
ماذا وراء تعيين روسيا لـ'جنرال القيامة' على رأس مستشاريها العسكريين بالجزائر؟
باريس- 'القدس العربي':
عيّنت موسكو الجنرال سيرغي سوروفكين، القائد السابق للعمليات العسكرية الروسية في سوريا، وعلى الجبهة الأوكرانية، على رأس المستشارين العسكريين في سفارتها لدى الجزائر، لتعزيز 'الدبلوماسية العسكرية' للكرملين في شمال إفريقيا، وفق ما ذكرت صحيفة 'لوموند' الفرنسية.
واشتهر سوروفكين بقلب 'جنرال القيامة' لاستخدام أسلوب الهجمات الجوية الوحشية المكثفة خلال تدخل روسيا في سوريا لدعم نظام بشار الأسد، وكانت له صلات وثيقة بمجموعة فاغنر.
وذكرت الصحيفة الفرنسية، أن هذا القائد العسكري الروسي شوهد مؤخرًا في مقبرة عسكرية قرب الجزائر العاصمة، خلال مشاركته في إحياء ذكرى 'الحرب الوطنية العظمى' ضد ألمانيا النازية (1941-1945)، برفقة وفد من البعثة الدبلوماسية الروسية.
وقد نُشرت عدة صور له على قناة السفارة الروسية في تطبيق 'تيليغرام' بتاريخ 9 مايو/أيار، حيث ظهر مرتديًا نظارات شمسية وبدلة مدنية فضفاضة، إلى جانب أليكسي سولوماتين، سفير روسيا لدى الجزائر، وفلاديمير تسوكانوف، الملحق العسكري. لا شيء لافت في حضوره بحد ذاته، إذ تشير وسائل الإعلام الروسية إلى أنه اعتاد زيارة الجزائر مرة على الأقل كل عام – ففي عام 2023 زار وهران، وظهر في صورة حتى في مسجد وفي 2024 العاصمة الجزائر،تُشير الصحيفة الفرنسية.
لكن 'لوموند' تؤكد أن اللافت هذه المرة، هو أن النص المرافق للصور كشف معلومة مهمة، وهي تعيينه رسميًا كـ'رئيس مجموعة المستشارين العسكريين الروس في الجزائر.. وهكذا، تؤكد السفارة الروسية في هذا البلد المغاربي مهمته الجديدة، وتُبرز في الوقت ذاته التزام موسكو المتزايد تجاه الجزائر، لاسيما من خلال تعزيز حضور مستشاريها العسكريين في هذا البلد'.
وتذكّر الصحيفة بأنه بقيادة الجنرال المعروف بلقب 'الجزار'، تم تدمير مدينة ماريوبول الأوكرانية بالكامل بين فبراير/شباط ومايو/أيار عام 2022، على ضفاف بحر آزوف، مما تسبب في مقتل عشرات الآلاف من المدنيين. وتحت قيادته، بدأت القوات الروسية في أوكرانيا بقصف منهجي للبنى التحتية للطاقة، والمستشفيات، والمحطات، والأسواق، والمدارس.
وتلفت إلى أنه قد جُرّبت هذه التكتيكات سابقًا في سوريا قبل خمس سنوات، وأثبتت فعاليتها، إذ تمت مكافأة سوروفكين بتعيينه قائدًا للعمليات على الجبهة الأوكرانية في أكتوبر/تشرين الأول عام 2022، في وقت كانت فيه روسيا تعيش انتكاسة عسكرية. ولكن أمام هجوم غير مسبوق من الجيش الأوكراني، اضطر الجنرال إلى تنظيم انسحاب القوات الروسية من منطقة خيرسون، تُذكِّر صحيفة لوموند.
