
ما خلفيات الاضطرابات في صربيا ولماذا تشعر موسكو بالقلق حيالها؟
موسكو- تتواصل الاحتجاجات المناهضة للحكومة في صربيا من قبل المعارضة والطلاب، لأكثر من 100 يوم، في أعنف تجدد للمظاهرات في البلاد منذ العام 2023.
واندلعت الاضطرابات في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2024 احتجاجا على مقتل 15 شخصا بسبب انهيار سقف خرساني في محطة للسكك الحديدية بمدينة نوفي ساد، ثاني أكبر مدينة في البلاد، وذلك بعد فترة قصيرة من إعادة ترميم المحطة، لكن السقف "المنكوب" لم يكن مدرجا في برنامج الترميم.
وأوقف المتظاهرون عمل العديد من مؤسسات التعليم العالي وأغلقوا الطرق والتقاطعات بشكل شبه يومي، في حراك شمل عددا من المدن ولم يتوقف حتى بعد استقالة رئيس الوزراء ميلوس فوسيفيتش.
وتحظى تطورات الأوضاع في صربيا باهتمام بالغ من جانب روسيا ، نظرا للعلاقات الوثيقة التي تتمتع بها مع البلد البلقاني، الذي رفض فرض عقوبات عليها بسبب العملية العسكرية في أوكرانيا ، على عكس الاتحاد الأوروبي الذي تأمل بلغراد في الانضمام إليه.
حليف أخير
يقرأ في تصريحات المسؤولين الروس وجود هواجس من تدخل خارجي (غربي) في الأحداث في صربيا. فقد حذرت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، من انتشار "الفوضى" في صربيا ودعت المتظاهرين للتحلي بالعقلانية و"عدم الانسياق وراء الذين يؤججون المشاعر، حسب تعبيرها.
أما السفير الروسي في بلغراد ألكسندر خارتشينكو فأكد وجود تدخل خارجي واضح ومحاولة استغلال المأساة ومشاعر الناس لإطلاق ثورة من خلال الاحتجاجات.
وتأتي التطورات في صربيا على وقع تدافع بين روسيا والمنظومة الغربية على مناطق النفوذ، وفي وقت يشهد فيه الفضاء الجيوسياسي لموسكو بوادر تآكل، لا سيما بعد إعلان أرمينيا مؤخرا إعادة توجيه بوصلة سياستها الخارجية نحو مزيد من التقارب مع الغرب.
وبحسب ما يؤكده محلل شؤون البلقان، فاسيلي بابوف، فإن الغرب هو الذي يقف وراء هذه الاحتجاجات لاستخدامها كأداة للضغط سرا على الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش للرضوخ للمطالب الأميركية بشأن العلاقات مع روسيا وملف كوسوفو.
ويضيف للجزيرة نت أنه رغم الضغوط "الجدية" من الغرب، تظل صربيا الدولة الوحيدة في أوروبا التي لم تنضم إلى العقوبات ضد روسيا، مشيرا كذلك إلى أن الرأي العام داخل صربيا ليس منقسما حيال ضرورة الحفاظ على علاقات جيدة مع روسيا، كما كان الحال في أوكرانيا عام 2013، وبعد ذلك وحتى الآن في جورجيا وأرمينيا.
ويوضح في هذا السياق أن 85% من المواطنين في صربيا ضد حلف شمال الأطلسي، وأكثر من 60% ضد الاتحاد الأوروبي.
ضغوط ومصالح
ويربط فاسيلي بابوف تدهور الأوضاع في صربيا بالعقوبات الأميركية الأخيرة الجديدة الهادفة لإجبار روسيا على الانسحاب الكامل من صناعة البترول في صربيا والتوقف عن تلقي تدفقات الأموال من صربيا إلى روسيا، كما صرح بذلك بشكل واضح مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأوروبية والأوراسية جيمس أوبراين.
وتابع المتحدث ذاته بأن الموقف "الوسطي" للسلطات في بلغراد أدى إلى ديناميكية سلبية في حجم التجارة بين روسيا وصربيا، حيث تراجع العام الماضي إلى 2.4 مليار دولار بعد أن بلغ 3 مليارات عام 2023 و4.2 مليارات دولار عام 2022.
إعلان
وقال إن صربيا في واقع الحال تتعرض ليس لضغوط فحسب، بل لعقوبات غربية مباشرة وإن كانت غير معلنة.
من جانبه، لا يرى الخبير في العلاقات الدولية، ديمتري بابيتش، بأن الرئيس الحالي في صربيا هو حليف لروسيا بقدر ما هو موال ولكن بشكل غير كاف للغرب، حسب توصيفه.
