
التربية: إعداد الإنسان لمهمة
إن التربية الحقيقية تُبنى على أساس أن للإنسان مهمة في الحياة، وأن وجوده ليس عبثا، بل تكليفا واختبارا، يتطلب إعدادا متكاملا لينهض بدوره.
والتربية ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لإنتاج إنسان مؤثر، فاعل، صاحب رسالة. وفي ظل كثرة المشاريع والكيانات التربوية، يجب أن نتوقف عند سؤال جوهري: كم جهة اليوم تقيس نجاحها بعدد الأفراد؟ لكن، من يقيس التأثير؟
من يحسب كم شابا تغير حقا؟ فالعدد لا يعني الأثر، بل أحيانا يخفي فشلا ناعما؛ لذا من الواجب أن نقيس الأثر لا زحام الافراد. ومن هنا، يمكننا أن نعرّف التربية بأنها: "إعداد الإنسان للقيام بمهمة".
منهج الإسلام في اختيار القادة
لم يترك الإسلام أمر اختيار القادة خاضعا للأهواء أو الوراثة أو الزعامة التقليدية، بل وضع معايير دقيقة تجمع بين الاستعداد الفطري والتمكين العملي، ويظهر ذلك في قول الله، تعالى، عن اختيار طالوت ملكا: ﴿إنّ الله اصطفاه عليكم وزاده بسطةً في العلم والجسم﴾؛ فالمعيار هنا لم يكن المال ولا الحسب، بل العلم والقوة، أي الكفاءة العقلية والبدنية.
ويوسف (عليه السلام) قال للملك: ﴿اجعلني على خزائن الأرض إنّي حفيظٌ عليمٌ﴾؛ فطلب الولاية بناء على الخبرة والأمانة، لا النسب أو الجاه. وفي قصة اختيار سيدنا موسى قالت ابنة شعيب (عليه السلام): ﴿إنّ خير من استأجرت القويُّ الأمين﴾، جامعا بين الكفاءة والإخلاص.
وقد ترسخ هذا المنهج في سيرة النبي ﷺ؛ فكان يولي المهام بحسب الطبع والموهبة والمهارة، لا بالأسبقية أو القرب فقط. ويتمثل ذلك في:
أسند القيادة العسكرية لأسامة بن زيد لصلاحيته، رغم صغر سنه، ورفض تولية أبي ذر الغفاري لأنه لا يصلح لطبيعة العمل القيادي.
النبي ﷺ وعتاب ابن اللتبية (عامل الصدقة): حين خان الأمانة في التفريق بين المال العام والخاص، عزله وقال: "أفلا جلس في بيت أبيه أو أمه فينظر أيُهدى إليه أم لا؟"؛ إشارة إلى أن القيادة مسؤولية وأمانة، وليست امتيازا شخصيا.
تولية خالد بن الوليد قيادة الجيش رغم حداثة إسلامه، لأنه ذكي، ويدير الأمور بالدهاء العسكري.
واختيار النبي لمصعب بن عمير، وإرساله سفيرا ومعلما إلى المدينة قبل الهجرة؛ لأنه كان لبقا، مؤثرا، حسن الخلق، حسن المظهر، ففتح الله به قلوب أهل يثرب.
فالرسالة الكبرى في منهج الإسلام في توسيد الأمر لأهله هو أن القيادة لا تُمنح بالمطالبة أو الأقدمية، بل بناء على:
الطبع القيادي.
الخبرة العملية.
الأمانة الشخصية.
القدرة على حمل التكاليف.
وكل ذلك يُقاس، ويُجرب، ويُتابع.
وحتى نستطيع أن نتبع منهجية النبي في اختيار القادة وتوسيد الأمر لأهله، يجب أن نسير وفق منهجية علمية متكاملة، تتضمن:
تحديد المهمة وتخطيط الموارد البشرية
لا إعداد بلا وجهة؛ لذا فإن أول خطوة في التربية هي تحديد المهمة المطلوبة من الفرد: هو فرد عادي أم موظف؟ قائد أم مفكر، أم مصلح؟
يلي ذلك تخطيط الموارد البشرية: كم نحتاج من كل فئة؟ ما التخصصات المطلوبة؟ ما نوعية الكفاءات التي نؤهلها؟ فإعداد القادة بمختلف تخصصاتهم يختلف كمّا ونوعا عن إعداد المنفذين أو الفنيين.
