logo
التداول على مناهضة الظلم سُنَّةٌ كونية

التداول على مناهضة الظلم سُنَّةٌ كونية

إيطاليا تلغراف٣٠-٠٣-٢٠٢٥

نشر في 30 مارس 2025 الساعة 19 و 15 دقيقة
إيطاليا تلغراف
فؤاد هراجة
كاتب وباحث في الفلسفة السياسية والأخلاق
لم يخلُ تاريخ البشرية من تدافع بين العدل والظلم، والصلاح والفساد، والحق والباطل…، تصحيحا وتقويما وتجاوزا لسلوك هابيل الذي تنازل عن حقه في الحياة وشجع قابيل على قتله عندما قال «لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ»، منذ ذلك الحين رسخ في الوعي البشري واجب الإنسان في حماية نفسه من الظلم، وواجب الجماعة الإنسانية في دفع الفساد والطغيان وكل أشكال الباطل تفاديا لهلاكها.
في هذا السياق راكمت البشرية عبر تاريخها أنماطا متعددة من الأفكار والنظريات والاستراتيجيات في مجابهتها للظلم، إلى درجة أن التاريخ شهد في العديد من محطاته الكبرى، تدافع قوة ظالمة مع قوة ظالمة أخرى في غياب أي قوة تمثل الحق؛ ولنتأمل عبارة «الناس» في قوله تعالى: 'وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ' عموم الناس دون تخصيص لفئة بعينها، ما يعني أن الله سبحانه لم يحصر فعل التدافع من أجل صلاح الأرض على عباده المؤمنين، بل جعله فعلا متداولا بين كل الناس بغض النظر عن معتقداتهم وأفكارهم ومواقعهم الاجتماعية. في خصم هذه السيرورة التي شهدتها الجامعة البشرية، جاءت بعثة الأنبياء، وظهور المصلحين، وبروز المُنَظِّرِين، ومن ثم تَشَكُّل فئات إنسانية تحمل أفكارا ومعتقات وتطلعات لدفع الفساد ومدافعة الظلم والاستعلاء والاستكبار.
لم تكن تجارب البشرية في التدافع والمدافعة جُزُرا منفصلة عن بعضها البعض وكأنها دوائر لا تقاطع بينها، كما لم تكن عبارة عن قطائع اجتماعية تبدأ فيها كل تجربة من نقطة الصفر، بل إن كل التجارب التي خاضتها البشرية في سياق محاربة الظلم والفساد كانت ولازالت تندرج ضمن دائرة المعرفة التي بُنِيَ مسارها الإبستيمي على المراكمة والتعديل والتجاوز والتطوير. على هذا الأساس، نجد في كل مرحلة من مراحل التاريخ معتقدات ما أو نظريات ما أو مسارات أيديولوجية ما هي السائد والقائد لعملية الإصلاح والتغيير. ففي التاريخ القديم، نذكر على سبيل المثال دور الأنبياء ورسالاتهم في مواجهة النمرودية والفرعونية والقارونية والسامرية والجاهلية…، وفي التاريخ الحديث نذكر كيف تمكنت فكرة الحداثة من تجاوز الإكليروس الكنسي وإقطاع النبلاء الذين أعطبا العقل وعطلا آلة العلم، وفي التاريخ المعاصر رأينا كيف تمكنت البروتستانتية من خلال الإصلاح الديني الذي شمل العقائد الكاثوليكية والأرتدوكسية من نقل العالم الغربي إلى حالة جديدة من الليبرالية، ثم عاينا كيف تمكنت الماركسية من مجابهة التوحش اللبرالي الذي حَوَّلَ الإنسان إلى مجرد آلة لا تحسن سوى الإنتاج والاستهلاك دون أي وعي بمدى استغلال هذا الانسان، وغمطه فائض قيمة عمله، وحقه في امتلاك وسائل إنتاجه وتمتعه بعدالة توزيع الثروات. في كل هذه المراحل الكبرى وغيرها، كان رواد مناهظة الظلم يستثمرون تجارب سابقيهم لتطوير أساليب الممانعة، تماما كما يستثمر الظالمون تجارب سابقيهم لتطوير آليات الظلم.
