logo
موريتانيا قلقة بسبب اهتزاز جارتها مالي: فاغنر تخرج والفيلق الروسي يدخل… وتوقعات بانقلاب في باماكو

موريتانيا قلقة بسبب اهتزاز جارتها مالي: فاغنر تخرج والفيلق الروسي يدخل… وتوقعات بانقلاب في باماكو

القدس العربي منذ 5 أيام

نواكشوط – «القدس العربي»: بينما أعلنت مجموعة «فاغنر» الروسية نهاية مهامها رسميًا في مالي، ليشغل «الفيلق الإفريقي» الروسي مكانها، سارع كثيرون لاعتبار ذلك بداية انسحاب روسي من المنطقة، لكنّ الواقع على الأرض يكشف أن الأمر لا يعدو كونه تموضعًا جديدًا أكثر تنظيمًا وعمقًا.
وفي خضم هذا التحول، تبرز موريتانيا جارة مالي الملتصقة كدولة تتابع المشهد بقلق بالغ، مدركةً أن تفاقم الأزمة في مالي لم يعد شأناً داخليًا ماليا صرفًا، بل بات عامل تهديد مباشر على أمنها واستقرارها الحدودي.
من فوضى فاغنر إلى هندسة الفيلق
بعد تمرد قائد فاغنر يفغيني بريغوجين عام 2023، قررت موسكو إعادة صياغة وجودها العسكري في إفريقيا، فأنشأت «الفيلق الإفريقي» كقوة نظامية تحل محل فاغنر.
وتحدثت تقارير ميدانية وثّقت في الأشهر الأخيرة، وصول دبابات T-72B3، وآليات BMP-3، وأكثر من 50 آلية مدرعة إلى مالي، مع نشر نحو 2000 عنصر ضمن هذا التشكيل الجديد، الذي يتمركز في باماكو ومواقع حيوية بالوسط والجنوب.
ويشرف على الفيلق ضباط روس كبار، أبرزهم نائب وزير الدفاع «يونس بك يفكوروف»، في وقت تشعر فيه نواكشوط بالقلق من عسكرة المشهد على حدودها الشرقية، خاصة في ظل غياب حل سياسي حقيقي في باماكو.
أسباب القلق
الحقيقة أن روسيا لم تغادر مالي، بل كثّفت وجودها تحت مظلة رسمية، فالفيلق الإفريقي الذي يضم حتى الآن ما بين 40 إلى 45 ألف عنصر موزعين على خمس دول، صار عنصرًا ثابتًا في معادلة الساحل.
لكن موريتانيا، التي تمسكت منذ البداية بمبدأ الحياد وعدم الزج بجيشها في نزاعات الجوار، تقرأ المشهد من زاوية مختلفة: التدهور الأمني المتسارع في مالي قد ينسف سياسة التوازن التي تنتهجها نواكشوط منذ سنوات.
وفي منطقة لا ترحم المترددين، تدرك موريتانيا أن حدودها مع مالي قد تتحول من مجرد خط جغرافي إلى خط تماس أمني في أية لحظة. فبين فوضى الجماعات المسلحة، وتموضع روسي جديد، وصراع نفوذ دولي يتكثف يوماً بعد يوم، يبقى القلق الموريتاني ليس فقط مبررًا، بل سيبقى إنذارًا مبكرًا لبقية المنطقة.
توجد باماكو اليوم على حافة انقلاب جديد كما هو دأبها دائمًا؛ فالتقدم الجهادي وانهيار تماسك الجيش المالي والصراع بين الفرقاء، كل هذا يضعها مجددًا على حافة انقلاب عسكري.
وتشير التقارير إلى احتمال تحرك من داخل المؤسسة العسكرية، بدعم روسي جزائري، وصمت دولي، ومباركة ضمنية من أطراف أزوادية.
وقد كشف انسحاب قوات «فاغنر» الروسية من مالي عن عمق الأزمة البنيوية التي تعاني منها الدولة المالية، كما سلط الضوء على محدودية فعالية الحلول الأمنية المستوردة؛ فمنذ بداية الاعتماد على هذه المجموعات المسلحة، ساد وهم القدرة على شراء الاستقرار بقوة السلاح، لكن الواقع أثبت أن الجيوش الأجنبية لا تصنع الأمان، ولا الميليشيات قادرة على خلق انسجام وطني في ظل فشل سياسي داخلي ممتد منذ سنوات.
موريتانيا: الحياد الواعي والقرار السيادي
وفي الجهة المقابلة، برزت موريتانيا كنموذج فريد في إدارة العلاقة مع الأزمات الإقليمية، إذ اعتمد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني مقاربة تقوم على الحياد الإيجابي والتمسك الصارم بالقرار السيادي.
وقد رفض الغزواني، وفقًا لمصدر موال له، الانجرار إلى محاور دولية متقلبة، وتجنب الزج بالمؤسسة العسكرية في حرب لا تخدم المصالح الوطنية، مكتفيًا بتأمين الحدود ودعم المدنيين المتضررين إنسانيًا ولوجستيًا.