ويعطي في تعليق له أمثلة عل ذلك، كقيام صربيا بتزويد أوكرانيا بشكل غير مباشر بذخيرة بقيمة 828 مليون دولار، وتوقيع فوتشيتش على العديد من البيانات التي تدين تصرفات موسكو، كما حصل في إعلان "تيرانا" الذي عبر عن الدعم الثابت لاستقلال وسيادة وسلامة أراضي أوكرانيا داخل حدودها المعترف بها دوليا اعتبارا من عام 1991.
ويضيف إلى ذلك دعم الرئيس الصربي -بحكم الأمر الواقع- لمذكرة الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
مع ذلك، يرى المتحدث أن الكرملين يغض الطرف عن تحركات فوسيتش وانتهاجه سياسة مؤيدة للغرب من جهة، مع الحفاظ على خطاب مؤيد لروسيا من جهة ثانية، لاعتبارات من بينها مراعاة المزاج العام داخل صربيا المؤيد بأغلبيته لروسيا بحكم العلاقات العرقية والتاريخية، إلى جانب المصالح الاقتصادية.
هامش المناورة
وبرأي ديمتري بابيتش، فقد كان كل من الاتحاد الأوروبي وروسيا يضغطان على بلغراد لاختيار جانب واحد، لكن الغرب ذهب الآن إلى خيار "إشعال النار" في صربيا لتضييق هامش المناورة على موسكو وإعادة صربيا إلى المسار الصحيح، حسب وصفه.
ووفقا له، فإن القيادة الحالية في صربيا باتت في موضع وكأنها تتزحلق على جليد الأزمة والتناقضات بين روسيا والغرب، لا سيما مع إصرار الولايات المتحدة على خفض حصة شركة غازبروم الروسية في شركة صناعة النفط في صربيا إلى الصفر، وهو ما يمكن أن يؤدي لحدوث انقطاع في إمدادات النفط إلى صربيا ومعاناة للمستهلكين، رغم وعود المسؤولين الأميركيين بعدم حدوث ذلك.
يشار إلى أن السلطات الصربية أنهت الشهر الماضي بعض العقود في مجال التعاون العسكري مع روسيا، وأرجأت عقودا أخرى إلى أجل غير مسمى.
وقال رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الصربي الجنرال ميلان مويسيلوفيتش، إن بلاده وجدت بعد فرض العقوبات على روسيا، طرقا لضمان إمدادات مستقرة ومرنة من الأسلحة الروسية من خلال الإنتاج المرخص في بلدان أخرى.
أما فيما يتعلق بتسليم الأسلحة الجديدة من روسيا، فقال إنه أمر مستحيل عمليا في الوقت الحالي.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


جريدة الوطن
منذ يوم واحد
- جريدة الوطن
«أورباكون» تقود تحالفاً لتطوير مشاريع كهربائية في سوريا باستثمارات 7 مليارات دولار
برعاية من فخامة الرئيس أحمد الشرع، رئيس الجمهورية العربية السورية، وقّعت الحكومة السورية مذكرة تفاهم استراتيجية مع تحالف شركات دولية بقيادة شركة أورباكون القابضة، لتطوير مشاريع كبرى في مجال إنتاج الطاقة الكهربائية، باستثمار أجنبي تُقدّر قيمته 7 مليارات دولار. تأتي هذه المبادرة ضمن أولويات الدولة لإعادة بناء البنية التحتية الأساسية، وتعزيز أمن الطاقة، ودعم مسار التنمية الاقتصادية في سوريا. كما تعكس هذه الخطوة التوجه الواضح لفخامة الرئيس نحو تأسيس نموذج تنموي يستند إلى الاعتماد على الذات، والانفتاح على الشراكات الإقليمية، وتحقيق الاستدامة. وقد جرت مراسم التوقيع في العاصمة دمشق، بحضور السيد توم باراك، المبعوث الخاص للولايات المتحدة إلى سوريا، وسعادة السفير خليفة عبد الله المحمود الشريف، القائم بالأعمال في سفارة دولة قطر بدمشق، وسعادة السفير برهان قور أوغلو، سفير الجمهورية التركية لدى سوريا. وقد قام بتوقيع الاتفاقية كل من السيد محمد معتز الخياط رئيس مجلس إدارة أورباكون القابضة والسيد محمد جنكيز رئيس مجلس إدارة جنكيز للطاقة والسيد اورهان جمال كاليونجو رئيس مجلس إدارة شركة كاليون للطاقة، والسيد مازن السبيتي الرئيس التنفيذي لشركة باور انترناشنونال يو