تعددية القانون الدولي وتداعياتها الاقتصادية
لم يعد الاقتصاد العالمي يُدار وفق نظام قانوني موحّد، بل أصبح يتحرك ضمن فسيفساء من الفلسفات القانونية المتنافسة التي تبرز رؤى سياسية واقتصادية مختلفة. وتبرز في هذا السياق ثلاث مقاربات رئيسية تُجسّد هذا التحول: النموذج الصيني الذي يعطي الأولوية للسيادة، والنموذج الهندي الذي يميل نحو الثنائية والتعددية القانونية، والنموذج الأوروبي الذي يسعى إلى تصدير المعايير التنظيمية خارج حدوده
.
الصين، على سبيل المثال، تضع مبدأ السيادة وعدم التدخل في صميم تعاملها القانوني مع الخارج، وهو ما يتجلى بوضوح في مبادرة الحزام والطريق التي أنشأت من خلالها بيئة تعاقدية خاصة، تتسم بالمرونة لكنها تُدار وفق شروط قانونية تُفضّل مصالح الشركات الصينية وتقلل من الانكشاف أمام التحكيم الدولي التقليدي. هذا التوجه مكّن الصين من توفير تمويل مرن وسريع لمشاريع البنية التحتية في دول الجنوب العالمي، لكنه في المقابل فرض تحديات كبيرة تتعلق بالشفافية وتوازن القوة التعاقدية. فالافتقار إلى آليات قانونية نزيهة ومحايدة أثار مخاوف حقيقية لدى المستثمرين غير الصينيين، وأسهم في خلق علاقات اقتصادية غير متكافئة تعزز من التبعية المالية لبعض الدول
.
أما الهند، فقد سلكت طريقًا مختلفًا، فبعد انسحابها من عديد من اتفاقيات الاستثمار الثنائية التقليدية، بدأت بإعادة تشكيل إطارها القانوني من خلال التفاوض على اتفاقيات جديدة تضمن لها مساحة سيادية أكبر في تنظيم شؤونها الاقتصادية.
هذه المقاربة تمنح الهند مرونة في رسم سياساتها العامة، لكنها في الوقت ذاته تقلل من مستوى التوقعات القانونية للمستثمرين الأجانب، وتحد من قدرتها على الانخراط في تكتلات اقتصادية كبرى تتطلب درجة عالية من الانسجام القانوني، مثل الاتحاد الأوروبي. والنتيجة أن البيئة الاستثمارية في الهند باتت أكثر تعقيدًا، خصوصًا في القطاعات التي تحتاج إلى استقرار قانوني طويل الأمد
.
وعلى النقيض من النموذجين الآسيويين، يواصل الاتحاد الأوروبي توسيع نفوذه الاقتصادي من خلال تصدير قواعده التنظيمية إلى خارج حدوده. وقد أصبح القانون أداة رئيسية في سياسته التجارية والدبلوماسية، سواء من خلال اللائحة العامة لحماية البيانات التي أثّرت في المنصات الرقمية العالمية، أو من خلال آلية ضبط الكربون على الحدود التي فرضت واقعًا جديدًا على المصنعين الراغبين في دخول السوق الأوروبية. هذه الأدوات القانونية عززت من قدرة الاتحاد على تشكيل سلوك الشركات العالمية وفقًا لأولوياته، لكنها أيضًا رفعت من كلفة الامتثال التنظيمي، وأثارت انتقادات حول ما يُعرف بـ"الهيمنة التنظيمية" أو "الحمائية الخضراء"، خاصة في الدول النامية التي تجد نفسها مطالبة بتكييف سياساتها الداخلية دون أن تكون جزءًا من عملية صنع القرار الأوروبي
.
في ظل هذا التعدد القانوني المتزايد، لم يعد بوسع الشركات العالمية أن تتعامل مع القانون الدولي كإطار موحّد، بل بات عليها أن تدير عملياتها وفقًا لمجموعة من النظم المتباينة التي تختلف من دولة لأخرى، بل ومن قطاع لآخر. وهذا التباين يُعيد رسم خرائط سلاسل التوريد، ويُعقّد من آليات تسوية النزاعات، ويرفع من كلفة الامتثال في البيئات متعددة القواعد.
فبينما يُوفّر هذا الواقع فرصًا لبعض الفاعلين لتصميم نماذج مرنة تستفيد من التعدد القانوني، إلا أنه يتطلب في المقابل قدرًا عاليًا من الإدراك الإستراتيجي والقدرة على التكيّف القانوني المستمر
.