وقد مكن هذا التوازن بين الحكمة والجاهزية نظام نواكشوط من المحافظة على الاستقرار في محيط مضطرب، مقدمة بذلك تجربة مغايرة لعسكرة الحلول أو الارتهان للفاعلين الدوليين.
أطراف متعددة ومصالح متشابكة
ومن المعلوم أن الوضع في مالي معقد بطبيعته، ويصعب اختزاله في طرفين أو ثلاثة، فالصراع متعدد المستويات ويتداخل فيه المحلي بالإقليمي والدولي.
ومن أبرز اللاعبين في الشأن المالي الحركات الأزوادية ذات النزعة القومية المطالبة بالاستقلال، وهي حركات ليست كلها متطرفة كما يروج لها خصومها، وإن دخل بعضها في تحالفات ظرفية مع تنظيمات متشددة.
ومن اللاعبين المؤثرين في المشهد المالي، الجماعات الجهادية: مثل «المرابطون» و»القاعدة في المغرب الإسلامي» و»داعش»، وحركة «ماسينا»، إلى جانب «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، التي تمثل أبرز مظلة موحدة لهذه التنظيمات.
أما الجيش المالي فهو لاعب آخر في الساحة لكنه يعاني من ضعف ميداني واضح ونقص في المهنية والعقيدة القتالية، فضلاً عن اتهامات بانتهاكات ضد سكان الشمال من العرب والطوارق.
ومن اللاعبين أيضًا الحركات الموالية للجيش وهي، حسب التحريات، أكثر بطشًا وعنصرية، وتُتهم بارتكاب جرائم ضد مكونات سكانية بعينها.
أما القوى الدولية المنحشرة في الشأن المالي فأبرزها فرنسا المنبوذة من النظام المالي الحالي، وروسيا عبر «فاغنر»، وتركيا عبر الطائرات المسيرة والمستشارين، وأحيانًا ألمانيا وأمريكا.
ومن اللاعبين المهربون وتجار السلاح والمخدرات، وهم فاعلون غير تقليديين لكنهم يتحكمون في مفاصل كثيرة من الحياة الاقتصادية والأمنية.
أما الخاسرون المحتملون فهم تركيا التي فقدت رهانها العسكري، والمغرب الذي قد يُقصى من ترتيبات ما بعد فاغنر، بينما تحتل موريتانيا مقعد الطرف الصامت القلق الذي يتبنى سياسة «الانتظار الحذر»، مع أنها تمتلك أدوات نفوذ ناعم مؤثرة في مالي كالروابط الدينية والقبلية.
يقول الإعلامي والمحلل السياسي الموريتاني سلطان ألبان «إن تجربة فاغنر في مالي أثبتت بعد أربع سنوات من التواجد أنها عبء أكثر من كونها حلًا».
وأضاف «رغم ما وفرته «فاغنر» من دعم عسكري ظاهري للنظام الانتقالي، فإن تصاعد العنف وتآكل الثقة في الدولة فاقما الوضع، بل عززا من موقع الجماعات المسلحة التي بدأت تستفيد من دعم قوى دولية مناوئة لروسيا، في إطار ما يشبه حرب الوكالة، كما تشير تقارير عن وجود مدربين أوكران في الشمال المالي».
والواقع أن موسكو قد دفعتها العقوبات الأمريكية، وتصاعد ضغط الحرب في أوكرانيا، إلى إعادة تقييم انتشارها الإفريقي، ما أدى إلى قرار سحب فاغنر من مالي، مع احتمالية إعادة الانتشار في مواقع أخرى أكثر نفعًا وأقل تكلفة».
الخلاصة بين نموذجين
تجد مالي نفسها اليوم في موقع حرج، بعد أن أحرقت جسور التعاون مع فرنسا، وأهملت الوساطات الجزائرية، وخسرت مظلة فاغنر. أما موريتانيا، فقد كسبت بتريثها واحترامها لخصوصيات الداخل، حيث لم تضع بيضها في سلة أي محور خارجي، بل صنعت نموذجًا متزنًا في التعاطي مع أزمات الجوار.
وبينما تخسر باماكو أدواتها الواحدة تلو الأخرى، وتُحاصر شمالًا وجنوبًا، تتقدم نواكشوط بهدوء كقوة استقرار إقليمي، تؤكد أن السيادة لا تُشترى، وأن الحكمة أبلغ من الرصاص.
ومع كل ذلك، فإن انزلاق مالي نحو فوضى جديدة يعني تدفق موجات لاجئين، واحتمال تسلل جماعات مسلحة نحو الحدود، وتحوّل الفضاء الحدودي الموريتاني المالي إلى منطقة اضطراب دائم. وهنا يُطرح السؤال الملحّ: هل حان وقت خروج نواكشوط من مقعد المتفرج إلى دائرة الفعل؟ أم أن الهدوء الموريتاني جزء من خطة أطول نفسًا تفضّل التأني على المغامرة؟

