
الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش... من التصلب العقائدي إلى البراغماتية والمراوغة الدبلوماسية
الأحداث الأخيرة في صربيا اجتذبت اهتمام وسائل الإعلام الأجنبية، وبالأخص الأوروبية، إلى هذه المنطقة من البلقان. وهي المنطقة التي شهدت في حقبة التسعينات أحداثاً دامية بسبب الأزمة بين صربيا وإقليم كوسوفو، كما أنها سلّطت الأضواء في الوقت ذاته على نظام الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش، الذي يحاول تقويض زخم الحراك عبر التشكيك في دوافعه وربطه بأجندات خارجية. وهذا الأمر ينذر ببقية صيف سياسي ساخنة قد تضع مستقبل الرئيس الصربي أمام اختبار جدّي يعيد رسم معالم المشهد الداخلي برمّته.
وُلد ألكسندر فوتشيتش عام 1970 في العاصمة الصربية (واليوغوسلافية سابقاً) بلغراد، وتحديداً، في حي «نيو بلغراد» ذي الطابع العمالي الذي كان آنذاك رمزاً للتوسّع العمراني الاشتراكي في يوغوسلافيا السابقة.
ونشأ فوتشيتش في كنف أسرة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة المثقفة، فوالده أنجيلكو عمل مراسلاً صحافياً في وكالة الأنباء الرسمية، بينما كانت والدته آنجيلا معلّمة للغة الإنجليزية في المدارس العمومية. وقد كان له شقيق واحد يُدعى أندريه، ظل بعيداً نسبياً عن الأضواء السياسية.
تلقّى فوتشيتش تعليمه الابتدائي والثانوي في مدارس بلغراد، حيث عُرف بنبوغه الدراسي واهتمامه بالشؤون العامة. والتحق بعد إنهائه الدراسة الثانوية، بدايةً بكلية الحقوق في جامعة بلغراد، ثم تابع لاحقاً دراسات في مجال الصحافة، حيث شغل منصباً صحافياً في القسم الإنجليزي لقناة «كنال إس» بمدينة بال الواقعة في البوسنة والهرسك.
ويذكر أنه استفاد من تجربته مع الإعلام في صقل أدواته الخطابية وإتقان فنون التواصل السياسي، وهو ما سيشكّل لاحقاً إحدى أبرز نقاط قوته بوصفه رجل دولة.
أما على الصعيد العائلي، فإنه عام 1997 تزوّج من الصحافية كيسينيا يانكوفيتش ثم انفصلا، وتزوج ثانيةً من الدبلوماسية تمارا دوكانوفيتش، وهو الآن أب لفتاة في الثانية والعشرين وشاب في السابعة والعشرين من العمر.
انجذب ألكسندر فوتشيتش في شبابه إلى التيارات القومية، ووجد في الحزب الراديكالي الصربي منبراً يُجسّد طموحاته وهواجسه الوطنية، متأثراً بأدبيات فويسلاف شيشلين.
وفي عام 1993، انتقل من المجال الإعلامي إلى الحلبة السياسية، بعد انضمامه إلى الحزب الراديكالي الصربي بقيادة شيشلين الذي كان شخصية قومية متشّددة تمثل التيار الأكثر تطرفاً في المشهد السياسي الصربي حينذاك.
ولكن فوتشيتش لم يكتف بالعضوية العادية، بل سرعان ما برز كأحد أبرز الوجوه الشابة في الحزب، حتى نال ثقة القيادة وأصبح أميناً عاماً للحزب عام 1995، وهو منصب رفيع المستوى احتفظ به 13 سنة، وما يستحق الإشارة هو أنه إبان فترة الحروب اليوغوسلافية، تبنى فوتشيتش خطاباً قومياً حاداً، وصار من أبرز المدافعين عن سياسات الرئيس (السابق الراحل) سلوبودان ميلوشيفيتش.
