
من الرباط إلى واشنطن.. الصحافيون بين مطرقة السلطة وسندان المصالح الاقتصادية
كان بوب ديلان Bob Dylan، الحائز على جائزة نوبل للموسيقى، يغني في ستينيات القرن الماضي: « TheThe Times They Are A-Changing' » 'الأزمنة تتغير…' — وبعد ستين سنة، يبدو أن هذا المقطع الشيق أصبح نبوءة حزينة بالنسبة للصحافيين في العالم، الذين يواجهون ضغوطًا متعددة ومتزايدة يوماً بعد يوم.
اليوم، لم تعد الصحافة تعمل فقط في مناخ من انعدام الثقة، بل تجد نفسها وسط عاصفة تتقاطع فيها الرقابة المقنعة، الضغوط القضائية، التبعية المالية، والتلاعبات الأيديولوجية. إنها مرحلة غامضة يقف فيها الصحافي «بين المطرقة والسندان»: من جهة، واجبه المقدس في نقل المعلومة بكل حرية وتجرد، ومن جهة أخرى، تهديد القوى السياسية والاقتصادية التي تسعى إلى إسكات صوته.
المغرب واختبار الحق في الإعلام دون «قيود»
المغرب ليس استثناءً. عدد المحاكمات المرتبطة بحرية التعبير منذ مطلع القرن لازال يثير القلق. صحافيون متابعون بتهم القذف، وسائل إعلام معاقبة لكشفها وقائع حساسة: مساحات التعبير تقلصت مع مرور الزمن، رغم التصريحات الرسمية المتكررة عن «الحداثة الديمقراطية» و«احترام حرية التعبير الصحافة».
ويبدو أن الرقابة الذاتية، بل الصمت الكامل عما يزعج، أصبحت سيدة الموقف في المشهد الإعلامي المغربي، مقابل التركيز على الحوادث العابرة، والفضائح الجنسية، و«التفاهة» التي تضمن النقرات، ولكن قد تجلب الصفعات أيضًا.
وإذا كنا نتوقع (بحق أو بغير حق) مثل هذه الانحرافات في ديمقراطيات ناشئة، فإن المفاجأة تكون أكبر عندما تقع في معاقل الحرية المعلنة، كحال الولايات المتحدة الأمريكية.
نشرت صحيفة نيويورك تايمز New York Times في عددها الصادر بتاريخ 18 ماي 2025 سؤالًا يبعث على القشعريرة:
'كيف يمكن أن يحدث هذا هنا، في بلد يتفاخر بالتعديل الأول؟' The first amendment
وينص التعديل هذا في الدستور الأمريكي على أنه: 'لا يجوز للكونغرس إصدار أي قانون يحد من حرية التعبير أو حرية الصحافة.'
ويعني ذلك أن الدولة لا يمكنها قانونيًا فرض رقابة على الصحافيين أو منع المواطنين من التعبير بحرية — وهي ركيزة أساسية للديمقراطية الأمريكية.
تطرقت هذه الصحيفة الواسعة الإنتشار إلى شكلين من أشكال قمع الإعلام:
الأول مباشر ووحشي، كما في الأنظمة السلطوية مثل الصين أو روسيا، حيث يُسجن الصحافيون أو يُقتلون.
والثاني أكثر مكرًا وخطورة، يوجد في الديمقراطيات الحديثة، حيث لا رقابة رسمية، بل مضايقات قضائية، ضغوط تنظيمية، ملاحقات تعسفية، أو استهداف مصالح ملاك وأصحاب وسائل الإعلام الاقتصادية.
الهدف: ردع الصحافيين عن التطرق للمواضيع الحساسة، وإجبارهم على الرقابة الذاتية، أو صرف نظرهم عن ما تود السلطة إبقاءه في الظل بعيدا عن فضول الجمهور .
لقد ولّى الزمن الذي كشفت فيه صحيفة واشنطن بوست فضيحة ووترغيت Watergate وتسببت في إسقاط الرئيس نيكسون.
قناع الصحافة الخانعة
هذه الآلية ليست بجديدة. ففي سبعينيات القرن الماضي، تَسرّب الصحافي الألماني غونتر فالراف إلى صحيفة Bild الشعبوية، والتي تطبع ملايين من النسخ يومياً، تحت هوية مزيفة، لكشف ممارسات صحافة منحرفة في خدمة أصحاب المال والنفوذ. وفي كتابه : الصحافي غير المرغوب فيه (1977)، لم يتردد في وصف صحافة تكذب، وتشوه، وتضلل لإرضاء الممولين والمعلنين.