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ماذا وراء تعيين روسيا لـ'جنرال القيامة' على رأس مستشاريها العسكريين بالجزائر؟
ماذا وراء تعيين روسيا لـ'جنرال القيامة' على رأس مستشاريها العسكريين بالجزائر؟

القدس العربي

timeمنذ يوم واحد

  • القدس العربي

ماذا وراء تعيين روسيا لـ'جنرال القيامة' على رأس مستشاريها العسكريين بالجزائر؟

باريس- 'القدس العربي': عيّنت موسكو الجنرال سيرغي سوروفكين، القائد السابق للعمليات العسكرية الروسية في سوريا، وعلى الجبهة الأوكرانية، على رأس المستشارين العسكريين في سفارتها لدى الجزائر، لتعزيز 'الدبلوماسية العسكرية' للكرملين في شمال إفريقيا، وفق ما ذكرت صحيفة 'لوموند' الفرنسية. واشتهر سوروفكين بقلب 'جنرال القيامة' لاستخدام أسلوب الهجمات الجوية الوحشية المكثفة خلال تدخل روسيا في سوريا لدعم نظام بشار الأسد، وكانت له صلات وثيقة بمجموعة فاغنر. وذكرت الصحيفة الفرنسية، أن هذا القائد العسكري الروسي شوهد مؤخرًا في مقبرة عسكرية قرب الجزائر العاصمة، خلال مشاركته في إحياء ذكرى 'الحرب الوطنية العظمى' ضد ألمانيا النازية (1941-1945)، برفقة وفد من البعثة الدبلوماسية الروسية. وقد نُشرت عدة صور له على قناة السفارة الروسية في تطبيق 'تيليغرام' بتاريخ 9 مايو/أيار، حيث ظهر مرتديًا نظارات شمسية وبدلة مدنية فضفاضة، إلى جانب أليكسي سولوماتين، سفير روسيا لدى الجزائر، وفلاديمير تسوكانوف، الملحق العسكري. لا شيء لافت في حضوره بحد ذاته، إذ تشير وسائل الإعلام الروسية إلى أنه اعتاد زيارة الجزائر مرة على الأقل كل عام – ففي عام 2023 زار وهران، وظهر في صورة حتى في مسجد وفي 2024 العاصمة الجزائر،تُشير الصحيفة الفرنسية. لكن 'لوموند' تؤكد أن اللافت هذه المرة، هو أن النص المرافق للصور كشف معلومة مهمة، وهي تعيينه رسميًا كـ'رئيس مجموعة المستشارين العسكريين الروس في الجزائر.. وهكذا، تؤكد السفارة الروسية في هذا البلد المغاربي مهمته الجديدة، وتُبرز في الوقت ذاته التزام موسكو المتزايد تجاه الجزائر، لاسيما من خلال تعزيز حضور مستشاريها العسكريين في هذا البلد'. وتذكّر الصحيفة بأنه بقيادة الجنرال المعروف بلقب 'الجزار'، تم تدمير مدينة ماريوبول الأوكرانية بالكامل بين فبراير/شباط ومايو/أيار عام 2022، على ضفاف بحر آزوف، مما تسبب في مقتل عشرات الآلاف من المدنيين. وتحت قيادته، بدأت القوات الروسية في أوكرانيا بقصف منهجي للبنى التحتية للطاقة، والمستشفيات، والمحطات، والأسواق، والمدارس. وتلفت إلى أنه قد جُرّبت هذه التكتيكات سابقًا في