وتقول الصحيفة إنه لأسباب غير معروفة تمامًا، تراجع نجمه في سبتمبر/أيلول عام 2023، واختفى اسمه من الهيكل التنظيمي لوزارة الدفاع. ويقول بعض الخبراء العسكريين إنه سقط من الحظوة، رغم أن استقالته لم تُعلن رسميًا. وكان آخر ظهور علني له في روسيا في 23 يونيو/حزيران من نفس العام، حين ظهر في مقطع فيديو نشر على شبكات التواصل، يناشد فيه مؤسس مجموعة فاغنر، يفغيني بريغوجين، بالتراجع عن تمرده، بينما كان الأخير يقود قوة مسلحة تتجه نحو موسكو.
وكانت العلاقة بين الرجلين وثيقة. فبفضل دهائه في كسب النفوذ، أنشأ بريغوجين علاقات قوية مع عدد من الضباط المؤثرين لتمثيل مصالح مجموعته لدى وزارة الدفاع. وكان الجنرال سوروفكين، إلى جانب نحو ثلاثين ضابطًا روسيًا رفيعًا، عضوًا بارزًا في فاغنر. ووفقًا لمركز 'دوسيه' المعارض، كان سوروفكين يتمتع بوضع 'شخصية هامة' (VIP) في المجموعة منذ عام 2017، تُشير'لوموند'ً.
وبحسب الصحيفة تُعتبر علاقة الجنرال بمؤسس فاغنر، وتبنيه لأساليبه داخل الجيش الروسي – لا سيما تنظيم حملات التجنيد في السجون – نقطة إيجابية بالنسبة للكرملين. يُنظر إلى سوروفكين على أنه الرجل المناسب للمهمة في شمال إفريقيا، كونه متمرسًا في العمليات السرية وغير متحفظ في الوسائل.
وترى 'لوموند' أن تعينيه يُجسّد مستوى التزام روسيا في الجزائر، في وقت يسعى فيه رئيسها فلاديمير بوتين، الغاضب من فرنسا، إلى ترسيخ نفوذه في منطقة الساحل والبحر الأبيض المتوسط. وعلى الرغم من أن إعلان تعيينه جاء بشكل غير مباشر عبر السفارة الروسية لدى الجزائر، إلا أنه يعكس بوضوح تصعيدًا في 'الدبلوماسية العسكرية' التي تسعى موسكو إلى فرضها في المنطقة.
ووفق الصحيفة الفرنسية فقد يكون من بين أهداف موسكو ممارسة ضغط متزايد، لا سيما في ملف الصحراء الغربية، في إطار سياسة الإزعاج التي يتبعها الرئيس الروسي. ففي حين تدعم الجزائر جبهة البوليساريو، تقف باريس إلى جانب المغرب. ووفقًا لدراسة صادرة عن معهد روبرت لانسنج الأمريكي، 'قد تستخدم روسيا هذا النزاع لتأجيج التوترات بين الرباط والغرب، وتوسيع نفوذها'، محذرة من 'احتمال تقديم مدربين روس دعمًا لقوات الحدود الجزائرية العاملة قرب منطقة النزاع'.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


القدس العربي
منذ 19 ساعات
- القدس العربي
ماذا وراء تعيين روسيا لـ'جنرال القيامة' على رأس مستشاريها العسكريين بالجزائر؟
باريس- 'القدس العربي': عيّنت موسكو الجنرال سيرغي سوروفكين، القائد السابق للعمليات العسكرية الروسية في سوريا، وعلى الجبهة الأوكرانية، على رأس المستشارين العسكريين في سفارتها لدى الجزائر، لتعزيز 'الدبلوماسية العسكرية' للكرملين في شمال إفريقيا، وفق ما ذكرت صحيفة 'لوموند' الفرنسية. واشتهر سوروفكين بقلب 'جنرال القيامة' لاستخدام أسلوب الهجمات الجوية الوحشية المكثفة خلال تدخل روسيا في سوريا لدعم نظام بشار الأسد، وكانت له صلات وثيقة بمجموعة