وحقاً، دافع بقوة عن القادة الصرب الذين اتهموا بارتكاب فظائع خلال الصراع الذي دار بين 1992 و1995.
وفي تصريح مثير للجدل أدلى به في يوليو (تموز) 1995، بعد أيام معدودات من مجزرة سريبرنيتشا التي راح ضحيتها 8000 مسلم من البوسنيين على يد القوات الصربية، هدد قائلاً: «إذا قتلتم صربياً واحداً، فسنقتل مائة مسلم».
هذا الكلام التي أنكره جزئياً عام 2010، ثم ادعى عام 2014 بأن كلماته أُخرجت من سياقها، تعكس عمق التطرف الذي كان يتبنّاه في تلك الفترة.
فوتشيتش عيّن وزيراً للإعلام في «حكومة الوحدة الوطنية» الصربية عام 1998، وفي حينه مارس رقابة صارمة على وسائل الإعلام، وفرض قيوداً مشددة على الصحافة المستقلة، كما منع دخول كثير من وسائل الإعلام الغربية إلى صربيا، في إطار السياسة الإعلامية الرسمية التي كانت تهدف إلى السيطرة على المشهد الإعلامي الصربي.
ولكن، رغم تشّدد فوتشيتش في بداياته، سرعان ما أخذ يظهر قدرة لافتة على إعادة تموضعه السياسي. وفعلاً، انتقل من ضفة الخطاب المتشدد الشعبوي نحو خطاب أكثر براغماتية، مع الحفاظ على جوهرٍ قومي، ما جعله عنصراً مهماً يصعب الاستغناء عنه في المعادلة السياسية الصربية.
ولعل قضية انضمام صربيا إلى «الاتحاد الأوروبي» هي التي شكلت المنعطف الحاسم في مسيرته السياسية؛ إذ شهد الحزب الراديكالي انشقاقاً داخلياً حول هذه المسألة بين التيار المتشدد المحافظ الذي رفض التوجّه نحو أوروبا، والتيار البراغماتي الذي ارتأى ضرورة التكيّف مع المعطيات الجديدة.
وعند وقوع هذا الانشقاق، اختار فوتشيتش الانحياز للبراغماتيين بقيادة توميسلاف نيكوليتش، وغادر معه الحزب الراديكالي ليؤسّسا معاً «الحزب التقدمي الصربي»، الذي سيصبح القوة السياسية المهيمنة في صربيا لاحقاً، الأمر الذي يعكس قدرة فوتشيتش على قراءة المتغيّرات السياسية والتكيّف معها. ومن ثم، في أبريل (نيسان) 2014، اختير ليشغل منصب رئيس لحكومة صربيا.
في ربيع عام 2017، تبوّأ ألكسندر فوتشيتش سّدة الرئاسة الصربية وسط تقاطع تيارات سياسية واقتصادية معقدة شكّلت المناخ المثالي لصعوده. فقد كانت صربيا تعيش آنذاك حالة من الاستقطاب السياسي الحاد بين تيار يدعو للاندماج الكامل في المنظومة الأوروبية، وآخر يتمسّك بالجذور السلافية والتحالف التقليدي مع موسكو.
جاء فوتشيتش إلى الرئاسة محمّلاً برصيد سياسي ثقيل اكتسبه خلال فترة رئاسته للحكومة منذ عام 2014، حين نجح في تنفيذ تغييرات اقتصادية جذرية وصفها المراقبون بـ«الأكثر جرأة في التاريخ الصربي الحديث».
هذه التغييرات، رغم قساوتها الاجتماعية المؤقتة التي تمثّلت في تقليص الرواتب والمعاشات، نجحت لاحقاً، في إنقاذ البلاد من شفير الإفلاس، وإعادة التوازن إلى الميزانية العامة. كذلك نجح فوتشيتش في تحقيق انفراجة دبلوماسية مهمة في ملف كوسوفو من خلال توقيع «اتفاقية بروكسل» عام 2013، التي فتحت الطريق أمام تطبيع العلاقات تدريجياً.
