logo
العدالة الانتقالية... «بدنا نكفي بيللي بقيوا»

العدالة الانتقالية... «بدنا نكفي بيللي بقيوا»

قاسيون2 days ago

يحدد المرسوم مهمة الهيئة وصلاحياتها بالنص التالي:
«بناء على الصلاحيات الممنوحة لرئيس الجمهورية العربية السورية، واستناداً إلى أحكام الإعلان الدستوري، وإيماناً بضرورة تحقيق العدالة الانتقالية كركيزة أساسية لبناء دولة القانون، وضماناً لحقوق الضحايا، وتحقيقاً للمصالحة الوطنية الشاملة، يُعلن ما يلي:
تشكل هيئة مستقلة باسم «الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية» تُعنى بكشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي تسبب فيها النظام البائد، ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها بالتنسيق مع الجهات المعنية، وجبر الضرر الواقع على الضحايا، وترسيخ مبادئ عدم التكرار والمصالحة الوطنية».
النقطة الأساسية التي استقطبت القسم الأكبر من النقاش، هي حصر مهمة الهيئة المنشأة بـ«كشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي تسبب فيها النظام البائد...»، الأمر الذي يمكن أن يُفهم منه أن الانتهاكات التي ارتكبتها الأطراف الأخرى في سورية، بما فيها فصائل المعارضة بمختلف أصنافها، باتت خارج قوس، وتم غض النظر عنها، وسيفلت مرتكبوها من أي محاسبة من أي نوع كان، ما يجعل العدالة الانتقالية المفترضة، عدالة عرجاء، وشكلاً من أشكال «عدالة المنتصر»، التي تتناقض مع العدالة بمفهومها القضائي والاجتماعي، ويمكنها تالياً أن تنسف المهام التي من المفترض أن تحققها هذه الهيئة وفقاً للنص، والمتمثلة بـ«بناء دولة القانون، وضمان حقوق الضحايا، وتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة».
البعض حاول إيجاد مخرجٍ تأويلي للنص، يسمح له بتوسيع دائرة عمله ليشمل كل المرتكبين من كل الأطراف، عبر الاستناد إلى عبارة «الانتهاكات الجسيمة التي تسبب فيها النظام البائد»، وتحديداً «التي تسبب بها»، مُفسراً بأن النظام هو السبب الأساسي في كل ما جرى من جرائم، بما فيها تلك التي ارتكبتها فصائل في المعارضة، وبالتالي فإن كل الجرائم يمكن أن يتم تشميلها باعتبارها جرائمَ تسبب بها النظام، وتسببه بها لا يرفع المسؤولية عن مرتكبيها المباشرين، ولا يحجب محاسبتهم... وإنْ كان هذا الفهم «السياسي-الجنائي» يمكن أن يعتبر «ظرفاً مخففاً».
ماذا تقول الوقائع؟
إذا تركنا النقاش «القانوني» جانباً إلى حين، وحاولنا البحث في المعاني الأوسع، السياسية والاجتماعية والوطنية لفكرة العدالة الانتقالية، لا بد قبل كل شيء من النظر في تجارب الشعوب والدول الأخرى، ليس لتكرارها، ولكن على الأقل، كي تساعدنا في إلقاء شيء من الضوء على المسألة موضع النظر.
التجربة اللبنانية في الحرب الأهلية، وتجربة رواندا والعراق ويوغوسلافيا وجنوب أفريقيا، وغيرها العديد من التجارب الأخرى، تشترك في أنه لم تجر في نهاية المطاف محاسبة لا كل المرتكبين ولا نصفهم، ولا حتى واحد بالألف منهم، واقتصرت المحاسبة على عدد قليل من الشخصيات النافذة. حتى محاكمات نورنبرغ الشهيرة التي جرت بعد الحرب العالمية الثانية، وحوكم فيها مجرمو النظام النازي المنهار، اقتصرت على 177 شخصاً، حكم بالإعدام منهم 24، وبالسجن المؤبد 20، ولمدد مختلفة 98، وتمت تبرئة 35.
لا يمكن القول بأن أياً من النماذج المذكورة أعلاه، هي نماذج «مثالية»، أو نماذج صالحة لفكرة تحقيق العدالة للضحايا من وجهة نظر جنائية، أو حتى من وجهة نظر قانونية عامة. مع ذلك، فإن ما تخبرنا به هذه النماذج، وما يمكن بالفعل أن يُستفاد منها، هو الفكرة الواضحة التالية:
حين يجري الحديث عن «عدالة انتقالية»، فإن المقصود هو جانبها السياسي والوطني، وليس جانبها الجنائي؛ وهو فارق كبير له أسبابه الواضحة؛ فالتعامل مع ما جرى ضمن صراع عسكري طويل الأمد، بوصفه جملة من الجرائم والانتهاكات الجنائية، يعني إدانة كل الأطراف في نهاية المطاف، وزج عشرات أو حتى مئات الألوف من الناس في السجون، وتعليق مئات منهم على أعواد المشانق... وهو أمر ليس فقط غير ممكن عملياً، ولكنه أيضاً غير ممكن من وجهة نظر الحفاظ على البلاد والعبور بها نحو الاستقرار والتعافي... ما يستوجب طريقة نظرٍ مختلفة للمسألة برمتها، طريقة نظر سياسية-وطنية.
جوهر «العدالة الانتقالية» المطلوبة
الصراعات الحادة والدموية وطويلة الأمد التي تجري في أي بلد من البدان، تترك ندوبها وجراحها العميقة في كامل المجتمع الذي تجري ضمنه. وظيفة العدالة الانتقالية هي قطعاً ليست محاولة إزالة هذه الندوب؛ بل على العكس تماماً، وظيفة العدالة الانتقالية هي توضيح هذه الندوب والكشف عنها بكل أبعادها، بما يحولها إلى جزء من الذاكرة الوطنية للمجتمع المكلوم؛ والهدف من تكريس الندوب جزءاً من الذاكرة الوطنية للمجتمع، هو أن تبقى شاهداً مستمراً على المأساة التي حدثت، بالضبط لمنع تكرارها.
وكي نتمكن من منع تكرار المأساة، فإن أول ما ينبغي التركيز عليه هو: الأسباب التي دفعتنا نحو الكارثة، لمعالجتها بشكل جذري يمنع تكرارها في أي وقت لاحق.
ولعل بين الدروس الكبرى التي لا يجوز القفز فوقها، ما يلي:
أولاً: الاستعانة بالأطراف الخارجية من جانب قسم من السوريين ضد أقسام أخرى، يؤدي إلى مزيد من التدخلات الخارجية، من أطراف متعددة ومتناقضة، ويحول البلاد إلى ساحة صراع إقليمي ودولي، ويضاعف آلاف المرات من حجم الخسائر البشرية والمادية.
ثانياً: قسم السوريين على أسس قومية أو طائفية أو دينية، من شأنه أن يعزز من سيلان الدم ومن الخراب العام. ومن شأنه أن يضعف البلاد ككل، وأن يضعف كل أطرافها واتجاهاتها وتياراتها.
ثالثاً: العمل السلمي المرتكز إلى نشاط الناس الاجتماعي والسياسي، هو دائماً الطريق الأقصر والأقل تكلفة نحو التغيير، ونحو الوصول إلى الحقوق. واستخدام العنف ينبغي أن يكون في إطار الدفاع فقط، وضمن شروط صارمة لا تجعل من «الدفاع» ذريعة لسفك دماء الناس.
رابعاً: الجوهر العملي في العدالة الانتقالية هو الاعتراف بالجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها كل الأطراف وكشفها؛ أي المصارحة تمهيداً للمسامحة والمصالحة، واستخدام المحاسبة بوصفها تكثيفاً رمزياً للعدالة، عبر محاكمة عدد محدد من الشخصيات النافذة وصاحبة المسؤولية في الارتكابات من كل الأطراف.
في أحد البرامج الإذاعية لزياد الرحباني، وفي سياق الحديث عما بعد الحرب الأهلية اللبنانية، يقول: «بدنا نكفي بيللي بقيوا، مش بدنا نكفي على اللي بقيوا» ... وفي سورية أيضاً ينبغي أن نكمل بمن بقي من السوريين، لا أن نكمل على من بقي منهم، وبالتالي نحتاج إلى منطق مختلف تماماً عن منطق الانتقام، وعن منطق انتصار قسمٍ من الشعب على قسمٍ آخر، لأن منطقاً كهذا من شأنه أن يكرس خسارة الجميع، وخسارة البلد بأسره معهم...