فاغنر. وذكرت الصحيفة الفرنسية، أن هذا القائد العسكري الروسي شوهد مؤخرًا في مقبرة عسكرية قرب الجزائر العاصمة، خلال مشاركته في إحياء ذكرى 'الحرب الوطنية العظمى' ضد ألمانيا النازية (1941-1945)، برفقة وفد من البعثة الدبلوماسية الروسية. وقد نُشرت عدة صور له على قناة السفارة الروسية في تطبيق 'تيليغرام' بتاريخ 9 مايو/أيار، حيث ظهر مرتديًا نظارات شمسية وبدلة مدنية فضفاضة، إلى جانب أليكسي سولوماتين، سفير روسيا لدى الجزائر، وفلاديمير تسوكانوف، الملحق العسكري. لا شيء لافت في حضوره بحد ذاته، إذ تشير وسائل الإعلام الروسية إلى أنه اعتاد زيارة الجزائر مرة على الأقل كل عام – ففي عام 2023 زار وهران، وظهر في صورة حتى في مسجد وفي 2024 العاصمة الجزائر،تُشير الصحيفة الفرنسية. لكن 'لوموند' تؤكد أن اللافت هذه المرة، هو أن النص المرافق للصور كشف معلومة مهمة، وهي تعيينه رسميًا كـ'رئيس مجموعة المستشارين العسكريين الروس في الجزائر.. وهكذا، تؤكد السفارة الروسية في هذا البلد المغاربي مهمته الجديدة، وتُبرز في الوقت ذاته التزام موسكو المتزايد تجاه الجزائر، لاسيما من خلال تعزيز حضور مستشاريها العسكريين في هذا البلد'. وتذكّر الصحيفة بأنه بقيادة الجنرال المعروف بلقب 'الجزار'، تم تدمير مدينة ماريوبول الأوكرانية بالكامل بين فبراير/شباط ومايو/أيار عام 2022، على ضفاف بحر آزوف، مما تسبب في مقتل عشرات الآلاف من المدنيين. وتحت قيادته، بدأت القوات الروسية في أوكرانيا بقصف منهجي للبنى التحتية للطاقة، والمستشفيات، والمحطات، والأسواق، والمدارس. وتلفت إلى أنه قد جُرّبت هذه التكتيكات سابقًا في سوريا قبل خمس سنوات، وأثبتت فعاليتها، إذ تمت مكافأة سوروفكين بتعيينه قائدًا للعمليات على الجبهة الأوكرانية في أكتوبر/تشرين الأول عام 2022، في وقت كانت فيه روسيا تعيش انتكاسة عسكرية. ولكن أمام هجوم غير مسبوق من الجيش الأوكراني، اضطر الجنرال إلى تنظيم انسحاب القوات الروسية من منطقة خيرسون، تُذكِّر صحيفة لوموند. وتقول الصحيفة إنه لأسباب غير معروفة تمامًا، تراجع نجمه في سبتمبر/أيلول عام 2023، واختفى اسمه من الهيكل التنظيمي لوزارة الدفاع. ويقول بعض الخبراء العسكريين إنه سقط من الحظوة، رغم أن استقالته لم تُعلن رسميًا. وكان آخر ظهور علني له في روسيا في 23 يونيو/حزيران من نفس العام، حين ظهر في مقطع فيديو نشر على شبكات التواصل، يناشد فيه مؤسس مجموعة فاغنر، يفغيني بريغوجين، بالتراجع عن تمرده، بينما كان الأخير يقود قوة مسلحة تتجه نحو موسكو. وكانت العلاقة بين الرجلين وثيقة. فبفضل دهائه في كسب النفوذ، أنشأ بريغوجين علاقات قوية مع عدد من الضباط المؤثرين لتمثيل مصالح مجموعته لدى وزارة الدفاع. وكان الجنرال سوروفكين، إلى جانب نحو ثلاثين ضابطًا روسيًا رفيعًا، عضوًا بارزًا في فاغنر. ووفقًا لمركز 'دوسيه' المعارض، كان سوروفكين يتمتع بوضع 'شخصية هامة' (VIP) في المجموعة منذ عام 