من جهة ثانية، تتّسم علاقة ألكسندر فوتشيتش بموسكو بخصوصيةٍ لافتة، تعكس مزيجاً من الميول التاريخية، والإرث السلافي الأرثوذكسي، والتقاطعات الجيوسياسية. وهو منذ وصوله إلى السلطة، حرص على ترسيخ شراكة استراتيجية مع روسيا، قائمة على المصالح المتبادلة، لا سيما في مجالي الطاقة والدفاع.
وفي مقال بعنوان «صربيا البلد الأوروبي الوحيد الذي يساند بقوة روسيا وبوتين» صدر في ديسمبر (كانون الأول) 2022، كشفت صحيفة «لوموند» الفرنسية عن أن روسيا تُوفّر لصربيا أكثر من 85 في المائة من احتياجاتها من الغاز الطبيعي وبأسعار تفضيلية. وفي مقال آخر بعنوان «بلغراد، الوجهة الجديدة للأثرياء الروسيين»، نشر على صفحات صحيفة «لي زيكو» الاقتصادية بتاريخ 1 يوليو (تموز) 2025، ذكر المقال أن الشركات الروسية تنشط في الكثير من القطاعات الحيوية داخل صربيا، من البنى التحتية إلى النقل والخدمات والسياحة، وأن المستثمرين الروس يختارون صربيا لأنها البلد الأوروبي الوحيد الذي لا يفرض عليهم تأشيرات لدخول البلد أو العمل فيه، وهم في الوقت ذاته يساهمون في بثّ الحيوية في القطاع الاقتصادي، وامتصاص البطالة.
وواقع الحال، أن الرئيس فوتشيتش قام بزيارات متعددة للعاصمة الروسية، التقى خلالها نظيره الرئيس فلاديمير بوتين في مناسبات وُصفت بـ«الودية والحارة»؛ أبرزها الزيارة الرسمية في يناير (كانون الثاني) 2019، وقد كانت وكالة «تاس» الروسية قد نقلت آنذاك تصريحه بأن «العلاقات بين البلدين هي أقوى من أي وقت مضى»، كما نقلت «امتنان بلاده الأبدي لروسيا التي تعتبر بمثابة الأخ الأكبر لصربيا»، في إشارة إلى مواقف الكرملين المساندة لصربيا في حربها مع كوسوفو.
أيضاً، على الرغم من انفتاح فوتشيتش الحذر على الغرب، فإنه لم يتردد أطلاقاً في إظهار قربه من الكرملين عند المحطات الرمزية.
ففي عام 2020، حضر العرض العسكري الكبير في موسكو بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين للنصر على النازية، وكان أحد القادة القلائل من أوروبا الحاضرين، وهي مشاركة اعتبرتها صحيفة «ذي موسكو تايمز» الروسية «إشارة واضحة إلى تموضع بلغراد ضمن الفلك الروسي».
