logo
رحلة في فكرة .. أين أصاب كارل ماركس وفيما أخطأ؟

رحلة في فكرة .. أين أصاب كارل ماركس وفيما أخطأ؟

أرقام15-02-2025

شاعت النظريات الاقتصادية لكارل ماركس، الذي وُلد قبل قرنين من الزمان، في معظم بلدان العالم خلال القرن العشرين، حتى كادت تتحول إلى عقيدة لا تقبل النقاش. فلنستعرض معاً أفكاره لنرى ما كان صائباً منها وما لم يكن كذلك.
- عندما كان كارل ماركس يُعدّ نظرياته الاقتصادية في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا خلال القرن التاسع عشر، كانت الدول الأوروبية الكبرى آنذاك مراكزَ للقوة السياسية والاقتصادية في العالم.
- فقد هيمنت إمبراطورياتها المترامية الأطراف على التجارة والصناعة، وأخضعت جيوشها شعوباً أخرى.
- بيد أن ذلك لم يعنِ بالضرورة أن الأوروبيين كانوا ينعمون بحياة رغيدة، إذ كانت الظروف المعيشية في بلدانهم غاية في الصعوبة بالنسبة إلى عامة الناس، ولا سيما العمال الذين يكدحون في مصانع الثورة الصناعية الناشئة.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
- ففي ذلك الوقت، تطورت التكنولوجيا بوتيرة متسارعة، لكن لم يكن هناك أي شكل من أشكال الحماية الاجتماعية الحكومية، وكثيراً ما تعرّض العمال لاستغلال وحشي. لقد عاش ماركس في حقبةٍ مضطربةٍ بامتياز.
- وُلد كارل ماركس في الخامس من مايو عام 1818، لعائلة يهودية ألمانية تنتمي إلى الطبقة المتوسطة العليا.
- في عام 1848، الذي بلغ فيه ماركس الثلاثين من عمره، اجتاحت أوروبا موجة من الثورات الديمقراطية.
فقد ضاق الملايين من الأوروبيين ذرعاً بالحكم المستمر للملوك والأرستقراطيين الذين توارثوا السلطة.
- كانوا يتوقون إلى الديمقراطية، وكانت الثورتان الأمريكية (1775-1783) والفرنسية (1789-1799) خيرَ مُلهم لهم، حيث نجحتا قبل جيلين في الإطاحة بالحكم الملكي.
- إلا أن ثورات عام 1848 باءت بالفشل، وتم قمعها بالقوة المسلحة، واستمر الحكم الملكي في ألمانيا وغيرها حتى عام 1918، مع نهاية الحرب العالمية الأولى.
- في ذلك العام، نشر ماركس، المفكر الثوري الشاب آنذاك، بالاشتراك مع زميله فريدريك إنجلز كتيباً ذاع صيته في الآفاق، ألا وهو "البيان الشيوعي".
- وقد أمضى ماركس بقية حياته في تطوير الأفكار السياسية والاقتصادية التي عبر عنها بوضوح لأول مرة في عام 1848.
- ونُشرت أعماله الرئيسية في 3 مجلدات ضخمة تحت عنوان "رأس المال"، التي كتبها بين عامي 1867 و1883.
النظرية الاقتصادية أصبحت عقيدة طائفية
- كان كارل ماركس مفكراً اقتصادياً لامعاً، إلا أنه تميز أيضاً بأنانية وعناد، وكان على قناعة دائمة بصحة أفكاره. وفي الاجتماعات اليسارية، كان دائمًا ما يُرهب ويُذلّ أي شخص يجرؤ على مخالفة أطروحاته.
- أما صديقه الثري، فريدريك إنجلز، فقد كان مُروجاً ومُنظماً فعالاً، يؤمن بماركس وأفكاره بحماس شديد، ويُقدم له الدعم المالي السخي.
- لقد شاءت الأقدار أن يتبوأ ماركس مكانةً مرموقةً، أعلى بكثير من مكانة مُنافسيه من خبراء الاقتصاد السياسي اليساريين، وذلك بفضل مزيجه الفريد من التألق، والجدل، والترويج الذاتي.
- وخلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ترسخت أفكاره كعقائد لا تقبل النقاش في أوساط اليسار السياسي الثوري.
- ونتيجة لذلك، عندما انهارت مصداقية الأسر الملكية في أوروبا في أعقاب الحرب العالمية الأولى الكارثية التي زجّت بالقارة الأوروبية في أتونها، كانت أفكار ماركس وعقائده هي الملجأ الذي حاول الثوار اليساريون تطبيقه.
- لقد أصبحت كتابات ماركس بمثابة الكتاب المقدس للثوار الذين استولوا على السلطة في روسيا عام 1917، وفي بلدان أخرى لاحقاً.
- وحتى يومنا هذا، وبعد أن فقدت الشيوعية المستوحاة من الماركسية مصداقيتها بشكل كامل بسبب التجارب التاريخية المأساوية، لا يزال عدد لا حصر له من الجماعات اليسارية يُعرّف نفسه بأنه "ماركسي"، ويتشبث بأفكار الاقتصادي الملتحي بتعصب شبه ديني.
- ويُصر الكثيرون على أن نظريات ماركس كانت صحيحة إلى حد كبير، وأن الكوارث التي حلت بالشيوعية في العالم الحقيقي لم تكن إلا نتيجة لعدم تطبيق أفكاره على النحو الأمثل.
ولكن ما هي تلك الأفكار؟
العقائد
- تمحورت الفكرة الأساسية التي طرحها ماركس حول تفسير التاريخ البشري برمته بوصفه صراعاً مادياً بين الطبقات، صراعاً تكون محصلته صِفراً للسيطرة على وسائل الإنتاج وتوزيع الناتج.
- استند في هذه الفكرة إلى ملاحظته، لاستغلال "البروليتاريا"، أو عمال المصانع في القرن التاسع عشر، من جانب أصحاب المصانع (الصناعيين)، الذين أطلق عليهم ماركس اسم "الرأسماليين"، أو أصحاب رأس المال.
- وقد قصد ماركس بـ "رأس المال" وسائل الإنتاج المادية، لا المال، رغم إدراكه أن امتلاك المال ضروري أولاً لشراء رأس المال المادي.
- أفرد ماركس حيزاً كبيراً في كتابه "رأس المال" لمسألة كيفية حصول رجال الأعمال في البداية على ما يكفي من المال لشراء المصانع.
- وزعم أن المصادر الأصلية للثروات الكبيرة كانت دائمًا تقريبًا شكلاً من أشكال السرقة، مثل الاستيلاء على الأراضي العامة وخصخصتها، أو الاستحواذ على الغنائم من خلال الحرب، أو الاستعمار، أو استعباد العمال، أو الإفلاس المالي.
- وفي هذا الصدد، يقدم لنا التاريخ أمثلة لا حصر لها تؤكد فرضية ماركس. ومن الأمثلة الحديثة على ذلك استحواذ الأوليجارشيون الروس وأوروبا الشرقية على ثروات طائلة بعد أن استولوا على الممتلكات العامة في أعقاب انهيار الشيوعية.
من الرأسمالية إلى الشيوعية: كيف يتصور ماركس تحول النظام الاقتصادي والاجتماعي
- في المجلد الأول من كتابه "رأس المال"، يرى ماركس أن الرأسماليين يحققون "أرباحاً" غير عادلة، من خلال الاستيلاء على "قيمة فائض العمل"، التي يُعرّفها بأنها الفرق بين تكاليف صاحب المصنع والإيرادات المتحققة من بيع السلع المنتجة.
- وبما أن العمال هم من يُنتجون السلع، فقد جادل ماركس بأنهم، وليس الرأسمالي، هم أصحاب الحق في الحصول على كامل عائدات المبيعات. ومن هذا المنطلق، يُعتبر الرأسمالي، في جوهره، مُتطفلاً.
- يقودنا هذا التصور مباشرة إلى وصفة ماركس السياسية والاقتصادية الرئيسية: "يجب على البروليتاريا" الاستيلاء على وسائل الإنتاج.
- اعتقد ماركس أن هذا سيحدث حتماً، ويعود ذلك جزئياً إلى أن البروليتاريا تفوق الطبقة الرأسمالية عدداً، وبالتالي ستنتصر في النهاية في "الصراع الطبقي" - كل ما تحتاجه هو "وعي طبقي" كافٍ لإدراك طبيعة محنتها.
- كما زعم ماركس أن المنافسة بين الرأسماليين في أي مجال صناعي ستؤدي إلى الإفراط في الإنتاج، وضغوط شديدة على الأسعار، وبالتالي انهيار صافي الأرباح.
- وسيؤدي هذا الميل المفترض لانخفاض معدل الربح حتماً إلى الأزمات، لأنه بدون أرباح، لن يتمكن الرأسماليون من مواصلة التراكم المالي.
- اعتقد ماركس وإنجلز أن الرأسمالية غير مستقرة، وأنها ستنهار في نهاية المطاف بسبب "تناقضاتها الجوهرية"، لتفسح المجال للاشتراكية، حيث تكون وسائل الإنتاج مملوكة للمنتجين (العمال).
- وفي نموذج ماركس، ستكون المرحلة النهائية للاشتراكية هي الشيوعية - وهو النظام الذي تختفي فيه الملكية الخاصة تماماً، وتصبح الموارد والأصول مملوكة للجميع.
- من المفترض أن يُساهم الأفراد بحرية وبكامل إرادتهم وقدراتهم، وأن يحصلوا على ما يحتاجونه ويلبي متطلباتهم الأساسية. مع ذلك، لم يتطرق ماركس إلى تفاصيل آلية عمل هذا النظام، وهذا ما أدى إلى إخفاقه في الواقع.