2017، تُشير'لوموند'ً. وبحسب الصحيفة تُعتبر علاقة الجنرال بمؤسس فاغنر، وتبنيه لأساليبه داخل الجيش الروسي – لا سيما تنظيم حملات التجنيد في السجون – نقطة إيجابية بالنسبة للكرملين. يُنظر إلى سوروفكين على أنه الرجل المناسب للمهمة في شمال إفريقيا، كونه متمرسًا في العمليات السرية وغير متحفظ في الوسائل. وترى 'لوموند' أن تعينيه يُجسّد مستوى التزام روسيا في الجزائر، في وقت يسعى فيه رئيسها فلاديمير بوتين، الغاضب من فرنسا، إلى ترسيخ نفوذه في منطقة الساحل والبحر الأبيض المتوسط. وعلى الرغم من أن إعلان تعيينه جاء بشكل غير مباشر عبر السفارة الروسية لدى الجزائر، إلا أنه يعكس بوضوح تصعيدًا في 'الدبلوماسية العسكرية' التي تسعى موسكو إلى فرضها في المنطقة. ووفق الصحيفة الفرنسية فقد يكون من بين أهداف موسكو ممارسة ضغط متزايد، لا سيما في ملف الصحراء الغربية، في إطار سياسة الإزعاج التي يتبعها الرئيس الروسي. ففي حين تدعم الجزائر جبهة البوليساريو، تقف باريس إلى جانب المغرب. ووفقًا لدراسة صادرة عن معهد روبرت لانسنج الأمريكي، 'قد تستخدم روسيا هذا النزاع لتأجيج التوترات بين الرباط والغرب، وتوسيع نفوذها'، محذرة من 'احتمال تقديم مدربين روس دعمًا لقوات الحدود الجزائرية العاملة قرب منطقة النزاع'.


القدس العربي
منذ 5 أيام
- القدس العربي
موريتانيا قلقة بسبب اهتزاز جارتها مالي: فاغنر تخرج والفيلق الروسي يدخل… وتوقعات بانقلاب في باماكو
نواكشوط – «القدس العربي»: بينما أعلنت مجموعة «فاغنر» الروسية نهاية مهامها رسميًا في مالي، ليشغل «الفيلق الإفريقي» الروسي مكانها، سارع كثيرون لاعتبار ذلك بداية انسحاب روسي من المنطقة، لكنّ الواقع على الأرض يكشف أن الأمر لا يعدو كونه تموضعًا جديدًا أكثر تنظيمًا وعمقًا. وفي خضم هذا التحول، تبرز موريتانيا جارة مالي الملتصقة كدولة تتابع المشهد بقلق بالغ، مدركةً أن تفاقم الأزمة في مالي لم يعد شأناً داخليًا ماليا صرفًا، بل بات عامل تهديد مباشر على أمنها واستقرارها الحدودي. من فوضى فاغنر إلى هندسة الفيلق بعد تمرد قائد فاغنر يفغيني بريغوجين عام 2023، قررت موسكو إعادة صياغة وجودها العسكري في إفريقيا، فأنشأت «الفيلق الإفريقي» كقوة نظامية تحل محل فاغنر. وتحدثت تقارير ميدانية وثّقت في الأشهر الأخيرة، وصول دبابات T-72B3، وآليات BMP-3، وأكثر من 50 آلية مدرعة إلى مالي، مع نشر نحو 2000 عنصر ضمن هذا التشكيل الجديد، الذي يتمركز في باماكو ومواقع حيوية بالوسط والجنوب. ويشرف على الفيلق ضباط روس كبار، أبرزهم نائب وزير الدفاع «يونس بك يفكوروف»، في وقت تشعر فيه نواكشوط بالقلق من عسكرة المشهد على حدودها الشرقية، خاصة في ظل غياب حل سياسي حقيقي في باماكو. أسباب القلق الحقيقة أن روسيا لم تغادر مالي، بل كثّفت وجودها تحت مظلة رسمية، فالفيلق الإفريقي الذي يضم حتى الآن ما بين 40 إلى 45 ألف عنصر موزعين على خمس دول، صار عنصرًا ثابتًا في معادلة الساحل. لكن