
'دمار بحجوم توراتية'.. إسرائيليون لقادتهم: أبناؤنا يُقتلون وينتحرون.. وحماس لن تستسلم
وهذه في واقع الأمر هي خلاصة القتال كما نراه في الميدان هذه الأيام. صحيح أنه يؤدي إلى كشف المزيد من الأنفاق ويقتل المزيد من المخربين، لكن لا هدف حقيقياً لهذه الحرب. القتال في الميدان يجري في الغالب بدون عدو في بؤرة الاستهداف، ولا حتى سكان في المحيط. ببساطة، الهدم المكثف للمباني قد لا يجدي للتخلص من حماس، لكن تنم عنه رائحة كالثأر. أصبح الهدم هدفاً بحد ذاته وغايته غير واضحة، إلا إذا سعى أحد ما لمنع أي عودة للفلسطينيين للسكن في القطاع.
غير أن الأعمال الهندسية المكثفة هذه لن تسرع تحرير المخطوفين، ولن تدفع قدماً بحل في غزة على نمط 'تقويض حماس'.
أحد ما تشوش بين هدم المباني والأحياء والبلدات، وبين تقويض المنظمة.
مؤيدو نتنياهو يواصلون بيع قصص واختلاقات على أننا على مسافة نحو خطوة من 'النصر المطلق'. حي غزي آخر في الخرائب، ومدينة مدمرة أخرى، وتفجير آخر، وتقارير عن المس بكبار رجالات حماس، وبكبار رجالات 'الجهاد'، أسماء لا أحد في إسرائيل يعرفها سوى قلة. حتى قيادة حماس في الخارج القليل منها تعرف عمن يدور الحديث.
في هذه الأثناء، مزيد من جنود الجيش الإسرائيلي يقتلون، ومزيد من الجنود الذين يضعون حداً لحياتهم بسبب الفظائع التي رأوها، وبسبب التجارب التي مروا بها. معظم مواطني هذه الدولة ينظرون إلى ما يجري في غزة ويسألون أنفسهم – من أجل ماذا؟ لماذا ترفض هذه الحكومة ورئيسها صفقة مخطوفين شاملة؟ مزيد ومزيد من الأمهات والآباء الذين يخدم أبناؤهم في غزة يصعب عليهم تصديق دخول الابن أو الابنة مرة أخرى إلى القطاع، إلى جولة أخرى بلا غاية باستثناء هدم البيوت والأحياء. فهل يعتقد أحد ما بأن مسؤولي حماس القلائل المتبقين على قيد الحياة سيرفعون أعلاماً بيضاء ويخرجون من الأنفاق بأياد مرفوعة؟ حماس لا ترفع علماً أبيض، ولن تفعل. من جهتها، فلتدمر أحياء أخرى في غزة، ولتقم مدينة إنسانية أخرى في رفح. هكذا ستزداد الضائقة في القطاع، مزيد من الأطفال والنساء الغزيين يعانون ويموتون، هذا يفعل خيراً في ترويج دعايتها في العالم، ويزيد الكراهية لإسرائيل في كل زاوية من المعمورة. وبالنسبة لحماس، إذا انتقلت إسرائيل إلى هدم ممنهج لأحياء في مدينة غزة أيضاً (الذي امتنعت عن فعله حتى الآن) فهذا يفعل خيراً أكبر للمنظمة في المدى الزمني البعيد. مزيد من الأطفال الغزيين سيتجندون لحماس وسيرغبون في القتال ضد الإسرائيليين، يأس آخر في القطاع ينمي الأمل لحماس. الآن، يبنون على خرائب غزة مستقبل المنظمة لعشرات السنين القادمة.