كذلك، شاركت القوات الصربية في مناورات عسكرية مشتركة مع الجيش الروسي، من بينها مناورات «الإخوة السلافيون» التي نُظّمت على الأراضي الروسية، بصفة منتظمة إلى غاية 2019. وفي ظل الأزمة الأوكرانية، اختار فوتشيتش البقاء على مسافة من العقوبات الغربية، معتبراً أن «مصلحة صربيا الوطنية تقتضي الحفاظ على علاقات متوازنة مع روسيا»، ب
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


عكاظ
منذ يوم واحد
- عكاظ
يا تعليم نبدأ كيف: «اثنين والا ثلاثة»؟
منذ أن كنت معلماً أنأَى بنفسي عن مناقشة الأحوال التعليمية وما يشوبها من تداخلات بسبب القرارات الارتجالية أو العشوائية التي تصل إلى الإدارات التعليمية وتصب داخل المدارس كقرارات يجب تنفيذها، بينما نحن (رجال الميدان) نعرف مسبقاً أن هذا القرار لن ينفذ لما يعتريه من خلل لن يجتاز عتبة التنفيذ، وبالرغم من هذا الابتعاد في المناقشة أجد نفسي داخل دائرة النقاش سواء كنت معلماً أو صحفياً.. من العادات الاجتماعية أن كل مهنة أو وظيفة لها شجون تنبث بمجرد اجتماع أهل المهنة أو الوظيفة وتنصب أحاديثهم حول إنجاز أهداف تلك الوظيفة، واجتماعات المعلمين ليست مستثناة من تلك العادة. ليلة البارحة حدث بيني وبين صديق (لا يزال في دائرة التعليم) تواصل بدأ بالتحايا والسؤال عن الحال، وسرعان ما انفتحت سيرة التعليم وقراراته المقررة والملغية. صديقي لم يتمالك ما يجوس في صدره، فانبث شاكياً، ولكي لا أحيد عن شكواه سأضع حيرة المعلمين إزاء تباطؤ الوزارة في أمر حاسم، وكانت بداية الشكوى الحيرة، إذ قال صديقي: تأخر البت في حسم قرار الدراسة بنظام فصلين أو ثلاثة فصول، وهذا التأخر يخلق حالة من عدم الاستقرار والتخبط لدى المجتمع التعليمي بمختلف أطرافه (الطلاب، وأولياء الأمور، والمعلمين، والإدارات التعليمية)، فعدم اتخاذ القرار في الوقت المناسب يجعل التخطيط للمناهج والتقويم الدراسي مرهوناً بالتكهنات، ما يضعف كفاءة التنفيذ. كما أن إدارات المدارس بحاجة إلى معرفة عدد الفصول لتنظيم الجدول الدراسي، والإجازات، وسير العملية التعليمية بشكل عام. كما يتعذر إعداد الجداول والخطط الفصلية بشكل دقيق دون معرفة النظام المعتمد. إضافة إلى الأنظمة الإلكترونية التعليمية التي تحتاج إلى ضبط مسبق حسب التقويم. قبل التنهيد وبعده.. كان من المؤمل من وزارة التعليم تقديم توضيح شفاف لأسباب التأخير إن وُجدت، فقط لقطع التكهنات، وإدارة التوقعات بسبب غياب القرار الرسمي، وغيابه يفتح المجال للاجتهادات الفردية والشائعات، ويجعل المدارس في حيرة التخبط من أجل الاستعداد، والتخطيط، وعرض خططها على أولياء الأمور الشركاء الحقيقيين لتحقيق التحصيل الدراسي المطلوب. يا وزارة التعليم: البت المبكر والواضح في النظام الدراسي يُعزز الاستقرار والكفاءة وجودة التخطيط. أغلقت على شكواه بمفردة: معقولة! نعم.. هل هذا معقول يا وزارة التعليم؟ وإن أردت الاستطراد سوف أضيف أن تأخر حسم قرار الدراسة بنظام فصلين أو ثلاثة فصول يؤكد تباطؤ الوزارة في أمر لا يستوجب معه التباطؤ؛ لأن الحسم في هذا الشأن تُبنى عليه خطط عديدة تبدأ من الأسرة وتتشابك مع بقية مناشط الحياة. مرة أخرى، معقولة إلى الآن لم يحسم قرار (اثنين أو ثلاثة)، مع أنني من البدء كتبت معترضاً على قرار الفصول الثلاثة الذي لم ينجح على أرض الواقع. أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ 2 أيام