موريتانيا، التي تمسكت منذ البداية بمبدأ الحياد وعدم الزج بجيشها في نزاعات الجوار، تقرأ المشهد من زاوية مختلفة: التدهور الأمني المتسارع في مالي قد ينسف سياسة التوازن التي تنتهجها نواكشوط منذ سنوات. وفي منطقة لا ترحم المترددين، تدرك موريتانيا أن حدودها مع مالي قد تتحول من مجرد خط جغرافي إلى خط تماس أمني في أية لحظة. فبين فوضى الجماعات المسلحة، وتموضع روسي جديد، وصراع نفوذ دولي يتكثف يوماً بعد يوم، يبقى القلق الموريتاني ليس فقط مبررًا، بل سيبقى إنذارًا مبكرًا لبقية المنطقة. توجد باماكو اليوم على حافة انقلاب جديد كما هو دأبها دائمًا؛ فالتقدم الجهادي وانهيار تماسك الجيش المالي والصراع بين الفرقاء، كل هذا يضعها مجددًا على حافة انقلاب عسكري. وتشير التقارير إلى احتمال تحرك من داخل المؤسسة العسكرية، بدعم روسي جزائري، وصمت دولي، ومباركة ضمنية من أطراف أزوادية. وقد كشف انسحاب قوات «فاغنر» الروسية من مالي عن عمق الأزمة البنيوية التي تعاني منها الدولة المالية، كما سلط الضوء على محدودية فعالية الحلول الأمنية المستوردة؛ فمنذ بداية الاعتماد على هذه المجموعات المسلحة، ساد وهم القدرة على شراء الاستقرار بقوة السلاح، لكن الواقع أثبت أن الجيوش الأجنبية لا تصنع الأمان، ولا الميليشيات قادرة على خلق انسجام وطني في ظل فشل سياسي داخلي ممتد منذ سنوات. موريتانيا: الحياد الواعي والقرار السيادي وفي الجهة المقابلة، برزت موريتانيا كنموذج فريد في إدارة العلاقة مع الأزمات الإقليمية، إذ اعتمد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني مقاربة تقوم على الحياد الإيجابي والتمسك الصارم بالقرار السيادي. وقد رفض الغزواني، وفقًا لمصدر موال له، الانجرار إلى محاور دولية متقلبة، وتجنب الزج بالمؤسسة العسكرية في حرب لا تخدم المصالح الوطنية، مكتفيًا بتأمين الحدود ودعم المدنيين المتضررين إنسانيًا ولوجستيًا. وقد مكن هذا التوازن بين الحكمة والجاهزية نظام نواكشوط من المحافظة على الاستقرار في محيط مضطرب، مقدمة بذلك تجربة مغايرة لعسكرة الحلول أو الارتهان للفاعلين الدوليين. أطراف متعددة ومصالح متشابكة ومن المعلوم أن الوضع في مالي معقد بطبيعته، ويصعب اختزاله في طرفين أو ثلاثة، فالصراع متعدد المستويات ويتداخل فيه المحلي بالإقليمي والدولي. ومن أبرز اللاعبين في الشأن المالي الحركات الأزوادية ذات النزعة القومية المطالبة بالاستقلال، وهي حركات ليست كلها متطرفة كما يروج لها خصومها، وإن دخل بعضها في تحالفات ظرفية مع تنظيمات متشددة. ومن اللاعبين المؤثرين في المشهد المالي، الجماعات الجهادية: مثل «المرابطون» و»القاعدة في المغرب الإسلامي» و»داعش»، وحركة «ماسينا»، إلى جانب «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، التي تمثل أبرز مظلة موحدة لهذه التنظيمات. أما الجيش المالي فهو لاعب آخر في الساحة لكنه يعاني من ضعف ميداني واضح ونقص في المهنية والعقيدة القتالية، فضلاً