إذن ما العمل؟ عندما حاولت حكومة نتنياهو جعل حماس ذخراً، وعندما سمحت للمنظمة بالنمو، وببناء نفسها، استعدوا لمذبحة 7 أكتوبر. والآن ماذا؟ إذا أوقفنا الحرب ضد حماس فسيبدأون بإعداد '7 أكتوبر التالي'. غير أن هذه الحكومة كان يفترض بها أن تعد خطة لـ 'اليوم التالي'. فور بدء الحرب في غزة، كل من له عينان في رأسه استجدى الحكومة ورئيسها لإعداد بديل لحكم حماس والاستعداد 'لليوم التالي'. لكن هذا الائتلاف كان منشغلاً في تمرير قوانين الانقلاب النظامي، وقوانين التملص من الخدمة. في الوقت الذي يقاتل فيه أفضل أبنائنا ويصابون، ويقتلون، ويضحون بحياتهم، تنشغل هذه الحكومة بمناورات تمنع انتخابات مبكرة وبالبقاء على كرسي الحكم إلى أبد الآبدين.
إذا رغبت إسرائيل ذات يوم في إنهاء هذه الحرب، فعليها السعي إلى تسوية مع دول عربية ومع السلطة الفلسطينية، تؤدي إلى طرد حماس من الحكم في غزة ونزع سلاحه. تسوية كهذه قد تكون على جدول الأعمال إذا اضطرت إسرائيل لعمل ذلك، لكن هذه الحكومة لا ترغب في ذلك؛ بل تتهم الجيش، والإعلام، والمعارضة، فالكل عندها مذنبون في الغرق في الوحل الغزي باستثناء سياسية هذه الحكومة الفاشلة.
في نهاية الأمر، حتى حكومة نتنياهو ستكون ملزمة بعد ذلك، لأن الجمهور الذي يخدم في الجيش، ويدفع الضرائب، ويخلص للدولة وليس لرئيسها، لن يصمد في هذا لزمن طويل آخر، ولن يوافق على مواصلة الحرب إلى الأبد.
آفي يسسخروف
يديعوت أحرونوت 21/7/2025

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ 7 ساعات
- العربي الجديد
مكافحة الإرهاب أم دعمه ورعايته؟
بينما ظهرت موجة تفاؤل سبقت اللقاء الثالث بين بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب في البيت الأبيض على خلفية تصريحات للأخير، شدّد فيها على وجوب إنهاء الحرب في غزّة، وعلى الاستعداد للضغط على نتنياهو، فإن هذا التفاؤل لم يلبث أن تراجع، إذ لم تطابق النتائج المقدّمات والتوقّعات، وما حدث أن نتنياهو قلّل من مماطلته وتهرّبه، وعاد بعض الزخم إلى التفاوض غير المباشر بين حركة حماس وحكومته برعاية الوسطاء الثلاثة. لنلاحظ في هذه الفترة (يوليو/ تموز الجاري)، أن الأنباء من غزّة تزايدت عن مُجوَّعين سقطوا، إمّا من الجوع الشديد المصحوب بإعياء تام (المسغبة)، أو برصاص الجنود الإسرائيليين، أو برصاص مرتزقة ما سُمّيت "مؤسّسة غزّة الإنسانية"، وهم مجموعة من القتلة الأميركيين ومتعدّدي الجنسيات، يعملون بإشراف حكومة نتنياهو. وقد اشتدّت ظاهرة التجويع منذ مطلع العام الحالي (2025)، وتزامنت مع استبشار أركان حكومة نتنياهو بعودة ترامب إلى البيت الأبيض. وبينما يطلق المبعوث ستيف ويتكوف، منذ ما لا