وتبقى فلس.طين الجغرافيا التي شهدت وراكمت معظم تجارب التدافع بين الحق والباطل منذ التاريخ القديم حتى الآن؛ ففي تاريخنا المعاصر تداول للدفاع عن حق شعبها في الحرية والسلم والاستقرار معظم المعتقدات الدينية والتوجهات الإيديولوجية، حيث كان ولازال المناخ العام للصراع في العالم هو الذي يحدد أطراف الصراع.
على ذلك، لما كان الكيان الصهيو.ني مدعوما بالغرب اللبرالي المتوحش دون قيد أو شرط، تلونت المقا.ومة لعقود من النصف الثاني من القرن العشرين بالمد اليساري الوطني، وكان المعسكر الشرقي والدول الداعمة له أكثر من يحتضن رموز المقاومة. لكن مع انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين، ودخول العالم مرحلة القطبية الواحدة، وأمام تصاعد المد الإسلامي الذي تغذى من نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية، وتصاعد الحركات الإسلامية وما حققته من نجاحات على عدة مستويات سياسية واجتماعية وفكرية، انتقلت ريادة المقا.ومة الفلسطينية للحركات الإسلامية الوطنية خاصة مع منعطف أوسلو التاريخي الذي زج بمنظمة التحرير الفلس.طينيه في دوامة التنازلات وحولها من منظمة مقا.وِمة إلى شرطة حراسة لدى المحتل.
في هذا المسار التاريخي للتدافع مع الظلم والفساد، تم التداول على ريادة المقا.ومة الفلس.طينية، حيث كانت كل الحركات المقا.وِمة زمن المد الاشتراكي الشيوعي اليساري مدفوعة بطريقة طبيعية نحو الانخراط في هذه الموجة النضالية والقبول بقادتها واعتبارهم رموزا للتدافع والمقا.ومة.
ولأن دوام الحال من المحال، فإن أي تغيير يقع في العالم ينعكس سلبا أو إيجابا على القضية الفلس.طينية التي تشهد اليوم حمل مشعل مقاومتها من قِبَلِ حركة المقا.ومة الإسلامية، وهذا لا ينفي غياب الفصائل الفلسطينية الأخرى من توجهات سياسية مختلفة، وإنما يشير إلى قطب رحى المقاومة وعمادها الذي تقوم عليه خيمتها.
إن الهدف من عرض هذه المقاربة التاريخية في التدافع بين الحق والباطل والعدل والظلم والصلاح والفساد…، هو التأكيد على قاعدة التداول بين فئات الناس داخل الجامعة البشرية، وحمل كل فئة مشعل المدافعة من فئة سبقتها بعد دخولها حالة من الضعف والتآكل. هذا التداول التدافعي يتسم بمراكمة التجارب، والبناء على كل التجارب البشرية سواء الناجحة أو الفاشلة، واستثمار هذه التجارب لتطوير أساليب المقاومة والتدافع، بالتالي فإن عقلاء التغيير الساعين إلى مقام.ومة الظلم والفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والأخلاقي…، لا يشترطون لون من يقود التغيير بل يسندون ويدعمون القوة الفاعلة في التغيير والفاعلة في التدافع مع الباطل والظلم والفساد. فلا يمكن مثلا اليوم، أن نرفض خيارات المقا.ومة الفلس.طينية لا لشيء إلا لكونها إسلامية، أو أن نرفض التغيير في بلداننا العربية لا لشيء إلا لأن هذا التغيير سيسوق التيار الإسلامي إلى السلطة. إن ركوب هذه العقلية يعني أن الفاعل السياسي إما أنه لا يفقه سنن التاريخ ويحاول السباحة ضد مسارها، أو أن هذا الفاعل لتعصبه الإيديولوجي يفضل الاستبداد والفساد على أن يضع يده في من يعتبره عدوه الاستراتيجي.