عن اتهامات بانتهاكات ضد سكان الشمال من العرب والطوارق. ومن اللاعبين أيضًا الحركات الموالية للجيش وهي، حسب التحريات، أكثر بطشًا وعنصرية، وتُتهم بارتكاب جرائم ضد مكونات سكانية بعينها. أما القوى الدولية المنحشرة في الشأن المالي فأبرزها فرنسا المنبوذة من النظام المالي الحالي، وروسيا عبر «فاغنر»، وتركيا عبر الطائرات المسيرة والمستشارين، وأحيانًا ألمانيا وأمريكا. ومن اللاعبين المهربون وتجار السلاح والمخدرات، وهم فاعلون غير تقليديين لكنهم يتحكمون في مفاصل كثيرة من الحياة الاقتصادية والأمنية. أما الخاسرون المحتملون فهم تركيا التي فقدت رهانها العسكري، والمغرب الذي قد يُقصى من ترتيبات ما بعد فاغنر، بينما تحتل موريتانيا مقعد الطرف الصامت القلق الذي يتبنى سياسة «الانتظار الحذر»، مع أنها تمتلك أدوات نفوذ ناعم مؤثرة في مالي كالروابط الدينية والقبلية. يقول الإعلامي والمحلل السياسي الموريتاني سلطان ألبان «إن تجربة فاغنر في مالي أثبتت بعد أربع سنوات من التواجد أنها عبء أكثر من كونها حلًا». وأضاف «رغم ما وفرته «فاغنر» من دعم عسكري ظاهري للنظام الانتقالي، فإن تصاعد العنف وتآكل الثقة في الدولة فاقما الوضع، بل عززا من موقع الجماعات المسلحة التي بدأت تستفيد من دعم قوى دولية مناوئة لروسيا، في إطار ما يشبه حرب الوكالة، كما تشير تقارير عن وجود مدربين أوكران في الشمال المالي». والواقع أن موسكو قد دفعتها العقوبات الأمريكية، وتصاعد ضغط الحرب في أوكرانيا، إلى إعادة تقييم انتشارها الإفريقي، ما أدى إلى قرار سحب فاغنر من مالي، مع احتمالية إعادة الانتشار في مواقع أخرى أكثر نفعًا وأقل تكلفة». الخلاصة بين نموذجين تجد مالي نفسها اليوم في موقع حرج، بعد أن أحرقت جسور التعاون مع فرنسا، وأهملت الوساطات الجزائرية، وخسرت مظلة فاغنر. أما موريتانيا، فقد كسبت بتريثها واحترامها لخصوصيات الداخل، حيث لم تضع بيضها في سلة أي محور خارجي، بل صنعت نموذجًا متزنًا في التعاطي مع أزمات الجوار. وبينما تخسر باماكو أدواتها الواحدة تلو الأخرى، وتُحاصر شمالًا وجنوبًا، تتقدم نواكشوط بهدوء كقوة استقرار إقليمي، تؤكد أن السيادة لا تُشترى، وأن الحكمة أبلغ من الرصاص. ومع كل ذلك، فإن انزلاق مالي نحو فوضى جديدة يعني تدفق موجات لاجئين، واحتمال تسلل جماعات مسلحة نحو الحدود، وتحوّل الفضاء الحدودي الموريتاني المالي إلى منطقة اضطراب دائم. وهنا يُطرح السؤال الملحّ: هل حان وقت خروج نواكشوط من مقعد المتفرج إلى دائرة الفعل؟ أم أن الهدوء الموريتاني جزء من خطة أطول نفسًا تفضّل التأني على المغامرة؟


العربي الجديد
٠٢-٠٦-٢٠٢٥
- العربي الجديد
تغطية الإعلام الغربي للإبادة تتغيّر… لكن من يغيّر سيليكون فالي؟