يقل عن عشرين أسبوعاً، تصريحات متكرّرة عن جهود مستمرّة لإنجاح المفاوضات، فإن الحرب في الأثناء تستمرّ بوتيرة خاصّة، فهي تركّز في المدنيين العزّل المنكوبين في الخيام أو مراكز الإيواء، مرفوقةً بتضييق الحصار، ومنع المساعدات الخارجية عبر بوابة رفح. لا يلاحظ الرئيس ترامب، ولا مبعوثه ويتكوف، أن حرب نتنياهو تركّز في الأطفال والنساء، ويبدي أركان هذه الإدارة حرصاً تاماً (وحرفياً) على عدم إبداء أيّ تعاطف مع الضحايا وذويهم، ممّن يسقطون بالعشرات يومياً، وقد حدث أن وصف ترامب الحرب بأنها وحشية، من دون أن يحدّد من هم الوحوش ومن هم الضحايا. ومن دون أن تبدُر عن إدارته أيّ دعوة علنية لنتنياهو وجنرالاته إلى الكفّ عن قتل المدنيين، فما شأن قتل الأطفال والنساء والعائلات بالجملة وبوحشية مفرطة في الحرب "بين إسرائيل وحماس"؟ واقع الحال أن لا علاقة لهذه الجرائم المقزّزة بالحرب، فهي وقائع قائمة بذاتها، وذات أهداف مستقلّة ترمي (في القرن الحادي والعشرين) إلى محو الكتلة البشرية في غزّة، ومن السخف الشديد، واللؤم الأشدّ، تصويرها ضغطاً عسكرياً، فاستهداف المدنيين ليس نشاطاً عسكرياً، بل هو نشاط إرهابي بغيض، يستحقّ مرتكبوه سوقهم إلى العدالة، كما حدث من قبل مع مرتكبي الجرائم في البوسنة والهرسك، وفي كوسوفو في البلقان في أواخر القرن الماضي ومطلع الألفية الثالثة. اقترفت إدارة ترامب خطيئةً علنيةً بسماحها لما تسمّى "مؤسّسة غزّة الإنسانية" باحتكار توزيع المساعدات وقد اقترفت إدارة ترامب خطيئةً علنيةً بسماحها لما تسمّى "مؤسّسة غزّة الإنسانية" باحتكار توزيع المساعدات، إذ يترافق هذا التوزيع مع اقتراف مرتزقة هذه المؤسّسة جرائم قتل يومية، بالتعاون والتنسيق مع جيش الاحتلال. وزادت إدارة ترامب الموقف سوءاً حين وجّهت عقوبات غاشمة إلى المحامية الإيطالية، المبعوثة الخاصّة للأمم المتحدة فرانشيسكا ألبانيز، لأنها واظبت على كشف جرائم الاحتلال وتوثيقها، وكأنّ واشنطن مصمّمة على نيل "شرف" المشاركة في حرب الإبادة، وبهذا تنتقل من سياسة مكافحة الإرهاب إلى دعمه ورعايته. قد تتعثر المفاوضات ويتأخّر التوصل إلى وقف إطلاق النار، لكن لماذا المواظبة على قتل الأطفال والنساء والعائلات بصورة يومية وروتينية؟ ولماذا لا تتّخذ أميركا والصين وروسيا ما يلزم من إجراءاتٍ لوقف هذه الفظائع؟... يوم الأربعاء الماضي، أصدر الوسيط غير الرسمي بين "حماس" والإدارة الأميركية، وهو الأميركي الفلسطيني بشارة بحبح، بياناً أخذ فيه على "حماس" تأخّرها في الردّ على مقترحات جديدة، واعتبر ذلك غير مبرّر، وأنه يكلّف الشعب الفلسطيني عشرات الضحايا كلّ يوم. ويجد المرء نفسه متفقاً مع بحبح بأن "حماس" تتباطأ أحياناً في الردّ على الوسطاء، وهو بطء غير مبرّر ومرفوض، وأنه يتعيّن الضغط على الطرفين، حركة حماس وحكومة نتنياهو، للمسارعة إلى وقف الحرب، ولكن ما علاقة ذلك كلّه بأن يتمتّع نتنياهو ووزراؤه وجنرالاته بارتكاب مجازر يومية، ومنع الكميّات الكُبرى من الطعام والماء والدواء من الوصول إلى سكّان غزّة؟ وقد شاءت ربّما المصادفات أن تلقّت "حماس" ملاحظات بحبح، فسارعت في اليوم نفسه (قبل ثلاثة أيام) بتسليم ردّها إلى الوسطاء. وقد تنجح جهود ويتكوف وبحبح وجهود الوسطاء هذه المرّة، وقد تخيب كما تفيد خبرة الفترة الدامية الطويلة الماضية. ولكن، ما العلاقة بين مواصلة محتملة للمواجهة المسلّحة بين إسرائيل و"حماس" وبين إبادة البشر التي ينشط بها الاحتلال؟ وصف ترامب الحرب في غزّة بأنها وحشية، من دون أن يحدّد الوحوش والضحايا لقد دمج نتنياهو بين حربه على غزّة و"حماس" وحربه القذرة على الأطفال والمسنيّن والمرضى والنساء والعائلات، فكيف يمكن للضمير الإنساني والسياسي وكيف يمكن لبشر أسوياء طبيعيين أن يرتضوا هذا الدمج الصفيق، وأن يتعاموا عنه، وتؤدّي واشنطن الدور الرئيس في التعمية والتعتيم على هذا الإرهاب، وصرف الأنظار عنه، ثمّ الحفاوة في واشنطن بمجرمي حرب مطلوبين للعدالة الدولية، فيما تُرهب ناشطة محترمة في مجال حقوق الإنسان لأنها كشفت (بالوقائع والحقائق والأرقام) طبيعة الحرب الدائرة، التي تمثّل بحقّ وصمة عار على جبين صانعي السياسة الدولية. من مصلحة أميركا التطهّر من هذا العار ووقف هذه الحرب الغاشمة، والتكفير عن الدعم السخي الذي يتلقّاه عتاة السفّاحين من واشنطن، كما من مصلحة بقية دول مجلس الأمن وضع حدّ لهذه الوحشية المقزّزة التي طال أمدها واتّسع نطاقها وتضاعف عدد ضحاياها، وإلا فليكفَّ الجميع عن ادّعاءاتهم بالتمدّن والانتماء إلى عالم واحد وعائلة بشرية واحدة، وليعلنوا أنهم لم يقطعوا روابطهم مع إرث حروب الإبادة ضدّ السكّان الأصليين، وقد ذهب ضحيتها عشرات الملايين من الأبرياء، ومع إرث حروب المستعمرات وحروب الرقيق والتطهير السياسي والأيديولوجي، وهذا السجلّ الأسود كلّه ممّا يندى له الجبين.


العربي الجديد
منذ 7 ساعات
- العربي الجديد
التطبيع بالبلطجة وفرض الإذعان
لن يكون وضع نهاية لحرب الإبادة على غزّة خاتمة المطاف في السُعار الإسرائيلي، وهو ما يُستدَّل عليه من السلوك العسكري والسياسي لحكومة بنيامين نتنياهو، فهذا الشخص بات يرى في دولته قوةً إقليمية كُبرى، وما يوصف بالشرق الأوسط بات مسرحاً لعمليات الجيش بترخيص ضمني من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بعدما اقتنع الأخير بأن الضغوط العسكرية "أفضل ضمان