إن المرحلة الدقيقة التي تعيشها القضية الفلس.طينية خاصة والمنطقة العربية والإسلامية عامة، تقتضي من الفاعلين السياسيين الراغبين في التغيير وتقويض دعائم الاستبداد والفساد ما يلي:
– التكتل حول القوة المجتمعية والسياسية التي أفرزها المسار التاريخي للتدافع.
– جعل هذه القوة المجتمعية والسياسية قاطرة للتغيير بمنحها مشروعية القيادة والتفاوض تماما كما هو الحال الذي أفرزه واقع المقا.ومة مع ح.م.ا.س في غ.ز.ة.
– بناء هذا التكتل على ميثاق يضمن حق الجميع في الوجود والفعل السياسي، بعيدا عن المغالبة بين حلفاء التغيير.
– تبني مطالب انتقالية محددة ومشتركة تتجاوز الخلافات الإيديولوجية من شأنها أن ترجح قوة التدافع مع قوى الاستبداد والفساد.
– وضع خارطة طريق للتغيير بمراحله الثلاث، قبل وأثناء وبعد تقويض أجهزة الاستبداد، والرفع من منسوب الثقة عبر المرونة في التعامل مع كل العقبات.
إن تحقيق هذا المسعى يتطلب:
أولا، وعيا عميقا بسنن التاريخ التي لا تحابي أحد.
ثانيا، تغليبا للمصلحة الوطنية العامة على المصالح الايديولوجية الضيقة.
ثالثا، قبولا بما أفرزه مسار التاريخ من قوى تدافعية، واعتبارها نتيجة طبيعة لعملية الأفول والصعود التي يشهدها التاريخ.
رابعا، استعدادا ذهنيا وقابلية سياسية للاعتراف بإفرازات المسار التاريخي للتدافع.
وخلاصة القول، إن القوى الصاعدة التي انتدبتها سنن التاريخ للتدافع مع الباطل والظلم والفساد يتوجب عليها ألا تلعن من سبقها من قوى التغير أو من تبقى منها، بل عليها أن تعتبر نفسها امتدادا لها ونسلا طبيعيا من نسلها، وأنها ليست بِدْعاً من قوى التغيير والتدافع، وإنما هي حلقة من حلقات التداول التي كتبها الله على الناس. على هذا الأساس يتوجب على القوة النواة التي أفرزها مسار التاريخ التدافعي أن تعي دورها وتستوعب مسؤوليتها التاريخية في جمع كل القوى المناهضة ونَظْمِهَا في عِقْدٍ من شأنه أن يُطَوِّقَ عنق الباطل والظلم والفساد ويَصْرَعُهُ. مهمة تتطلب نَفَساً سياسيا عميقا وقدرة على التنازل والإشراك وحسن توظيف القوى حسب ما تتميز به من تجربة تاريخية في التدافع، وهو مبتغى يتطلب نُخَباً سياسية من الطراز الرفيع، تعرف ماذا تريد، وتعرف كيف تصل إلى ما تريد، وتعي بكل أساليب السياسة الميكافيلية التي تنهجها قوى الظلم والفساد الاستمرار في السلطة. لا مناص إذن من فعل تدافعي جماعي يلتف حول قوة أفرزها مسار التاريخ التدافعي لتحقيق التغيير، وإلا سنكون معولا من معاول الظلم والفساد والاستبداد بتعطيل وظيفتها التاريخية، ولنا في المقا.ومة في فلس.طين خير مثال يحتذى به خاصة في غ.ز.ة حيث تصطف كل الفصائل بكل تلاوينها مع ح.م.ا.س لأنها رأس حربة مقا.ومة الاحلال الصهيو.ني وحلفائه في الغرب.
***********************
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف. التداول على مناهضة الظلم سُنَّةٌ كونيةفؤاد هراجة