واشتهرت عبارته اللاذعة:
'الصحافيون كالعاهرات، يفعلون ما يُطلب منهم مقابل المال.'
رغم قسوتها، إلا أنها لا تزال تُحدث صدى، خاصة في زمن باتت فيه الاستقلالية التحريرية مشروطة بالمصالح المالية. وفي كتابه : كبش فداء (1985)، ذهب الكاتب الألماني هذا إلى أبعد من ذلك، منتقدًا التهميش المنهجي للعمال المهاجرين خاصة الأتراك، ودور الإعلام في هذا التواطؤ. وقد لجأ بعد ذلك إلى هولندا بعد الحملة الشعواء التي شنتها عليه وسائل الإعلام المقربة من أصحاب المال والجاه مطالبة بمحاكمته.
وهكذا أصبحت العلاقة المشتبه فيها بين الإعلام والسلطة مكشوفة للرأي العام. فحسب تحليل نشره الموقع الإخباري الأمريكي Splinter، وحدهم الديمقراطيون الأمريكيون فوق سن الخمسين يحتفظون ببعض الثقة في الإعلام التقليدي، أما باقي الفئات — على اختلاف انتماءاتهم السياسية — فتعبر عن شكوك عميقة تجاه الصحافة الرصينة.
هذا مثال صارخ: فرغم الشكوك حول تلقي الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب رشوة فاضحة من قطر، لم تجرؤ الصحافة الأمريكية الكبرى على استعمال مفردات مثل «رشوة» أو «فساد». هذه قضية استغلال السلطة يعترف به بعض المؤثرين من اليمين المتطرف المساندين لترامب، في حين تمتنع المؤسسات الإعلامية الكبرى عن تسميته علنًا.
تقرأ، كل يوم، هذه العبارة تحت شعار صحيفة واشنطن بوست Washington Post :
'الديمقراطية تموت في الظلام' ( Democracy dies in darkness)
ولا يُراد من هذا الكلام شيطنة «الإعلام» بجملته. هناك الكثير من الصحافيين الذين لا يزالون يقاومون، يحققون، يكشفون — وغالبًا على حساب مستقبلهم المهني، وأحيانًا حياتهم. لكن المؤشرات الحمراء تتكاثر: فلا ديمقراطية بدون صحافة مستقلة وشجاعة.
فالمعركة من أجل إعلام حر لا تُخاض فقط في ساحات المحاكم، بل في كل غرف التحرير، وكل خط افتتاحي، وفي العلاقة بين الصحافي وقارئه. وفي هذا الزمن الملتبس، أصبحت المعركة ضرورة قصوى.
ولا غرابة أن تذكّر واشنطن بوست قراءها، للأسف، بأن «الديمقراطية تموت في الظلام». وهي جملة تعيدنا إلى المقولة الشهيرة للفيلسوف والمناضل أنطونيو غرامشي Antonio Gramsci من زنزانته:
'العالم القديم يحتضر، والعالم الجديد لم يولد بعد، وفي هذه الحالة الملتبسة بين النور والظلام تظهر الوحوش.'
منعطف تاريخي حافل بالغموض…
حادث له علاقة بالموضوع
في 2012، نشر موقع Gawker الجريء والرائد في الصحافة الرقمية مقطعًا حميميًا لنجم المصارعة الشهير هالك هوغان (تيري بوليا). فرفع هذا الأخير دعوى بتهمة التعدي على الخصوصية، وكسب تعويضًا بقيمة 140 مليون دولار سنة 2016.
