
السرد القصصي بين الوحي والواقع: كيف تصنع القصة أثرها في النفوس؟
بعد نشر مقالنا الأخير بعنوان "لماذا تبقى القصص في ذاكرتنا... وتذوب الأرقام؟"، والذي تناولنا فيه التأثير النفسي العميق للسرد القصصي، تفاعل قراءنا بشكل كبير مع المقال. جاءت ردود الأفعال محمّلة بتساؤلات أعمق، تتعلق بالقصص في القرآن الكريم وكيف كانت وسيلة لتوجيه الرسائل الإلهية بطريقة تُؤثر في النفوس وتثبت القلوب. قصص الأنبياء في القرآن ليست مجرد حكايات عن الماضي، بل هي مفاتيح لفهم الحياة، وتصحيح المسار، واستخلاص العبر. قصص مثل يوسف، وموسى، وأصحاب الكهف، تعكس رحلة الإنسان من الظلم إلى العدل، من اليأس إلى الأمل، ومن الضعف إلى القوة. وكل واحدة من هذه القصص تأتي لتخاطب الإنسان في كل زمان ومكان، تلامس مشاعره وتدفعه للتأمل.
هذا التفاعل لم يكن مفاجئًا. فالقصة ليست مجرد كلمات تُروى، بل هي جسر قوي يصل بين العقول والقلوب، ويخاطب جوهر الإنسان بأسلوب يجعل الفهم أعمق، والتأثير أكبر. سواء كانت القصة من كتاب مقدس أو من تجربة إنسانية ملامسة لواقعنا، فهي تصنع معنا رابطًا داخليًا لا يمكن تجاهله، بل يظل يلتصق بالذاكرة أكثر من أي معلومة رقمية جافة.
في القرآن الكريم، لم تُستخدم القصة لتسلية العقول، بل لتهذيب القلوب وتثبيت النفوس. قال الله تعالى: "نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن" [يوسف: 3] وفي موضع آخر: "وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك" [هود: 120]
كانت القصة القرآنية تُروى لتؤسس مفاهيم، وتُعلّم بالرمز، وتفتح المجال للتأمل والمراجعة دون فرض مباشر. قصة يوسف، مثلًا، لم تكن مجرد سرد لحوادث متتالية، بل رحلة إنسانية نفسية، تمضي من عمق الألم إلى تمام التمكين، مرورًا بالصبر، والظلم، والمغفرة.
وقصة موسى عليه السلام، تكررت مرارًا، وكل تكرار حمل وجهًا مختلفًا من وجوه النفس البشرية، والصراع، واليقين. أما أصحاب الكهف، فقصتهم نموذج للتساؤل عن الزمن، والثبات على الإيمان في وجه الغموض، وليس فقط رواية لعزلة شبابية.
في كل قصة قرآنية، نُدرك أن الله يخاطب الإنسان من حيث يشعر، لا من حيث يُملى عليه. فالقصة أقدر على تسكين الخوف، وترسيخ المعنى، وبناء الرابط الداخلي بين الموقف والمغزى.
السرد في المحاضرات والمواقف اليومية: حين تتكلم القصة بلسان الواقع
خارج النصوص والمراجع، في قاعة محاضرة أو لقاء مجتمعي، تُقال المعلومات وتُعرض الإحصاءات، لكن ما يعلّق في الذهن غالبًا هو قصة واحدة قيلت من القلب.
في تجربتي كمحاضِرة، لاحظت أن اللحظة التي ينتبه فيها الحضور، ويتغير فيها تعبير وجوههم، ليست حين أستعرض المفاهيم، بل حين أبدأ بـ"سأروي لكم قصة واقعية..." حينها فقط، تتوقف العيون عن الشرود، وتتسع المسافة بين الفكرة والقلب.
القصة في المحاضرة لا تأتي لتزيين المحتوى، بل لتجسيده. هي الجسر بين النظرية والتجربة، بين العقل والموقف، بين الرسالة والمتلقي.
وفي مواقف الحياة اليومية، نروي دون أن نشعر: حين نواسي، حين نُقنع، حين نربّي، حتى حين نُعاتب... نعتمد على قصة، أو تجربة سابقة، أو حكاية سمعناها من غيرنا، لنُقرّب شعورًا أو نُعبّر عن موقف.
القصص اليومية تُعلّم وتُرسّخ من حيث لا نحتسب، لأن الإنسان لا يتفاعل مع التعليمات بقدر ما يتجاوب مع الحكايات التي تشبهه، وتلك اللحظات الصغيرة التي يكتشف فيها نفسه في قصة شخص آخر.
من قصص الأنبياء إلى مواقفنا اليومية، من آيات تُتلى إلى حكايات نرويها في محاضرة أو جلسة عابرة، تظل القصة أعظم أداة للتأثير، لا لأنها تدهشنا... بل لأنها تُشبهنا.
القرآن الكريم استخدم القصة لتثبيت القلوب، ونحن نستخدمها اليوم لنفهم أنفسنا، ونلمس غيرنا، ونمنح أفكارنا صوتًا يتردد في الوجدان.
السرد القصصي ليس مجرد وسيلة إيصال، بل وسيلة اتصال تختصر المسافة بين العقل والعاطفة، بين التوجيه والتأثر، بين الفكرة والتغيير.