- الشرق الأوسط
التقرير الأميركي النهائي عن «إعادة إعمار أفغانستان» يرسم صورة قاتمة
قدّم جهاز أميركي أُنشئ في عام 2008 لتقييم الجهود المبذولة لدعم أفغانستان تقريره الربع سنوي والأخير إلى الكونغرس؛ مشيراً إلى تفاصيل مروعة عن الهدر و«الفساد المستشري» خلال قرابة 20 عاماً من التدخل الغربي، بالإضافة إلى مخاوف بشأن تقليص المساعدات في عهد إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب. وصول العائلات التي تم إجلاؤها من كابل إلى مطار واشنطن دالاس الدولي في عام 2021 (أب) وقد صدر التقرير عن «المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان (SIGAR)»، وهي وكالة حكومية، بتاريخ 30 يوليو (تموز) الماضي، قبل أسبوعين من الذكرى الرابعة لعودة «طالبان» إلى السلطة في أفغانستان. وفي قسم بعنوان «أبرز المحطات»، كشف التقرير أن الحكومة الأفغانية المدعومة من الغرب كانت ترفض في كثير من الأحيان تنفيذ المشاريع التي تقترحها الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، كشف التقرير أن معظم المباني في 5 مرافق تابعة لشرطة الحدود الأفغانية، والتي كلّفت ميزانية ضخمة قدرها 26 مليون دولار، كانت إما غير مأهولة وإما تُستخدم لأغراض بعيدة عن هدفها، بما في ذلك مبنى استُخدم «حظيرة دواجن»! ويعدُّ هذا التقرير المؤلَّف من 99 صفحة الجزء الأخير في سلسلة تقارير مفصَّلة للغاية، رصدت صعود وهبوط المهمة التي قادتها الولايات المتحدة في أفغانستان؛ حيث يتم الآن إنهاء المساعدات الأميركية للبلاد. امرأة أفغانية تنتظر الحصول على حصة غذائية في كابل شهر مايو 2022 (أ.ب) وقالت أورزالا نيمَت، الباحثة البارزة في معهد الخدمات الملكية المتحدة في لندن، لراديو «أوروبا الحرة» إن «توقف تقارير (SIGAR) يُعد خسارة كبيرة. وللأسف، فإن هدر الموارد حقيقة لا يمكن تجاهلها. ومن الجيد أن لدينا مصدراً موثوقاً يمكن الاستشهاد به لإثبات ذلك، ونحن نمضي قدماً». وأضاف المحلل المخضرم للشأن الأفغاني، توماس روتيغ: «إذا كنت تتابع هذه التقارير، فأنت تعلم بوضوح إلى أين تسير الأمور وكيف ستنتهي. ولكن الساسة اختاروا تجاهل ذلك، واستمروا في إرسال رسائل إيجابية عن أفغانستان، حتى اضطرّت القوات الأميركية إلى الفرار في أغسطس (آب) 2021. إنها (التقارير) أرشيف ثمين من البيانات حول ما حدث بشكل خاطئ. وكان من الأفضل لو أن الجهات المانحة، وخصوصاً الحكومة الأميركية، تصرفت بناءً عليها». نائب رئيس الوزراء الأفغاني الملا عبد الغني برادار (وسط) يحضر توقيع مذكرة تفاهم بين وزارة المياه والطاقة وشركة «عزيزي للطاقة» في كابل يوم 2 أغسطس 2025... وقد وقَّعت أفغانستان وشركة «عزيزي للطاقة» اتفاقية بقيمة 10 مليارات دولار أميركي لتوليد 10 آلاف ميغاواط من الكهرباء ما يمثل قفزة كبيرة نحو الاكتفاء الذاتي في أفغانستان من الطاقة (إ.ب.أ) كما أشار التقرير إلى أن الدول الغربية والمؤسسات الدولية أغرقت أفغانستان بالأموال، ما غذّى الفساد الذي تجاهله المسؤولون الأميركيون، بينما «أعطوا الأولوية للأهداف الأمنية والسياسية». وقال روتيغ الذي عمل في أفغانستان مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والحكومة الألمانية بين عامي 2000 و2006، إن هذا التقييم يعكس واقعاً دقيقاً للتدخل الغربي، مضيفاً: «كان هناك إدراك أن (الفساد) يمثّل مشكلة كبيرة، ولكن