Orange background

Try Our AI Features

Explore what Daily8 AI can do for you:

Comments

No comments yet...

Related Articles

مذكرات تشرشل حول الحرب العالمية الثانية في مهب نقاد جائزة نوبل
مذكرات تشرشل حول الحرب العالمية الثانية في مهب نقاد جائزة نوبل

Independent Arabia

time8 hours ago

  • Independent Arabia

مذكرات تشرشل حول الحرب العالمية الثانية في مهب نقاد جائزة نوبل

طبعاً لا يمكن لأحد أن يزعم أن ثمة مرجعاً أفضل من غيره أو يبدو أصح من المراجع الأخرى للحديث بصدق ونزاهة عن أي حدث من أحداث التاريخ. ولعل هذه الحقيقة تنطبق أول ما تنطبق على تلك "المراجع" التي تحمل توقيعات من شاركوا حقاً في صنع تلك الأحداث، من يقفون في صفهم. ويصدق هذا خاصة على الأحداث السياسية والتاريخية أكثر مما في أي مجال آخر. فكيف إذا كان ما نود تناوله هنا حرباً كتلك العالمية الثانية كتب تاريخها واحد من كبار المشاركين فيها، وهو بالطبع رئيس الوزراء البريطاني خلال سنوات الحرب ونستون تشرشل؟ يقيناً أن لجنة جائزة نوبل الأدبية التي منحت تشرشل جائزتها في عام متزامن تقريباً مع عام صدور سفره عن تلك الحرب، كانت تعرف هذه الحقيقة، بل حتى تؤمن بمقولة الفرنسي غوستاف ليبون: "لو كانت الحجارة تنطق لأصبح التاريخ كله كذبة كبرى"، والقول المأثور الآخر "إن المنتصرين هم الذين يكتبون التاريخ دائماً... وعلى هواهم". ومن هنا سيبدو من الخطأ التاريخي ما يزعمه كثر من أن اللجنة منحت تشرشل جائزتها الأسمى عن هذا الكتاب بالذات. فهي لا تذكر الكتاب في حيثيات منح الجائزة، ثم أن الكتاب نفسه لم يكن قد صدر حين منحت. وتشرشل نفسه لم يتوانَ دائماً عن القول إن كل ما منحه له ظهور الكتاب، إنما كان ثروة مالية وقته الجوع وأغنته عن معاش الدولة التقاعدي. توثيق لا يعرف الحياد ونعرف على أية حال أن "مذكرات حول الحرب العالمية الثانية" هي مذكرات تشرشل عن زمن الحرب، توثق تاريخ الحرب العالمية الثانية، من بدايتها وحتى يوليو (تموز) 1945. وهو على أية حال سفر في كتابة التاريخ، بصرف النظر عن شكوكنا بصدد صحة أو عدم صحة كل ما جاء فيه. فنحن في نهاية الأمر نترصد من خلاله مواقف وتعليقات كاتبه حول مرحلة كان لاعباً أساساً فيها، ونرتاح إلى ذلك ولا سيما بعدما نتيقن بصدد ما جاء في أول هذا الكلام من "تبرئة" لجنة نوبل من التبجيل الذي نسب إليها بموضوع هذا الكتاب. والكتاب على أية حال عمل جبار من الناحية الكمية وجريء من ناحية الطروحات. ولئن كنا سنعود إلى هذه الطروحات في الجزء الأخير من كلامنا هذا، نتوقف هنا عند بعده الكمي، حيث نجده موزعاً على ألوف الصفحات التي توفر متعة قراءة مدهشة، وتوغلاً محموداً في جوانية كاتبه. مراحل التاريخ في عناوين فالكتاب يتألف في نهاية الأمر من ستة مجلدات لكل منها ضخامته الخاصة، إذ يتألف بدوره من قسمين. ما يعني أننا في النهاية أمام 12 كتاباً متكاملاً، حيث في المجلد الأول "العاصفة تقترب" يمهد الكاتب في الكتاب الأول "من حرب إلى أخرى" للحديث عن الحرب الثانية من خلال تأريخ للسنوات الفاصلة بين الحربين من 1919 إلى 1939 ليتلو ذلك كتاب ثانٍ عنوانه "حول حرب غريبة" يتركز على بدايات الحرب الثانية والهزيمة الفرنسية بين صيف عام 1939 وربيع تاليه. وفي المجلد الثاني بعنوان "الزمن المأسوي" يتناول الكاتب المؤرخ الأشهر الحاسمة والفاصلة بين ربيع وخريف عام 1940 نفسه ليحدثنا في كتابي هذا القسم، "معركة فرنسا" و"إنجلترا وحيدة"، عن أحداث كان هو لاعباً أساساً فيها في مواجهة الجبروت الألماني الهتلري. غير أنه في المجلد الثالث وكما يدل عنوانه، "التحالف الكبير"، لن يبقى هو أو بلده وحيدين في المعمعة، بعدما غزا النازيون روسيا، في الكتاب الأول، ودخلت الولايات المتحدة الحرب في الكتاب الثاني، ليشتد أوار الحرب وتبلغ ذروتها عند بدايات عام 1942. وهو ما ينتقل بنا إلى المجلد الرابع من الكتاب وعنوانه "الدائرة تدور"، وهو بدوره ينقسم إلى كتابين يتناول أولهما "الهجمة اليابانية"، إذ يتابع خاصة أحداث الشرق الأقصى بين أوائل 1942 ومنتصف صيف العام نفسه، فيما يتناول الثاني بعنوان "إنقاذ أفريقيا" أحداث الحرب الأقرب إلى أوروبا، والتي بدأت مع صيف 1942 وتواصلت حتى بدايات صيف العام