شهدت الأسابيع الأخيرة تغيراً تدريجياً، لكنه ملحوظ في تغطية وسائل الإعلام الغربية لما يحدث في غزة. بعد أشهر من التهرب، بدأ الإعلام الأوروبي والأميركي باستخدام مصطلح الإبادة الجماعية عند الحديث عن العدوان الإسرائيلي المتواصل منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 على قطاع غزة. صحيفة ليبراسيون كتبت على صفحتها الأولى: "الإبادة في غزة مستمرة"، بينما وصفت "لوموند" الوضع بأنه "حرب شاملة لا تميز بين مدني ومسلح"، منتقدة منع دخول المساعدات وتجويع السكان أداة حرب. في ألمانيا، نشرت "دير شبيغل" تحقيقات معمّقة حول جرائم حرب "محتملة". وفي الولايات المتحدة، وبعد تردد طويل، بدأ كُتّاب رأي في صحيفتَي نيويورك تايمز وواشنطن بوست بإبداء تشكيك علني في "الرواية الأمنية" الإسرائيلية. حتى إن مراسلين عسكريين معروفين بقربهم من البنتاغون باتوا يتحدثون عن "عدم فعالية القصف العنيف في تحقيق أهدافه"، وعن "كلفة أخلاقية وسياسية طويلة المدى". لكن هذا التحول المتأخر في لغة الإعلام، الذي جاء استجابة لضغط جماهيري وأكاديمي وشعبي، يطرح سؤالاً موازياً: لماذا لا نشهد تحولاً مماثلاً في وادي السيليكون؟ ولماذا تبدو كبرى شركات التكنولوجيا وكأنها تقف، صامتة – أو متواطئة – أمام مأساة موثقة عالمياً؟ منذ بدء حرب الإبادة على غزة ، أثبتت تقارير موثقة أن الشركات التكنولوجية الأميركية الكبرى - مثل أمازون، وغوغل، ومايكروسوفت، وميتا، وبالانتير - لم تكن مجرد مراقب صامت، بل فاعلاً نشطاً في دعم الآلة العسكرية الإسرائيلية، تقنياً وتمويلياً وأيديولوجياً. اعتمد الجيش الإسرائيلي بشكل واسع على أدوات استهداف مبنية على الذكاء الاصطناعي. وهذه البرامج لا تعمل في فراغ، بل تعتمد على بنية رقمية قوية توفرها شركات أميركية: غوغل : تقدم خوارزميات التعرف إلى الوجه. أمازون : تقدم خدمات حوسبة سحابية لاستضافة البيانات التحليلية. مايكروسوفت : توفر أدوات التعرف إلى الكلام لتسريع معالجة المعلومات الاستخبارية. تُستخدم هذه الأدوات في أنظمة يصفها جنود إسرائيليون سابقون بأنها تشبه "البحث عن صديق على فيسبوك"، لكن النتيجة ليست دعوة إلى لقاء، بل إشارة إلى اغتيال. في عام 2021، وقّعت غوغل وأمازون عقداً مع الحكومة الإسرائيلية بقيمة 1.2 مليار دولار تحت اسم "نيمبوس"، يتيح استخدام خدماتهما في الوزارات، ومن بينها الجيش والمخابرات. العقد يحتوي على بنود تمنع الموظفين من الاعتراض على استخدام التقنية في عمليات عسكرية. ورغم احتجاجات موظفين وناشطين داخل الشركتين، استمرت الشركتان في تفعيل المشروع. بعض التطبيقات التي نُفّذت ضمن "نيمبوس" ظهرت لاحقاً في أدوات المراقبة داخل الضفة الغربية وغزة، بما فيها أنظمة تمييز الوجوه وتتبّع حركة الأفراد. أما شركة Palantir، التي أسسها بيتر ثيل وأليكس كارب، فتُعَدّ اليوم أحد أهم مزوّدي الجيشين الأميركي والإسرائيلي بأدوات "استهداف ذكية". بعد افتتاحها فرعاً في تل أبيب عام 2015، باتت تزود إسرائيل بأدوات تحليل بيانات ضخمة تشمل البريد الإلكتروني، والمكالمات، والموقع الجغرافي، والسوشيال ميديا. يرى مؤسسو بالانتير أنفسهم ضمن "الطبقة المحاربة