Orange background

Try Our AI Features

Explore what Daily8 AI can do for you:

Comments

No comments yet...

Related Articles

الهيمنة الرأسمالية الأمريكية في طورها الفاشي: الطبقة الحاكمة دون قناع
الهيمنة الرأسمالية الأمريكية في طورها الفاشي: الطبقة الحاكمة دون قناع

Kassioun

time18-05-2025

  • Kassioun

الهيمنة الرأسمالية الأمريكية في طورها الفاشي: الطبقة الحاكمة دون قناع

وفقاً للأيديولوجيا السائدة، فإنّ مَصالِح الأثرياء التي تحكم السوق لا تحكم الدولة - وهو فصل ضروري لمفهوم الديمقراطية الليبرالية. غير أنّ هذه الأيديولوجيا الحاكمة باتت اليوم تنهار في وجه الأزمة البنيوية للرأسمالية الأمريكية والعالمية، وانحدار الدولة الليبرالية-الديمقراطية نفسها، مما أدى إلى انقسامات عميقة في صفوف الطبقة الحاكمة، وصعود شكل جديد من الهيمنة الرأسمالية العلنية على الدولة تتجسّد في إدارة يمينية ميّالة إلى الفاشية. عودة ترامب إلى البيت الأبيض لولاية ثانية لا تعني بطبيعة الحال أنّ الطبقة الأوليغارشية الرأسمالية قد أصبحت فجأة ذات نفوذ سياسي طاغٍ، فهذه الحقيقة قائمة منذ زمن بعيد. غير أنّ البيئة السياسية برمتها، ولا سيما منذ الأزمة المالية لعام 2008، أخذت تنزاح نحو اليمين، بينما باتت الأوليغارشية تمارس تأثيراً مباشراً متزايداً على الدولة. فأصبح أحد أجنحة الطبقة الرأسمالية الأمريكية يسيطر علناً على جهاز الدولة الأيديولوجي في ظل إدارة ميّالة إلى الفاشية، حيث لم يعد للمؤسسة النيوليبرالية التي أدارت الدولة لعقود إلا دور الشريك الثانوي. والهدف من هذا التحوّل هو إعادة هيكلة ارتجاعية للولايات المتحدة في وضعية حرب دائمة، ناتجة عن تراجع الهيمنة الأمريكية وعدم استقرار الرأسمالية الأمريكية، وحاجة طبقة رأسمالية أكثر تركيزاً إلى فرض سيطرة مركزية أكبر على الدولة. في سنوات الحرب الباردة التي تلت الحرب العالمية الثانية، سعى حُماة النظام الليبرالي-الديمقراطي في الأوساط الأكاديمية والإعلامية إلى التقليل من دور مُلّاك الصناعة والمال في الاقتصاد الأمريكي، مدّعين أنهم أزيحوا بفعل «الثورة الإدارية» أو حُدَّت سلطتهم عبر «قوى موازِنة». وفقاً لهذا التصوّر، فإنّ المال والعمال، المالكون والمديرون، كانوا يكبح بعضهم بعضاً. وفي نسخة أكثر تطوراً من هذا الطرح، تمت إذابة مفهوم الطبقة الرأسمالية المهيمنة في ظل الرأسمالية الاحتكارية ضمن فئة ضبابية تُعرف بـ«الأغنياء من أصحاب الشركات». وزُعم أنّ الديمقراطية الأمريكية نتاج تفاعل جماعات تعددية، أو أحياناً تُدار عبر «نخبة القوة». فلا وجود لطبقة حاكمة تمارس الهيمنة في كل من الاقتصاد والسياسة. وحتى لو افترضنا وجود طبقة رأسمالية مهيمنة اقتصادياً، فهي لا تحكم الدولة، التي يُفترض أن تكون مستقلة. وقد رُوّج لهذا التصور في مجمل الأدبيات التعددية الكلاسيكية، على امتداد الطيف من المحافظ إلى الليبرالي. كانت جميع هذه المؤلفات تهدف إلى الإيحاء بأنّ السياسة الأمريكية لا تهيمن عليها طبقة رأسمالية تحكم الأنظمة الاقتصادية والسياسية، بل تهيمن عليها نخب تعددية أو تكنوقراطية. في هذا السياق، تم الترويج لفكرة أن السياسيين ليسوا أكثر من رواد أعمال سياسيين يتنافسون على أصوات الناخبين، تماماً كما يتنافس رواد الأعمال الاقتصاديون في السوق الحرة، ضمن نظام يُعرف «بالقيادة التنافسية». الدولة ككيان مستقل كان موقف ماركس من هذا السؤال معقداً، لكنه لم يَحِد أبداً عن الاعتقاد بأنّ الدولة في المجتمع الرأسمالي تحكمها الطبقة الرأسمالية، مع اعترافه بتنوّع الشروط التاريخية التي تُعدّل من هذا الحكم. ففي «البيان الشيوعي»، كتب ماركس وإنجلس أنّ «السلطة التنفيذية للدولة الحديثة ليست سوى لجنة لإدارة الشؤون المشتركة للبرجوازية». ما يشير إلى أنّ الدولة - أو جناحها التنفيذي - تمتلك استقلالاً نسبياً يتجاوز مصالح الرأسماليين كأفراد، لكنها تبقى مسؤولة عن إدارة المصالح العامة للطبقة ككل. جرى منذ زمن بعيد فهم أنّ الطبقة الرأسمالية تمتلك العديد من الوسائل لتؤدي دور «الطبقة الحاكمة» من خلال الدولة، حتى في ظل نظام ديمقراطي ليبرالي. فمن ناحية، يأخذ ذلك شكل استثمار مباشر في الجهاز السياسي عبر آليات مختلفة، مثل السيطرة الاقتصادية والسياسية على الأحزاب، واحتلال الرأسماليين وممثليهم لمناصب مفصلية في الهيكل القيادي السياسي. تمتلك المصالح الرأسمالية في أمريكا القدرة على التأثير الحاسم في نتائج الانتخابات. إلا أنّ قوة الرأسمال تتجاوز الانتخابات نفسها. فالسيطرة على البنك المركزي—وبالتالي على المعروض النقدي، وأسعار الفائدة، وتنظيم النظام المالي—هي بالأساس في يد البنوك. ومن ناحية أخرى، تتحكم الطبقة الرأسمالية في الدولة بطرق غير مباشرة من خلال قوتها الطبقية-الاقتصادية الهائلة خارج الدولة، بما في ذلك الضغوط المالية المباشرة، والضغط من خلال مجموعات الضغط والتمويل لمراكز الأبحاث، و«باب التدوير» بين صناع القرار في الحكومة وكبار رجال الأعمال، والتحكم بجهاز الثقافة ووسائل الإعلام. في مواجهة «اليسار الأوروبي»، استمرّت الأفكار التجريبية والنظرية بالتقولب لتشكّل صورة حقيقية عن بنى السلطة. كان ما كتبه الاقتصادي السوفييتي منشكوف بين عامي 1962 و1963، ونُشر بالإنكليزية عام 1969 تحت عنوان «المليونيرات