لكن خلف الكواليس، كان يقف الملياردير بيتر ثيل (أحد مؤسسي PayPal)، الذي موّل سرًا القضية بدافع الانتقام: إذ كشف الموقع عن مثليته سنة 2007 دون موافقته.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


اليوم 24
منذ 8 ساعات
- اليوم 24
من الرباط إلى واشنطن.. الصحافيون بين مطرقة السلطة وسندان المصالح الاقتصادية
كان بوب ديلان Bob Dylan، الحائز على جائزة نوبل للموسيقى، يغني في ستينيات القرن الماضي: « TheThe Times They Are A-Changing' » 'الأزمنة تتغير…' — وبعد ستين سنة، يبدو أن هذا المقطع الشيق أصبح نبوءة حزينة بالنسبة للصحافيين في العالم، الذين يواجهون ضغوطًا متعددة ومتزايدة يوماً بعد يوم. اليوم، لم تعد الصحافة تعمل فقط في مناخ من انعدام الثقة، بل تجد نفسها وسط عاصفة تتقاطع فيها الرقابة المقنعة، الضغوط القضائية، التبعية المالية، والتلاعبات الأيديولوجية. إنها مرحلة غامضة يقف فيها الصحافي «بين المطرقة والسندان»: من جهة، واجبه المقدس في نقل المعلومة بكل حرية وتجرد، ومن جهة أخرى، تهديد القوى السياسية والاقتصادية التي تسعى إلى إسكات صوته. المغرب واختبار الحق في الإعلام دون «قيود» المغرب ليس استثناءً. عدد المحاكمات المرتبطة بحرية التعبير منذ مطلع القرن لازال يثير القلق. صحافيون متابعون بتهم القذف، وسائل إعلام معاقبة لكشفها وقائع حساسة: مساحات التعبير تقلصت مع مرور الزمن، رغم التصريحات الرسمية المتكررة عن «الحداثة الديمقراطية» و«احترام حرية التعبير الصحافة». ويبدو أن الرقابة الذاتية، بل الصمت الكامل عما يزعج، أصبحت سيدة الموقف في المشهد الإعلامي المغربي، مقابل التركيز على الحوادث العابرة، والفضائح الجنسية، و«التفاهة» التي تضمن النقرات، ولكن قد تجلب الصفعات أيضًا. وإذا كنا نتوقع (بحق أو بغير حق) مثل هذه الانحرافات في ديمقراطيات ناشئة، فإن المفاجأة تكون أكبر عندما تقع في معاقل الحرية المعلنة، كحال الولايات المتحدة الأمريكية. نشرت صحيفة نيويورك تايمز New York Times في عددها الصادر بتاريخ 18 ماي 2025 سؤالًا يبعث على القشعريرة: 'كيف يمكن أن يحدث هذا هنا، في بلد يتفاخر بالتعديل الأول؟' The first amendment وينص التعديل هذا في الدستور الأمريكي على أنه: 'لا يجوز للكونغرس إصدار أي قانون يحد من حرية التعبير أو حرية الصحافة.' ويعني ذلك أن الدولة لا يمكنها قانونيًا فرض رقابة على الصحافيين أو منع المواطنين من التعبير بحرية — وهي ركيزة أساسية للديمقراطية الأمريكية. تطرقت هذه الصحيفة الواسعة الإنتشار إلى شكلين من أشكال قمع الإعلام: الأول مباشر ووحشي، كما في الأنظمة السلطوية مثل الصين أو روسيا، حيث يُسجن الصحافيون أو يُقتلون. والثاني أكثر مكرًا وخطورة، يوجد في الديمقراطيات الحديثة، حيث لا رقابة رسمية، بل مضايقات قضائية، ضغوط تنظيمية، ملاحقات تعسفية، أو استهداف مصالح ملاك وأصحاب وسائل الإعلام الاقتصادية. الهدف: ردع الصحافيين عن التطرق للمواضيع الحساسة، وإجبارهم على الرقابة الذاتية، أو صرف نظرهم عن ما تود السلطة إبقاءه في الظل بعيدا عن فضول الجمهور . لقد ولّى الزمن الذي كشفت فيه صحيفة واشنطن بوست فضيحة ووترغيت Watergate وتسببت في إسقاط الرئيس نيكسون. قناع