
تفكيك المركزية الغربية في فهم العالم
في زمن تتسارع فيه التحولات السياسية وتتشابك فيه الأزمات العابرة للحدود، بات من الضروري مراجعة الأساليب التي ننظر بها إلى العلاقات بين الدول والشعوب، إذ لم يعد كافياً اعتماد منظور أحادي يختزل تعقيد العالم في صيغ جامدة أو نظريات جامعية مغلقة، بل تبرز الحاجة إلى قراءة أكثر انفتاحاً، تنصت للهامش وتعيد بناء الفهم من نقاط الانكسار والاختلاف.
يقدّم مجموعة من الأكاديميين المرموقين وهم ريس كريلي، نيفي مانشاندا، لورا ج. شيبرد، كاي ويلكينسون، كايتلين بيدولف، وستيفاني فيشيل كتاب «التفكير في السياسة العالمية بطريقة مغايرة: مقدمة متنوعة للعلاقات الدولية»، في مسعى منهم إلى إعادة رسم خريطة فهمنا للعلاقات الدولية من خلال تجاوز المداخل التقليدية والانفتاح على رؤى نقدية ومتنوعة تم تهميشها طويلاً في الحقل الأكاديمي.
ينطلق الكتاب، الصادر حديثاً عن جامعة أكسفورد ضمن 408 صفحات، من فرضية جوهرية مفادها أن حقل العلاقات الدولية، كما تُدرّّس وتُمارَس في معظم الجامعات الغربية، قد تشكل في إطار نظريات ومدارس فكرية غربية المنشأ، أغفلت، بقصد أو بغير قصد، التعدد الهائل في التجارب الإنسانية وأقصت رؤى وأصوات الشعوب المستعمَرة والمهمشة والنساء والبيئة بوصفها فاعلاً في السياسة العالمية وعليه، فإن هذا الكتاب لا يهدف فقط إلى توسيع نطاق المفاهيم والقضايا التي يناقشها طلاب العلاقات الدولية، بل يسعى كذلك إلى تفكيك البنية المعرفية التي قامت عليها هذه الدراسة منذ قرن تقريباً.
يتطرق الكتاب ضمنياً إلى سؤال جوهري: من يملك سلطة إنتاج المعرفة في العلاقات الدولية؟ في هذا السياق، يسلّط الضوء على مركزية المعرفة الغربية والتي طالما احتكرت أدوات التحليل والتفسير، مهمّشة التجارب الأخرى بوصفها «خارج النسق» يطالب المؤلفون بإعادة توزيع هذه السلطة المعرفية من خلال الاعتراف بشرعية أصوات من الجنوب العالمي ومن الأقليات والنساء وغيرهم من المهمشين الذين يمتلكون فهماً أكثر قرباً لواقع الظلم والاستعمار والعنف البنيوي.
مقاربات متعددة لفهم العالم
يقع الكتاب في خمسة أقسام رئيسة، يتناول كل منها مدخلاً منهجياً أو فلسفياً مختلفاً لدراسة السياسة العالمية، يبدأ القسم الأول، الذي يحمل عنوان «معرفة السياسة العالمية»، بمدخل تأسيسي كتبه ريس كريلي، يتبعه نقاشات حول مفاهيم مثل الحياة اليومية، الخطاب، السرد، الممارسة، الرؤية البصرية والمشاعر، بوصفها مدخلات أساسية لفهم السياسات الدولية المعاصرة.
تُعدّ الفقرة الخاصة ب«المشاعر» من أكثر الأجزاء إبداعاً، حيث يعيد المؤلفون النظر في الدور المغيّب للعاطفة في فهم العلاقات الدولية، مؤكّدين على أن السياسة ليست دائماً نتاج حسابات عقلانية، بل تتأثر بالخوف والغضب والأمل والحزن.
وفي فصل «الرؤية البصرية»، يُناقش كيف أن الصور لا تُنقل فقط الواقع، بل تشكّله أيضاً، مشيراً إلى أن الصور الفوتوغرافية من مناطق النزاع، الإعلانات السياسية، رموز الدول والمنظمات، جميعها تؤثر في تشكيل وعي الجماهير تجاه الأحداث العالمية.