والمديرون» من أهم ما كتب. كان منشِكوف جزءاً من برنامج تبادل علمي بين الاتحاد السوفييتي وأمريكا عام 1962، وقام بزيارة رؤساء ومديري كبرى الشركات والبنوك الأمريكية، بما في ذلك هنري فورد الثاني، وهنري مورغن، وديفيد روكفلر. قدّم منشِكوف تحليلاً دقيقاً لبنية السيطرة المالية على الشركات الأمريكية، وشرح كيف أن الجماعة الحاكمة أو الطبقة الحاكمة تتكوّن من الأوليغارشية المالية وليس من المديرين التنفيذيين. فرغم وجود «تحالف مليونيري-إداري»، ورغم وجود تقسيم للعمل داخل الطبقة الحاكمة نفسها، إلا أنّ «الأوليغارشية المالية، أي الجماعة التي تستند قوتها الاقتصادية إلى السيطرة على كتل هائلة من رأس المال الوهمي... والتي تشكل أساس جميع التكتلات المالية الكبرى»، هي من تهيمن في الواقع. وأضاف أنّ سلطة الأوليغارشية المالية كانت في تزايد مستمر. وتابع: «قد يبدو أنّ الهيمنة السياسية للأوليغارشية المالية باتت مضمونة بالكامل، لكن الحال ليس كذلك. إنّ آلة الدولة في الرأسمالية المعاصرة ضخمة ومعقدة. السيطرة على جزء منها لا تعني السيطرة على الجهاز بأكمله. تملك الأوليغارشية المالية آلة الدعاية، ويمكنها رشوة السياسيين والمسؤولين في المركز والأطراف، لكنها لا تستطيع رشوة الشعب، الذي، على الرغم من كل القيود المفروضة على (الديمقراطية) البورجوازية، ما زال ينتخب الهيئة التشريعية. لا يملك الشعب الكثير من الخيارات، لكن دون إلغاء الإجراءات الديمقراطية شكلياً، لا تستطيع الأوليغارشية المالية أن تحمي نفسها بالكامل من الحوادث غير المرغوبة». ديناميكية السلطة والأزمة حدث نمو هائل في قطاع التكنولوجيا العالية خلال التسعينيات، مدفوعاً بعملية الرقمنة الشاملة للاقتصاد وبظهور احتكارات تكنولوجية جديدة. وكان الأثر التراكمي لهذه التحوّلات هو تركّز غير مسبوق في رأس المال والثروة والسلطة المالية. فحتى مع تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي، تضاعفت ثروات الأثرياء بشكل كبير: الأثرياء ازدادوا غنى، والفقراء ازدادوا فقراً، بينما تدهورت ديناميات الاقتصاد الأمريكي الذي دخل القرن الحادي والعشرين مثقلاً بالتناقضات البنيوية. ومع ازدياد اعتماد الاقتصاد الاحتكاري-الرأسمالي في دول المركز على التوسع المالي، وبروز مطالبات مالية على الثروة أكبر من القدرة الإنتاجية الفعلية، بات النظام لا أكثر ظلماً فقط، بل أشد هشاشة أيضاً. فالأسواق المالية بطبيعتها غير مستقرة، إذ تعتمد على دورات الائتمان وتقلباتها. وكلما ازداد اعتماد الاقتصاد على التمويل، في ظل ركود الإنتاج، ارتفعت مستويات الخطر. ولم يكن الرد على ذلك سوى زيادة استنزاف الطبقة العاملة وضخ أموال ضخمة من الدولة إلى الرأسمال، غالباً عبر البنوك المركزية. خلّفت الأزمة المالية الكبرى آثاراً طويلة المدى على الأوليغارشية المالية الأمريكية وعلى النظام السياسي برمّته، مما أدى إلى تحوّلات كبيرة في بنى السلطة داخل المجتمع. وقد بدا واضحاً، عقب انهيار بنك «ليمان براذرز» في أيلول/سبتمبر 2008، أنّ النظام المالي يتجه نحو «انهيار هائل»، وهو ما أدخل الطبقة الرأسمالية ومعظم المجتمع في حالة من الصدمة، وسرعان ما امتدت الأزمة إلى مختلف أنحاء العالم. لكنّ الأكثر رعباً بالنسبة للطبقة الرأسمالية الأمريكية في خضم الأزمة المالية، لم يكن فقط الانهيار الداخلي، بل أيضاً الأداء المفاجئ للاقتصاد الصيني. ففي حين كانت أمريكا وأوروبا واليابان تغرق في الركود، بالكاد تأثر الاقتصاد الصيني، ثم سرعان ما عاود النمو بوتيرة قاربت العشرة بالمئة. والرسالة كانت واضحة: الهيمنة الاقتصادية الأمريكية تتآكل بسرعة أمام صعود الصين، ما يشكّل تهديداً للهيمنة المالية للدولار وللقوة الإمبريالية لرأسمالية الاحتكار المالي الأمريكية. بدأت موجة اليمين المتطرف تأخذ شكلاً واضحاً في إطلاق شرارة ما سيُعرف لاحقاً باسم «حركة حزب الشاي». على الرغم من أن حزب الشاي لم يكن حركة شعبية حقيقية، بل صناعة إعلامية محافظة، إلا أنّه أظهر أنّ لحظة تاريخية قد حانت يمكن فيها لأقسام من رأس المال الاحتكاري-المالي الأمريكي أن تعبئ الطبقة الوسطى الدنيا البيضاء، وهي الطبقة الأكثر قومية وعنصرية وذكورية ورجعية في المجتمع الأمريكي. تتكوّن هذه الطبقة الوسطى الدنيا من مدراء منخفضي الرتبة، وأصحاب المشاريع الصغيرة، ومزارعين ريفيين يمتلكون مساحات محدودة، ومسيحيين إنجيليين بيض، وما شابه ذلك. وهذه الفئة تحتل موقعاً طبقياً متناقضاً في البنية الاجتماعية الرأسمالية: فدخلها يفوق في العادة مستوى الدخل الوسطي للمجتمع، لكنها تبقى أدنى من الطبقة الوسطى العليا أو النخبة المهنية-الإدارية، مع مستويات تعليم متوسطة أو منخفضة، وغالباً ما تتماهى أيديولوجياً مع النخب الاقتصادية الكبرى. ويطغى على وعيها الطبقي ما وصفه كثير من علماء الاجتماع بـ«الخوف من السقوط» إلى صفوف الطبقة العاملة. تاريخياً، تنشأ الأنظمة الفاشية حين تشعر الطبقة الرأسمالية بأنها مهددة بشكل وجودي، وحين تصبح الديمقراطية الليبرالية عاجزة عن التعامل مع التناقضات السياسية-الاقتصادية والإمبريالية الأساسية في المجتمع. وغالباً ما تعتمد هذه الأنظمة على تعبئة الطبقة الوسطى الدنيا، إلى جانب بعض الفئات من الطبقة العاملة. وليس أكثر دلالة من اختيار ترامب عضواً سابقاً في حزب الشاي مدعوماً من