الرقمية"، ويعتبرون تقنياتهم "وسيلة لخوض الحرب من دون دماء"، رغم أن نتائجها على الأرض تقول عكس ذلك: آلاف القتلى من المدنيين في غزة في غضون أشهر. بعيداً عن أدوات القتل المباشرة، لعبت "ميتا" دوراً مختلفاً، لكنه لا يقل خطورة. بحسب تحقيق لـ"الجزيرة"، سمحت الشركة بنشر أكثر من 100 إعلان مدفوع يروّج لبيع شقق في مستوطنات غير شرعية في الضفة الغربية، ويدعو إلى تمويل وحدات عسكرية إسرائيلية تنفذ عمليات في غزة. من بين الإعلانات: تمويل لطائرات مسيّرة تستخدم في استهداف الغزيين، وشراء معدات قناصة للواء غولاني، والترويج لمشروع "رامات أديرت" في مستوطنة أريئيل. ورغم سياسة "ميتا" التي "تحظر الترويج للأسلحة"، استمرت هذه الإعلانات لفترات طويلة من دون تدخل يذكر، مع كل المداخيل المالية التي جنتها الشركة منها. في موازاة ذلك، شكا الآلاف حذف منشورات مؤيدة لفلسطين، أو خفض وصولها عبر خوارزميات "فيسبوك" و"إنستغرام"، ما يعزز الشكوك حول انحياز سياسي ممنهج. انطلاقاً من كل ما سبق، يمكن فهم أسباب انحياز الشركات في سيليكون فالي، حتى مع تغيّر المواقف السياسية والإعلامية الغربية. فأولاً، الحرب تدرّ أرباحاً هائلة. عقود الدفاع تُقدّر بعشرات المليارات، وغالباً ما تكون طويلة الأمد. مقابل ذلك، تراجعت أرباح الإعلانات والاشتراكات، ما يدفع الشركات إلى البحث عن مصادر دخل مستقرة. السبب الثاني، الذي غالباً ما يُسقَط عند الحديث عن وادي السيليكون. فأغلب شركات التكنولوجيا في الوادي، ولدت في أحضان البنتاغون. فأولى برمجيات الإنترنت، والحواسيب المتقدمة، ونظم GPS، جميعها كانت مشاريع عسكرية في الأصل. واليوم، تعود هذه العلاقة إلى الواجهة عبر الذكاء الاصطناعي. ولا تخفي بعض الشركات أهمية المشاريع الدفاعية ــ العسكرية هذه. فيروج مستثمرون ومؤسسو شركات مثل Anduril لفكرة أن "السلام لا يتحقق إلا بالخوف". في قمة DefenseTech الأخيرة في تل أبيب قبل أشهر قليلة، قال ممثل Palantir: "الشعوب تريد الأمان، والأمان يعني أن العدو خائف". تكنولوجيا التحديثات الحية "مايكروسوفت" تحظر رسائل البريد الإلكتروني التي تحوي كلمة "فلسطين" إلى جانب تداخل العلاقات التكنولوجية ــ العسكرية، عملت الشركات في الوادي إلى قمع أي صوت عمّالي محتج على التعاون مع الاحتلال. فبعد احتجاجات موظفين على مشاريع عسكرية، عمدت الشركات إلى ميثاقات تمنع العمل السياسي الداخلي. في مشروع "نيمبوس"، وُضع بند يمنع الاعتراض الأخلاقي من قبل العاملين. إذاً صحيح أن الصحافة الغربية بدأت تعيد النظر في خطابها، وتنتقد صراحة سياسات الاحتلال الإسرائيلي، وتستخدم كلمات كانت قبل أشهر محرّمة (إبادة، تطهير عرقي، تجويع جماعي)، لكن الشركات التقنية تواصل دورها في تمكين هذه السياسات على الأرض. وإذا كانت الصحافة قادرة - بتراكم الضغط - على التحوّل، فإن التكنولوجيا لا تخضع للضغط الأخلاقي بالسهولة نفسها. فهي محكومة بمنطق الربح والسوق والعلاقات مع مراكز القرار.