران، ومعظم ما يطرح ليس إلا تكهنًا لا يقارب اليقين كثيرًا. وفي غمرة التكهن عادة ما نغفل عن تفاصيل هامة، لو تنبّهنا لها لاستخلصنا منها عبرًا ودروسًا سنكون- نحن العربَ والمسلمين- بحاجة ماسّة لها في قادم الأيام والسنين، حتى لا نؤخذ على حين غرة، وتنزل بنا كالصاعقة الصدمات الإسرائيلية- الغربية المفاجئة. الاختراق الأمني الاستخباراتي طالبت إيران مواطنيها المتعاونين مع المخابرات الإسرائيلية "الموساد" بتسليم مسيّراتهم وأجهزتهم التي استعملوها في ضرب الأهداف في طهران وغيرها من المدن مقابل العفو. وأعلنت كذلك مرات عديدة أنها اعتقلت مئات من هؤلاء الجواسيس، كما كشفت سيارة نقل كانت محملة بشحنة من تلك المسيرات في طهران، بل قالت أنباء إن بعض مَن اغتيلوا من العسكريين والعلماء قتلوا برصاص الجواسيس في مساكنهم أو أماكن عملهم، وما تزال إسرائيل تعلن عن اغتيل قادة آخرين. وأعلنت السلطات الإيرانية كذلك اكتشاف ورشٍ لتجميع المسيرات وتصنيعها. ولا يكاد المرء يصدق هذا لولا اعتراف الإيرانيين أنفسهم! واضح أن هذا الاختراق الأمني مضى عليه سنوات طويلة من التخطيط والإعداد للقوة البشرية اللازمة من الشارع الإيراني ومن داخل أجهزته الأمنية، وكذلك لتوفير الأدوات وقواعد البيانات والمعلومات. ومن دون ذلك ما كانت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والغربية لأن تفاجئ القيادات الإيرانية العليا بتلك الاغتيالات المؤلمة. لماذا حدث ذلك؟ الأسباب عديدة إن خضنا فيها من دون معلومات مؤكدة فقد ننزلق في مربع التكهن، ولكن ربما يكون من المفيد العودة إلى واقع العلاقات بين إسرائيل وإيران زمن الشاه ونظامه الإمبراطوري. اعترفت إيران بإسرائيل عام 1953 إثر عودة الشاه للحكم بعد انقلاب "مصدق"، وبلغت العلاقات بين الجانبين مراقيَ عالية، وخاصة في التعاون الأمني بين جهاز المخابرات الإيرانية آنذاك "السافاك"، و"الموساد" الإسرائيلي. ألقى الشاه آنذاك بكل أوراقه في السلة الأميركية الإسرائيلية، وكان الموساد يسرح ويمرح في كل إيران إلى أن أطاحت الثورة بالشاه عام 1979. ويبدو أن النظام الجديد في إيران انشغل كثيرًا بامتداداته في الإقليم من حوله، خدمة لمصالحه السياسية والأيديولوجية والمذهبية، ناهيك عن انشغاله بأوضاعه الداخلية، والحصار الذي فرض عليه، والحرب التي كانت بعض تصرفاته المعلنة سببًا في اندلاعها مع العراق، ليجد اليوم مدنه ساحة حرب تشنها إسرائيل وعملاؤها الكُثر في الداخل الإيراني. كما أن التفوق التكنولوجي الإسرائيلي عامل مهم آخر في تحقيق تلك الاختراقات الأمنية ليس لإيران فحسب، بل لكل المحيط من حولها، ولمن هم أبعد من الدول الإسلامية التي تتوجس منها إسرائيل مثل باكستان، ولا يستثنى من ذلك إلا تركيا بجهازها الاستخباري المتمرس والقادر على مقارعة الموساد وبتقدمها التكنولوجي المتعاظم سنة بعد أخرى. وربما كان النظام الجديد في إيران قد جنى على نفسه، حين غض الطرف عن وقوع العراق جاره التاريخي والجغرافي في القبضة الأميركية، بعد الإطاحة بالرئيس الراحل صدام حسين، ظنًا منه أن تحقيق بعض المكاسب الطائفية أفضل له من إبعاد "الشيطان الأكبر"، كما كان يسمي أميركا، عن حدود إيران. فأجواء العراق اليوم مفتوحة أمام الطائرات الإسرائيلية، وكأنه