شبكة كوك، هو مايك بنس من إنديانا، ليكون نائبه عام 2016. وفي عام 2025، عيّن ماركو روبيو، أحد رموز حزب الشاي، وزيراً للخارجية. وقد قال ترامب عن حركة حزب الشاي: «هؤلاء الناس لا يزالون موجودين. لم تتغير آراؤهم. حزب الشاي لا يزال قائماً—لكن اسمه أصبح اليوم: لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً». في الأنظمة الفاشية الكلاسيكية في إيطاليا وألمانيا، ارتبطت الخصخصة بزيادة مهام الدولة القمعية وتصعيد النزعة العسكرية والإمبريالية. وعلى هذا النحو، شكّلت النيوليبرالية الأساس الذي انطلقت منه الفاشية الجديدة، حيث نشأ تحالف عضوي بينهما يُهيمن اليوم على الدولة ووسائل الإعلام، ويتجذّر في أعلى طبقات الرأسمالية الاحتكارية. اليوم، لم يعد بالإمكان إنكار وجود حكم مباشر من قِبل شريحة نافذة من الطبقة الحاكمة الأمريكية. الحقيقة اليوم أنّ ما يجري لم يعد مجرد صراع طبقي، بل حرب طبقية شاملة. أدّى تركّز الفائض العالمي في يد الطبقة الاحتكارية-المالية الأمريكية إلى خلق أوليغارشية مالية لا مثيل لها، وأصبح هؤلاء الأوليغارشيون في حاجة ماسّة إلى الدولة. ويبرز هذا بشكل خاص في قطاع التكنولوجيا المتقدمة، الذي يعتمد اعتماداً كبيراً على الإنفاق العسكري الأمريكي والتكنولوجيا المستمدة من الصناعات العسكرية، سواء من حيث الأرباح أو من حيث التفوق التكنولوجي نفسه. جاء دعم ترامب، في المقام الأول، من مليارديرات خارج بورصة الأسهم، أي أولئك الذين لا يبنون ثرواتهم على شركات مدرجة تخضع للتنظيم الحكومي، بل على رؤوس أموال خاصة «private equity»، ومنهم أيضاً شركات النفط الكبرى. من المهم التنويه إلى أنّ دعم ترامب من الطبقة الرأسمالية لم يأتِ أساساً من الشركات الست الكبرى في عالم التكنولوجيا—أبل، أمازون، ألفابت، ميتا، مايكروسوفت، إنفيديا—بل من تكتلات «وادي السيليكون» الخاصة، وشركات الأسهم الخاصة، وصناعات النفط. فرغم كونه مليارديراً، يبقى ترامب مجرّد واجهة لتحوّل سياسي-اقتصادي عميق يجري خلف الكواليس، تتحكّم به قوى طبقية فعلية تستخدمه كرمز لحركتها. كتب الصحفي والاقتصادي الاسكتلندي وعضو البرلمان السابق جورج كيريفان أنّ ترامب «شعبويّ، لكنه لا يعدو أن يكون تمثيلاً لحقائق طبقية فعلية». في عام 2021، قدرت مجلة فوربس صافي ثروة أعضاء حكومة بايدن بـ118 مليون دولار. أما حكومة ترامب في 2025، فتضم 13 مليارديراً، وتصل ثروتهم الإجمالية—بحسب منظمة Public Citizen—إلى ما يقارب 460 مليار دولار، منها وحدها 400 مليار دولار تخص إيلون ماسك. حتى دون احتساب ماسك، فإنّ ما تملكه حكومة ترامب الجديدة من ثروات يتجاوز بعشرات المرات ما امتلكته حكومته الأولى (3.2 مليار دولار). في عام 2016، وكما أشار الكاتب دوغ هينوود، كان كبار الرأسماليين الأمريكيين ينظرون إلى ترامب بريبة، ويعتبرونه خطراً غير مضمون النتائج. أما في عام 2025، فقد تحوّل حكم ترامب إلى نظام يحكمه المليارديرات بشكل مباشر، وهو ما يُمثّل انزياحاً عميقاً في نمط الحكم الأمريكي. فسياسات ترامب اليمينية المتطرفة أدت إلى أن يحتل أفراد من قائمة «فوربس 400» لأغنى الأمريكيين مواقع مفصلية في السلطة، مع نية صريحة لإعادة هيكلة النظام السياسي الأمريكي برمّته من الداخل. ما نشهده اليوم ليس مجرد تكرار لولاية ترامب الأولى، بل هو تحوّل نوعي نحو فاشية أمريكية واضحة المعالم، حيث تتجسد فيها الهيمنة الطبقية دون قناع، من خلال تحالف طبقي مباشر بين أقل من واحد في المئة من السكان—الطبقة الرأسمالية فائقة الثراء—وبين قاعدة اجتماعية متماسكة تتكوّن أساساً من الطبقة الوسطى الدنيا البيضاء، التي تشكّل القاعدة الجماهيرية لحركة ترامب. ما نشهده هو دولة يمينية تنزع إلى الفاشية، يقودها «رئيس إمبراطوري» تجاوز بالفعل الحدود الدستورية التقليدية. السؤال الآن: إلى أي مدى يمكن لهذا التحوّل أن يستمر؟ وهل سيُطبع ويُشرعن ضمن النظام الأمريكي القائم؟ هذا مرهون بجانبين متقابلين: من جهة، مدى قدرة تحالف الطبقة الحاكمة مع حركة «لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً» على فرض هيمنته، ومن جهة أخرى، صمود الحركات الشعبية من الأسفل في ما أسماه أنطونيو غرامشي «الصراع من أجل الهيمنة». أفضى تخلي اليسار الغربي منذ عقود عن مفهوم «الطبقة الحاكمة» إلى عجز تحليلي عن فهم الواقع السياسي كما هو، وأضعف إمكانية بناء استراتيجية فعالة لمواجهة سيطرة رأس المال في زمن الأزمة البنيوية للرأسمالية. لكن كيف يمكن خوض هذا النضال؟ حين واجه فلاديمير لينين واقع «أرستقراطية العمال» داخل الطبقات العاملة في دول المركز الرأسمالي، والتي تحالفت مع الإمبريالية، كان جوابه: التوجّه إلى عمق الطبقة العاملة وأوسعها، محلياً وعالمياً، أي إلى أولئك الذين «لا يملكون ما يخسرونه سوى قيودهم»، كما كتب في «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية». إنّ نضال اليوم، في ظل الانحدار نحو الفاشية، ليس نضالاً إصلاحياً عادياً، بل هو معركة شاملة ضد نظام طبقي مغلق، يزداد عنفاً وتركيزاً، ويخوض حرباً صريحة على الجميع باسم «استعادة العظمة». ومعه، لا بد من صراع جماهيري يتجاوز وهم الحياد السياسي للدولة، ويكشف بوضوح طبيعة النظام: دولة احتكارية تحكمها أقلية مالية-تكنولوجية تستخدم القومية والشعبوية ستاراً لاستبدادها الجديد.