وهنا تبرز قاعدة مهمة: "القادة يُكتشفون، لا يُخترعون"… لا بد من استخدام أدوات انتقاء فعالة لاكتشاف أصحاب الطبع القيادي الحقيقي (الشجاعة، الحسم، الرؤية، التأثير…)، بدلا من محاولة فرض القيادة على من لا يحمل مؤهلاتها.
تحليل متطلبات المهمة
كل مهمة تحتاج إلى معارف ومهارات وقيم وصفات نفسية.
التقييم الواقعي لهذه المتطلبات يسهم في تصميم برنامج تربوي فعال دون إفراط أو تفريط.
بناء الجانب المعرفي والفكري
تزويد الفرد بالعلم المرتبط بمهمته، والسياق العام الذي يتحرك فيه.
تعزيز قدرته على التحليل، والتفكير النقدي، وفهم الواقع.
بناء وعيه بقضايا الأمة، وفهمه لموقعه ضمن مشروع أوسع.
بناء الجانب المهاري والعملي
تحويل المعرفة إلى قدرة تنفيذية: إدارة، تواصل، تنظيم، كتابة، عمل ميداني.
التدريب العملي، والمحاكاة، والمهمات الواقعية، عناصر لا غنى عنها في الإعداد الفعلي.
بناء الجانب النفسي والروحي
تقوية النفس على الصبر، وتحمل الضغوط، والانضباط الداخلي، والثبات في المواقف.
غرس الإيمان بالرسالة، وحب البذل، والتجرد لله، والثقة في وعده.
الإعداد الأخلاقي والسلوكي والقيمي
لا يمكن لصاحب مهمة أن ينجح بلا أخلاق؛ فالمعرفة دون خُلق كالسلاح في يد مختل.
يجب غرس القيم الكبرى المؤثرة في المجتمع المستهدف مثل: الصدق، الأمانة، التواضع، ضبط النفس، النزاهة، احترام الناس.
لكن لا ينبغي الاستغراق في الإعداد الأخلاقي والسلوكي بمعزل عن الهدف، فليست التربية رحلة مثالية مجردة فقط، بل وسيلة لتحقيق وظيفة ومهمة.
فإعداد الفرد لا يساوي إعداد القائد، وإعداد موظف خدمة لا يشبه إعداد صاحب مشروع تغييري؛ فلكل مستوى متطلباته اللازمة من الأخلاق والسلوك والمهارات.
المتابعة والتقويم المستمر
التربية عملية مستمرة لا تتوقف؛ فالنفوس تتغير، والواقع يتبدل، والمهام تتجدد.
لا بد من وجود آليات دورية لتقييم الأفراد والقادة، واكتشاف نقاط القوة والضعف، وتحديث خطط التطوير الفردي لكل شخص؛ فالفرد لا يُعدّ مرة واحدة ثم يُطلق، بل يُعاد بناؤه وتطويره ليتناسب مع متطلبات كل مرحلة.
ليست التربية حشوا للمعلومات، ولا تهذيبا شكليا، بل هي بناء رجال، وصناعة رساليين ينهضون بأمتهم، ويقومون بأمانة الاستخلاف كما أرادها الله
ثانيا: أهمية اختيار القائمين على العملية التربوية
التربية تحتاج إلى رجالها، ونجاحها مرهون بكفاءة من يتصدرون لها.
لا يصح أن يقود العملية التربوية من قضى عمره في ماكينات تربية فاشلة، لم تنتج إلا التقليد والانغلاق والضعف.. والواجب اختيار القادة وفق صفات ومعايير واختبارات دقيقة؛ فوظيفتهم بناء وتعديل السلوك لا مجرد ملء استمارات لرفعها للمستويات الأعلى. لذا، لا بد أن يكون القائمون على التربية ممن جمعوا بين:
الخبرة العملية الناجحة.