التالي. زمن الحسم وفي المجلد الخامس وتحت عنوان عام هو "الكماشة تشتد" يتناول تشرشل أحداث بدء نهايات الحرب من خلال كتابين يعنون أولهما "إيطاليا تستسلم"، وفيه متابعة لأحداث تلك الفترة المفصلية الواقعة بين بين يونيو (حزيران) وأواسط نوفمبر (تشرين الثاني) من العام 1943. وهي الحقبة التي في الواقع التاريخي كما في كتاب تشرشل، ستكون حاسمة بالنسبة إلى الحرب العالمية الثانية ولكن ليس بالنسبة إلى الإنسانية بعد. فبالنسبة إلى هذه الأخيرة سيحدثنا الكتاب الثاني من هذا المجلد عن البعد الذي بدأ يتحول إلى بعد سياسي تحت عنوان "من طهران إلى روما" ويشمل الفترة الفاصلة بين أواخر وبدايات صيف 1944، وهو ما يوصلنا بالطبع إلى المجلد السادس والأخير وعنوانه "انتصار ومأساة". وهو التعبير الذي يبدو تشرشل فيه وكأنه يعني به الانتصار كما يحدثنا عنه في الكتاب الأول من هذا المجلد، رابطاً الانتصار طبعاً بالإنزال الحليف في النورماندي يوم السادس من يونيو (حزيران)، بينما نراه يكرس الكتاب الأخير من المجموعة بأكملها والثاني من هذا المجلد، لـ"المأساة" التي لن نفهم أبداً ما إذا كان الحديث فيها يتناول "قنبلتي هيروشيما وناغازاكي" أم بروز ما سيكون تشرشل نفسه من يطلق عليه اسم الستار الحديدي، إشارة إلى فصل الكتلة الشرقية عن "العالم الحر" وبزوغ الاتحاد السوفياتي كـ... عدو جديد/ قديم للغرب نتيجة من نتائج الحرب العالمية الثانية واندحار هتلر فيها. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) دروس التاريخ لعل أول ما يمكننا أن نلاحظه في كتاب تشرشل الضخم هذا هو الكيفية التي يلخص بها ما يعتبره درس الكتاب كما درس التاريخ: "الحزم في الحرب، والتحدي في الهزيمة، والشهامة في النصر، وحسن النية في السلام". ولقد وضع الزعيم البريطاني الكتاب مع فريق من المساعدين، مستخدماً ملاحظات كان قد دونها وربما بصورة يومية طوال سنوات الحرب، مستغلاً قدرته على الوصول إلى الوثائق الرسمية، التي وفرها له رئيس الوزراء الذي تلاه، كليمنت أتلي. وفي المقابل، راجع مسؤول كبير كتابه للتأكد من عدم إفشائه أسرار الدولة. ويخبرنا تشرشل على أية حال أنه فكر في وضع هذا الكتاب منذ بداية الحرب، قائلاً مراراً: "سأترك هذه النقطة للتاريخ ليحكم عليها... لكنني سأكون أحد مؤرخيها". ونعرف أن هذا الكتاب قد حقق، إذ نشر في البداية في طبعة من ستة مجلدات، نجاحاً تجارياً كبيراً في المملكة المتحدة والولايات المتحدة. تصفية حسابات ولكن بعد وفاة تشرشل وفتح الأرشيف، ظهرت بعض أوجه القصور في العمل. فبسبب منصبه والظروف التاريخية، لم يتمكن المؤلف من الكشف عن الأسرار العسكرية كما كان ينبغي، ولا سيما الأدوار التي لعبها خبراء فك الشفرات في بليتشلي بارك وبرنامج القنبلة الذرية. علاوة على ذلك، كان اهتمامه الأساس بالمجهود الحربي البريطاني. تم التعامل مع الجبهة السوفياتية وحرب المحيط الهادئ بتسرع نسبي. علاوة على ذلك، وعلى رغم سعي تشرشل عموماً لمعالجة القضايا بتوازن، نراه يدخل أحياناً في بعض "تصفية الحسابات"، ناهيك بأن الزعيم البريطاني، وبعد أن علم بترشح الجنرال دوايت د. أيزنهاور لرئاسة الولايات المتحدة، وأن لديه فرصة جيدة للفوز، سارع إلى مراجعة فقرات الجزء المعنون "النصر والمأساة" التي وصف فيها الصعوبات التي واجهها مع حليفه الأميركي في نهاية الحرب. وهكذا، خفف من حدة نصه الأولي خلال شتاء 1952-1953، حرصاً على عدم كتابة أي شيء قد يسيء إلى الرئيس الجديد. بالنسبة إلى تشرشل، كانت الأولوية المطلقة، حتى قبل الاهتمام بالحقيقة التاريخية، هي الحفاظ على العلاقة الخاصة التي كان ينوي إدامتها أو إعادة بنائها مع رئيس الولايات المتحدة. وتجدر الإشارة هنا أيضاً إلى أن تشرشل راعى جزئياً الاحتجاجات التي رافقت نشر الكتاب في بعض البلدان. على سبيل المثال، في بلجيكا، أضاف تحية للجيش البلجيكي عام 1940 في الطبعة الثانية من المجلد الثاني (مع الحفاظ على انتقاده اللاذع للملك ليوبولد الثالث). تجدر الإشارة أيضاً إلى أن الترجمات كانت تكيف أحياناً مع الجمهور المستهدف، حرصاً على عدم الإساءة إليهم. وهكذا، أصبح العنوان الإنجليزي للكتاب الأول من المجلد الثاني، "أروع ساعاتهم: سقوط فرنسا"، في الطبعات الفرنسية.