للمطامح السياسية، ولانتزاع تنازلات كبيرة"، وحتى باتت تسريبات صحافية إسرائيلية بأن اتفاقاً سورياً إسرائيلياً سيُنجز قبل نهاية العام الجاري أمراً مألوفاً وحسناً، إلا أن السلطات الانتقالية في دمشق نفت ذلك. وفي لبنان، لن يطوي تسليم سلاح حزب الله للدولة اللبنانية ملفّ الأزمة المحتدمة، فلن تتأخّر تل أبيب في المجاهرة بضرورة صياغة اتفاق سلام، وإلا فإن قوات الجيش سوف تواصل قصف بؤر حزب الله ومستودعاته ورموزه. أمّا إيران، فسوف يسعى نتنياهو إلى انتزاع تفويض من ترامب بضرورة معاودة قصفها، إذا ما عاودت بناء منشآتها، ولن يوقف مثل هذه المخطّطات سوى تصدّع في بنية النظام الإيراني. وفي غزّة، لن يُترك الغزّيون وشأنهم، فتل أبيب ماضية على قدم وساق في التمهيد لاقتتال داخلي يؤسّس له ويرعاه ويغذّيه الاحتلال، وقد يعزّزه من غير قصد قمعٌ "حكومي" لمواطنين منكوبين يمارسون حقّهم في حرية التعبير، أو من خلال نشر قوات متعدّدة الجنسيات بغير تمهيد أو اتفاق، ومن دون تحديد مهماتها مسبقاً. وواقع الحال أن ثمّة تناغماً موضوعياً بين التطلّعات المُعلَنة لإدارة ترامب لفرض مزيد من التطبيع الإبراهيمي في المنطقة وعمل نتنياهو على تغيير الشرق الأوسط، على نحو تكون فيه تل أبيب مركزاً لنفوذ إقليمي واسع، وبالسطوة المسلّحة، وسط شلل عربي، وانكفاء داخلي أو استعداد للتعامل مع الأمر الواقع حين يقع. ومن المهازل أن يربط نتنياهو مصير المنطقة بمصير حكومته، فهذه الحكومة كما يقول رئيسها ستكون مهدّدةً بالانهيار إذا وضعت نهاية للحرب على غزّة، من دون تهجير سكّانها والقضاء على حركة حماس. أمّا معاودة استهداف إيران فهو مطلب غالبية أعضاء الحكومة، وكذلك الاستيلاء (يسمونه فرض السيادة) على الضفة الغربية، فهو مطلب عزيز على قلوب الوزراء ممّن لديهم مطالب أخرى تتعلّق بسورية ولبنان، وربّما بتركيا وباكستان. وبهذا، فإنه على العالم أن يتفهّم أن صمود ائتلاف حكومة نتنياهو يقتضي إطلاق يد الجيش في استهداف أيّ رقعة في الشرق الأوسط، ولن ينجو أحد من العقاب الاسرائيلي إلا إذا زحف نحو التطبيع مُذعناً لشروط نتنياهو ووزرائه. وسيجري تصوير ذلك من إدارة ترامب بأنه طيٌّ لصفحة الحروب، وإغلاق للصراعات، وفتح الأبواب أمام سلام عظيم، تتطلّع إليه الشعوب. لا يتورّع ترامب عن تحويل كلمة فلسطيني شتيمةً يصف بها من لا يروق له ومع أنه سبق أن اتهم نتنياهو بأنه يسعى إلى أن يتلاعب به، لم يواظب ترامب على الاتصال بأحد في العالم كما يفعل مع نتنياهو، ولم يلتقِ أحداً من الزعماء ثلاث مرّات منذ بدء ولايته سوى نتنياهو، ومن المرجّح أن تتواصل هذه الوتيرة، رغم أن ترامب قد لا يكون مُحبّاً لهذا الأخير (هل يحبّ أحداً على الإطلاق؟)