إن المشهد القانوني العالمي لم يعد يتجه نحو التوحيد، بل نحو التمايز المُنظَّم. ولمواكبة هذا التحول، لم يعد كافيًا أن تملك الشركات أدوات مالية قوية أو إستراتيجيات نمو تقليدية، بل أصبح من الضروري أن تُعامل النظم القانونية كعنصر إستراتيجي بحد ذاته. فاختيار موقع الاستثمار أو الشريك التجاري أو السوق الرقمية لم يعد قرارًا اقتصاديًا فقط، بل قانونيًا بامتياز.
وفي عالم تسوده التعددية القانونية، سيكون التفوق من نصيب من يملك القدرة على فهم هذه الفلسفات، والتعامل معها بمرونة واعية، ودمجها في إستراتيجيته الاقتصادية الشاملة
.
مستشارة في الشؤون الدولية والإستراتيجيات العالمية
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ ساعة واحدة
- الشرق الأوسط
بـ10 مليارات دولار... أميركا و«الناتو» يطوران آلية تمويل جديدة لتزويد أوكرانيا بالأسلحة
ذكرت 3 مصادر مطلعة أن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي يعملان على نهج جديد لتزويد أوكرانيا بالأسلحة باستخدام أموال من دول الحلف، لدفع تكلفة شراء الأسلحة الأميركية أو نقلها، وفق «رويترز». ويأتي هذا التعاون بشأن أوكرانيا في الوقت الذي عبر فيه الرئيس الأميركي دونالد ترمب، عن إحباطه من هجمات موسكو المستمرة على جارتها. واتخذ ترمب في البداية نبرة أكثر تصالحية تجاه روسيا في أثناء محاولته إنهاء الحرب المستمرة منذ أكثر من 3 سنوات بأوكرانيا، لكنه هدد بعد ذلك بالبدء في فرض رسوم جمركية واتخاذ تدابير أخرى، إذا لم تحرز موسكو أي تقدم نحو إنهاء الصراع بحلول 8 أغسطس (آب). وقال ترمب الشهر الماضي إن الولايات المتحدة ستزود أوكرانيا بأسلحة سيدفع ثمنها الحلفاء الأوروبيون، لكنه لم يشِر إلى طريقة لإتمام ذلك. وأشارت المصادر إلى أن دول حلف شمال الأطلسي وأوكرانيا والولايات المتحدة تعمل على وضع آلية جديدة، تركز على تزويد كييف بأسلحة أميركية مدرجة على قائمة متطلبات أوكرانيا ذات الأولوية. وستُعطي أوكرانيا الأولوية للأسلحة التي تحتاج إليها ضمن دفعات تبلغ قيمتها نحو 500 مليون دولار، على أن تتفاوض دول الحلف فيما بينها بتنسيق من الأمين العام مارك روته، لتحديد من سيتبرع أو يموّل الأسلحة المدرجة على القائمة. وقال مسؤول أوروبي رفض الكشف عن هويته، إن دول الحلف تأمل عبر هذه الآلية في توفير أسلحة بقيمة 10 مليارات دولار لأوكرانيا. ولم يتضح الإطار الزمني الذي تطمح دول الحلف لتوفير الأسلحة خلاله. وأضاف المسؤول الأوروبي: «هذا هو خط البداية، وهو هدف طموح نعمل على تحقيقه. نحن على هذا المسار حالياً، وندعم هذا الطموح. نحن بحاجة إلى هذا الحجم من الدعم». من جهته، أوضح مسؤول عسكري كبير في حلف شمال الأطلسي، تحدث أيضاً شريطة عدم الكشف عن هويته، أن المبادرة «جهد تطوعي ينسقه حلف شمال الأطلسي، ويشجع جميع الحلفاء على المشاركة فيه». ولفت المسؤول إلى أن الخطة الجديدة تتضمن حساباً جارياً للحلف، يوافق عليه القائد العسكري الأعلى للحلف، حيث يمكن للحلفاء إيداع الأموال لشراء أسلحة لأوكرانيا. وأحجم الحلف عن التعليق. ولم يرد البيت الأبيض ولا وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، ولا السفارة الأوكرانية في واشنطن على طلبات للتعليق. وتواصل القوات الروسية تقدمها تدريجياً في أوكرانيا، وتسيطر حالياً على خمس أراضي البلاد.