بين ترمب ونابليون: روح العالم يتحرك مجددا
بين ترمب ونابليون: روح العالم يتحرك مجددا

Independent Arabia

time10 hours ago

  • Independent Arabia

بين ترمب ونابليون: روح العالم يتحرك مجددا

ما عرفناه من نظام عالمي أسهمت أميركا المنتصرة في الحرب العالمية الثانية في إرسائه بعد انتهاء الحرب بقوة، طفق يتفكك ويتداعى اليوم بفضل دونالد ترمب. ذلك بأنه يهاجم حتى حلفاءه الأوروبيين ولديه طموح للانسحاب من حلف الناتو حتى من كل المؤسسات الدولية التي يراها عبئاً وقيداً على الولايات المتحدة. فهل نشهد ولادة نظام عالمي جديد أم ندخل في فوضى مدمرة؟ وهل يمكن إنقاذ النظام العالمي القديم؟ إن عالماً تحكمه سياسات "أميركا أولاً" بعيد كل البعد من الرؤية التي حاولت الولايات المتحدة تجسيدها في العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. فنومنولوجيا الروح وروح العالم في عام 1806، كان هيغل على وشك استكمال كتابة عمله العظيم الذي مهد لأنظومته الفلسفية، أعني به فنومنولوجيا الروح، في وقت كان فيه نابليون يستعد لخوض إحدى معاركه الكبرى، معركة يينا. كان نابليون يتجول في شوارع المدينة وصادف أنه مر قرب نافذة بيت فيلسوف ألمانيا الكبير. كان هيغل يرى في نابليون ذلك الفرد الاستثنائي الذي ينفذ عملياً ما يسعى هو نفسه إلى التعبير عنه فلسفياً، فالتاريخ عند هيغل ليس مجرد تجميع لأحداث لا غاية لها وتحدث بالمصادفة، بل عملية غائية ومسار ذو هدف نهائي لتحقيق "الروح المطلق" وتجسيده. وما ينجزه هيغل في الفلسفة يحققه نابليون في أرض الواقع. هيغل ونابليون كلاهما يعبر عن الروح المطلق ويجسدانه. فهيغل ليس خارج الحدث، بل في قلبه، بكتاباته الفلسفية يمنح حركة نابليون العظيمة معنى كونياً. إمبراطور فرنسا وإمبراطور العالم ضمناً، بحسب هيغل، لا يعي أبعاد ما يقوم به، إذ إنه، بهذا المعنى، أداة المطلق الذي يحرك بها التاريخ ويغير العالم. ما يهم هيغل ليس الفرد، بل ما يجسده. روح العالم يتحرك مجدداً سيد العالم أو روح العالم أو إمبراطور العالم يتحرك اليوم مجدداً، لكن لا ليعيد بناء العالم وتنظيمه وفقاً لمبادئ الثورة الفرنسية وقيم الحداثة، أي وفقاً لما يقتضيه العقل، بل ليحافظ على قوة إمبراطوريته الأميركية وهيمنتها على المعمورة قاطبة ويسهم في مزيد من الانحطاط العالمي. روح العالم هذا أو لنقل سيد العالم تحول من قائد عظيم يخوض أشرس الحروب ليغير العالم ويقضي على الملكيات والعروش الأوروبية التي كانت مجرد امتداد لأنظمة القرون الوسطى التي لم تعد تتماشى والعقل لتكون واقعية، وينشر مبادئ الثورة الفرنسية في الحرية والأخوة والمساواة، تحول إلى رجل صفقات يشن حروباً تجارية في كل الاتجاهات فيهز الأسواق المالية العالمية، ليجني بذلك أكبر المكاسب له ولبلده. وعليه، لم يعد روح العالم هذا أو هذا الفرد الاستثنائي الذي وضع القدر بين يديه كل عناصر القوة والمال والنفوذ التقليدية يحرك التاريخ ساعياً إلى عالم أفضل وأرسخ عقلانية وأغنى إنسانية. يدعي أنه يحاول إطفاء الحروب المشتعلة لا لأنه يسعى إلى عالم خالٍ من الحروب، بل لأنها تقف في طريق تحقيق وعوده في العظمة والرخاء لبلده، لذلك نراه لا يكترث لحرب الإبادة في غزة لأنها لا تؤثر في الاقتصاد العالمي. لا يرى أحداً أمامه، لذلك يصح أن نصفه بـ"إمبراطور العالم". ترمب ونابليون أظهر نابليون بونابرت عبقرية استثنائية في مجال الحكم وتنظيم شؤون الدولة ومجال الحرب، إذ كان قائداً عسكرياً فذاً يتقن فن تنظيم الجيوش وإدارتها وخوض الحروب والانتصار