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

رئيس مجلس المستشارين محمد ولد الرشيد يجري مباحثات مع رئيس مجلس النواب البحريني و رئيس برلمان مقدونيا الشمالية
رئيس مجلس المستشارين محمد ولد الرشيد يجري مباحثات مع رئيس مجلس النواب البحريني و رئيس برلمان مقدونيا الشمالية

حدث كم

timeمنذ 13 ساعات

  • حدث كم

رئيس مجلس المستشارين محمد ولد الرشيد يجري مباحثات مع رئيس مجلس النواب البحريني و رئيس برلمان مقدونيا الشمالية

اجرى رئيس مجلس المستشارين، السيد محمد ولد الرشيد، يومه الجمعة 23 ماي 2025، محادثات مع السيد أحمد بن سلمان المسلم رئيس مجلس النواب بمملكة البحرين الشقيقة. وخلال هذا اللقاء الذي جرى بمناسبة انعقاد الدورة الثالثة من منتدى مراكش الاقتصادي البرلماني للمنطقة الأورومتوسطية والخليج بمراكش تحت الرعاية الملكية السامية،تم التأكيد على متانة العلاقات الأخوية التي تجمع بين المملكة المغربية ومملكة البحرين تحت القيادة الرشيدة لعاهلي البلدين جلالة الملك محمد السادس وأخيه جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة حفظهما الله. و جدد الطرفان إرادتهما المشتركة وعزمهما الأكيد على تعزيز التعاون البرلماني الثنائي والمتعدد الأطراف ، وتكثيف تبادل التجارب والخبرات بين المؤسستين التشريعيتين بالبلدين الشقيقتين. كما تم التطرق أيضا إلى عدد من القضايا ذات الاهتمام المشترك المسجلة على جدول أعمال المنتدى ، ولا سيما التحديات الاقتصادية والتنموية التي تواجه المنطقتين المتوسطة والخليجية ، ودور البرلمانات الوطنية والمنظمات البرلمانية في مواكبة التحولات الكبرى على المستويين الإقليمي والدولي، من خلال تطوير التشريعات والأطر التنظيمية والمؤسساتية، وتشجيع المبادرات الهادفة، وتعزيز التواصل بين الفاعلين البرلمانيين والاقتصاديين وممثلين الأوساط الأكاديمية والمجتمع المدني. ذوبالمناسبة ايضا، اجرى السيد رئيس مجلس المستشارين، محادثات مع رئيس برلمان جمهورية مقدونيا الشمالية، السيد أفربم غاشي. وقد شكل هذا اللقاء فرصة للتأكيد على أهمية تعزيز العلاقات البرلمانية بين المغرب وجمهورية مقدونيا الشمالية، بما يسهم في تطوير سبل التعاون الثنائي بين البلدين في مختلف المجالات ذات الاهتمام المشترك، لا سيما في ظل تفاقم التحديات التي تواجه المنطقة الأورومتوسطية والعالم. وأشاد الجانبان أيضا بمبادرة مجلس المستشارين في تنظيم هذا المنتدى الذي أضحى، مع توالي السنوات، منصة برلمانية رفيعة المستوى لتعزيز الحوار والتنسيق بين البرلمانات الوطنية والإقليمية في المنطقتين الأورو-متوسطية والخليجية خدمة للسلم والاستقرار والتنمية المستدامة. س.ح/ح

حكيم الجزائر محمد البشير الإبراهيمي في الذكرى الستين لوفاته
حكيم الجزائر محمد البشير الإبراهيمي في الذكرى الستين لوفاته