الشرق السعودية
منذ ساعة واحدة
- الشرق السعودية
"العدل الأوروبية" تجهض خطة إيطالية لنقل مهاجرين لألبانيا
شككت محكمة العدل الأوروبية، الجمعة، في قانونية قائمة "البلدان الآمنة" التي ترسل إيطاليا بموجبها مهاجرين إلى ألبانيا وتسرع البت في طلبات اللجوء الخاصة بهم في ضربة جديدة لجزء رئيسي من سياسة الهجرة التي تتبعها روما. ووصف مكتب رئيسة الوزراء جورجا ميلوني في بيان قرار المحكمة بأنه "مفاجئ"، وقال إنه "يضعف سياسات مكافحة الهجرة الجماعية غير المشروعة وجهود الدفاع عن الحدود الوطنية". وذكر داريو بيلوتشيو، وهو محام يمثل أحد طالبي اللجوء من بنجلاديش في القضية المرفوعة أمام محكمة العدل الأوروبية، أن مخطط مخيمات المهاجرين في ألبانيا قد انتهى بذلك عملياً. وقال لـ"رويترز": "لن يكون من الممكن الاستمرار بما خططت له الحكومة الإيطالية قبل هذا القرار... من الناحية الفنية، يبدو لي أن نهج الحكومة قد فُكك تماماً". وقدمت ميلوني مسألة نقل المهاجرين إلى مراكز أقيمت في ألبانيا على أنها حجر الزاوية في نهجها الصارم تجاه الهجرة، ونظرت إليها دول أوروبية أخرى كنموذج محتمل. لكن الخطة تعثرت بسبب معارضة قانونية بمجرد إطلاقها تقريباً العام الماضي، إذ أمرت محاكم إيطالية بإعادة مهاجرين إلى إيطاليا بعد أن انتشلوا من البحر ونقلوا لألبانيا، استناداً إلى مشكلات تتعلق بقانون الاتحاد الأوروبي. "حكم طال انتظاره" وفي حكم طال انتظاره، قالت محكمة العدل الأوروبية إن إيطاليا مخولة بذلك بتسريع رفض طلبات اللجوء للقادمين من البلدان المدرجة في قائمة الدول "الآمنة"، وهو مبدأ في صميم الخطة المتعلقة بألبانيا. وقالت إن إيطاليا حرة في تحديد البلدان "الآمنة"، لكنها حذرت أيضاً من أن مثل هذا التصنيف يجب أن يفي بمعايير قانونية صارمة ويسمح لمقدمي الطلبات والمحاكم بالوصول إلى الأدلة الداعمة والطعن عليها. وأشارت محكمة العدل الأوروبية في البيان إلى أن محكمة في روما لجأت إلى قضاة الاتحاد الأوروبي بسبب عدم إمكانية الوصول لمثل تلك المعلومات بما يمنعها بالتالي من إجراء "طعن ومراجعة لقانونية هذا التصنيف الآمن المفترض". وقالت محكمة العدل الأوروبية أيضاً إنه لا يجوز تصنيف دولة ما على أنها "آمنة"، إذا لم تكن توفر الحماية الكافية لجميع سكانها، متفقة فعلياً مع القضاة الإيطاليين الذين أثاروا هذه المسألة العام الماضي. وشكا مكتب ميلوني من أن حكم المحكمة الأوروبية يسمح عملياً للقضاة في إيطاليا بالتحكم في سياسة الهجرة "ما يقلل بشكل أكبر من قدرة البرلمان والحكومة المحدودة بالفعل على اتخاذ القرارات بشأن هذه المسألة". وتتعلق القضية التي طرحت أمام محكمة العدل الأوروبية بمواطنين من بنجلاديش أنقذتهما السلطات الإيطالية من البحر ونقلتهما إلى ألبانيا، حيث رفضت طلبيهما للجوء بناء على تصنيف إيطاليا لبنجلادش على أنها بلد "آمن". ومراكز الاحتجاز التي أنشأتها إيطاليا في ألبانيا فارغة حالياً منذ أشهر بسبب عقبات قانونية. وخلص تقرير الأسبوع الماضي إلى أن تكلفة تشييد تلك المراكز في ألبانيا فاقت ما قد تتكلفه مراكز مماثلة في إيطاليا بسبعة أمثال.