، بيد أنه من الواضح أنه معجب باندفاعه المتوحّش، لدرجة أنه دعا المؤسّسات الاسرائيلية إلى وقف محاكمته، وتكريمه بدلاً من جعله يقف أمام القضاء، وقد جاء ذلك في أعقاب الهجوم الإسرائيلي على إيران. وسبق لنتنياهو أن قال إن ترامب يحبّ الأقوياء على شاكلته لا الضعفاء، ممّا يؤدّي في النهاية إلى انتزاع الإعجاب به من طرف سيّد البيت الأبيض. والمسألة بطبيعة الحال تتعدّى التفاعل الشخصي المركّب بين الرجلَين، إذ إنهما يلتقيان أساساً عند رفض الامتثال للقواعد السياسية المألوفة التي تحكم علاقات الدول في عالمنا، ويؤمنان بعسكرة السياسة الخارجية، والاستيلاء على ما يملكه الغير بطرق شتى، بما يُعيد صورة الاستعمار القديم، ولكن مع استخدام مصطلحات حديثة للهيمنة منها إحلال التعاون ونشر السلام، والإفادة من خبرات وكفاءة القوة الغازية في المجالات التقنية والاقتصادية والعلمية، وأخيراً في مجال الذكاء الاصطناعي. لن ينجو أحد من العقاب الاسرائيلي إلا إذا زحف نحو التطبيع مُذعناً لشروط نتنياهو ووزرائه وبينما تتعزّز هذه التوجّهات بميول قومية مفرطة، أميركية وإسرائيلية، يُستهان بقومية الآخرين، وفي مقدمّهم الفلسطينيون، ولا يتورّع ترامب عن تحويل كلمة فلسطيني شتيمةً يصف بها من لا يروق له من شخصيات في بلده، وهو ما يجيب عنه أحرار العالم، بمن فيهم شبّان أميركا، بالهتاف لفلسطين حرّة، وإدانة الولوغ في حرب الإبادة، وحرب التجويع من واشنطن وعواصم غربية، مع تخاذل عربي وإسلامي لا نظير له، ما سوف تسير بذكره الرُّكبان في مقبل الأيام وبما يليق به. في سنوات سابقة، كانت تُجرى حوارات عربية دورية ذات طابع "استراتيجي" مع الولايات المتحدة، غير أن صفحة الحوارات طويت لاحقاً، فواشنطن ترغب في حوار منفرد مع الدول العربية، وبما يلاقي رغبةً مماثلةً لدى أطراف عربية بالتفاهم المنفرد مع واشنطن في أمور ثنائية وإقليمية، وهو ما ترسّخ خلال العقد الماضي، ما يسهم في استثمار واشنطن لهذه التباينات، وعلى نحو تعيد فيه تأكيد أولوية تطبيع عربي مع دولة الاحتلال، وتردف تل أبيب ذلك بتوجيه ضغوط عسكرية، والتهديد باستخدام القوة واليد الطويلة للوصول إلى كلّ من يعارضها، وذلك هو عنوان المرحلة الراهنة والمرشّحة لأن تمتدّ حتى الانتخابات الإسرائيلية في خريف العام المقبل (2026)، إلا إذا حدثت حالة نهوض عربية، وجرى فيها استثمار الأوراق الاقتصادية والسياسية من أجل حمْل إدارة ترامب على التعامل باحترام أكبر مع العالم العربي، يتعدّى العبارات المنمّقة، ويضع حدّاً لترخيص البلطجة الإسرائيلية، التي يفوق خطرها ما كان يمثّله التحدّي الإيراني من مخاطر على المنطقة العربية.