الشروق

timeمنذ 16 ساعات

  • الشروق

حكيم الجزائر محمد البشير الإبراهيمي في الذكرى الستين لوفاته

إي والله، حكيم بأتمّ معنى الكلمة، وقد عقّب هو نفسه على من قال عنه 'علّامة الجزائر'، بقوله 'أنا علّامة الجزائر، وعلَامة رفع لا علامة خفض'… وآية حكمته ما قرأناه له فيما وصل إلينا من آثاره التي نُشرت في خمس مجلدات، بإشراف ابنه الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، وهي ما بقي مما كتب وما وصلنا من آثار حفظتها لنا الجرائد والمجلات… أما ما ألّف من كتب في فنون متنوعة فكثير، ولكنه ضاع مع ما ضاع من رسائل ومقالات أخرى وأحاديث إذاعية في العالم الإسلامي؛ بل ومقابلات مع الكثير من رجال الفكر والدعوة في العالم الإسلامي -بكل أسف- ومنها لقاؤه مع الأستاذ أبو الأعلى المودودي في زيارته لباكستان. قال لي الأستاذ محمد الهادي الحسني يوما 'عزمتُ على ألا أقرأ لأحد بعد اليوم إلا للإبراهيمي'، وحق له ذلك؛ لأن من يقرأ للإبراهيمي، يشعر أنه يقرأ كلاما غير عادي: مفردات وأسلوب وجمل متجانسة، لا تشعر بمفردة مقحمة في غير سياقها الذي وضعت فيه؛ بل لا يشعر بتكلّف أو تصنّع في شعر أو نثر أو سجع أو تصنّع في إيراد عبارات من مفردات عربية قديمة يريد الاستعلاء بها عن الناس… بل ويشعر من يقرأ للإبراهيمي، أنه يقرأ لأديب من الطراز العالي، حتى أن إعلام العراقيين استقبلوه في زيارته لبغداد في إطار الترويج للثورة بعناوين عريضة منها 'أمير البيان'، التي لم يعرف بها إلا شكيب أرسلان، ويقرأ لفيلسوف وعالم في تربية وعالم في الاجتماع ومؤرخ… وكل ذلك يكتب فيه كتابة المتخصِّص وليس ككاتب المقال الملزم بتسليمه كل أسبوع… وفي كل ذلك من الحكمة الكثير التي لم يؤتها الكثير من الناس. يرى الشيخ الإبراهيمي أن الشعب الجزائري قد استولى عليه استعماران: الاستعمار الغربي الفرنسي الذي حاول تجريده من إنسانيته بالتجهيل والتفقير والاستيلاء على مقدراته واستعباده وتجريده من مقوماته الثقافية والدينية، والاستعمار الذي تمثله الطرق الصوفية المنحرفة التي استولت على عقول الناس بالتدين المغشوش المختلط بالخرافة والشعوذة والبدعة. الشيخ محمد البشير الإبراهيمي لمن لا يعرفه، واحد من رجال الإصلاح في الجزائر ورئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بعد ابن باديس، تُوفي في 20 ماي 1965، أي قبل شهر من الانقلاب على خصمه السياسي أحمد بن بلة… وقد عاش 76 سنة بين الحجاز والشام والجزائر، كما عاش في الجزائر بين راس الواد ببرج بوعريريج وسطيف شرقا وتلمسان غربا وآفلو جنوبا… طالبا للعلم ومعلما ومدرِّسا ومنفيا وداعية إلى الله رفقة إخوانه من رجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. وإثباتا لدعوى حكمة الإبراهيمي اكتفي بهذه المناسبة بعرض ثلاثة نماذج من الحِكم البليغة التي زين بها مقالاته… وهي من الحكم التي تعدّ من مفردات الأصول في منهجية الفعل الإصلاحي عموما، وقد تبنتها جمعية العلماء ونسبتها للشيخ الإبراهيمي، لأنه