الصحافة الخانعة هذه الآلية ليست بجديدة. ففي سبعينيات القرن الماضي، تَسرّب الصحافي الألماني غونتر فالراف إلى صحيفة Bild الشعبوية، والتي تطبع ملايين من النسخ يومياً، تحت هوية مزيفة، لكشف ممارسات صحافة منحرفة في خدمة أصحاب المال والنفوذ. وفي كتابه : الصحافي غير المرغوب فيه (1977)، لم يتردد في وصف صحافة تكذب، وتشوه، وتضلل لإرضاء الممولين والمعلنين. واشتهرت عبارته اللاذعة: 'الصحافيون كالعاهرات، يفعلون ما يُطلب منهم مقابل المال.' رغم قسوتها، إلا أنها لا تزال تُحدث صدى، خاصة في زمن باتت فيه الاستقلالية التحريرية مشروطة بالمصالح المالية. وفي كتابه : كبش فداء (1985)، ذهب الكاتب الألماني هذا إلى أبعد من ذلك، منتقدًا التهميش المنهجي للعمال المهاجرين خاصة الأتراك، ودور الإعلام في هذا التواطؤ. وقد لجأ بعد ذلك إلى هولندا بعد الحملة الشعواء التي شنتها عليه وسائل الإعلام المقربة من أصحاب المال والجاه مطالبة بمحاكمته. وهكذا أصبحت العلاقة المشتبه فيها بين الإعلام والسلطة مكشوفة للرأي العام. فحسب تحليل نشره الموقع الإخباري الأمريكي Splinter، وحدهم الديمقراطيون الأمريكيون فوق سن الخمسين يحتفظون ببعض الثقة في الإعلام التقليدي، أما باقي الفئات — على اختلاف انتماءاتهم السياسية — فتعبر عن شكوك عميقة تجاه الصحافة الرصينة. هذا مثال صارخ: فرغم الشكوك حول تلقي الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب رشوة فاضحة من قطر، لم تجرؤ الصحافة الأمريكية الكبرى على استعمال مفردات مثل «رشوة» أو «فساد». هذه قضية استغلال السلطة يعترف به بعض المؤثرين من اليمين المتطرف المساندين لترامب، في حين تمتنع المؤسسات الإعلامية الكبرى عن تسميته علنًا. تقرأ، كل يوم، هذه العبارة تحت شعار صحيفة واشنطن بوست Washington Post : 'الديمقراطية تموت في الظلام' ( Democracy dies in darkness) ولا يُراد من هذا الكلام شيطنة «الإعلام» بجملته. هناك الكثير من الصحافيين الذين لا يزالون يقاومون، يحققون، يكشفون — وغالبًا على حساب مستقبلهم المهني، وأحيانًا حياتهم. لكن المؤشرات الحمراء تتكاثر: فلا ديمقراطية بدون صحافة مستقلة وشجاعة. فالمعركة من أجل إعلام حر لا تُخاض فقط في ساحات المحاكم، بل في كل غرف التحرير، وكل خط افتتاحي، وفي العلاقة بين الصحافي وقارئه. وفي هذا الزمن الملتبس، أصبحت المعركة ضرورة قصوى. ولا غرابة أن تذكّر واشنطن بوست قراءها، للأسف، بأن «الديمقراطية تموت في الظلام». وهي جملة تعيدنا إلى المقولة الشهيرة للفيلسوف والمناضل أنطونيو غرامشي Antonio Gramsci من زنزانته: 'العالم القديم يحتضر، والعالم الجديد لم يولد بعد، وفي هذه الحالة الملتبسة بين النور والظلام تظهر الوحوش.' منعطف تاريخي حافل بالغموض… حادث له علاقة بالموضوع في 2012، نشر موقع Gawker الجريء والرائد في الصحافة الرقمية مقطعًا حميميًا لنجم المصارعة الشهير هالك هوغان (تيري بوليا). فرفع هذا الأخير دعوى بتهمة التعدي على الخصوصية، وكسب تعويضًا بقيمة 140 مليون دولار سنة 2016. لكن خلف الكواليس، كان يقف الملياردير بيتر ثيل (أحد مؤسسي PayPal)، الذي موّل سرًا القضية بدافع الانتقام: إذ كشف الموقع عن مثليته سنة 2007 دون موافقته.