العربي الجديد
منذ 7 ساعات
- العربي الجديد
ترامب وخيار القوّة أولاً
كان من المفروض أن تعرف الحروب والأزمات في منطقة الشرق الأوسط انخفاضاً في حدّتها، وتراجعاً في تداعياتها، وانحساراً في اندفاعها وتوحّشها، بالنظر إلى وعود أعلنها دونالد ترامب في حملته الانتخابية الرئاسية. واستناداً، أيضاً، إلى التصريحات المُغرية التي أطلقها، وأكّد فيها أن الحروب المندلعة في أرجاء العالم ما كانت لتحصل لو كان هو رئيساً لأميركا، وما كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ليفكّر في اجتياح أوكرانيا، ولما كانت حركة حماس قامت بعمليتها العسكرية ضدّ إسرائيل في 7 أكتوبر (2023). لكن ما حصل، بعد انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة لولاية ثانية، أن حرب الإبادة الإسرائيلية تصاعدت بشكل جنوني في قطاع غزّة، وازداد الوضع خطورةً والتباساً وتعقيداً عندما كشف مخطّطه السوريالي لتحويل القطاع "ريفييرا" وهميةً، بعد أن جعل منها جيشُ الاحتلال أرضاً غير صالحة للحياة. وكعربون حسن نيّة ووفاء للأصدقاء، وتقديراً لهم، كان من الطبيعي أن تتوّج صفقاته مع بعض الدول العربية (بمئات مليارات الدولارات) بتفاهمات تفضي إلى وقف حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي. لكن ترامب الذي تحوّل حاكماً مطلقاً، ليس للولايات المتحدة وحسب، بل للعالم برمّته، كانت له حسابات أخرى، وقراءة مغايرة، فالوفاء لن يكون لغير إسرائيل حليفاً استراتيجياً وصديقاً أزلياً ومشروعاً استعمارياً إمبريالياً مدمّراً، يُوظَّف وفق أجندة الولايات المتحدة ومصالحها أولاً، ولا قيمة لتلك الصفقات الخيالية مع دول عربية عندما يتعلّق الأمر بإسرائيل وحماية أمنها، وتحقيق تمدّدها وتوسّعها في المنطقة، بصرف النظر عن النتائج وردّات الفعل، وما يقد ينجم عن ذلك من استياء وغضب في معسكر حلفائه من العرب، علماً أن ترامب يؤمن بأن القوة هي المعيار (والأساس) في بناء العلاقات الدولية، والقانون (كما يفهمه هو) لن يكون سوى أداة لتأطير سلسلة من العمليات المالية، كلُّ طرف فيها يدافع عن مصلحته. وحتى عندما جاء مبعوثه الخاص، ستيف ويتكوف، إلى الشرق الأوسط، في مسعىً لإعادة الأسرى الإسرائيليين، وبعد جولات عديدة، انتهت مساعيه إلى الفشل في الوصول إلى اتفاق وقف لإطلاق النار، رغم أن حركة حماس وافقت على صفقة شاملة، تتخلّى بموجبها عن إدارة الحكم في غزّة، فتنجز هذه الصفقة تبادل الأسرى وتنهي الحرب، وتمهّد لإعادة إعمار القطاع. لكن ويتكوف عدّل بعد اجتماعه مع مسؤولين مقرّبين من بنيامين نتنياهو المقترحات التي تضمّنتها الصفقة، لتتناسب مع أهداف الحكومة الإسرائيلية في إطالة الحرب، لاعتبارات خاصّة برئيس حكومتها وشركائه في الائتلاف الحاكم. اتصفت تصريحات ترامب، منذ وصوله إلى البيت الأبيض للمرّة الثانية، بالتناقض والتقلّب اتصفت تصريحات ترامب، منذ وصوله إلى البيت الأبيض للمرّة الثانية، بالتناقض والتقلّب، فهو يدعو إلى وقف الحروب ويعبّر عن رغبته في بناء عالم من السلم والأمن، وفق منظوره هو، أي السلم الذي يعني عنده استسلام (وإذعان) أطراف يعتبرها مارقةً وغير منخرطة في الأجندتين، الأميركية والإسرائيلية. وشكّلت تصريحاته ومواقفه خلال الحرب الإيرانية الإسرائيلية الماضية أقصى درجات التناقض، وحتى عدم