لا توجد دولة في العراق تقول لا. رغم كل شيء فلا يمكن لنا أن ننفي أن إيران استعادت توازنها بعد اليومين الأوّلين من الحرب، وردت على إسرائيل بضربات مؤلمة كما تألمت هي، وستظل صور الدمار في تل أبيب ماثلة في الأذهان باعتبارها المرة الأولى التي تمتلئ فيها بعض شوارع المدينة وشوارع غيرها من التجمعات الاستيطانية بالردم والخراب، فكل حروب العرب السابقة لم تسجل لها عدسات الكاميرات مثل ذلك أبدًا. وكيف للمهزوم، حتى قبل أن تبدأ الحرب، أن يفعل ما فعلته صواريخ إيران؟! ماذا عن الساحات العربية؟ هل ساحاتنا العربية مختلفة عن ساحة إيران زمن الشاه وبعد ذلك؟ ألم يضع العرب كلهم تقريبًا كل أوراقهم في السلة الأميركية الغربية زمن الشاه وحتى اليوم؟ لا أحد يستطيع أن ينكر أن أجهزة الاستخبارات العربية تنسق تنسيقًا تامًا مع "السي آي إيه" وتتلقى منها الأوامر والتعليمات. إذن فساحاتنا مفتوحة أمام الأميركيين ثم بالضرورة للموساد تنسيقًا استخباراتيًا وعملياتيًا، خاصة منذ أن أسقط العرب كل الحواجز المادية والنفسية، واعترفوا بإسرائيل وأقاموا معها علاقات تكامل أمنية واقتصادية وسياسية، بدأت تمتد إلى البعد الاجتماعي، فنرى عربًا يتنصلون من عروبتهم ودينهم وينحازون لإسرائيل ويهبون لنجدتها إن ضُيِّقَت عليها السبل. الفرق بين ساحاتنا والساحة الإيرانية أن تلك الساحة انقلبت على إرث الشاه لكنها قَصَّرَتْ في تنظيفه تمامًا لتجد اليوم نفسها مخترقة اختراقًا أمنيًا قلّ نظيره في التاريخ. أما ساحاتنا فهي على حالها منذ أن قامت الدولة العربية الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الآن. اليوم لا يحتاج الموساد، ولا "السي آي إيه"، إلى بذل جهد كبير في ساحاتنا؛ لأن نظائرهما لدينا تقوم بالمهمة على خير وجه، ولأن بعض بلداننا تعتمد في مرافقها الاقتصادية على عمالة وافدة من دول تتعاون أجهزة استخباراتها تعاونًا وثيقًا مع الموساد الإسرائيلي. الاطمئنان للعلاقة مع أميركا والغرب قد يجادل البعض بأن العلاقات التاريخية الطيبة بين معظم بلداننا وبين أميركا ودول الغرب تختلف عن علاقة إيران مع تلك الدول، وعليه فيمكننا الاطمئنان الدائم إلى المستقبل. لكن التاريخ وتقلباته تقول غير ذلك. فكيف يكون وضع تلك العلاقات مع الغرب لو أن دولًا عربية، ومنها حتى تلك التي طبّعت مع إسرائيل تطبيعًا عضويًا، رأت في لحظة فارقة من الزمن أن مصالحها ومستقبلها يستوجب تطوير برنامج صاروخي مثل البرنامج الصاروخي الإيراني، ولا أقول برنامجًا نوويًا كالبرنامج الإيراني، لأن الخيال لا يقبل حدوث هذا من العرب المطبعين، هل تقبل إسرائيل بذلك وتسمح به ومعها الغرب كله؟ والأمر نفسه ينطبق على الدول المسلمة كلها. فهل يسمح لتركيا يومًا بتطوير سلاح نووي مع أنها عضو في حلف شمال الأطلسي، وتاريخ علاقاتها العسكرية مع الغرب ظل حافلًا بالثقة حتى عهد قريب؟ اليوم أصبحت تركيا وباكستان، أكثر من ذي قبل، هدفًا لوسائل الإعلام الغربية تحرض عليهما، وتحذر من التعاون القائم بين البلدين في المجال النووي. وهذا ليس بالأمر الجديد، فنتنياهو قال في مقابلة مع القناة الرابعة عشرة البريطانية عام 2011 إن النظامين في تركيا وباكستان يهددان وجود إسرائيل، كما هو حال إيران، ويجب التصدي لهما لهندسة الشرق الأوسط كما يريد له نتنياهو أن يكون. حتى لا يكون مصيرنا مصير مُجير أم عامر! ومنْ يصنع المعروفَ في غير أهله.. يلاقي الذي لاقَـى مجيرُ أمِّ عامرِ.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