الشرق السعودية
منذ 5 ساعات
- الشرق السعودية
ترمب: الغواصات النووية الأميركية باتت "أقرب إلى روسيا"
قال الرئيس الأميركي دونالد ترمب، إن الغواصتين النوويتين اللتين أمر بنشرهما في وقت سابق الجمعة رداً على تصريحات الرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف، باتتا الآن في مكان "أقرب إلى روسيا". ووصف ترمب خلال مقابلة مع شبكة Newsmax، تصريحات ميدفيديف بأنها وقحة بعد أن أشار الرجل الذي يشغل منصب نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي إلى أن موسكو تمتلك قدرات نووية تعود للحقبة السوفيتية والتي توجد لديها كملاذ أخير، وذلك بعد أن نصح ترمب لميدفيديف بأن "ينتبه لكلامه". وأشار الرئيس الأميركي إلى أنه وبسبب هذه التصريحات أمر بإرسال غواصتين نوويتين أميركيتين "أقرب إلى روسيا"، لافتاً إلى أن "عينيه تلمعان" عندما يُذكر الحديث عن الأسلحة النووية، في إشارة إلى تصريحات ميدفيديف. وتابع ترمب: "رئيس روسيا السابق، والذي يرأس الآن واحداً من أهم المجالس – ميدفيديف – قال بعض الأمور السيئة جداً تتعلق بالنووي. وعندما تذكر كلمة (نووي)، تعرف أن عينيّ تلمعان وأقول: (علينا أن نكون حذرين)، لأنه التهديد الأقصى". وكان الرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف طلب، الخميس، من ترمب أن يتذكر أن موسكو تمتلك قدرات نووية تعود للحقبة السوفيتية والتي توجد لديها كملاذ أخير، وذلك بعد أن نصح ترمب لميدفيديف بأن "ينتبه لكلامه". ورد ترمب على ذلك قائلاً: "ما كان يجب أن يقول ذلك. إنه وقح في لسانه. قال أشياء من قبل أيضاً. ولذا نريد دائماً أن نكون مستعدين. ولهذا السبب أرسلت غواصتين نوويتين إلى المنطقة. فقط أريد أن أتأكد أن كلماته تبقى مجرد كلمات ولا تتجاوز ذلك". وعندما سُئل ترمب عما إذا كانت الغواصات أقرب إلى روسيا، أجاب: "نعم، إنها أقرب إلى روسيا". "الوضع الرهيب لحرب أوكرانيا" كما واصل ترمب انتقاده لما أسماه بـ"الوضع الرهيب" الذي تسببت فيه حرب روسيا في أوكرانيا، وقال: "هذه حرب (الرئيس السابق جو) بايدن، وليست حربي. هذه الحرب ما كانت لتقع. لم تحدث طوال 4 سنوات. لم تكن تُذكر إلا في المحادثات التي أجريتها مع (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين. كانت أوكرانيا بالنسبة له كأنها قرة عينه، لكنه لم يكن ينوي الدخول إليها. وأقول الآن: هذه حرب يجب أن تنتهي. إنها حرب مروّعة". وذكر ترمب أن الموعد النهائي الجديد الذي حدده للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع روسيا هو الثامن من أغسطس، مشيراً إلى أنه إذا لم يتم التوصل لاتفاق، فسيُفرض على روسيا عقوبات، مضيفاً: "وهو (بوتين) يعلم كيف يتعامل مع العقوبات. يعرف كيف يتجنبها". وأوضح أن هدفه الأساسي عند توليه الرئاسة كان إنهاء الحرب، مشيراً إلى أنه كان يعتقد أنه توصل إلى اتفاق مع بوتين 3 مرات مختلفة. وأضاف: "تحدثت كثيراً مع بوتين، وأعتقد أن بيننا محادثات ممتازة. ثم أعود إلى المنزل لأكتشف أن قنبلة سقطت في كييف وبعض المدن الأخرى وقتلت أناساً. أقول لنفسي: لقد أجريت للتو محادثة رائعة معه، وكان يبدو أننا على وشك الاتفاق. اعتقدت أننا توصلنا لحل 3 مرات مختلفة، وربما هو يريد أن يأخذ كل شيء. أعتقد أنه سيكون الأمر صعباً جداً عليه". وعند سؤاله إن كان رأيه في بوتين قد تغيّر خلال الأشهر الماضية، قال ترمب: "من الواضح أنه شخص صلب، لذا من هذه الناحية لم يتغير رأيي. لكنني متفاجئ. أجرينا محادثات جيدة كثيرة، كان بإمكاننا إنهاء هذه الحرب، وفجأة بدأت القنابل تتساقط".