المغرب اليوم
منذ 18 ساعات
- المغرب اليوم
ترامب يعبر عن حزنه لاصابة بايدن بمرض السرطان ويتمنى له الشفاء العاجل والفعال رغم الخلافات السياسية بينهما
عبّر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عن مشاعره تجاه سلفه الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن الذي أصيب بمرض خبيث، قائلاً إنه يشعر بالحزن إزاء هذا الخبر، متمنيًا له الشفاء العاجل والفعّال. جاء ذلك في منشور نشره ترامب على منصته الخاصة "تروث سوشيال"، في لفتة نادرة من التضامن بين خصمين سياسيين طالما تبادلا الانتقادات العلنية. وكتب ترامب: "أنا وميلانيا نشعر بالحزن لسماعنا نبأ التشخيص الطبي الأخير لجو بايدن"، مضيفًا: "نتقدم بأحر وأطيب تمنياتنا لجيل (السيدة الأولى السابقة) ولعائلته، ونتمنى لجو الشفاء العاجل والناجع". هذا التصريح الذي خرج عن سياق التوتر السياسي المعتاد بين الطرفين، لاقى تفاعلاً واسعًا، واعتبره البعض موقفًا إنسانيًا يستحق الإشادة. وكانت صحيفة نيويورك تايمز قد نقلت، يوم الأحد، عن المتحدث باسم جو بايدن، أن الرئيس السابق تم تشخيص إصابته بسرطان البروستات، في تطور أثار القلق حول حالته الصحية. وأوضح المتحدث أن المرض تم اكتشافه في مرحلة قابلة للعلاج، وأن الفريق الطبي يتابع الوضع عن كثب لضمان استقرار الحالة وتقديم العناية المطلوبة.


كواليس اليوم
منذ يوم واحد
- كواليس اليوم
المفاوضات المباشرة بين النظام الإيراني والإدارة الأمريكية وتفجيرات بندر عباس
منذ بداية التأزم بين الولايات المتحدة الأمريكية وملالي إيران حول تطوير برنامجهم النووي الذي ادعوا بأنه للأغراض السلمية، ولم يستطيعوا إقناع المجتمع الدولي بمصداقية ما ادعوا به لأن كل المؤشرات تشير إلى أنهم بصدد امتلاك السلاح النووي، ورغم كل ما تم الاتفاق عليه سابقا، وما ألغي لاحقا من اتفاق يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني نجد اليوم المفاوضات المباشرة بين الطرفين قد عادت بغية الوصول إلى اتفاق جديد واضح المعالم جدي الخطوات راسخ البنود. إن ملالي إيران حاولوا مرارا وتكرارا، ومازالوا يتلاعبون بحبال الوقت كي يخدعوا العالم بتسويفهم ومماطلاتهم عسى أن يصلوا إلى النسبة المطلوبة من تخضيب اليورانيوم الكافية لإنتاج أسلحة نووية، فهم يودون أن يفاجئوا العالم بامتلاكهم له، وكلهم اعتقاد أن ذلك سيقيهم الكثير من العوائق الجيوسياسية التي تعترضهم، وأنه سيخلصهم من جملة المآزق التي وقعوا فيها بدءا من العقوبات الدولية التي نخرت عظامهم فانهارت عملتهم وتضعضع اقتصادهم، مرورا بالتراشق السياسي المتأجج الحامل لتهديدات متصاعدة بشن ضربات عسكرية على المنشآت النووية، والعسكرية الإيرانية من قبل إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، علها تصل إلى ( ما تحلم به) ألا وهو دخول النادي النووي العالمي الذي يزيد من ثقلها على الساحة الإقليمية كي تمارس تمددها، وتحقق رغبتها بصياغة جديدة للمنطقة تتوافق وأطماعها، وتمهد لها طريق الهيمنة المدعومة بامتلاكها( للنووي المنتظر). إن الرئيس ترامب هو الذي ألغى الاتفاق السابق بشأن النووي الإيراني، وهو اليوم يمارس المفاوضات المباشرة مع إيران بشأن ذات الموضوع مع تمسكه بخياراته، وإملاءاته لاسيما المستحدثة منها، وهي قضية الصواريخ البالستية التي لم يقبل الملالي التفاوض بشأنها، وإلى الآن نجد تضاربا فيما رشح من تصريحات عن طريق الإدارة الأمريكية فيما يتعلق بمصير النووي الإيراني، فهل يتم الاكتفاء بتقييد تخصيب اليورانيوم بعيدا عن تفكيك البرنامج النووي الإيراني؟ أم تدمير كامل برامج ملالي إيران النووية والصاروخية البالستية؟ ما لمسناه أن هناك رغبة في التوصل إلى اتفاق دائم وملزم يضمن عدم وجود أسلحة نووية إيرانية مع احتفاظ إيران بقدرتها على تطوير طاقتها النووية للأغراض السلمية فقط. لقد تقدمت إيران بشروطها الأساسية لإجراء المفاوضات وكان من أبرزها (وقف التهديدات الأمريكية الإسرائيلية المزعزعة لاستقرار المنطقة، تسهيل الاستثمار الأجنبي، الضمانات الأمريكية الملموسة والجدية في كل ما يتعلق بالاتفاق…)، لكن يبدو أن الثقة تكاد تكون معدومة بين طهران وواشنطن، إلا أن الطرفين اعتزما بذل جهد دبلوماسي مشترك عنوانه (تجنب الحرب). إن الرئيس الأمريكي ترامب حسب تصريحاته في بداية تسلمه ولايته الثانية كان قد أكد عزمه على إبعاد بلاده عن أتون الحرب العالمية، كما أعلن لاحقا تراجعه عن جهود الوساطة لوقف الحرب في أوكرانيا، وهو ينسب لنفسه وقف خطط إسرائيل لضرب إيران، وذلك حسب ما جاء في صحيفة نيويورك تايمز، وبناء عليه يتبين أن ترامب غير مندفع في الوقت الراهن لخوض حرب ضد إيران قد تكبده خسائر هو بغنى عنها، إلا أن المفاوضات الجديدة بين طهران وواشنطن هذه المرة تجري بعيدا عن دعوة شركائها في أوربا الذين وقعوا الاتفاق النووي عام ٢٠١٥ في عهد الرئيس السابق أوباما؛ ما يعني وجود مساحة أوسع تتحكم بها الولايات المتحدة الأمريكية للمناورة، وممارسة الضغوط على إيران بما تراه أكثر ملائمة وتوافقا مع رؤيتها السياسية للشرق الأوسط الحالية والمستقبلية ما يشكل عبئا متزايدا، وحالة من الفزع يعيشها ملالي إيران خشية فشل مفاوضات الجولة الرابعة، لأن الفشل هنا يعني أن يواجه نظام ولاية الفقيه المزيد من التركيع الاقتصادي، والتثوير الشعبي، والتدخل الدولي الذي قد يؤدي إلى نهاية شبه حتمية لنظام ولاية الفقيه إذا تابع نهجه المتصف بالتعنت وتمييع الوقت. إن المعطيات الحالية لا تخدم نظام الملالي لأن الضغوط الدولية في تصاعد مستمر بسبب أن الغرب يعي تماما حالة الضعف التي يمر بها حكام إيران، لذلك نجده يحاول استثمارها بفرضه شروطا إضافية في المفاوضات مرتفعة السقوف عما كان عليه الاتفاق السابق؛ علما أن النظام الإيراني المتهالك يحاول أن يبدي تماسكه لكنه تماسك هش مزيف، ومحاولة يائسة للتغطية على جملة الأزمات الخانقة التي يعيشها خارجيا وداخليا، وكان أخر أزماته وليس آخرها هو التفجير الذي حصل في ميناء رجائي بمدينة بندر عباس، والذي أودى بحياة العشرات وجرح ما يقارب الألف، وقد تم اتهام إسرائيل به، وذلك بزرع متفجرات ضمن الحاويات حيث كان التفجير عن طريق التحكم عن بعد. إن نظام الملالي في إيران أصبح في موقف لا يحسد عليه خاصة إذا فشلت المفاوضات في الجولة الرابعة، ما يعني أن سقوطه بات قاب قوسين أو أدنى، وذلك بعد فقدانه لجملة من الأوراق التي كان يقايض بها، أما الآن لم يعد يمتلك المزيد من الوقت لممارسة (بهلوانياته) المكشوفة، أو ليلعب دور (الحاوي) الذي يخرج الأفعى من السلة والسبب عزفه الهزيل الفاقد لحرفنة نغمات السلم الموسيقي غير القادر على ترقيص الأفاعي! ختاماً أليس دعم نضال الشعب الإيراني ومقاومته وتنفيذا برنامج المواد العشر للمقاومة الإيرانية طريقاً أقصر وأسهل لإنهاء هذه الأزمات جملة وتفصيلا.. فلما يتخذ الغرب الطريق الأصعب ويصرون على بقاء الملالي في الحكم؟ د.مصطفى عبدالقادر/ أستاذ جامعي – ألمانيا