د. عُمر عبد الله
أثبتت الحرب أن الرهان الأميركي-الإسرائيلي على إسقاط إيران وإعادة رسم الشرق الأوسط لم يحقق أهدافه، بل أظهر صمود طهران واستمرار قدرة المقاومة على المواجهة.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
إيران وإسرائيل والشرق الأوسط الجديد
مدخل لا بدّ منه منذ أكثر من أربعة عقود، وتحديدًا بعد قيام "الجمهورية الإسلامية" في إيران بقيادة آية الله الخميني وانتهاء حكم الشاه، بدأت ملامح سياسة جديدة في التبلور. إذ سرعان ما أعلن الخميني، في أكثر من مناسبة، أن "إسرائيل" تُعدّ غدة سرطانية في قلب العالم الإسلامي، ولا بدّ من استئصالها. وكانت أولى خطوات تغيير السياسات هي تحويل السفارة الإسرائيلية في طهران إلى سفارة لفلسطين، وتسليمها إلى الراحل ياسر عرفات. وهذا يشير، بغض النظر عن أي تحليلات حول نوايا الجمهورية الإسلامية، إلى أنّ لفلسطين حضورًا قويًا في السياسة الإيرانية. ولم يتوقف الأمر لإثبات ذلك عند الشعارات، فقد شرعت الجمهورية الإسلامية منذ أواخر السبعينيات في بناء علاقات مع حركات التحرر الفلسطينية، بما في ذلك حركة فتح بقيادة ياسر عرفات. وقد شهدت شوارع طهران حينها أضخم التظاهرات المؤيدة لفلسطين خلال زيارة عرفات. وتطوّرت شبكة العلاقات بين الجمهورية الإسلامية وحركات التحرر الفلسطينية تدريجيًا لتأخذ طابعًا مميزًا، ولا سيما مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي. ولم يكن خافيًا أنّ الجمهورية الإسلامية أصبحت الداعم الرئيسي لحركات المقاومة في فلسطين، وخصوصًا هاتين الحركتين. انطلاقًا من هذا المدخل، يمكن فهم أن علاقة الجمهورية الإيرانية بفلسطين، في عهد الخميني ومن بعده خامنئي، تختلف جذريًا عن علاقتها بفلسطين في عهد الشاه، حين كانت إيران من أبرز الحدائق الخلفية للموساد الإسرائيلي، وعملاء الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط. ويساعدنا هذا المدخل على فهم ما يجري اليوم، وربما ما سيجري مستقبلاً، بين الجمهورية الإسلامية ودولة إسرائيل، باعتبار الأخيرة دولة احتلال لفلسطين، التي تُعدّ أرضًا محتلة يجب تحريرها، حسب العقيدة الإيرانية الراسخة، ولا سيما لدى المرشد الأعلى والحرس الثوري في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. لماذا الحرب على إيران الآن؟ فكرة مهاجمة الجمهورية الإسلامية ليست حديثة العهد. فنتنياهو لم يستيقظ فجأة على حلم قرر إثره مهاجمة إيران. بل إنّه كان يطرح هذه الفكرة منذ ما لا يقل عن خمسة عشر عامًا، محذرًا في كل محفل من أن "إيران قاب قوسين أو أدنى من امتلاك السلاح النووي"، وهو ما اعتُبر في العقل الإسرائيلي التهديد الأكبر لدولة إسرائيل. لكن التردد الإسرائيلي في الإقدام على هذا الهجوم كان نابعًا من القلق من ردّة فعل حلفاء الجمهورية الإسلامية في المنطقة، إذ كان من المحتمل، في حال نشوب حرب، أن تُفتح جبهات عديدة على امتداد ما يسمى بـ"محور المقاومة". فكان التريث، بانتظار الفرصة