فيها. نظم نابليون شؤون الدولة الفرنسية، إذ قسم البلد الأوروبي محافظات مختلفة، وأسس الأنظمة التشريعية والقضائية والمصرفية، واهتم بقطاع التربية والتعليم، ولا تزال فرنسا حتى اليوم تعيش في بعض من تشريعاتها على القانون المدني الذي وضعه عام 1809. لم يصل نابليون إلى السلطة بسهولة، فقد حاول أعداؤه اغتياله أكثر من مرة. الأمر نفسه ينطبق على ترمب الذي لم يصل إلى السلطة بسهولة، إذ حاولوا اغتياله كما حاولوا اغتياله معنوياً وإدانته في المحاكم حتى لا يتمكن من الترشح ثانية. منذ تسلم منصبه وهو يحاول إعادة تنظيم الدولة والإدارة والوزارات. عدل نابليون الدستور لكي يضمن انتخابه إمبراطوراً لكل الفرنسيين، ويحل نهائياً محل السلالة الملكية السابقة، وهذا ما يفكر فيه ترمب اليوم، إذ يلمح إلى إمكان ترشحه لولاية ثالثة، إنه أصلاً يتصرف كإمبراطور للعالم لا كرئيس للولايات المتحدة. هكذا توج نابليون إمبراطوراً على فرنسا، بحضور البابا شخصياً، وأصبح الإمبراطور نابليون الأول، في حين أن ترمب نفسه نشر صورة له مرتدياً ثياب البابا نفسه. وصل نابليون إلى ذروة مجده عام 1810، وأصبح يسيطر على مناطق واسعة من أوروبا، بعدما ضمها إلى فرنسا، أما ترمب فيطالب بضم كندا وجزيرة غرينلاند إلى الولايات المتحدة كما يطالب بامتلاك غزة والسيطرة على مناطق أخرى. أكبر خطيئة ارتكبها نابليون وأودت به هي أنه لم يضع حداً لطموحاته وفتوحاته، فغرق في ثلوج روسيا وفقد معظم جيشه الجرار بعدما كان أقوى جيش في العالم. لذلك تحالفت ضده العروش الأوروبية، واستطاعت أن تهزمه للمرة الأولى عام 1813. لقد هزمت القائد الذي أنجبته الثورة الفرنسية والذي نقل الأفكار الجديدة في الحرية والمساواة والإخاء إلى أوروبا كلها. حمل نابليون راية التنوير وأفكار فولتير وجان-جاك روسو ومونتسكيو وغيرهم من الفلاسفة والمفكرين التنويريين لينشرها حيث تصل قدماه. واليوم، هل نشهد نهاية ترمب ونهاية أميركا بسبب الحروب التي يشنها في كل الاتجاهات؟ إعجاب هيغل بنابليون لذلك أعجب هيغل، وهو فيلسوف ألمانيا الكبير، بنابليون وصفق له، على رغم أنه كان يغزو بلاده، فقبل يوم من معركة يينا كتب هيغل رسالة إلى أحد أصدقائه، بين فيها مشاعره تجاه نابليون وقال فيها عبارته الشهيرة "رأيت الإمبراطور - روح العالم هذا - يمشي في المدينة يستطلع، إنه لشعور رائع أن ترى مثل هذا الشخص هنا في هذه اللحظة، ممتطياً جواده يجول في هذا العالم ويخضعه". اللامتناهي عند هيغل يسري في ما هو متناهٍ، يقول هيغل في تاريخ الفلسفة "إن الماهية الكلية للروح تتجزأ في أرواح فردية تعي هذه الماهية الكلية، وتصبح على وعي باتحادها معها". هذا المطلق كان في البدء غير واعٍ، ثم وعى نفسه في النهاية في روح الفيلسوف. هل ألَّه هيغل نفسه؟ ألم يقل لطلابه في ختام محاضراته في يينا بين عامي 1805 و1806، "لقد أطل عليكم فجر عصر جديد، إذ يبدو أن روح العالم قد نجح أخيراً في أن يدرك ذاته على أنه الروح المطلق". اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) ومع ذلك فإن هيغل يرى في أبطال التاريخ أدوات يحقق بها الروح المطلق أهدافه، حتى لو كان هؤلاء الأبطال غير واعين بما يفعلون، لذلك تحدث عن مكر التاريخ، هكذا رأى هيغل في نابليون التجسيد الأقوى لروح العالم، فقد أرسلته "العناية الإلهية" ليقوض حصون الأنظمة المتهالكة البالية، ويسرع حركة التاريخ، أرسلته لكي يدشن عهداً جديداً مشرقاً للبشرية جمعاء. لا شيء خارج الفلسفة لا يمكن للفلسفة أن تتجاهل الظاهرة الترمبية هذه، فلا شيء خارج