سوريا قبل خمس سنوات، وأثبتت فعاليتها، إذ تمت مكافأة سوروفكين بتعيينه قائدًا للعمليات على الجبهة الأوكرانية في أكتوبر/تشرين الأول عام 2022، في وقت كانت فيه روسيا تعيش انتكاسة عسكرية. ولكن أمام هجوم غير مسبوق من الجيش الأوكراني، اضطر الجنرال إلى تنظيم انسحاب القوات الروسية من منطقة خيرسون، تُذكِّر صحيفة لوموند. وتقول الصحيفة إنه لأسباب غير معروفة تمامًا، تراجع نجمه في سبتمبر/أيلول عام 2023، واختفى اسمه من الهيكل التنظيمي لوزارة الدفاع. ويقول بعض الخبراء العسكريين إنه سقط من الحظوة، رغم أن استقالته لم تُعلن رسميًا. وكان آخر ظهور علني له في روسيا في 23 يونيو/حزيران من نفس العام، حين ظهر في مقطع فيديو نشر على شبكات التواصل، يناشد فيه مؤسس مجموعة فاغنر، يفغيني بريغوجين، بالتراجع عن تمرده، بينما كان الأخير يقود قوة مسلحة تتجه نحو موسكو. وكانت العلاقة بين الرجلين وثيقة. فبفضل دهائه في كسب النفوذ، أنشأ بريغوجين علاقات قوية مع عدد من الضباط المؤثرين لتمثيل مصالح مجموعته لدى وزارة الدفاع. وكان الجنرال سوروفكين، إلى جانب نحو ثلاثين ضابطًا روسيًا رفيعًا، عضوًا بارزًا في فاغنر. ووفقًا لمركز 'دوسيه' المعارض، كان سوروفكين يتمتع بوضع 'شخصية هامة' (VIP) في المجموعة منذ عام 2017، تُشير'لوموند'ً. وبحسب الصحيفة تُعتبر علاقة الجنرال بمؤسس فاغنر، وتبنيه لأساليبه داخل الجيش الروسي – لا سيما تنظيم حملات التجنيد في السجون – نقطة إيجابية بالنسبة للكرملين. يُنظر إلى سوروفكين على أنه الرجل المناسب للمهمة في شمال إفريقيا، كونه متمرسًا في العمليات السرية وغير متحفظ في الوسائل. وترى 'لوموند' أن تعينيه يُجسّد مستوى التزام روسيا في الجزائر، في وقت يسعى فيه رئيسها فلاديمير بوتين، الغاضب من فرنسا، إلى ترسيخ نفوذه في منطقة الساحل والبحر الأبيض المتوسط. وعلى الرغم من أن إعلان تعيينه جاء بشكل غير مباشر عبر السفارة الروسية لدى الجزائر، إلا أنه يعكس بوضوح تصعيدًا في 'الدبلوماسية العسكرية' التي تسعى موسكو إلى فرضها في المنطقة. ووفق الصحيفة الفرنسية فقد يكون من بين أهداف موسكو ممارسة ضغط متزايد، لا سيما في ملف الصحراء الغربية، في إطار سياسة الإزعاج التي يتبعها الرئيس الروسي. ففي حين تدعم الجزائر جبهة البوليساريو، تقف باريس إلى جانب المغرب. ووفقًا لدراسة صادرة عن معهد روبرت لانسنج الأمريكي، 'قد تستخدم روسيا هذا النزاع لتأجيج التوترات بين الرباط والغرب، وتوسيع نفوذها'، محذرة من 'احتمال تقديم مدربين روس دعمًا لقوات الحدود الجزائرية العاملة قرب منطقة النزاع'.