الدراسة الأكاديمية والتخصصية في مجال التربية والتنمية.
الرؤية الشرعية السليمة التي تضبط الوسائل بميزان الوحي.
كما يجب استخدام الأدوات التربوية والنفسية الحديثة، من أدوات تحليل الشخصية إلى مناهج القيادة والتنمية، بشرط:
ألا تصادم الشرع.
وأن تُستخدم لتحقيق المصلحة العامة للأمة، لا لتكريس الانغلاق التنظيمي أو الهيمنة الفكرية.
إعلان
والمربي الناجح هو من يجمع بين نور الشرع، وخبرة الواقع، وصفاء النفس، وكفاءة الأداء.
بعض النماذج التربوية تحولت إلى دوائر مغلقة، تُكنز فيها الطاقات وتُحتكر الكفاءات لصالح كيانات ضيقة، بينما التربية الرسالية الحقة تفتح الإنسان على الأمة، وترتب له مكانه في مشروع الخلافة، لا في جهاز مغلق
ثالثا: الهدف الأعلى للعملية التربوية
كل هذه الخطوات، والتخطيط، والتقويم، يجب أن يخدم رؤية كبرى لا تنفصل عن أصل الاستخلاف: الإنسان خُلق ليكون خليفة في الأرض.
يعمرها بالحق، وينشر فيها العدل، ويقيم فيها شرع الله. ولذلك، فالتربية ليست مشروعا لصناعة جنود ولا نخب، بل هي:
تأهيل لعبادة الله من خلال العمل.
إعداد لتحمل مسؤولية التغيير.
تمكين للفرد ليكون لبنة في نهضة الأمة.
وهنا يجب التحذير من انحراف جوهري: إن الأصل أن يربى الإنسان ليقدَم للأمة، لا ليخزّن داخل تنظيم أو جماعة. فبعض النماذج التربوية تحولت إلى دوائر مغلقة، تُكنز فيها الطاقات وتُحتكر الكفاءات لصالح كيانات ضيقة، بينما التربية الرسالية الحقة تفتح الإنسان على الأمة، وترتب له مكانه في مشروع الخلافة، لا في جهاز مغلق.
وبناء على ما تقدم، إذا أردنا نهضة حقيقية فعلينا أن نعيد تعريف التربية بأنها "إعداد الإنسان لمهمة الاستخلاف في الأرض". وهذا الإعداد:
متعدد الأبعاد: فكر، مهارة، خلق، وعي، روح.
متجدد ومقوّم: يواكب المرحلة، ويعيد بناء الفرد.
منضبط الهدف: يخدم الأمة لا التنظيم.
مبني على الانتقاء: يميز القادة من غيرهم.
مرتبط بالرؤية الشرعية: لا ينفصل عن ميزان الحق.
فليست التربية حشوا للمعلومات، ولا تهذيبا شكليا، بل هي بناء رجال، وصناعة رساليين ينهضون بأمتهم، ويقومون بأمانة الاستخلاف كما أرادها الله.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
"بأي ذنب قتلت؟".. ناشطون يعلقون على استهداف الطفلة آمنة المفتي بصاروخ إسرائيلي
شبكات تفاعلت مواقع التواصل مع الطفلة آمنة المفتي التي استشهدت بعدما قصفتها مسيّرة إسرائيلية خلال توجهها لإحضار غالون مياه لأهلها، بعدما أصيب أبوها ولم يتمكن من الذهاب لإحضار المياه. اقرأ المزيد


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
الأردن يدين اقتحام نتنياهو الضفة وحماس تصفه بـ"النهج الهمجي"
دان الأردن اليوم الاثنين اقتحام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الضفة الغربية المحتلة وتصريحاته الرافضة لإقامة الدولة الفلسطينية، في حين وصفت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) الاقتحام بأنه "نهج استيطاني همجي وتحدٍ صارخ لإرادة المجتمع الدولي". واعتبرت وزارة الخارجية الأردنية فعل نتنياهو "خرقا فاضحا للقانون الدولي وتحديا للإرادة الدولية الداعمة لحل الدولتين"، وفق ما نقلت