الفلسفة، لذلك علينا أن نتأمل في ما يعنيه ترمب وفي ما تعنيه حركته التي لا تهدأ. فترمب، شئنا أم أبينا، يجسد روح العالم اليوم، وإن كان مجرد أداة للروح المطلق لتحقيق مسيرته المظفرة، فترمب هو ذلك الفرد الاستثنائي الذي جاء ليغير العالم، لكن ليس كما كان يشتهي الفلاسفة والمفكرون، بل كما يشتهي، اليوم، رؤساء الشركات وأصحاب المال والنفوذ. نابليون، القائد العظيم والفاتح الكبير، وقد استحال رجل أعمال ورجل صفقات، لم يعد المجد ما يحركه، بل المال ومزيد منه، لذلك يغير كلامه ومشاريعه بحسب ما تقتضي مصالح أصحاب رؤوس الأموال، ولا يرى عيباً في ذلك. إنه من يحرك التاريخ، اليوم، ويجسد روح العالم في ظل ابتذال وانحطاط عالميين. ربما يكون ترمب هو ما يناسب العالم اليوم، هو ما يناسب ما وصلت إليه البشرية من انحطاط عالمي وفراغ في المعنى بعد عقود من التخلي التدريجي عن قيم الحداثة وحقوق الإنسان. إننا نعيش حقبة آخر السرديات أو لعلنا نعيش في غياب السرديات الكبرى، مما يولد فراغاً في المعنى رهيباً، هذا الفراغ في كل شيء هو ما جعل ترمب ممكناً. كان نابليون الذي جسد روح العالم يقطع عن القرون الوسطى ويدشن عصر الحداثة الحق، أما اليوم فإن روح العالم يمثل آخر تجليات الحداثة الرثة أو الرديئة. لقد فقد عصرنا روحه، إذ إننا نعيش عصراً بلا روح. يقال إن الرأسمالية تجدد نفسها دائماً، حتى لو عبر الأزمات المالية والاقتصادية الدورية، ترمب يمثل اليوم روح الرأسمالية المتوحشة، لذلك نراه أقوى من كل أصحاب الأيديولوجيا الدينية وغير الدينية. زيارة ترمب الخليج أثمرت زيارة ترمب الخليج عقد صفقات من كل الأنواع، وجلبت استثمارات خليجية بتريليونات الدولارات إلى الولايات المتحدة، فحقق ترمب مكاسب مالية له ولأميركا. عقلية ترمب تركز على الصفقات ولا تكترث بالرأي العام العربي والعالمي. سيد البيت الأبيض هذا وسيد العالم أيضاً، بما هو يجسد الإمبريالية والنيوليبرالية الجديدة، خلع جميع أبواب السلاطين والأيديولوجيات الثورية وغير الثورية حتى يتابع التاريخ مسيرته، لكن علينا أن نعترف بأن التاريخ لا يتقدم دائماً إلى الأمام، بل قد يتراجع إلى الخلف. لنلاحظ أن روح العالم في جولته الخليجية لم يصطحب معه أي مفكر أو فيلسوف، بل ولا حتى أي عالم اجتماع أو أناس. اصطحب معه المؤثرين الكبار في هذا العالم، أعني المؤثرين الحقيقيين الذين يقوضون العالم القديم ويعيدون بناء العالم من جديد. اصطحب معه كبار رجال الأعمال من المديرين التنفيذيين لشركات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وصناعة الطائرات الحربية والمدنية وكل ما له علاقة بالطاقة… لقد تغير العالم كثيراً. لماذا وصلنا إلى هنا؟ كيف سيطرت البراغماتية الأميركية بصيغتها الترمبية المنفعية من دون أي اعتبار لقيم الحداثة على العالم أجمع، بحيث إن أعداءها أنفسهم يمارسون اللعبة ذاتها؟ لماذا فقد العالم روحه ومعناه مع أن روح العالم فيه يتحرك بقوة ولا يهدأ ويضرب في كل الاتجاهات؟ كيف صار ذلك ممكناً؟ كيف انتقلنا من نابليون إلى ترمب؟ ماذا كان في وسع هيغل أن يقول لو شاهد روح العالم معتلياً جملاً ووراءه خزنات الأرض بدلاً من أن يمتطي فرساً ليذهب إلى كبريات المعارك من أجل تحقيق المجد وتغيير العالم؟ بل ماذا عسانا، نحن فلاسفة اليوم، نقول وقد رأينا أن تغيير العالم يتحقق، من غير أن نكون أبطال هذا التغيير؟ أوَما زالت الفلسفة قادرة على تغيير العالم؟ أفما زال الفيلسوف ينظر في نفسه بوصفه بطل التغيير الحق الذي تنتظر المجتمعات قدومه "المبارك"؟