هو الذي عبّر عنها في النصوص التي ننقلها عنه، ومن ناحية أخرى هو مع ابن باديس هما عمدة الجمعية والعمل الإصلاحي عموما في الجزائر، من حيث أنهما كانا يخططان وينفذان وفق رُؤى واضحة بالنسبة إليهما تمام الوضوح، ولذلك سهُل عليهما التعبير عنها بسهولة ويسر ودقة تامة. الحكمة الأولى: كشف عنها الإبراهيمي في مقال له عن بذور الأولى لتأسيس جمعية العلماء في الجزائر، وذلك في سنة 1913 عندما زاره ابن باديس في المدينة المنورة، وكان عمره يومها 24 سنة، وقد عكفا على مناقشة موضوع النهوض بالجزائر والكيفية المناسبة لذلك فقال 'كانت الطريقة التي اتفقنا عليها أنا وابن باديس في اجتماعنا بالمدينة في تربية النشء هي: ألا نتوسَّع له في العلم، وإنما نربّيه على فكرة صحيحة ولو مع علم قليل، فتمّت لنا هذه التجربة في الجيش الذي أعددناه من تلامذتنا'. آثار محمد البشير الإبراهيمي 5/280. ولبُّ الحكمة في هذه الفقرة هي قوله: 'فكرة صحيحة ولو مع علم قليل'، على خلاف ما يعتقد الناس في الغالب، من أن الإكثار من العلم هو المطلوب والذي ينبغي الاهتمام به، فقد اختار الرجلان التركيز على 'الفكرة الصحيحة' وليس على الإكثار من العلم؛ لأن العلم القليل مع الفكرة الصحيحة التي تعني صفاء الذهن وخلوَّ العقل من الخرافة والشعوذة والبدعة وانحراف السلوك، والخوف والجبن والخور، أولى من كثرة العلم مع وجود الخرافة والشعوذة والبدعة وانحراف السلوك؛ لأن صفاء الذهن واستقامة العقل ينمّيان العلم القليل ويزكيانه، أما الإكثار من العلم لا يقوى على تقويم الذهن وإخلاء العقل وتصفيته من الخرافة والشعوذة والبدعة. يرى الشيخ الإبراهيمي أن الشعب الجزائري قد استولى عليه استعماران: الاستعمار الغربي الفرنسي الذي حاول تجريده من إنسانيته بالتجهيل والتفقير والاستيلاء على مقدراته واستعباده وتجريده من مقوماته الثقافية والدينية، والاستعمار الذي تمثله الطرق الصوفية المنحرفة التي استولت على عقول الناس بالتدين المغشوش المختلط بالخرافة والشعوذة والبدعة. ولتحرير المجتمع من هذين الاستعمارين لا بد من بناء العقل وتمجيده، وتصفية الذهن وتنقيته من كل ما علق به مما يخالف صحيح الوحي وصريح العقل السليم. وبالفعل فقد عاد ابن باديس في ذلك العام 1913 وشرع في تنفيذ الخطة في جامع سيدي قموش والجامع الأخضر بقسنطينة، ثم لحق به الشيخ البشير بعد نحو سبع سنوات ليسير على النهج نفسه، ثم لحق بهم خلقٌ كثير من علماء الجزائر من داخل البلاد ومن القادمين من خارجها، وواصل الجميع العملية البنائية وفق تلك المنهجية المتفق عليها: 'فكرة صحيحة ولو مع علم قليل'… لأن الفكرة الصحيحة تجلب العلم وتُكثره، أما العلم بمفرده بكثرته فلا يقوى على مقارعة الانحرافات العقدية البدعية والسلوكية، ولذلك وجدنا علماء كبارا ولكنهم خرافيون وبدعيون بل ومتآمرون مع الطواغيت على الشعوب المغبونة. الحكمة الثانية: هي العمل على تحرير العقول، وفق المنهج والعبارة ذاتها التي وضعها الإبراهيمي في ذلك قوله: 'محال