الوكالة اليهودية... "شبه دولة" أسست لإسرائيل قبل قيامها
الوكالة اليهودية... "شبه دولة" أسست لإسرائيل قبل قيامها

Independent Arabia

time15-05-2025

  • Independent Arabia

الوكالة اليهودية... "شبه دولة" أسست لإسرائيل قبل قيامها

قبل نحو عقدين من إعلان قيام دولة إسرائيل كانت "شبه دولة" أخرى تمهد الأرض للكيان المنتظر، هي "الوكالة اليهودية" التي ساعدت اليهود على الهجرة ودمجهم في مجتمع كان يتشكل على نسبة قليلة من أرض فلسطين، وما زالت حتى الآن تعمل للحفاظ على فكرة الدولة اليهودية بعد مرور أكثر من قرن على إنشائها. فكرة إنشاء هيئة سياسية تنفذ مشروع "الوطن اليهودي" ظهرت منذ المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897، الذي أقر أن هدف الصهيونية هو إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وبعد تعهد بريطانيا تسهيل إنشاء الوطن اليهودي في فلسطين، المعروف باسم "وعد بلفور"، بدأ تأليف كيان تابع للحركة الصهيونية داخل فلسطين التي كانت لا تزال تحت حكم الدولة العثمانية، خلال وقت بدت فيه بوادر تفكك العثمانيين مع هزائمهم في الحرب العالمية الأولى. وبعد وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني عام 1920، بدأت بريطانيا تنفيذ وعدها بإقامة وطن قومي لليهود، إذ نصت المادة الرابعة من صك الانتداب على أنه "يعترف بوكالة يهودية ملائمة كهيئة عمومية لإسداء المشورة إلى إدارة فلسطين والتعاون معها في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، وغير ذلك من الأمور التي قد تؤثر في إنشاء الوطن القومي اليهودي ومصالح السكان اليهود في فلسطين، ولتساعد وتشترك في ترقية البلاد". إنشاء الوكالة وقيام الدولة وتزامناً مع مصادقة عصبة الأمم رسمياً على الانتداب البريطاني، أُنشئت "الوكالة اليهودية لأرض إسرائيل" عام 1922 لتكون كياناً معترفاً به لإنشاء الوطن القومي لليهود، تطبيقاً للمادة الرابعة من صك الانتداب، مما جعلها أشبه بحكومة للمستوطنين الصهيونيين في أرض فلسطين، وتمتعت بسلطات واسعة بالتعاون مع الإدارة البريطانية، وهو ما سيجعلها لاحقاً قادرة على تحدي سلطة الانتداب. نتائج عمل الوكالة في تشجيع الهجرات اليهودية ظهرت سريعاً، إذ ارتفع عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين ليبلغ 70 ألفاً بين عامي 1924 و1928، في مقابل نحو 40 ألفاً خلال الأعوام الأربع السابقة، حسب دراسة منشورة في موقع "الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية". ووفق المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية تركزت هذه الموجة من الهجرة داخل المدن، مما أدى إلى تضاعف سكان أول مدينة يهودية "تل أبيب" من 16 إلى نحو 40 ألف شخص خلال مدة قصيرة، وجرى إنشاء أول جامعة عبرية في فلسطين، وإقامة مزيد من المنشآت الصناعية والمدارس داخل المدن العبرية أو المختلطة مثل القدس وحيفا. وتعزز عمل الوكالة اليهودية إثر قرار المؤتمر الصهيوني الـ16 عام 1929 توسيع عملها بهدف زيادة الهجرة اليهودية وشراء الأراضي الفلسطينية لتمكين حركة الاستيطان، إلى جانب تشجيع الاستيطان الزراعي المبني على العمل اليهودي، ونشر اللغة والتراث العبريين داخل فلسطين. ومع نشوب الحرب العالمية الثانية كان للوكالة اليهودية دور كبير في تشكيل "اللواء اليهودي"، الذي تألف من 5 آلاف مقاتل يهودي تحت قيادة القوات البريطانية، لكن ذلك التحالف انقلب بعد نهاية الحرب إلى عداء، إذ بدأ اليهود في معاداة سلطة الانتداب البريطاني لما رأوا أنه إحباط لمساعيهم في الإسراع بإنشاء دولتهم، مما دفعهم إلى تشكيل قيادة موحدة للجماعات اليهودية شبه العسكرية، وذلك خلال أكتوبر (تشرين الأول) 1945. دور الوكالة اليهودية في تنظيم أمور اليهود على أرض فلسطين خلال الانتداب جعل رئيس الوكالة ديفيد بن غوريون هو من يعلن قيام دولة إسرائيل خلال الـ14 من مايو (أيار) 1948، ويصبح أول رئيس وزراء لها. وتحول دور الوكالة اليهودية بعد قيام دولة إسرائيل من كونها هيئة شبه حكومية تمثل اليهود في فلسطين إلى منظمة تركز على دعم الهجرة اليهودية، وتعزيز الارتباط بين إسرائيل والجاليات اليهودية حول العالم إضافة إلى التنمية الاجتماعية والاقتصادية. تنظيم الأدوار والتمويل خلال عام 1952، أقر الكنيست قانوناً ينظم أدوار كل من المنظمة الصهيونية العالمية والوكالة اليهودية لإسرائيل، وأوكل القانون للحكومة الإسرائيلية مسائل الأمن والتعليم والتوظيف، التي كانت الوكالة اليهودية تختص بها سابقاً، فيما استمرت ملفات الهجرة والاستيطان واندماج المهاجرين ضمن مسؤوليات الوكالة، وتقلصت تلك الأدوار عام 1968 بإنشاء وزارة لاستيعاب المهاجرين، مما جعل مهمة الوكالة التركيز على جلب المهاجرين من الخارج بينما تتولى الوزارة أمور استيعابهم داخل إسرائيل. ونص قانون 1952 على أن الوكالة اليهودية هي "وكالة معتمدة للدولة"، مما أسس لوضعها شبه الحكومي. وإلى جانب حملات الترويج الخارجية لجذب اليهود إلى إسرائيل، أسهمت الوكالة اليهودية في موجات كبيرة من الهجرة، مثل عملية "بساط الريح" التي هجر فيها 49 ألفاً من يهود اليمن إلى إسرائيل بعد عام من إنشائها، و"عملية سليمان" التي نقل فيها 14400 يهودي من إثيوبيا خلال 36 ساعة فحسب، إضافة إلى المساهمة في استقبال أكثر من 300 ألف يهودي من الاتحاد السوفياتي عامي 1990 و1991 تزامناً مع انهياره. تعتمد الوكالة في تمويلها على التبرعات من داخل وخارج إسرائيل، وتعد الولايات المتحدة وكندا من أبرز مصادر تلك التبرعات، إذ سجلت الوكالة اليهودية كمنظمة غير ربحية مما يسهل التبرعات المعفاة من الضرائب من المتبرعين الأميركيين، لذلك تعد اتحادات الجاليات اليهودية في أميركا الشمالية من أهم المانحين للوكالة. وتعد