وكالة الأنباء الأردنية (بترا). وشددت الوزارة على أنه "لا سيادة لإسرائيل على الأرض الفلسطينية المحتلة"، مؤكدة رفض المملكة المطلق وإدانتها "الشديدة للممارسات والتصريحات الاستفزازية المتواصلة لمتطرفي الحكومة الإسرائيلية". ولفتت إلى أن تلك الممارسات والتصريحات تكرس الاحتلال والاستيطان الاستعماري غير القانوني الذي ينتهك القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن الدولي. وحذرت الخارجية من استمرار الإجراءات الإسرائيلية الأحادية اللاشرعية الرامية إلى فرض وقائع جديدة بالقوة في الضفة المحتلة، بما يشجع على دوامات العنف والصراع. ودعت لموقف دولي واضح يدين هذه الإجراءات ويحذر من عواقبها الوخيمة على أمن المنطقة واستقرارها. وطلبت الوزارة من المجتمع الدولي "تحمل مسؤولياته القانونية والأخلاقية، وإلزام إسرائيل وحكومتها المتطرفة بوقف عدوانها على غزة، وتصعيدها الخطير في الضفة الغربية المحتلة وتصريحات مسؤوليها التحريضية". كما طالبت بتوفير الحماية اللازمة للشعب الفلسطيني وتلبية حقوقه المشروعة في إقامة دولته المستقلة ذات السيادة على ترابه الوطني، ووقف الجرائم بحقه ومحاسبة مرتكبيها. وزار نتنياهو أمس الأحد مستوطنة عوفرا بمناسبة مرور 50 عاما على تأسيسها، وفق إعلام عبري، وأكد في كلمة خلال الزيارة على "أهمية الحفاظ على الاستيطان والتمسك بأرض إسرائيل". ضوء أخطر من جهتها، قالت حماس في بيان إن "زيارة مجرم الحرب نتنياهو إلى مستوطنة عوفرا المقامة على أراضينا الفلسطينية شمال شرق رام الله ، تؤكد نهجه الاستيطاني الهمجي، وتشكل تحديا صارخا لإرادة المجتمع الدولي وللقرارات والدعوات التي تدين الاستيطان وتجرّم محاولات شرعنته في الضفة الغربية". وشددت على أن "هذه الزيارة الاستفزازية تمثل ضوءا أخضر جديدا لمزيد من التهام الأرض الفلسطينية، وتشجيعا لجرائم المستوطنين الإرهابيين وهجماتهم واعتداءاتهم الممنهجة على المواطنين وأراضيهم وممتلكاتهم". وحذرت الحركة "من خطورة المخططات الصهيونية الرامية إلى الضم والتهجير والاستيلاء الكامل على أراضي الضفة الغربية، وهو ما سيقابَل بمزيد من التصعيد والمواجهة ما دام الاحتلال ماضيا في عدوانه وجرائمه". وقتل الجيش الإسرائيلي والمستوطنون في الضفة، بما فيها القدس الشرقية، ما لا يقل عن 1015 فلسطينيا على الأقل وأصابوا نحو 7 آلاف، إضافة إلى اعتقال أكثر من 18 ألفا و500 مواطن، وفق معطيات فلسطينية. وترتكب إسرائيل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إبادة جماعية بقطاع غزة، خلفت 61 ألفا و944 شهيدا، و155 ألفا و886 مصابا من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 9 آلاف مفقود، ومئات آلاف النازحين، ومجاعة أزهقت أرواح 258 شخصا، بينهم 110 أطفال.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
العولمة وتشكيل الرواية الصحافية في زمن الحروب