أن يتحرّر بدَنٌ يحمل عقلًا عبدًا'، (آثار الشيخ الإبراهيمي 3/56) ذلك أن العبد لا يمكن أن يكون إلا عبدا. والعبد ليس العبد المملوك فحسب، وإنما هو كل إنسان لا يملك عقلا حرّا يتفاعل مع الوجود وفق قناعاته ومقرراته النابعة عنها. ومن فقد هذا المستوى من الحرية يعدّ عبدا بسبب فقدانه الحرية العقلية، واعتبر الإبراهيمي ذلك من جوهر ما يعمل عليه العلماء في نشاطاتهم الإصلاحية بل اعتبر ما تم في الجزائر من ذلك 'من صنع يدها، لا فضل فيه لأحد سواها، وأوّل يدٍ بيضاء لها في هذا الباب هو تحرير العقول من الأوهام والضلالات في الدين والدنيا، وتحرير النفوس من تأليه الأهواء والرجال، وإن تحرير العقول لأساسٌ لتحرير الأبدان، وأصْلٌ له، ومحال أن يتحرّر بدَنٌ يحمل عقلًا عبدًا'، وجميع توجيهات الشيخ التربوية داخل الجمعية وخارجها يصبّ في هذا الاتجاه. يقول أحمد طالب الإبراهيمي: 'أنني عندما نجحت في امتحان البكالوريا سنة 1949، استشرتُ والدي عن نوعية الدراسة العليا التي ينصحني بإتّباعها، فقال لي رحمه الله: اختر ما شئت، شريطة أن تمارس مهنة حرة، ألا تصبح موظفا عند الحكومة الفرنسية'. حتى لا يستعبدك أحد ويضغط عليك بالوظيفة والسعي وراء الخبزة. أحمد طالب الإبراهيمي/ آثار محمد البشير الإبراهيمي 1/23. والحرية هي جوهر ما كانت تهدف إليه جمعية العلماء في نشاطاتها التربوية، سواء في الاختيار الأول وهو العمل على 'الفكرة الصحيحة' التي تهتم ببناء العقل وتجريده مما علق به من أدران الخرافة والجهل… أو في التوجيه العامّ المفضي إلى التحرر من ربقة الاستعمار وامتداداته المتنوعة؛ بل إن ابن باديس اعتبر 'المطالبة بالاستقلال' لا يعبِّر حقيقة عن السعي من أجل الحرية؛ لأن الاستقلال نتيجة تتحقق بمقدماتها… أما الاستقلال من حيث هو فتحنّ إليه الدواب، ولا يتحقق بالمطالبة، وإنما يتحقق بالانتزاع، ولا يُنتزع إلا بالنفوس الحرة الأبيّة. الحكمة الثالثة: هي 'فقه الفقه' وذلك في قوله 'إن في الفقه فقهًا لا تصل إليه المدارك القاصرة، وهو لباب الدين، وروح القرآن، وعصارة سنة محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو تفسير أعماله وأقواله وأحواله ومآخذه ومتاركه؛ وهو الذي ورثه عنه أصحابُه وأتباعهم إلى يوم الدين، وهو الذي يسعد المسلمون بفهمه وتطبيقه والعمل به، وهو الذي يجلب لهم عز الدنيا والآخرة، وهو الذي نريد أن نحييه في هذه الأمّة فتحيا به، ونصحّح به عقائدها، ونقوّم به فهومها، فتصحّ عباداتها وأعمالها، فإن العبادات هي أثرُ العقائد، كما أن الأعمال هي أثر الإرادات، وما يُبنى منها على الصحيح يكون صحيحًا، وما يُبنى على الفاسد فهو فاسد' (آثار محمد البشير الإبراهيمي 3/ 191)، وعبارة 'فقه الفقه' التي لم أقف عليها عند أحد ممن قرأتُ لهم، يمكن اعتبارها عنوان 'علم المقاصد'… وذلك هو جوهر التديُّن الذي يريده الله منا، سواء في الأمور معقولة المعنى أو في الأمور التي لا تخضع للعقل، وإنما هي من العبادة التي جاء بها الوحي الصحيح.