الجهة الأخرى من النهر
الجهة الأخرى من النهر

Al Watan

timea day ago

  • Al Watan

الجهة الأخرى من النهر

الصدمة والخوف عاطفتان قويتان يمكن أن تؤثرا بشكل كبير في السلوك البشري، وغالبًا ما تدفعان الأفراد إلى قبول أفعال قد يرفضونها عادةً. ففي أوقات الأزمات، يمكن لأصحاب السلطة التلاعب بهذه المشاعر لتبرير إجراءات متطرفة، بما في ذلك العنف والنزوح، لأن التأثير النفسي للخوف يمكن أن يخلق شعورًا بالمحاصرة والاختناق، ما يدفع الناس إلى الالتفاف حول القادة الذين يعدونهم بالسلامة والأمن، حتى على حساب أرواح الآخرين؛ تاريخيًا، استغل القادة هذه الديناميكية لتحقيق أجنداتهم. عندما يتسلل الخوف إلى مجتمع ما، يمكن أن يؤدي إلى عقلية جماعية يُعطي فيها الأفراد الأولوية للسلامة الفورية على الاعتبارات الأخلاقية، وتُعد هذه الظاهرة خطيرة بشكل خاص لأنها قد تؤدي إلى تبرير فظائع قد تُعتبر غير مقبولة لولا ذلك. يمكن ذكر مثال تاريخي مؤثر في هذا التلاعب، قصة شعب «الأزتك» وملك «كولواكان»؛ مملكة تاريخية قديمة في المكسيك. أدرك كهنة الأزتك استياء شعبهم من رداءة الأرض التي مُنحوا للاستقرار فيها، وعندما طالبوهم بالرحيل إلى أرض ثانية رفضوا لتعبهم من كثرة الترحال. هنا وضع الكهنة خطة للتلاعب بالوضع لصالحهم، ونظموا حفلًا يهدف إلى تكريم ملك «كولواكان»، وقدموه على أنه احتفال شكر وامتنان وتعظيم، إلا أن نيتهم الحقيقية كانت أكثر قتامة؛ طلبوا من الملك أن تسهم ابنته في المسيرة، وفي يوم الاحتفال سلخ جلدها كاملًا وإلباسه لأحد الكهنة في واجهة المسيرة، وعندما رأى الملك ذاك المشهد المرعب هجم على «الإزتك» يريد إبادتهم، لكن الكهنة كانوا قد أعدوا قوارب ووجهوا شعبهم إليها للهروب، فلم يكن أمامهم سوى ذلك أو مواجهة الإبادة، بهذا الفعل الإجرامي المخادع يتضح كيف يمكن للقادة استغلال الاستجابات العاطفية لخدمة مصالحهم الخاصة، بغض النظر عن العواقب على أرواح الأبرياء. شهدنا عبر التاريخ صراعات عديدة صاغ فيها المعتدون أفعالهم على أنها دفاعية أو استباقية، ومن خلال خلق عقلية «نحن أم هم»، يمكنهم غرس شعور بالضرورة الحرجة مما يبرر العنف، كما تلعب الدعاية دورًا حاسمًا في هذه العملية، إذ يمكنها نزع الصفة الإنسانية عن الجماعة المستهدفة وتقديمها كأعداء يهددون وجود المعتدين؛ لنأخذ مثلًا التطهير العرقي الذي حدث في البلقان خلال تسعينيات القرن الماضي؛ استغل قادة المنطقة المظالم التاريخية والحماسة القومية لتبرير أفعالهم المروعة ضد جيرانهم، ومن خلال استحضار سردية الضحية والخيانة، تمكنوا من حشد أنصارهم، وإقناعهم بأن العنف ضروري للبقاء، وكثيرًا ما صُوّرت الفظائع المرتكبة خلال تلك الفترة بأنها أعمال وطنية، ما أدى إلى طمس الخطوط الفاصلة بين الصواب والخطأ. وبينما نتأمل هذه الديناميكيات، من الضروري أن نبقى يقظين تجاه هذه الأساليب وهي تتكشف أمام أعيننا، فلقد أظهر لنا التاريخ العواقب الوخيمة للتقاعس والاكتفاء بدور المتفرج، وعلى سبيل المثال لا الحصر تعتبر مجاعة «هولودومور» في أوكرانيا بين عامي 1932 و1933 حدثًا مأساويًا، حيث عانى الملايين ولقوا حتفهم نتيجة سياسات التجويع المتعمد، برر المنفذون هذه الإجراءات على أنها ضرورية للسيطرة السياسية، مدّعين أنهم