موريتانيا قلقة بسبب اهتزاز جارتها مالي: فاغنر تخرج والفيلق الروسي يدخل… وتوقعات بانقلاب في باماكو
موريتانيا قلقة بسبب اهتزاز جارتها مالي: فاغنر تخرج والفيلق الروسي يدخل… وتوقعات بانقلاب في باماكو

القدس العربي

timeمنذ 5 أيام

  • القدس العربي

موريتانيا قلقة بسبب اهتزاز جارتها مالي: فاغنر تخرج والفيلق الروسي يدخل… وتوقعات بانقلاب في باماكو

نواكشوط – «القدس العربي»: بينما أعلنت مجموعة «فاغنر» الروسية نهاية مهامها رسميًا في مالي، ليشغل «الفيلق الإفريقي» الروسي مكانها، سارع كثيرون لاعتبار ذلك بداية انسحاب روسي من المنطقة، لكنّ الواقع على الأرض يكشف أن الأمر لا يعدو كونه تموضعًا جديدًا أكثر تنظيمًا وعمقًا. وفي خضم هذا التحول، تبرز موريتانيا جارة مالي الملتصقة كدولة تتابع المشهد بقلق بالغ، مدركةً أن تفاقم الأزمة في مالي لم يعد شأناً داخليًا ماليا صرفًا، بل بات عامل تهديد مباشر على أمنها واستقرارها الحدودي. من فوضى فاغنر إلى هندسة الفيلق بعد تمرد قائد فاغنر يفغيني بريغوجين عام 2023، قررت موسكو إعادة صياغة وجودها العسكري في إفريقيا، فأنشأت «الفيلق الإفريقي» كقوة نظامية تحل محل فاغنر. وتحدثت تقارير ميدانية وثّقت في الأشهر الأخيرة، وصول دبابات T-72B3، وآليات BMP-3، وأكثر من 50 آلية مدرعة إلى مالي، مع نشر نحو 2000 عنصر ضمن هذا التشكيل الجديد، الذي يتمركز في باماكو ومواقع حيوية بالوسط والجنوب. ويشرف على الفيلق ضباط روس كبار، أبرزهم نائب وزير الدفاع «يونس بك يفكوروف»، في وقت تشعر فيه نواكشوط بالقلق من عسكرة المشهد على حدودها الشرقية، خاصة في ظل غياب حل سياسي حقيقي في باماكو. أسباب القلق الحقيقة أن روسيا لم تغادر مالي، بل كثّفت وجودها تحت مظلة رسمية، فالفيلق الإفريقي الذي يضم حتى الآن ما بين 40 إلى 45 ألف عنصر موزعين على خمس دول، صار عنصرًا ثابتًا في معادلة الساحل. لكن موريتانيا، التي تمسكت منذ البداية بمبدأ الحياد وعدم الزج بجيشها في نزاعات الجوار، تقرأ المشهد من زاوية مختلفة: التدهور الأمني المتسارع في مالي قد ينسف سياسة التوازن التي تنتهجها نواكشوط منذ سنوات. وفي منطقة لا ترحم المترددين، تدرك موريتانيا أن حدودها مع مالي قد تتحول من مجرد خط جغرافي إلى خط تماس أمني في أية لحظة. فبين فوضى الجماعات المسلحة، وتموضع روسي جديد، وصراع نفوذ دولي يتكثف يوماً بعد يوم، يبقى القلق الموريتاني ليس فقط مبررًا، بل سيبقى إنذارًا مبكرًا لبقية المنطقة. توجد باماكو اليوم على حافة انقلاب جديد كما هو دأبها دائمًا؛ فالتقدم الجهادي وانهيار تماسك الجيش المالي والصراع بين الفرقاء، كل هذا يضعها مجددًا على حافة انقلاب عسكري. وتشير التقارير إلى احتمال تحرك من داخل المؤسسة العسكرية، بدعم روسي جزائري، وصمت دولي، ومباركة ضمنية من أطراف أزوادية. وقد كشف انسحاب قوات «فاغنر» الروسية من مالي عن عمق الأزمة البنيوية التي تعاني منها الدولة المالية، كما سلط الضوء على محدودية فعالية الحلول الأمنية المستوردة؛ فمنذ بداية الاعتماد على هذه المجموعات المسلحة، ساد وهم القدرة على شراء الاستقرار بقوة السلاح، لكن الواقع أثبت أن الجيوش الأجنبية لا تصنع الأمان، ولا الميليشيات قادرة على خلق انسجام وطني في ظل فشل سياسي داخلي ممتد منذ سنوات. موريتانيا: الحياد الواعي والقرار السيادي وفي الجهة المقابلة، برزت موريتانيا كنموذج فريد في إدارة العلاقة مع الأزمات الإقليمية، إذ اعتمد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني مقاربة تقوم على الحياد الإيجابي والتمسك الصارم بالقرار السيادي. وقد رفض الغزواني، وفقًا لمصدر موال له، الانجرار إلى محاور دولية متقلبة، وتجنب الزج بالمؤسسة العسكرية في حرب لا تخدم المصالح