منظمة كيرين هايسود (النداء الإسرائيلي المتحد) الذراع الرسمية لجمع التبرعات للوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية العالمية، وتعمل في أكثر من 40 دولة لجمع الأموال من الجاليات اليهودية خارج أميركا الشمالية، إضافة إلى ذلك تقدم مؤسسات يهودية وغير يهودية منحاً للوكالة اليهودية لدعم مبادرات محددة، مثل البرامج التعليمية وتنمية المجتمعات في أطراف إسرائيل، مثل النقب والجليل. تاريخياً، قدمت حكومة إسرائيل دعماً مالياً لأنشطة الوكالة اليهودية، إذ أسهمت بين عامي 1948 و1963 بنحو 170 مليون دولار، ما يساوي نحو 14 في المئة من إجمال الدخل خلال تلك الفترة، لكن التمويل الحكومي انخفض مع استقلال عمل الوكالة. وكانت التعويضات التي دفعتها ألمانيا عما يسمى الهولوكوست أحد أكبر مصادر الدخل للوكالة خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. ولدى الوكالة اليهودية مجموعة من الأصول والاستثمارات وعوائد البرامج والخدمات تدر دخلاً كبيراً. ووفق تقرير الحساب المالي للوكالة الذي اطلعت عليه "اندبندنت عربية" بلغت أصولها لعام 2023 أكثر من 1.4 مليار دولار، ارتفاعاً من 1.28 مليار دولار خلال عام 2022. وتظهر موازنة الوكالة التي اطلعنا عليها عبر موقعها الإلكتروني أن 422 مليون دولار ستنفق خلال العام الحالي على أنشطة الوكالة، أكبر مصادرها ستكون قيمة الخدمات التي تقدمها الوكالة، بما في ذلك ما تقدمه لحكومتي إسرائيل والولايات المتحدة دون توضيح نوع هذه الخدمات بقيمة 228 مليون دولار. وفي قائمة المصروفات تبرز أنشطة ربط المجتمعات اليهودية باعتبارها الأكثر إنفاقاً بقيمة 142 مليون دولار ما يوازي 36 في المئة من موازنة الوكالة، ثم الهجرة بقيمة 121 مليوناً بقيمة 34 في المئة ودعم المجتمع الإسرائيلي بـ30 في المئة من الموازنة. الهجرة العكسية على عكس أهداف الوكالة اليهودية في تشجيع الهجرة إلى إسرائيل، أدت هجمات السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 إلى موجة من الهجرة العكسية خارج إسرائيل، إذ قدر مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي عدد المهاجرين عكسياً عام 2024 بأكثر من 82 ألف شخص، في زيادة كبيرة على الأعوام السابقة، وبخاصة أن 81 في المئة منهم تحت 49 سنة مما يعني خسارة قوة العمل في الاقتصاد الإسرائيلي. وتباطأت الهجرة إلى إسرائيل مسجلة 32.8 ألف يهودي عام 2024، انخفاضاً من 48 ألفاً خلال عام 2023. وفي مواجهة اتجاه أعداد متزايدة لمغادرة إسرائيل، أعلن خلال فبراير (شباط) 2024 عن خطة حكومية إسرائيلية لتشجيع استقدام مزيد من اليهود من أنحاء العالم، لتوطينهم داخل المناطق الحدودية الشمالية بالجليل الأعلى وغلاف قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة، وهي تقريباً المناطق التي تركزت فيها الهجمات بعد "السابع من أكتوبر". وبحسب مسؤولين حكوميين إسرائيليين فقد زادت حوادث ما يسمى "معاداة السامية" داخل أوروبا وأميركا بعد أحداث "السابع من أكتوبر"، مما دفع الوكالة اليهودية لفتح الباب أمام اليهود حاملي "شهادات الحق بالعودة" للهجرة إلى إسرائيل. وللتغلب على تلك المخاوف وضعت الحكومة الإسرائيلية خطة تسمى "سفينة اللاجئين" أعلنها وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزير الهجرة والاستيعاب أوفير سوفير بموازنة أولية 170 مليون شيكل (46 مليون دولار)، بهدف التحفيز لتنفيذ طلبات الهجرة، وتشجيع حملات هجرة كبيرة لليهود في العالم إلى إسرائيل. وذكر سموتريتش وسوفير أن طلبات الهجرة تضاعفت من فرنسا والولايات المتحدة، وزادت تلك الطلبات من كندا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى، وفق ما نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، التي أضافت أن الخوف من الأوضاع الأمنية جعل معظم مقدمي الطلبات لا يتخذون خطوة الهجرة فعلياً. وترتكز المحفزات للمهاجرين الجدد التي تشملها الخطة على مكافآت مالية شهرية وامتيازات في المجالات التعليمية، وتوفير فرص العمل والمساعدة على الإيجار، على أن تكون الأولوية لمن يوافق على الاستيطان داخل الضفة الغربية والنقب والجليل الأعلى. لكن الهجمات على إسرائيل لم تثن بعض اليهود عن الهجرة، فوفق بيانات وزارة الشتات الإسرائيلية والمنظمة الصهيونية العالمية والوكالة اليهودية، جرى استقدام 7 آلاف مهاجر جديد إلى إسرائيل، النسبة الأكبر منهم شباب تجندوا ضمن الجيش الإسرائيلي، خلال الفترة بين السابع من أكتوبر 2023 ونهاية يناير (كانون الثاني) 2024. وبعد أشهر من تراجع أعداد المهاجرين يبدو أن المحفزات الاقتصادية أتت ثمارها، إذ نقلت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" عن المنظمة الصهيونية العالمية خلال أغسطس (آب) 2024 أن عدد المهاجرين إلى إسرائيل منذ أكتوبر 2023 بلغ 30 ألف شخص، بينما لم يتخط عدد المهاجرين 12 ألفاً خلال الفترة بين أكتوبر 2023 وأبريل 2024. وبموجب "قانون العودة" الذي أصدرته إسرائيل عام 1950، يحق لليهود وبعض أقاربهم الانتقال إلى البلاد والحصول على جنسيتها. ويبلغ عدد سكان إسرائيل حالياً نحو 10 ملايين بينهم 7.7 مليون يهودي. وكثيراً ما كانت الوكالة اليهودية والمنظمة الأم، المنظمة الصهيونية العالمية، جواز عبور المسؤولين إلى أعلى المناصب في الدولة العبرية، بدءاً من رئيس المنظمة الصهيونية (1920-1946) حاييم وايزمان، الذي اختير أول رئيس لإسرائيل، وديفيد بن غوريون الذي شغل منصب رئيس الوكالة اليهودية منذ 1935 وحتى اختياره أول رئيس لوزراء إسرائيل، وأفراهام بورج الذي شغل المنصب بين عامي 1995 و1999 وتولى رئاسة الكنيست، وآخرهم الرئيس الإسرائيلي الحالي إسحاق هرتسوج، الذي كان الرئيس الـ15 للوكالة اليهودية بين عامي 2018 و2021.