كانوا يكافحون تهديداتٍ مُفترضة للدولة، وبالمثل، نفذت الإبادة الجماعية للأرمن بين عامي 1915 و1916 وكان مبرر هذه الفظائع متأصلًا في الخوف من الخيانة والرغبة في بناء هوية وطنية متجانسة، ما يُظهر كيف يُمكن استغلال الخوف كسلاح لارتكاب أعمالٍ مروعة ضد الأبرياء. وكما حدث خلال الأحداث الهمجية السابقة حدث خلال الحرب العالمية الثانية، حيث وقف العالم متفرجًا بينما كان الملايين يبادون، وليس فقط اليهود بل من أديان وأعراق مختلفة، وليس فقط خلال الحرب، بل بعدها أيضًا كما حدث للجنود والنساء والأطفال الألمان بعد استسلام بلادهم، تمت عمليات الإبادة والقتل والتجويع والاغتصاب بشكل مُمنهج تحت ستار معالجة «القضية اليهودية» أو معالجة أسرى الحرب. قال «إيلي ويزل» المفكر المشهور والناجي من «الهولوكوست» والمدافع عن حقوق الإنسان، مقولته الشهيرة: إن «نقيض الحب ليس الكراهية، بل اللا مبالاة»، رغم أن هذا التحذير يكتسب أهمية خاصة اليوم، ونحن نواجه التلاعب بالخطابات في وسائل التواصل الاجتماعي والسرديات السائدة التي تحول الضحايا إلى معتدين من خلال نزع الصفة الإنسانية عنهم، إلا أن إنسانية «ويزل»، لم تكن شاملة بل أظهرت عنصريتها وقصورها عندما التقت بانتمائه الديني؛ لقد أثار انخراطه في قضايا مثيرة للجدل، كالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، انتقاداتٍ ونقاشاتٍ حول مسؤوليات الشخصيات العامة، حيث يرى الكثيرون أن أفعاله تتناقض مع رسالته الداعية إلى التعاطف والعدالة للجميع؛ هكذا هم، تقف العدالة عند حدودهم ! الصهاينة لديهم سبق وخبرة كبيرة في استخراج الدروس التي تصب في مصالحهم من التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس وغيرها من العلوم، لإدارة المعارك النفسية والتحكم في كل الجبهات من خلال سيطرتهم المتوغلة في جميع مفاتيح الحياة للشعوب الغربية من أجل حشد التأييد والدعم غير المشروط، ليس هذا فقط بل من مواطنيهم أيضًا، وأكبر مثال كيف استخدمت السردية التي دحضها إعلامهم المعارض مثل صحيفة «هآرتس»؛ سردية تشابه في وحشيتها قصة «سلخ جلد الأميرة» لنشر الذعر بالداخل والاستهجان في الخارج من أجل التغطية على الإبادة التي يمارسونها، لقد صدقهم القطيع وسارع ساستهم إلى ترديد عبارة «إسرائيل لها الحق بالدفاع عن نفسها»، كيف؟ لا يهم طالما أن من يقتلون ويحرقون ويفجرون ليسوا بشر أساسًا ! دروس الماضي واضحة؛ لا يسعنا تجاهل العلامات التحذيرية المبكرة للتلاعب وإثارة الخوف التي تابعناها في غزة، ونشهد يوميًا وقوع فظائع بعدما استغل الصهاينة ذلك الخوف لتبرير العنف ضد المدنيين، لذا الوعي والعمل ضروريان عالميًا؛ يجب أن نتحدى الخطابات التي تسعى إلى تقسيم العالم، وأن يحاسب الصهاينة وكل من يدعمهم. ولكي نعرف كيف نواجه هذه الآلة الهمجية المدمرة يجب أن نعود للأساس ونرى من أين وكيف تستنبط أفكارها الجهنمية. الوعي والدراسة والتحليل أول طرق المواجهة، ودون ذلك نبقى على الجهة الأخرى من النهر نراقب شعبًا يتعرض للإبادة.

DOWNLOAD THE APP

Get Started Now: Download the App

Ready to dive into the world of global news and events? Download our app today from your preferred app store and start exploring.
app-storeplay-store