ويوضح الكتاب كيف يمكن استخدام هذه الصور لترسيخ علاقات الهيمنة أو على العكس، لتفكيكها وبناء سرديات مقاومة تعيد للضحايا صوتهم وصورتهم.
أما القسم الثاني، الذي يقدمه نيفي مانشاندا، فيركّز على المقاربات ما بعد الكولونيالية واللامركزية ويضم دراسات حول الاستعمار الاستيطاني، الاقتصاد العرقي والعلاقات بين الشعوب المهمشة، ضمن طرح يعيد الاعتبار للتجربة الاستعمارية كعنصر حاسم في تشكيل النظام الدولي الحديث. يناقش هذا القسم كيف تظل آثار الكولونيالية حاضرة في المنظومة السياسية العالمية، سواء من خلال أنظمة الحدود، أو توزيع الموارد، أو حتى في طريقة فهم الآخر.
ويأتي القسم الثالث للباحثة لورا ج. شيبرد مخصصاً للمقاربات النسوية ويناقش قضايا الامتياز والأمن والاقتصاد السياسي والدولة والنوع الاجتماعي، من خلال تفكيك أنماط التحيز والسلطة القائمة على النوع. يتبع ذلك قسم رابع حول المقاربات الكويرية، يسلط الضوء على الجسد، الدين، العدالة الدولية وحقوق الإنسان من خلال منظور غير معياري، يعيد النظر في بنية «الشرعية» و«المواطنة» في سياقات متعددة.
أما القسم الخامس والأخير، «المقاربات الكوكبية»، الذي تقدمه ستيفاني فيشيل، فيأخذنا نحو رؤى بيئية شاملة تدمج بين الإيكولوجيا، العنف البيئي، العدالة الكوكبية والقانون البيئي، يشير هذا القسم إلى أن التحديات الكبرى في عالم اليوم –من التغيّر المناخي إلى الهجرة الجماعية– لم تعد تُفهم بشكل فعَّال من خلال الحدود الوطنية أو المفاهيم الأمنية الضيقة، بل تتطلب تفكيراً عابراً للحدود يربط بين العدالة البيئية والاجتماعية والاقتصادية.
إعادة تعريف مفاهيم السياسة العالمية
إن أبرز ما يميز هذا الكتاب هو الروح الجماعية التي تحكمه، حيث نقرأ أصواتاً متعددة، من تخصصات وخلفيات جغرافية وثقافية مختلفة، تتضافر لتقديم سردية بديلة للعلاقات الدولية ولا يدَّعي الكتاب امتلاك نظرية بديلة موحدة، بل يدعو القارئ إلى الاعتراف بالتعددية المعرفية والانخراط النقدي مع الواقع العالمي بعيداً عن الانحيازات الإمبريالية والذكورية والعرقية التي لطالما اتسم بها هذا الحقل.
يمكن اعتبار هذا الكتاب دعوة مباشرة لإعادة النظر في كيفية تدريس العلاقات الدولية في الجامعات، خاصة في الجنوب العالمي، فهو يرفض نمط التلقين الأحادي للنظريات الغربية ويدعو إلى منهج تحرّري يفسح المجال أمام الطلاب لمساءلة المسلمات والتفكير نقدياً في ما يُقدّم لهم بوصفه «حقائق علمية»، من هذا المنظور، يشكّل الكتاب أداة تعليمية ذات طابع تحويلي، لا مجرد مادة أكاديمية تقليدية.
يدفع هذا الكتاب القارئ إلى إعادة النظر في الأسئلة الأساسية التي تؤطر فهمنا للعالم: من يُعرّف السياسة؟ من يُحَدِّد القضايا التي تستحق الدراسة؟ ومن يُقصى من المشهد التحليلي؟ من خلال لغته التحليلية الواضحة ومجموعة مقارباته المتنوعة، يضع الكتاب نصب عينيه ضرورة كسر احتكار المعرفة وفتح المجال أمام مقاربات تعترف بالتجربة الإنسانية في تعقيدها وتعددها.