في قصر الصنوبر البيروتي... "ولادات" لبنان المتعددة
في قصر الصنوبر البيروتي... "ولادات" لبنان المتعددة

Independent Arabia

time14-05-2025

  • Independent Arabia

في قصر الصنوبر البيروتي... "ولادات" لبنان المتعددة

اجتماع مرتقب للجنة الخماسية الدولية المعنية بلبنان يزمع عقده في قصر الصنوبر في بيروت، لا يضم فقط سفراء الدول الأعضاء في تلك اللجنة إنما سيكون موسعاً، وسيشمل سفراء دول عربية أجنبية أخرى، كألمانيا وبريطانيا والكويت وغيرها، تحت عنوان "دعم لبنان". ولعل اختيار قصر الصنوبر في بيروت يحظى بدلالة تاريخية وتأكيد جديد على أن لبنان قد بدأ بمسيرة الإصلاح والتعافي. فمن الواضح أن نجاح ورشة انتخابات البلدية والاختيارية والتي عمت أرجاء البلاد، هي إشارة إلى أن العهد الجديد برئاسة العماد جوزاف عون يصر على النهوض من رماد الأزمات السياسية والاقتصادية المتراكمة، وسط ترقب داخلي واهتمام دولي غير مسبوق. تاريخ قصر الصنوبر يبرز اسم قصر الصنوبر في بيروت كشاهد على اجتماعات ولقاءات تاريخية ضمتها جدرانه، هذا القصر ليس مجرد مقر إقامة السفير الفرنسي، بل يُعد رمزاً سياسياً وتاريخياً بالغ الأهمية في الذاكرة اللبنانية، وشاهداً على محطات مفصلية في تاريخ لبنان الحديث. وقد احتضن هذا القصر عدداً من الاجتماعات اللبنانية المصيرية التي أسست أو أرست ملامح تحولات كبرى في البلاد. في الخامس من يناير (كانون الأول) 1915، كان موقع القصر حتى ذلك العام مجرد غابة من الصنوبر خالية من أي مبنى. ويقال إن الأمير فخر الدين المعني الثاني زرع هذه الأشجار في القرن السابع عشر لإيقاف زحف الرمال إلى بيروت من جهة الجنوب. ما وفر مكاناً لسكان المدينة للتنزه والاستجمام في القرون اللاحقة. وفي نهايات عهد الدولة العثمانية، شهدت المنطقة أولى تبدلاتها العمرانية، إذ قرر والي مدينة بيروت يومها عزمي بك بالتعاون مع السفير العثماني في باريس ألفرد موسى سرسق تطبيق مخططات لبناء أندية فخمة للطبقات العليا في المنطقة، على أن تضم داراً للسينما وكازينو وميداناً لسباق الخيل، فقام السفير سرسق باستئجار من بلدية بيروت تلك الغابة والتي كانت تدعى "الحرش" (ولا يزال البيروتيون يستعملون هذا التعبير)، وكانت تعاني الإهمال. وكان هدف سرسق آنذاك تأسيس شركة مغفلة هي "الكازينو والنادي العثماني"، وبدأ بناء قصر الصنوبر في عام 1916 بإشراف فريق من المهندسين منهم أمين وبهجت عبد النور وحسين الأحدب وجورج أفتيموس ومارون غماشي. ووقعت الحرب العالمية الأولى، فلم يستخدم القصر للغرض الذي أنشئ له، حيث صادرت السلطات العثمانية المبنى، والذي حول إلى مستشفى عسكري. وعند تفكك الإمبراطورية العثمانية عام 1918 وقع لبنان تحت الانتداب الفرنسي، فاختار القنصل فرنسوا جورج بيكو القصر واتخذه مقراً له وأعطاه تسمية "قصر الصنوبر". وسرعان ما تحول المكان إلى مقر رسمي لسلطات الانتداب ليعلن من على أدراجه الجنرال غورو في سبتمبر (أيلول) 1920 قيام "دولة لبنان الكبير". وبعد مرور نحو 100 عام، وفي سبتمبر 2019، فتح قصر الصنوبر أبوابه للجمهور، في إطار الأيام الأوروبية للتراث، بعنوان "ادفعوا أبواب قصر الصنوبر"، حينها جال الزائرون في قاعة الطعام الكبيرة والصالون الكبير والردهة وصالون الموسيقى ومكتب السفير والصالون العثماني والفسحة أعلى درج المدخل ونصب الموتى. وفي ذلك الوقت، أعلن السفير الفرنسي لدى بيروت برونو فوشيه في لقاء مع الصحافيين أنه "جرى فتح أبواب قصر الصنوبر أمام الجمهور اللبناني للسنة الثالثة على التوالي، احتفاء بالأيام الأوروبية للتراث، وقد عرفت هذه البادرة نجاحاً كبيراً سابقاً، ففي هذا القصر جرى الإعلان عن دولة لبنان الكبير في الأول من سبتمبر 1920. وهذا القصر نوعاً ما هو بيت اللبنانيين وجزء من تاريخهم، ونحن نحافظ عليه حيث يستضيف العديد من المناسبات، ومنها الاحتفال بالعيد الوطني الفرنسي في 14 يوليو (تموز) من كل عام وهو أكبر حفل استقبال دبلوماسي في المدينة. ونحن أردنا فتح أبواب هذا القصر أمام كل من يرغب بزيارته، فهو جميل جداً، ويعتبر من أجمل منازل بيروت وجرى تجديده وافتتاحه من قبل الرئيس الراحل جاك شيراك في 30 مايو (أيار) 1998 بعد الحرب الأهلية التي هدمته بشكل شبه كامل". ملكية القصر تنتقل لفرنسا في تلك المناسبة وزعت ورقة تعريف بالقصر تناولت قصته منذ بداياته. ووفقاً لتلك الورقة فإنه في عام 1921 عرضت فرنسا شراء المقر فتنازل آل سرسق عن عقد الإيجار مقابل مليون و850 ألف فرنك، وجرى كذلك شراء الأرض التي كانت ملكاً لبلدية بيروت فأصبح قصر الصنوبر ملكاً للدولة الفرنسية. وبين 1928 و1931 تكفل جبران طرزي بتأمين قطع الأثاث الشرقية للقصر وتلبيس الدرج الداخلي فيه بألواح خشبية مصنوعة من خشب الأرز الخالص، واستقدمت لوحات جدارية من دمشق وسقوفيات مصنوعة من الخشب المطلي فضلاً عن الأعمدة الخشبية المطرزة. وتحول القصر إلى مكان لاستضافة حفلات كبيرة فكان كبار الرؤساء والمسؤولين اللبنانيين والأجانب يتوافدون إليه. لم يكن قصر الصنوبر بمنأى عن أهوال الحرب التي طاولت لبنان عام 1975 فدارت المواجهات بين الميليشيات المختلفة في حدائقه وتعرض لأضرار جسيمة لوقوعه على خط التماس، فانتقل السفراء إلى مبنى القنصلية، قبل الاستقرار في مار تقلا (الحازمية) بعد اغتيال السفير لويس دولامار، في