وفي عالم يتسارع فيه كل شيء، ربما ما نحتاجه فعلًا ليس المزيد من المعلومات... بل المزيد من الحكايات التي تُروى بصدق، وتُلامس الإنسان فينا.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الرياض
منذ 4 ساعات
- الرياض
أكثر من 100 متطوع في مبادرة «وطهّر بيتي»
أطلقت أمانة العاصمة المقدسة مبادرة "وطهّر بيتي" لتنظيف وتجهيز مشعر مزدلفة، بمشاركة أكثر من (100) متطوع ومتطوعة من مختلف فئات المجتمع، في إطار الاستعدادات لاستقبال ضيوف الرحمن لموسم حج (1446هـ). وتهدف المبادرة إلى تنظيف المشعر وتهيئته بما يواكب جهود المملكة في تقديم أفضل الخدمات لحجاج بيت الله الحرام، وذلك ضمن سلسلة من المبادرات الهادفة إلى تعزيز ثقافة العمل التطوعي، وغرس قيم العطاء والمسؤولية المجتمعية. يذكر أن المبادرة تسعى إلى تحسين البيئة العامة في مكة المكرمة، وتوفير خدمات متكاملة لضيوف الرحمن من خلال إشراك المتطوعين في أنشطة تشمل النظافة والتطهير والإصحاح البيئي، بما يسهم في الحفاظ على صحة الحجاج وسلامتهم.


الرياض
منذ 4 ساعات
- الرياض
الحاجة منيرة: سأدعو لمن يسّر لنا الطريق
قالت الحاجة المغربية منيرة البالغة من العمر (82) عامًا: إن جدها أدّى فريضة الحج قبل أكثر من سبعة عقود سيرًا على الأقدام، في رحلة استغرقت قرابة عامين، وامتدّت عبر عدد من الدول، وسط ظروف شاقة وأوضاع صعبة آنذاك. وبيّنت أن والدها كان يروي لها تفاصيل تلك الرحلة منذ طفولتها، ويصف مشقة الطريق وصعوبة التنقل، مما جعلها تتخيل دائمًا أن الحج لا يُدرك إلا بعد عناء طويل. وأضافت بصوت متأثر: لم أتخيل أنني سأصل إلى مكة المكرمة في ست ساعات فقط، وعلى مقعد طائرة، موضحةً أنها أتمّت الإجراءات كافة في مطار محمد الخامس بمدينة الدار البيضاء خلال وقت وجيز، واستعدّت للسفر إلى المملكة في أجواء مريحة ومنظمة، مشيرة إلى أن الفارق الزمني بين رحلتها ورحلة جدها يُجسد حجم التحول الكبير في خدمة حجاج بيت الله الحرام. وأشادت بالحفاوة التي لقيتها في صالة "طريق مكة"، مؤكدة أن المبادرة تمثّل نقلة نوعية في تسهيل إجراءات الحج، وقالت في ختام حديثها: "هذه نعمة كبيرة، وسأدعو لكل من يسّر لنا هذا الطريق، حين أرفع يدي في عرفات".


الرياض
منذ 5 ساعات
- الرياض
خبراء اللغة العربية يتعرّفـون على التجربة الثقافية بـ«أدبي جدة»
استقبل النادي الأدبي الثقافي بمحافظة جدة، وفدًا دوليًا يضم 24 مشاركًا من برنامج تأهيل خبراء العربية في العالم، الذي تُشرف على تنفيذه جامعة الملك عبدالعزيز ممثلةً في وقف لغة القرآن الكريم، بالشراكة مع مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، وذلك ضمن سلسلة من الزيارات الميدانية التي يشملها البرنامج. ويُشارك في الوفد نخبة من أساتذة الجامعات والمعاهد ومعلمي اللغة العربية للناطقين بغيرها، يمثلون 13 دولة من بينها بريطانيا، وتركيا، وإسبانيا، وعدد من دول شرق آسيا وأفريقيا، وتهدف الزيارة إلى التعرف على التجربة الثقافية للمملكة، والاطلاع على المبادرات النوعية في دعم اللغة العربية وتعزيز حضورها في المؤسسات الثقافية. وتجوّل الوفد داخل مرافق النادي، مطّلعين على المكتبة الأدبية والمسرح الرئيس، والوقوف على أبرز أنشطة النادي وبرامجه الثقافية، واستعرضوا مجموعة من الإصدارات الأدبية والفكرية التي يُنتجها النادي سنويًا، التي تُظهر ثراء الحراك الثقافي في المملكة. وتأتي هذه الزيارة ضمن سلسلة من الأنشطة الميدانية التي يتضمنها برنامج تأهيل خبراء العربية في العالم، التي تهدف إلى إكساب المشاركين خبرات تعليمية متقدمة، وتعزيز مهارات الاتصال، وتوسيع مداركهم حول البيئة التعليمية في المملكة. يذكر أنّ البرنامج يعكس تكامل الجهود العلمية واللغوية، ويدعم رؤية المملكة في تمكين اللغة العربية عالميًا من خلال تأهيل قيادات تعليمية قادرة على نشرها بكفاءة وتعزيز التعاون بين المؤسسات المعنية بتعليمها دوليًا ومحليًا.