اللياقة والمسؤولية، فقد تبنّى، في البداية، الحلّ الدبلوماسي لتسوية الخلاقات بشأن البرنامج النووي الإيراني، وهو ما وثقت فيه طهران، وبنت عليه قراءتها تطوّر الأحداث. لكنّه عملياً ساعد في تحقيق عنصر المفاجأة في أثناء الضربة التي وجّهتها إسرائيل لإيران. ففي الظاهر، طالب إسرائيل بعدم المهاجمة، لكنّه كان يعرف أنها ستهاجم، لأن الإدارة الأميركية هي من يشرف على الخطط، وهي من يحدّد الأهداف ويعطي الضوء الأخضر لأيّ هجوم، ويوفّر الدعم العسكري واللوجستي والاستخباراتي. إذن، أين هي مصداقية ترامب رئيساً للقوة الأولى في العالم؟ هناك مشكل أخلاقي حقيقي يطرح نفسه موضوعياً، إذ يتعامل ترامب مع كلّ الملفّات الشائكة، وجميع الأزمات العالقة، بعقلية رئيسٍ له الحقّ المطلق بالتصرّف في العالم كما يشاء، ومن حقّه أن يفرض العقوبات والرسوم الجمركية، والمطالبة بأراضي الغير لتصبح في ملكية الولايات المتحدة، ومن حقّه أن يهدّد ويفرض أجندته، وهذا ما حدث في قمّة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، التي احتضنتها لاهاي (24 يونيو/ حزيران الماضي)، فقد فرض ترامب، بعد ضغوط، وبكامل العجرفة والثقة في النفس، قراراً يجبر الدول الأعضاء في الحلف على رفع الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلّي الإجمالي بحلول عام 2035. وتبعاً لذلك، أشاد بهذه الاستجابة الفورية، وقال لرئيس الوزراء الهولندي ديك شوف: "أعتقد أن القمّة كانت رائعة... كانت نجاحاً كبيراً". يتعامل ترامب مع الملفّات الشائكة، والأزمات العالقة، بعقلية رئيس له الحقّ المطلق بالتصرّف في العالم كما يشاء ومن يتابع المؤتمرات الصحافية (الفردية والمشتركة) لترامب، يلاحظ حجم السلطوية والشعور بالقوة، وهو يتحدّث بلغة فيها قدر كبير من النرجسية والشعبوية. وقبل مجيئه إلى قمة "الناتو" بيوم، تعمّد تسريب رسالة أرسلها إليه الأمين العام للحلف، مارك روته، يتملّق فيها الأخير بشكل غير مسبوق ترامب. ما تضمّنته هذه الرسالة اعتبرته وسائل إعلام كثيرة إهانةً كبيرةً للأعراف الدبلوماسية، وانبطاحاً أوروبياً كاملاً أمام ترامب. وحكى لي صحافي، تولّى تغطية أشغال القمّة لفائدة فضائية عربية، إن الصحافيّين وجدوا أنفسهم في حالة تخبّط، وفي صراع مع الوقت، بسبب كثرة التصريحات التي كان يدلي بها ترامب، ولوفرة عدد المؤتمرات الصحافية التي كان يعقدها. وفي المؤتمر الصحافي الختامي، الذي تواصل حتى منتصف الليل، فاجأته صحافية أميركية بالسؤال: "خاطبك الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، مارك روته، بعبارة (daddy)"، فانفجر كلّ من كان في القاعة ضاحكاً. نظر ترامب ملياً إلى الصحافية، وردّ عليها: "مارك روته صديق عزيز، لكنّه إذا تصرّف تصرّفاً آخر سأضربه". ورغم مسحة الدعابة التي غلّف بها ترامب كلامه، إلا أنه في العمق (وهذه الحقيقة) يتعامل مع قادة دول الاتحاد الأوربي بفوقية، ويعتبرهم موظّفين تحت إمرته، وعليهم أن يأتمروا بأوامره. انفضّت قمّة حلف شمال الأطلسي، وغادرت الوفود مدينة لاهاي الوديعة. وما بقي في أذهان الصحافيين، الذين تابعوا القمّة، تلك الصورة الكاريكاتورية والمعبّرة لترامب الأب والمعلّم، ومعه قادة الحلف أطفال أشقياء في مدرسةٍ يفرض عليهم قانونها الداخلي أعلى درجات الانضباط واحترام التعليمات.