يركّز الكتاب أيضاً على ضرورة إعادة تعريف مفاهيم السياسة العالمية بما يتجاوز التصنيفات الضيقة للدول والأنظمة والمصالح الاستراتيجية، فبدلاً من اختزال السياسة في تحالفات القوى الكبرى أو التنافس الجيوسياسي، يدعو المؤلفون إلى فهم السياسة بوصفها ممارسة يومية تتقاطع فيها الأجساد والحدود والموارد والرموز ويؤكد أن السياسة هنا لا تنحصر في مراكز القرار، بل تمتد إلى مواقع المعاناة، كمعسكرات اللاجئين وحقول النفط والمناطق المنكوبة بالكوارث البيئية، بهذا التوسيع لمفهوم السياسة، يعيد الكتاب الاعتبار للفاعلين غير التقليديين ويعزز فكرة أن كل موقع في العالم –مهما كان هامشياً– يمكن أن يكون مركزاً للتحليل والتفكير السياسي.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


سكاي نيوز عربية
منذ 2 ساعات
- سكاي نيوز عربية
هل خططت قوى غربية لوصول الشرع إلى رئاسة سوريا؟
السفير الأميركي السابق لدى سوريا روبرت فورد، يكشف أن جهاتٍ دوليةً اختارت "هيئة تحرير الشام" سابقا، بقيادة أحمد الشرع كبديل سياسي في سوريا، وأنّه التقى الشرع مرتين لتدريبه على هذه المهمة، قبل سقوط الأسد..


سكاي نيوز عربية
منذ 2 ساعات
- سكاي نيوز عربية
تقرير: إسرائيل تستعد لضرب إيران بشكل منفرد
وأضافت الشبكة نقلا عن المسؤولين أنه لم يتضح بعد ما إذا كان القادة الإسرائيليون قد اتخذوا قرارا نهائيا. ويأتي ذلك في الوقت الذي تسعى فيه إدارة ترامب إلى إبرام صفقة دبلوماسية مع طهران ، حسبما أفاد عدة مسؤولين أميركيين مطلعين على أحدث المعلومات لشبكة "سي.إن.إن". وقال المسؤولون الأميركيون إن مثل هذه الضربة ستكون خروجًا صارخًا عن سياسة الرئيس دونالد ترامب ، كما يمكن أن تؤدي إلى اندلاع صراع إقليمي أوسع في الشرق الأوسط وهو ما تحاول الولايات المتحدة تجنبه منذ أن أثارت الحرب في غزة التوترات في 2023. وحذر المسؤولون من أنه ليس من الواضح ما إذا كان القادة الإسرائيليون قد اتخذوا قرارًا نهائيًا، وأن هناك خلافات عميقة داخل الحكومة الأميركية بشأن احتمال قيام إسرائيل بالتحرك في نهاية المطاف. ومن المرجح أن يعتمد توقيت وطريقة الضربة الإسرائيلية على تقييم إسرائيل للمفاوضات الأميركية مع طهران بشأن برنامجها النووي. وقال شخص آخر مطلع على المعلومات الأميركية بشأن القضية: "ارتفعت فرص الضربة الإسرائيلية على منشأة نووية إيرانية بشكل كبير في الأشهر الأخيرة". وأضاف: "احتمالية التوصل لاتفاق بين الولايات المتحدة وإيران برعاية ترامب لا يزيل كل اليورانيوم الإيراني تجعل احتمال الضربة أكبر". وترجع المخاوف المتزايدة ليس فقط إلى الرسائل العلنية والخاصة من كبار المسؤولين الإسرائيليين الذين يدرسون مثل هذه الخطوة، بل وأيضًا إلى الاتصالات الإسرائيلية التي تم اعتراضها ومراقبة تحركات الجيش الإسرائيلي التي قد توحي بضربة وشيكة، وفقًا لعدة مصادر مطلعة على المعلومات الاستخباراتية. ومن بين التحضيرات العسكرية التي رصدتها الولايات المتحدة، حركة ذخائر جوية وإنهاء تمرين جوي، حسبما قال مصدران. لكن هذه المؤشرات نفسها قد تكون ببساطة محاولة إسرائيل للضغط على إيران للتخلي عن نقاط رئيسية في برنامجها النووي من خلال إرسال إشارة بالعواقب في حال عدم التراجع، مما يبرز التعقيدات المتغيرة التي تواجهها إدارة البيت الأبيض. مهلة ترامب وقد هدد ترامب