واحدة من بين أشهر عمليات الاغتيال التي تعرض لها الدبلوماسيون خلال الحرب الأهلية. وقتل السفير الفرنسي (59 سنة) في الرابع من سبتمبر عام 1981 بعد إصابته بسبع رصاصات في الرأس والصدر والمعدة، أطلقها عليه مجهولون اعترضوا سيارته في بيروت. وبعد إخلائه للمرة الأخيرة في فبراير (شباط) 1984 كلفت قوى الأمن التابعة للجمهورية اللبنانية بحراسته عام 1986. وخلال زيارته الرسمية إلى لبنان عام 1996، أطلق الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك أعمال إعادة تأهيل القصر، والذي افتتحه في 30 مايو 1998 بعد أن كانت الحرب الأهلية قد هدمته بشكل شبه كامل. بيت الوسط الدولي لا يعتبر قصر الصنوبر مجرد مقر دبلوماسي، بل تحول إلى "بيت الوسط الدولي" في لحظات مصيرية من تاريخ لبنان. فقد استضاف الإعلان الأول لقيام الدولة، ورعى حوارات الاستقلال، وكان منصة لمبادرات إنقاذية في الأزمات المتتالية، ما جعله يحتل مكانة رمزية في الوعي الوطني اللبناني، كموقع تلتقي فيه القوى الداخلية بإشراف خارجي، لصياغة تسويات حاسمة في مسار الدولة. فما هي اللحظات الحاسمة والتاريخية التي شهدتها جدران ذلك القصر؟. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) من الممكن اعتبار أن الحدث الأبرز على الإطلاق في تاريخ ذلك القصر، هو إعلان دولة لبنان الكبير الأول من سبتمبر 1920. في هذا اليوم، أعلن الجنرال الفرنسي غورو من شرفة قصر الصنوبر قيام دولة لبنان الكبير، بحضور شخصيات لبنانية تمثل الطوائف المختلفة، من ضمنهم البطريرك الماروني إلياس الحويك. هذا الإعلان شكل نقطة الانطلاق الرسمية للبنان بحدوده الحالية، بعد أن ضمت فرنسا جبل لبنان إلى مناطق من شماله وجنوبه والبقاع والساحل. اجتماعات تأسيسية لبلورة الكيان اللبناني (1920 – 1926) خلال فترة الانتداب الفرنسي، تحول قصر الصنوبر إلى منصة لاجتماعات بين المفوضين الساميين الفرنسيين وزعماء الطوائف والوجهاء المحليين. ونوقشت فيه مسائل مثل النظام الإداري، وتوزيع السلطات، والتمثيل الطائفي، ما أسهم في وضع أسس الدستور اللبناني الأول عام 1926. ولاحقاً عقدت لقاءات تمهيدية للاستقلال ما بين أعوام (1941-1943)، بعد تصاعد المطالبة بالاستقلال، وشهد القصر عدداً من اللقاءات بين السلطات الفرنسية وقادة لبنانيين منهم رئيس الجمهورية الراحل بشارة الخوري ورئيس مجلس الوزراء رياض الصلح. وعلى رغم أن إعلان الاستقلال لم يحدث في القصر، حصلت مفاوضات وتفاهمات مبدئية فيه، خصوصاً بعد أزمة اعتقال القادة اللبنانيين عام 1943 في قلعة راشيا الوادي في البقاع، شرق العاصمة بيروت. اجتماعات الحوار الوطني بعد اغتيال الحريري عقب اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري فبراير (شباط) 2005، وخروج قوات النظام السوري البائد من لبنان، وبدعوة من السفير الفرنسي، شهد قصر الصنوبر اجتماعاً مهماً ضم قادة سياسيين لبنانيين يمثلون القوى الأساسية، لبحث مستقبل العلاقة اللبنانية- السورية والسلاح الفلسطيني، وتثبيت الاستقرار بعد انقسام الشارع اللبناني بين فريق 8 و14 مارس (آذار). المبادرة الفرنسية بعد انفجار مرفأ بيروت بعد حادثة انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس (آب) 2020، زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بيروت بعد يومين من ذلك الانفجار، وعقد اجتماعاً مهماً في قصر الصنوبر ضم ممثلين عن الأحزاب الرئيسة ومجموعة من وجوه المجتمع المدني. كان اللقاء محاولة لفرض عقد سياسي جديد، وإنقاذ لبنان من الانهيار، وقد تكرر هذا النوع من الاجتماعات لاحقاً عبر الموفدين الفرنسيين، لكنه اصطدم بالشلل السياسي اللبناني. لقاءات اللجنة الخماسية كأن لهذا القصر صلة وصل مع الأزمات اللبنانية التي لا تنتهي، وفي سياق الأزمة السياسية التي أعقبت شغور موقع رئاسة الجمهورية التي تلت انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون، أكتوبر (تشرين الأول) 2022، استُخدم قصر الصنوبر كمكان للقاءات بين أعضاء اللجنة الخماسية (فرنسا، السعودية، مصر، الولايات المتحدة، قطر) وبين الزعماء اللبنانيين. وكان الهدف من هذه اللقاءات الدفع باتجاه التوافق على انتخاب رئيس للجمهورية ووضع خريطة طريق للإصلاح السياسي والاقتصادي. يذكر أن القصر شهد زيارات لعدد من الرؤساء الفرنسيين، منهم جاك شيراك ونيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند. في المحصلة، يبقى قصر الصنوبر، بكل ما يحمله من رمزية تاريخية ووطنية، أكثر من مجرد مبنى أثري، إنه مرآة تعكس مسار لبنان الحديث، بتناقضاته وتحدياته. فمنه أُعلنت ولادة "الدولة"، وفيه عُقدت اجتماعات شكلت مفترق طرق في مصير الأمة، وبين جدرانه ترددت أصداء الأمل كما خيبات الرجاء. واليوم، وبينما يرزح لبنان تحت وطأة أزمات متتالية، يعود قصر الصنوبر إلى الواجهة كمحطة لصياغة توافقات جديدة. وكأن القدر شاء أن يظل هذا القصر صلة الوصل بين الماضي والحاضر، شاهداً على استمرار البحث عن وطن يستحق الاستقرار والسيادة، لا أن يبقى رهينة دوامة لا تنتهي من الانهيارات والتجاذبات.

DOWNLOAD THE APP

Get Started Now: Download the App

Ready to dive into the world of global news and events? Download our app today from your preferred app store and start exploring.
app-storeplay-store