المعلومات اليوم تتخطى الحدود، ولم تعد الأخبار والصحافة بشكل عام ابنة مكانها الأول أو محصورة في إطارها المحلي فحسب. ففي زمن العولمة، تنتقل الحكايات بسرعة الضوء، تعبر القارات والشاشات، وتصلنا غالبا وقد ارتدت ثوبا آخر غير الذي خرجت به من بيئتها الأصلية. العولمة، وهي هنا تعرف كظاهرة متعددة الأبعاد (اقتصادية، وتكنولوجية، وثقافية)، أعادت تشكيل إنتاج الأخبار ونشرها في زمننا، زمن الحروب والأزمات، بحيث تتداخل الروايات العالمية مع المحلية، وتفرض وكالات الأنباء العالمية روايات تعكس تعقيد الواقع الميداني. وبمعنى آخر، وجدت الصحافة -وهي ابنة لحظتها السياسية والاجتماعية- نفسها أمام مشهد جديد؛ مشهد تتداخل فيه قوة السوق وإيقاع التكنولوجيا وحساسية الثقافات المحلية في إنتاج رواية واحدة. تحاول هذه المقالة مقاربة تأثير العولمة على السرد الصحفي عبر منظورين: اجتماعي يشرح ديناميات القوة والتمثيل، وأنثروبولوجي من خلال تفاعل الثقافات في صوغ الرواية. الإطار النظري.. العولمة بين الاقتصاد والثقافة والتقنية للعولمة أبعادها الاقتصادية التي تتمثل في هيمنة الوكالات الدولية، إذ إن 80% من الأخبار العالمية تنتج عبر وكالات فرانس برس ورويترز وأسوشيتد برس، إلى جانب منصات مثل بي بي سي وسي إن إن، مما يتحكم في أولويات التغطية الإخبارية ويؤدي إلى تنميط الرواية. وإلى جانب ذلك، فإن تآكل الصحافة المحلية وانكماش التمويل يحدان من قدرتها على تقديم روايات معمقة. تتحكم هذه الشبكات الإعلامية الكبرى في مسار القصص، فنجد أحيانا أن قضية محلية -كمعاناة حي صغير تحت القصف- تتحول إلى خطاب عالمي عن حقوق الإنسان، بينما يضيع صوت هذا الحي في أحيان أخرى وسط ضجيج الأخبار العاجلة. أما الأبعاد الثقافية والاجتماعية فتتجلى في صعود نموذج إخباري غربي يصدر عالميا، يهمش السرد المحلي ويعيد تشكيله وفق معايير غربية وقوالب عالمية. ومن قصص اللاجئين إلى حركات مثل Black Lives Matter وMe Too وصولا إلى التحقيقات الاستقصائية العابرة للقارات، يظهر بوضوح أن الحدود بين المحلي والعالمي أصبحت أكثر هشاشة. تتمثل إحدى القضايا المحورية في هيمنة التمثيل؛ إذ يصور إعلام الجنوب العالمي غالبا بوصفه مصدرا للشهادات، لا كصانع للروايات. ويظهر البناء الاجتماعي للأخبار عبر ملاحظة اختزال الصراعات المعقدة -كالحرب السورية- في سرديات مبسطة تلائم الجمهور الغربي، كما يظهر أيضا من خلال ديناميات القوة التي تمنح دول الشمال العالمي السيطرة على تدفق المعلومات. ومن منظور أنثروبولوجي، يلحظ المتابع أثر النسبية الثقافية في مقاربة الأخبار، إذ يختلف مفهوم الموضوعية بين الثقافات. وكمثال حي، يمكن أن نجد اختلافا عميقا بين تغطية الإعلام الغربي لحرب غزة وتغطية الإعلام العربي لها، من حيث توصيفها وأرقامها ودقة قصصها والتعابير والمصطلحات المستعملة. أما البعد التقني، فإن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، بوصفها أدوات نشر فورية، قد أسهمت في نشوء "صحافة المواطن". فاليوم تكتب القصص في دمشق أو الخرطوم أو غزة، لكنها تقرأ في نيويورك أو طوكيو أو جوهانسبرغ في اللحظة نفسها. كما أن "صحافة البيانات" -من خلال توظيف الخرائط التفاعلية مثلا في تغطية أزمات اللاجئين- تعد مفيدة، لكنها قد تجرد معاناتهم من بعدها الإنساني. في ضوء ذلك، تغدو العولمة واقعا يوميا يفرض نفسه على غرف الأخبار. فقد أعادت شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي تشكيل الطريقة التي تكتب وتقرأ بها الأخبار؛ فلم يعد الصحفي وحده صاحب الصوت، بل انضم إليه المواطن العادي الذي يوثق بكاميرا هاتفه، والمنظمات العابرة للحدود التي تضع معاييرها الأخلاقية الخاصة. وهنا تكمن المفارقة، فالعولمة تمنح الصحافة فرصة للوصول إلى جمهور أوسع، لكنها في الوقت نفسه تهدد أصالتها إذا لم تنتبه إلى التمثيل العادل والوعي الثقافي. المستقبل، كما يبدو، سيكون ملكا لمن يستطيع أن يزاوج بين الدقة والإنصاف، وبين الحكاية المحلية وروحها الإنسانية. دراسة حالة.. العولمة في الميدان تظهر تغطية الأزمات المحلية -مثل تغير المناخ وقضايا اللاجئين- كيف يعاد تأطير القصة محليا وعالميا. فالحركات العالمية مثل Black Lives Matter وMe Too تمثل قضايا محلية تحولت إلى روايات عالمية. أزمة اللاجئين: تحولت القضية من مأساة إنسانية إلى تهديد للأمن القومي الأوروبي. الحرب على اليمن: فقد ركزت الرواية الدولية على بعد الصراع الإقليمي، بينما أولت التغطيات المحلية اهتماما أكبر بمأساة المجاعة وتدمير البنى التحتية. التعاون الاستقصائي الدولي: حيث جمعت مشاريع كبرى مثل Panama Papers صحفيين من مختلف القارات. التحديات والفرص.. نحو صحافة متوازنة من التحديات التعميم والتحيز، واختزال الصراعات في ثنائيات (ضحايا في مقابل جناة). كما تتمثل التحديات في التحيزات الثقافية والسياسية في اختيار القصص وصياغتها، بالإضافة إلى خطر فقدان الأصالة في السرد لمصلحة معايير إعلامية معولمة، والإشكاليات ذات الطابع الأخلاقي للنشر في سياقات حساسة. ومن الجوهري في هذا الصدد الإشارة إلى فقدان السياق، أي حذف التعقيدات التاريخية والثقافية. ومن الفرص التعاون بين الثقافات في التغطية الحربية، والابتكار في أشكال السرد الصحفي (وسائط متعددة)، واستثمار التكنولوجيا للوصول إلى جمهور أوسع وأكثر تنوعا. كما يمكن توظيف أحد أشكال الصحافة المعولمة، وهو صحافة التعاون، في مبادرات مثل Worldcrunch لترجمة التقارير المحلية. وأخيرا، يعد توظيف التكنولوجيا الداعمة -كالذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات المتعددة اللغات- من أبرز الأدوات المستقبلية المتاحة. الصحافة في عالم بلا حدود العولمة ليست مجرد سياق خارجي للصحافة، بل هي قوة فاعلة تعيد تشكيل طبيعة السرد الإخباري، وبخاصة في الحروب حيث تتقاطع مصالح سياسية واقتصادية وثقافية. ربما يمكننا أن نقول إن العولمة حولت السرد الصحفي إلى ساحة صراع تبنى فيها الحقائق أثناء عبورها من ممرات اقتصادية وثقافية. إن فهم الأبعاد الاجتماعية والأنثروبولوجية للعولمة يمكّن الصحفيين والباحثين من إنتاج تغطيات أكثر توازنا وعدالة، تجمع بين المعيار المهني والحساسية الثقافية. والتحدي الأكبر هو تطوير أطر أخلاقية عابرة للثقافات تحمي التعددية وتوازن بين القوة والمسؤولية. وإذا ما تطلعنا إلى المستقبل الصحفي في عالم معولم، سنرى أنه يعتمد على قدرة الصحافة على المزج بين التكنولوجيا الحديثة والرواية الأصيلة، وعلى تعزيز التعاون العابر للحدود لخدمة الحقيقة. والسؤال هو: كيف يمكن للصحافة أن تكون جسرا لا منصة هيمنة؟ وهل ذلك ممكن؟