الوطنية، مكتفيًا بتأمين الحدود ودعم المدنيين المتضررين إنسانيًا ولوجستيًا. وقد مكن هذا التوازن بين الحكمة والجاهزية نظام نواكشوط من المحافظة على الاستقرار في محيط مضطرب، مقدمة بذلك تجربة مغايرة لعسكرة الحلول أو الارتهان للفاعلين الدوليين. أطراف متعددة ومصالح متشابكة ومن المعلوم أن الوضع في مالي معقد بطبيعته، ويصعب اختزاله في طرفين أو ثلاثة، فالصراع متعدد المستويات ويتداخل فيه المحلي بالإقليمي والدولي. ومن أبرز اللاعبين في الشأن المالي الحركات الأزوادية ذات النزعة القومية المطالبة بالاستقلال، وهي حركات ليست كلها متطرفة كما يروج لها خصومها، وإن دخل بعضها في تحالفات ظرفية مع تنظيمات متشددة. ومن اللاعبين المؤثرين في المشهد المالي، الجماعات الجهادية: مثل «المرابطون» و»القاعدة في المغرب الإسلامي» و»داعش»، وحركة «ماسينا»، إلى جانب «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، التي تمثل أبرز مظلة موحدة لهذه التنظيمات. أما الجيش المالي فهو لاعب آخر في الساحة لكنه يعاني من ضعف ميداني واضح ونقص في المهنية والعقيدة القتالية، فضلاً عن اتهامات بانتهاكات ضد سكان الشمال من العرب والطوارق. ومن اللاعبين أيضًا الحركات الموالية للجيش وهي، حسب التحريات، أكثر بطشًا وعنصرية، وتُتهم بارتكاب جرائم ضد مكونات سكانية بعينها. أما القوى الدولية المنحشرة في الشأن المالي فأبرزها فرنسا المنبوذة من النظام المالي الحالي، وروسيا عبر «فاغنر»، وتركيا عبر الطائرات المسيرة والمستشارين، وأحيانًا ألمانيا وأمريكا. ومن اللاعبين المهربون وتجار السلاح والمخدرات، وهم فاعلون غير تقليديين لكنهم يتحكمون في مفاصل كثيرة من الحياة الاقتصادية والأمنية. أما الخاسرون المحتملون فهم تركيا التي فقدت رهانها العسكري، والمغرب الذي قد يُقصى من ترتيبات ما بعد فاغنر، بينما تحتل موريتانيا مقعد الطرف الصامت القلق الذي يتبنى سياسة «الانتظار الحذر»، مع أنها تمتلك أدوات نفوذ ناعم مؤثرة في مالي كالروابط الدينية والقبلية. يقول الإعلامي والمحلل السياسي الموريتاني سلطان ألبان «إن تجربة فاغنر في مالي أثبتت بعد أربع سنوات من التواجد أنها عبء أكثر من كونها حلًا». وأضاف «رغم ما وفرته «فاغنر» من دعم عسكري ظاهري للنظام الانتقالي، فإن تصاعد العنف وتآكل الثقة في الدولة فاقما الوضع، بل عززا من موقع الجماعات المسلحة التي بدأت تستفيد من دعم قوى دولية مناوئة لروسيا، في إطار ما يشبه حرب الوكالة، كما تشير تقارير عن وجود مدربين أوكران في الشمال المالي». والواقع أن موسكو قد دفعتها العقوبات الأمريكية، وتصاعد ضغط الحرب في أوكرانيا، إلى إعادة تقييم انتشارها الإفريقي، ما أدى إلى قرار سحب فاغنر من مالي، مع احتمالية إعادة الانتشار في مواقع أخرى أكثر نفعًا وأقل تكلفة». الخلاصة بين نموذجين تجد مالي نفسها اليوم في موقع حرج، بعد أن أحرقت جسور التعاون مع فرنسا، وأهملت الوساطات الجزائرية، وخسرت مظلة فاغنر. أما موريتانيا، فقد كسبت بتريثها واحترامها لخصوصيات الداخل، حيث لم تضع بيضها في سلة أي محور خارجي، بل صنعت نموذجًا متزنًا في التعاطي مع أزمات الجوار. وبينما تخسر باماكو أدواتها الواحدة تلو الأخرى، وتُحاصر شمالًا وجنوبًا، تتقدم نواكشوط بهدوء كقوة استقرار إقليمي، تؤكد أن السيادة لا تُشترى، وأن الحكمة أبلغ من الرصاص. ومع كل ذلك، فإن انزلاق مالي نحو فوضى جديدة يعني تدفق موجات لاجئين، واحتمال تسلل جماعات مسلحة نحو الحدود، وتحوّل الفضاء الحدودي الموريتاني المالي إلى منطقة اضطراب دائم. وهنا يُطرح السؤال الملحّ: هل حان وقت خروج نواكشوط من مقعد المتفرج إلى دائرة الفعل؟ أم أن الهدوء الموريتاني جزء من خطة أطول نفسًا تفضّل التأني على المغامرة؟