هذا تعارض مع الاستراتيجية السياسية، فاحتل الفساد مرتبة ثانوية، بينما كانت الأولوية للأمن». ولم يقتصر التقرير الأخير لـ«SIGAR» على مراجعة شاملة للمهمة؛ بل أشار أيضاً إلى التأثير الإنساني الناتج عن قرارات إدارة ترمب بتقليص المساعدات لأفغانستان، قائلاً إن وزارة الخارجية لم توضح أسباب إنهاء برامج معينة. وجاء في التقرير أن «مكتب السكان واللاجئين والهجرة التابع لوزارة الخارجية الأميركية، أبلغ المفتش العام لإعادة إعمار أفغانستان بأن المكتب لم يتم إبلاغه بأسباب إلغاء بعض المنح، وأنه لم يشارك في عملية اتخاذ القرار». عائلة أفغانية لاجئة لدى مغادرتها مركز احتجاز قرب الحدود الباكستانية الأفغانية في تشامان يوم 2 أغسطس 2025 (أ.ف.ب) وذكر تقرير «SIGAR» أن واشنطن «أنهت جميع منح المساعدات الخارجية التي تنطوي على أنشطة داخل أفغانستان» في أبريل (نيسان) الماضي، وذلك عقب أمر تنفيذي في يناير (كانون الثاني) جاء فيه أن «قطاع المساعدات الخارجية الأميركية والبيروقراطية المرتبطة به لا يتماشيان مع مصالح الولايات المتحدة؛ بل ويتعارضان في كثير من الحالات مع القيم الأميركية». وفي غضون أيام، بدأت إدارة ترمب تفكيك الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، وهي الوكالة الرئيسية المسؤولة عن إدارة المساعدات المدنية والتنموية الأميركية. وقالت نيمَت التي عملت على مشروع تابع لـ«USAID» لتوفير ملاجئ لضحايا الاتجار بالبشر: «الوضع مأساوي بعد خفض المساعدات الأميركية. لا أعلم ما الذي حدث لتلك الفئات الضعيفة التي كانت تحظى بالحماية بفضل هذا البرنامج، ولا ما الذي سيحدث لها في المستقبل». وأشار تقرير «SIGAR»أيضاً إلى «تقارير متضاربة» حول محاولات «طالبان» الاستيلاء على أصول، بما في ذلك مركبات عسكرية، من عمليات «USAID» التي أُغلقت هذا العام في أفغانستان. وجاء في التقرير: «أشارت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، إلى أن وحدات مدرعة ثقيلة تابعة لمديرية المخابرات العامة لـ(طالبان) اقتحمت بالقوة مقار شركاء تنفيذيين مرات عدَّة، واستولت على معدات ونقود ووثائق مشاريع»، مضيفاً أن موظفين قد اعتُقلوا واستُجوبوا. ولكن هذه الادعاءات تعارضت مع ما أعلنته الجهات الرسمية في واشنطن، وفقاً لـ«SIGAR»، فقد أفاد كل من: إدارة السكان واللاجئين والهجرة، ومكتب إزالة الأسلحة والحد منها التابع لوزارة الخارجية، بأن شركائهما التنفيذيين لم يُبلغوا عن أي مطالب من «طالبان» للحصول على أصول أو بيانات أو معلومات شخصية عن الموظفين، كما رفض مكتب المساعدات الخارجية بالوزارة الرد على استفسارات «SIGAR» خلال هذا الربع. وتُعد هذه القضية حساسة؛ حيث طالب الرئيس الأميركي حركة «طالبان» بإعادة المعدات العسكرية التي تركتها القوات الأميركية عام 2021؛ إذ قال ترمب في يناير الماضي: «أفغانستان أصبحت واحدة من أكبر بائعي المعدات العسكرية في العالم. هل تعرفون لماذا؟ لأنهم يبيعون المعدات التي تركناها... نحن نريد معداتنا العسكرية». ومن المقرر أن ينهي المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان عمله في سبتمبر (أيلول) المقبل، ولكنه سيصدر تقريراً آخر أخيراً ينظر في كيفية تطبيق الدروس المستفادة من أفغانستان وقطاع غزة وسوريا، وأماكن أخرى، على الحالات المستقبلية التي تواجه فيها بعثات المساعدات تدخلاً في دول غير ديمقراطية.