علنًا باتخاذ إجراء عسكري ضد إيران إذا فشلت جهود إدارته في التفاوض على اتفاق نووي جديد للحد من أو القضاء على البرنامج النووي الإيراني، لكنه وضع أيضًا حدًا زمنيًا لمدة المفاوضات الدبلوماسية. وفي رسالة إلى المرشد الإيراني علي خامنئي في منتصف مارس، حدد ترامب مهلة 60 يومًا لنجاح تلك الجهود، حسب مصدر مطلع على الرسالة. والآن مرت أكثر من 60 يومًا منذ تسليم الرسالة، و38 يومًا منذ بدء الجولة الأولى من المحادثات. وقال دبلوماسي غربي رفيع التقى بالرئيس في وقت سابق من هذا الشهر إن ترامب أوضح أن الولايات المتحدة ستمنح هذه المفاوضات بضعة أسابيع فقط قبل اللجوء إلى ضربات عسكرية، لكن حتى الآن، سياسة البيت الأبيض هي الدبلوماسية. وضع إسرائيل وقال جوناثان بانكوف، مسؤول استخباراتي سابق متخصص في المنطقة: "هذا وضع إسرائيل بين المطرقة والسندان". وتابع: "رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يتعرض لضغوط لتجنب اتفاق بين الولايات المتحدة وإيران لا يعتبره مرضيًا، وفي نفس الوقت عدم إغضاب ترامب، الذي سبق وأن اختلف مع نتنياهو في قضايا أمنية رئيسية في المنطقة". وأضاف بانكوف: "في نهاية المطاف، سيكون قرار إسرائيل مبنيًا على تحديدات السياسة الأميركية والإجراءات، وعلى ما يوافق عليه أو لا يوافق عليه الرئيس ترامب مع إيران". وأوضح أنه لا يعتقد أن نتنياهو سيكون مستعدًا لخوض مخاطرة بتفكيك العلاقة مع الولايات المتحدة تمامًا عبر شن ضربة دون موافقة ضمنية على الأقل من واشنطن.

سكاي نيوز عربية
منذ 2 ساعات
- سكاي نيوز عربية
وزير دفاع سوريا يعلق على القرار الأوروبي برفع العقوبات
وأوضح: "تلقى الشعب السوري اليوم قرار الاتحاد الأوروبي برفع العقوبات المفروضة على سوريا". وأضاف أبو قصرة: "إننا نثمن هذه الخطوة التي تعكس توجهاً إيجابياً يصب في مصلحة سوريا وشعبها الذي يستحق السلام والازدهار". وتابع: "نتوجه بالشكر إلى جميع الجهات التي ساهمت في تحقيق هذا القرار، ونؤكد أن هذه الخطوة تمثل بداية". والثلاثاء، منحت دول الاتحاد الأوروبي الضوء الأخضر لرفع جميع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا ، في خطوة تهدف إلى دعم عملية تعافي البلاد بعد سنوات من النزاع المدمر وسقوط نظام الرئيس بشار الأسد ، وففا لما أفاد به دبلوماسيون. وأوضحت المصادر أن سفراء الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد توصلوا إلى اتفاق مبدئي بهذا الخصوص، ومن المنتظر أن يعلن عنه رسميا في وقت لاحق اليوم خلال اجتماع وزراء الخارجية. ويأتي هذا القرار بعد أشهر من موافقة الاتحاد، في فبراير الماضي، على تعليق مجموعة من العقوبات كانت مفروضة على دمشق، بما في ذلك القيود المرتبطة بقطاعات الطاقة والنقل والإنشاءات. ويهدف الاتحاد الأوروبي من خلال هذا التحول إلى المساهمة في جهود إعادة الإعمار في سوريا، بعد الإطاحة بالرئيس السابق بشار الأسد في ديسمبر الماضي، وبدء مرحلة سياسية جديدة في البلاد. كما يسعى الاتحاد إلى تعزيز علاقاته مع الإدارة السورية الجديدة، التي طالبت مرارا برفع العقوبات الغربية المفروضة على دمشق منذ اندلاع النزاع عام 2011. وكانت العقوبات الأوروبية قد استهدفت في السابق حكومة الأسد وقطاعات رئيسية من الاقتصاد السوري، في إطار ضغوط دولية لإنهاء الصراع المستمر منذ أكثر من عقد.