الأنسب للهجوم على إيران، هو سيدَ الموقف لدى إسرائيل دون أن تتخلى عن طموحاتها في التمدد الإقليمي. إسرائيل والطوفان وعنصر المباغتة! لم يكن سرًا أن كتائب القسام أعلنت مرارًا امتلاكها معلومات استخباراتية، أقرّ بحقيقة مضمونها بعض القادة العسكريين والأمنيين في إسرائيل، تشير إلى أن الاحتلال كان يخطط لشنّ هجوم واسع ومباغت على حركات المقاومة، في محاولة لإضعاف النفوذ الإيراني، يبدأ من غزة، عبر استهداف حركتي حماس والجهاد، والقضاء على قياداتهما. غير أن المقاومة، وخصوصًا حركة حماس، استبقت الهجوم بهجومٍ مفاجئ أسمته "الطوفان"، لا تزال تداعياته ممتدة إلى اليوم. ومع تصاعد الصدمة الإسرائيلية من هذه الضربة، بدأ المشروع الصهيوني يتكشّف علنًا، بإعلان نتنياهو المتكرّر أنه ماضٍ في "تغيير الشرق الأوسط" باتجاه "شرق أوسط جديد". وكان قد كشف ملامحه في كلمته أمام الأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول 2023، قبل "الطوفان" بأسابيع، متحدثًا عن "إسرائيل الكبرى الجديدة". وكانت الولايات المتحدة تقف خلف هذا التوجه، مدعومة ببعض الحلفاء الفاعلين في الإقليم. الشرق الأوسط الجديد! فكرة "الشرق الأوسط الجديد" ليست جديدة. فقد تحدّث عنها شيمون بيريز، رئيس الوزراء السابق لدولة الاحتلال، في كتابه المعروف بهذا الاسم. وكان بيريز يرى أن تحقيق السلام والرخاء الاقتصادي مع الدول المجاورة، وبشكل عام في الإقليم، هو السبيل لتحقيق هذه الرؤية. لكن هذه الفكرة تعثرت لأسباب عدّة، أهمها وجود حركات مقاومة، خصوصًا في فلسطين، التي تبنّت نهج "وحدة الساحات" كإستراتيجية في نضالها ضد الاحتلال. ومع مرور أكثر من قرن على اتفاقية سايكس بيكو، واهتراء أنظمة التجزئة في المنطقة، ظهرت رغبة إسرائيلية قوية في فرض "شرق أوسط جديد" يمنحها قرنًا آخر من السيطرة. ومضى الأمر لتحقيق ذلك فيما يشبه توزيع الأدوار: أميركا تركز على جبهتي أوروبا وروسيا، وتراقب صعود الصين، بينما تتولى إسرائيل مهمة مواجهة حركات المقاومة في المنطقة. لكن السؤال: هل سينجح مشروع الشرق الأوسط الجديد؟ لنجاح هذه الفكرة، لا بد من تحقق أربعة محددات أساسية: وجود رغبة حقيقية لدى أميركا وإسرائيل. توافر أنظمة فاعلة لدعم وتحقيق الفكرة. القضاء على حركات المقاومة في الإقليم، إلى جانب مناصريها. غياب الوعي الشعبي العربي والإسلامي، إضافة إلى دعم الأحرار حول العالم. وعند تأمل هذه المحددات، يتبين أن الأول منها فقط هو المتحقق، أما البقية، وخصوصًا القضاء على المقاومة، فهي مستبعدة. فالمقاومة، رغم كل ما تعرّضت له خلال العامين الماضيين، ما تزال حيّة، وتخوض حرب استنزاف تؤلم الاحتلال. فهل يعقل أن يعجز الاحتلال عن القضاء على مقاومة صغيرة في غزة، ثم ينجح في القضاء على دولة بحجم إيران؟ هل ستنتهي إيران الآن؟ الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم يكن أبدًا بعيدًا عن مشروع "الشرق الأوسط الجديد" بشكل أو بآخر، فسياساته ساهمت في تشكيل مناخ وظروف المنطقة.. فقد اختار الانسحاب من الاتفاق النووي في ولايته الأولى، وكان أبرز الداعمين لإسرائيل، بنقل سفارة بلاده إلى القدس، والاعتراف بالجولان كجزء من إسرائيل. ولكنه في ذات الوقت، رفع في الأشهر الأخيرة شعار الدبلوماسية والحوار مع الجمهورية الإسلامية ووضع سقفًا زمنيًا مدته شهران للوصول إلى اتفاق على المقاس والمعايير الأميركية. وفيما خفي من الصورة، ظل التنسيق بين واشنطن وتل أبيب قائمًا بشأن مفاوضات إيران، التي اعتُقد أنها ستكون هدفًا سهلًا يمكن الانتهاء منه خلال أيام قلائل، كما حدث مع حزب الله في لبنان. لكن هذا التصور أغفل أن إيران، التي ترفع شعار تدمير إسرائيل منذ أكثر من أربعة عقود، لا يمكن أن تكون نائمة طوال تلك العقود لتصبح "لقمة سائغة". ومع انقضاء المهلة التي منحها ترامب، وجّهت إسرائيل ضربة مباغتة ومكلفة لإيران، كشفت عن اختراق أمني خطير داخل الجمهورية الإسلامية. لكنها، رغم ذلك، استوعبت الضربة سريعًا وبدأت بالرد، فوجدت إسرائيل نفسها في مأزِق، طالبةً التدخل الأميركي. ودخلت أميركا الحرب! اندلعت الحرب، وبدأت جولات قتالية متعددة بين إسرائيل والجمهورية الإسلامية. لم تستطع إسرائيل تنفيذ ضربة فعّالة على المنشآت النووية الإيرانية دون دعم مباشر من الولايات المتحدة، التي لم تكن غائبة منذ البداية، بل شاركت سياسيًا، إعلاميًا، أمنيًا، ولوجيستيًا. وتحقّق التدخل العسكري المباشر، الذي سبقته خدعة "مهلة الأسبوعين". فجاءت الضربة المفاجئة فجر السبت على مفاعلات فوردو ونطنز وأصفهان، والتي تنوّعت التقارير بشأن مدى الضرر الفعلي الذي أصابها. ورد ترامب بالدعوة للسلام والعودة إلى طاولة المفاوضات، على طريقة: "السلام بالقوة". وردّت إيران مساء الاثنين بقصف محدود على قاعدة العديد في قطر، التي كانت قد أُخليت مسبقًا. لكن إيران لم توسّع نطاق ردّها ضد أميركا، وركّزت في المقابل على مواصلة قصف إسرائيل، دون أن تلمّح إلى نية وقف الحرب. وهنا، أتصور أن هناك مجموعة من الأسباب جعلت الإيراني لا يتجه إلى توسيع مساحة الرد على القواعد الأميركية في المنطقة، وهذه الأسباب هي: عدم رغبة إيران في الدخول في مواجهة مباشرة مع أميركا، لإدراكها حجم الرد المحتمل. عدم استعداد القوى الصديقة لإيران لخوض مواجهة مع أميركا، مما أضعف موقفها. تراجع قدرة بعض حلفاء إيران، الذين كانت تعوّل عليهم. اختراق أمني محتمل داخل إيران حال دون اتخاذ قرار بالمواجهة المفتوحة. صباح الثلاثاء، أعلنت قطر عن وساطة بطلب أميركي، للضغط على إيران لوقف إطلاق النار مع إسرائيل. وأظن هنا أن إسرائيل بحاجة أكبر من إيران لوقف إطلاق النار، لأسباب منها: عجز إسرائيل عن تحمل خسائر الضربات الإيرانية المتكررة. عدم رغبتها في خوض حرب طويلة، بينما تقول إيران إنها مستعدة لها. بقيت نقطة ما بعد وقف إطلاق النار، فهل سيذهب الإيرانيون للمفاوضات أم لا؟ من المرجّح أن إيران ستقبل الذهاب إلى المفاوضات، ولكن ليس بمنطق المستسلم كما أراد ترامب، بل كطرف يشعر بالنصر لصموده في وجه إسرائيل وأميركا معًا، وأفشل محاولة إسقاط النظام عبر خلايا داخلية دُرّبت لهذا الغرض. ستتفاوض إيران، لكنها ستُبقي طلقة رصاص جاهزة في مسدسها، تحسّبًا لأي تصعيد تقوم به دولة الاحتلال. هذه جولة من جولات الصراع بين دولة الاحتلال والجمهورية الإسلامية، وهي ليست نهاية الحرب. بل سيتبعها جولات عديدة قادمة، لا أظن أن المسافات ستطول بينها. وهي جولات تهدف إلى مشاغلة العدو، والوقوف في وجه فكرة الشرق الأوسط الجديد.