الشرق الأوسط
منذ 3 أيام
- الشرق الأوسط
محطات مفصلية في تاريخ صربيا السياسي
عام 1991، انهار الحلم اليوغوسلافي مع إعلان جمهوريتي سلوفينيا وكرواتيا استقلالهما، مؤذناً ببداية حقبة من أكثر الصراعات دموية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. وهكذا دخلت جمهورية صربيا، كبرى الجمهوريات اليوغوسلافية السابقة، في دوامة من الحروب المدمرة، التي أحرقت الأخضر واليابس في البلقان، وتركت ندوباً عميقة في النسيج الاجتماعي للمنطقة. بعدها، عام 1995، وُقّعت «اتفاقية دايتون» التي أنهت رسمياً الصراع في جمهورية البوسنة والهرسك. ولكن في ربيع عام 1999، هزّت أصوات الطائرات الحربية سماء بلغراد لـ78 يوماً، في حملة قصف شنّتها قوات حلف شمال الأطلسي «ناتو» بقيادة أميركية لوقف العمليات العسكرية في إقليم كوسوفو. وترك هذا التدخل العسكري، الذي عدّته صربيا عدواناً سافراً على سيادتها، أثراً نفسياً عميقاً في الوعي الجمعي الصربي، وعزّز المشاعر المعادية للغرب لدى قطاعات واسعة من المجتمع. في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2000، اكتسحت موجة غضب شعبي عارمة شوارع بلغراد والمدن الصربية الكبرى، فيما عُرف لاحقاً بـ«ثورة الجرافات». وأطاحت هذه الانتفاضة الشعبية بالرئيس سلوبودان ميلوشيفيتش، الذي حكم البلاد بقبضة من حديد لأكثر من عقد، وفتحت الباب أمام مرحلة جديدة من الإصلاحات الديمقراطية والانفتاح على العالم الخارجي. ومن ثم، عام 2003، شهدت المنطقة تحوّلاً دستورياً مهماً بتحويل ما تبقى من الاتحاد اليوغوسلافي إلى «اتحاد صربيا والجبل الأسود»، في محاولة أخيرة للحفاظ على شكل من أشكال الوحدة. غير أن هذا الاتحاد لم يدم طويلاً، إذ أعلنت جمهورية الجبل الأسود استقلالها عام 2006، ليضع هذا الاستقلال النقطة الأخيرة على كل أشكال الوحدة اليوغوسلافية التي ظلت حلماً راود الشعوب السلافية الجنوبية لعقود. بقايا مقر الجيش الصربي في بلغراد الذي دمره قصف «الناتو» عام 1999 (أ.ب) وفي فبراير (شباط) 2008، تلقت صربيا الصدمة الكبرى في تاريخها الحديث حين أعلن إقليم كوسوفو، الذي تعدّه «قلب صربيا التاريخي»، استقلاله من جانب واحد. ولقد رفضت بلغراد هذا الإعلان رفضاً قاطعاً، وعدّته انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي وسابقة خطيرة تهدد الاستقرار العالمي، رغم الاعتراف الدولي الواسع بالدولة الوليدة. ومنذ عام 2012، دخلت صربيا مرحلة سياسية جديدة تحت قيادة الحزب التقدمي الصربي، حيث سعت لتحقيق توازن دقيق بين التطلعات الأوروبية والعلاقات التاريخية مع روسيا، في لعبة دبلوماسية معقدة تهدف للحفاظ على استقلالية القرار، وسط ضغوط دولية متعددة الاتجاهات.