النفاثات في العقد
النفاثات في العقد

الشروق

timeمنذ 19 ساعات

  • الشروق

النفاثات في العقد

كل من قرأ كتاب الشيخ أحمد حماني 'الصراع بين السنة والبدعة'، أو كما سماه الراحل أيضا: 'القصة الكاملة للسطو بالإمام الرئيس عبد الحميد بن باديس'، يلاحظ ما بذله رائد النهضة الجزائرية من جهد واجتهاد، لأجل أن يحرر العقول من الخزعبلات، التي عشّشت فيها، وساهم الاستعمار في ترسيخها، من خلال رفع قيمة وسلطة الطرقيين و'المرابطين' كما كانوا يُسمّون في ذاك الزمن التعيس. وبحسب رواية الراحل أحمد حماني، وهو تلميذ الشيخ ابن باديس، فإن رائد النهضة لم يتوقف عند الخطب والكتابة، فكان يطرق أبواب المشعوذين، فإن عجز عن منعهم عن النصب على عامة الناس، استعمل القوة لردعهم، وكان لا يرى أي نهضة ممكنة للأمة من دون أن تُكنس هذه الطائفة من مجتمعنا ويُكنس خصوصا ما عشّش في عقول الناس بأن هؤلاء بإمكانهم الإتيان بالأذى وأيضا بالخير، ويعتبر ذلك شركا يُبعد فاعله عن الإسلام الذي جاءت فرنسا لأجل قبره. يحزّ في النفس أن نقرأ في الصحف عن مشعوذ جمع أموالا قارونية في ظرف وجيز، ويحزّ في النفس أكثر عندما نعلم بأن من ضحاياه أو دعونا نقُل من 'المسلّمين المكتّفين' كل أطياف المجتمع بما في ذلك من حملوا شهادات جامعية، وحتى لا نترك الأمور تسير إلى الاتجاه الخطأ، فإن هذه الحملة التي نظمها بعض الشباب عن حسن نية لأجل تطهير المقابر، يجب أن تتوقف حالا، فمن غير المعقول أن يؤمن هؤلاء بأن الصور التي وُجدت مدسوسة في التراب أو الأقفال والتمائم بإمكانها أن تؤذي آمنا في بيته أو مسالِمة تعيش حياتها في هدوء. قرأنا كل النسخ الأصلية من صحف الشيخ ابن باديس، من 'المنتقد' إلى 'الشهاب'، وكل الافتتاحيات التي كان يتفضل بها الشيخ ابن باديس مع رعيله الفاضل وطائفة من علماء الجمعية الأجلاء، وكانت صحيفة 'الشهاب' تضع ركنا خاصا بالفتاوى يتولى رائد النهضة الإجابة فيه عن تساؤلات أبناء الجزائر منذ قرن من الزمان، فلم تستوقفنا قطّ حكايات عين الحسود والسحر المتمكّن أو الجن الساكن في الأجساد أو الرقية التي يجب أن تنقذ هذا الشعب البائس، الذي تتهاطل عليه الشرور من المسمى 'شمهروش'، حتى إنك تخال السنوات الأخيرة للشيخ ابن باديس كانت منيرة وأسّست لفكر علمي وثوري، أنجب فكر مالك بن نبي وعبد الرحمان شيبان وأحمد زبانة وعبد الحميد مهري والعربي بن مهيدي… أكيد، أن التشوّهات التي تطال أعضاء الموتى، من قطع أصابع وأيدٍ أو دسّ في تراب القبور للصور والمسامير والشعور، هو جريمة يُسأل عنها الفاعلون وحتى مصالح البلدية العاجزة عن حماية ميّت في قبره، لكن التشوّهات التي طالت عقول الأحياء، أكثر إيلاما، فالسحر لا يحقق مراده، وقد قال تعالى: 'ولا يفلح الساحر حيث أتى'، والغيب لا يمتلك مفاتيحَه غيرُ الله، وقد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: 'ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير'، والذين ينظّفون القبور، عليهم أن يقتنعوا بأنهم ينظفونها من الوسخ والرجس، وليس من أذى الناس، وإلا دخلوا دائرة المؤمنين بقوة السحرة.. دائرة الشرك.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store