إيلون ماسك والرقص مع الطغاة
إيلون ماسك والرقص مع الطغاة

العربي الجديد

timeمنذ 7 أيام

  • العربي الجديد

إيلون ماسك والرقص مع الطغاة

في الأيّام الأخيرة، وعلى نحو درامي يكاد لا يُصدّق، اندلعت ما تشبه الحرب بين دونالد ترامب وإيلون ماسك، الحليف الذي بدا ذات يوم الأقرب، والأكثر ولاءً، والأشدّ حماسةً لصعود الزعيم العائد. كان ماسك، الملياردير الذي لا يرضى أن يُصنَّف إلا أذكى رجل في الغرفة، قد التصق بترامب في لحظة بدا فيها هذا التحالف مربحًا ومنطقيًا لكلا الطرفين، حيث أغدق ماسك دعمه المادي بما يقرب من 288 مليون دولار على حملة ترامب الانتخابية طمعًا في النفوذ وتمرير أجندته. وبدوره، اكتسب ترامب واجهة تكنو-رأسمالية براقة تعزّز من ثورويته المزعومة في مواجهة مؤسسات الدولة العميقة. لكن ما إن عاد ترامب إلى المشهد بقوّة، وبدأ يلوّح بسياسات اقتصادية تعيد تشكيل السوق أو بالأحرى تدميرها من أساسه، حتى بدأ ماسك يدرك أنّ السلطة التي اقترب منها أكثر من اللازم لم تكن، ربما، وسيلة لكسب الشهرة والنفوذ، بل أقصر طريق إلى الخسارة. صَدَم الرئيس الأميركي العالم في الأوّل من إبريل/ نيسان بتعرفاته الجمركية، وتذمّر حينها ماسك ببعض اللباقة السياسية، ليتابع ترامب خططه ويعلن عن سياساته الضريبية الجديدة التي يبدو أنها تعاقب شركات السيارات الكهربائية، وتحابي حزب النفط والفحم وأي وقود أحفوري، يعتقد ترامب أنه سيعيد العظمة الأميركية المفقودة مجدّدًا كما يراها. ماسك، الذي استفادت إمبراطوريته من الحوافز الحكومية ودعم التكنولوجيا الخضراء، وجد نفسه فجأة على قائمة ضحايا القادم الجديد، على الرغم من أنّ هذا الأمر كان واضحًا منذ البداية، ومن المفترض ألا يشكّل مفاجأة لماسك. ولكنه على ما يبدو لم يعد يتحمّل الخسائر المتتالية في القيمة السوقية لتسلا التي تنعكس مباشرة على ثروته الشخصية، والأهم أنه، ربما، أدرك أنه فقد الكثير من قيمة علامته الشخصية. لا يملك الطغاة أصدقاء، بل مجرّد أدوات فلم تمرّ أيّام على مغادرته البيت الأبيض حتى انقلب على ترامب علنًا متحدّثًا عن خطر سياساته على الاقتصاد، إذ هاجم مشروع خفض الضرائب والإنفاق الشامل، متهمًا إياه بعرقلة الابتكار وزيادة عجز الميزانية، كما انتقد تقليص الإعفاءات على السيارات الكهربائية التي اعتبرها تهديدًا مباشرًا للاقتصاد الأميركي، وصعّد هجومه عندما اتهم ترامب بالتورّط في فضائح إبستين. وردّ ترامب بالتلويح بإنهاء العقود الحكومية مع شركات ماسك واتهمه بإدمان المخدرات. فهل كان ماسك ساذجًا حقًا إلى هذا الحدّ؟ أم أنه وقع في وهم أذناب الطغاة الأبدي، وهم الاعتقاد أنه الاستثناء؟ كلّ من خدم طاغية، ودعمه، وهلّل له، وظنّ أنه الاستثناء الأكثر دهاءً مُعتقدًا أنه سيخرج من اللعبة بغنائم لا تعدّ ولا تحصى لم يفهم أن الطغاة لا يملكون أصدقاء، بل مجرّد أدوات. وكلّ أداة مصيرها أن تُستخدم ثم تُلقى جانبًا، أو تُقدّم قربانًا على المذابح إن اقتضت مصلحة الطاغية ذلك. تاريخ الطغاة مليء بحكايات مشابهة. فقد خدم مؤسّس جماعة فاغنر يفغيني بريغوجين وزعيمها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سنوات في أوكرانيا وافريقيا وسورية. وما إن حاول التمرّد المحدود، حتى سقطت طائرته بطريقة يراها كثيرون رسالة من الكرملين. فالطغاة لا يغفرون التمرّد، ولو من أقرب الناس. ولماذا نذهب بعيدًا، فمايكل كوهين كان محامي ترامب الشخصي والمخلص أكثر من عقد، ونفّذ كلّ ما طُلب منه، من صفقات تسوية إلى التستّر على الفضائح. ومع ذلك، حين بدأت التحقيقات، تبرّأ منه ترامب، وتركه يواجه السجن وحيدًا. حتى في الأنظمة التي تدّعي الديمقراطية، يضحي الطغاة المتغطرسون بأقرب حلفائهم بمجرّد أن يصبحوا عبئًا. لا يبني الطغاة دولًا مزدهرة؛ إنما يحرقون أراضي الآخرين ليُزرعوا فيها أوهامهم ومثلهم فعل هتلر برفيقه إرنست روم في ليلة السكاكين الطويلة، فالطغاة لا يسمحون لأيّ نفوذ موازٍ بالنجاة. ولطالما بنى الطغيان سلطته على الخوف والتصفية، لا على الوفاء، كما فعل ستالين بتروتسكي وزينوفييف وكامينيف. فالتاريخ يستمر في إخبارنا أنّ الثمن الذي يدفعه حلفاء الطغاة وأعوانهم قد يتراوح بين القتل الفوري أو المحاكمات الصورية المنتهية بانتقام شنيع، أو مصادرة الثروات، وأخيرًا الهروب إلى المنافي واللجوء والخذلان، هذا إن حالف الحظّ بعضهم. ربما كان ماسك، مثل كثيرين ممّن وقعوا في الفخّ الأبدي لعشق السلطة وعلقوا في براثن وهم أنّ الذكاء الفردي والثروة يمكنهما تحييد منطق الطغيان. لكن ما بدأ تحالفَ مصلحة بين رجل أعمال يدّعي العبقرية وزعيم شعبوي لربما سيتحوّل إلى درسٍ قاسٍ آخر، مفاده أنّ القرب من اللهب لا يعني امتلاكه، بل يعني احتراقًا بطيئًا. فالطغاة لا يبنون دولًا مزدهرة؛ إنما يحرقون أراضي الآخرين ليزرعوا فيها أوهامهم. المفارقة الكبرى هنا أن ماسك، الذي لطالما راهن على تكنولوجيا المستقبل، وقع في فخّ الماضي، فكلّ من تعاون مع طاغٍ ظنّ أنه سيسيطر على النار، لكن هذه النار لا يُسيطَر عليها، إنها تُعيد تشكيل كلّ مَن يقترب منها مؤقتًا حتى تنتفي الحاجة إليه أو إليها قبل أن تلفظهم رمادًا، ومصير كلّ من يركب قطار الطغيان سيظلّ كما هو، إما أن يُلقى به تحت عجلاته الفولاذية، أو يُلقى به لاحقًا في مزابل التاريخ.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store