اس ايه. وكما حضر التوقيع عدد من مدراء وممثلي الشركات، السيد رامز الخياط الرئيس لالتنفيذي شركة أورباكون القابضة والسيد محمد الخياط عضو مجلس إدارة شركة يو سي سي كونسيشنز، والسيد أحمد جنكيز نائب رئيس شركة جنكيز للطاقة والسيد لطفي الفان الرئيس التنفيذي لشركة كاليون للطاقة. يقود هذا التحالف أورباكون القابضة، من خلال شركتها التابعة يو سي سي كونسيشنز إنفستمنتس وهي شركة قطرية متخصصة في امتيازات الطاقة والإنشاءات، ويضم التحالف: • باور إنترناشونال يو إس إيه ذ.م.م – شركة أمريكية متخصصة في الاستثمارات الاستراتيجية في مجال الطاقة. • كاليون جي إي إس إنرجي ياتيريميلاري – شركة تركية مستثمرة ومطورة لمشاريع الطاقة المتجددة. • جينكيز إنرجي سان. في تيك. – شركة تركية متخصصة في تطوير وتشغيل مشاريع الطاقة. • ويأتي هذا التحالف الاستراتيجي تجسيداً لرؤية وتوجيهات حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير دولة قطر، لدعم تعافي الاقتصاد السوري والمساهمة في إعادة بناء الدولة السورية الحديثة من خلال مبادرات تنموية فعّالة تهدف إلى تعزيز الاقتصاد الوطني ودفع البلاد نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي في قطاع الطاقة. تشمل الاتفاقية تطوير أربع محطات توليد كهرباء بتوربينات غازية تعمل بالدورة المركبة (CCGT) في مناطق: تريفاوي (حمص)، زيزون (حماة)، دير الزور، ومحردة (حماة)، بسعة توليد إجمالية تقدر بحوالي 4000 ميغاواط، باستخدام تقنيات أمريكية وأوروبية، إلى جانب محطة طاقة شمسية بسعة 1000 ميغاواط في وديان الربيع جنوب سوريا،. سيتم تنفيذ هذه المشاريع وفق نماذج البناء والامتلاك والتشغيل (BOO) والبناء والتشغيل ونقل الملكية (BOT)، مع اتفاقيات شراء طاقة مرفقة. ومن المتوقع أن يبدأ تنفيذ المشاريع بعد التوصل إلى الاتفاقات النهائية والإغلاق المالي، على أن يكتمل تنفيذ محطات الغاز خلال 3 سنوات ومحطة الطاقة الشمسية خلال أقل من سنيتن. وصرح السيد توم باراك، المبعوث الخاص للولايات المتحدة إلى سوريا بما يلي: تمثل هذه الاتفاقية خطوة مفصلية في مسار سوريا نحو إعادة الإعمار وأمن الطاقة. وكما قال الرئيس ترامب، نحن نعمل مع شركائنا من أجل سوريا مزدهرة ومستقرة، تعيش في سلام مع نفسها وجيرانها. وتُعدّ هذه الشراكة خطوة أساسية نحو تحقيق هذا الهدف، إلى جانب قرار الرئيس برفع العقوبات الأميركية عن سوريا. سيساهم هذا التحالف بقيادة َقطر في تعزيز الاستقرار، وتطوير البنية التحتية، وإنعاش الاقتصاد، وتقديم نتائج ملموسة للشعب السوري. وكما قال الرئيس ترامب ويقوم الوزير روبيو بتنفيذ رؤيته، فإن هدفنا هو تمكين "التجارة لا الفوضى". وقال معالي المهندس محمد البشير، وزير الطاقة في الجمهورية العربية السورية: "تُشكل هذه الاتفاقية خطوة محورية في خطة تعافي البنية التحتية في سوريا. وستسهم في تعزيز الشبكة الكهربائية الوطنية، وتوسيع نطاق الوصول إلى الكهرباء، وتلبية الطلب المتزايد من خلال شراكات تجمع بين الخبرة الدولية والأولويات المحلية." ومن جهته قال السيد رامز الخياط، رئيس شركة أورباكون القابضة والرئيس التنفيذي للمجموعة: "تعكس مذكرة التفاهم هذه رؤيتنا لتطوير بنية تحتية مستدامة وفعالة في المنطقة. ونحن فخورون بقيادة هذه المبادرة من خلال شركتنا المتخصصة بالامتيازات، وبالشراكة مع أعضاء التحالف. وتمثل هذه المشاريع نموذجاً ناجحاً للشراكة بين القطاعين العام والخاص، حيث تدمج بين حلول الطاقة التقليدية والمتجددة لدعم تحول سوريا في مجال الطاقة وتعزيز مرونتها الاقتصادية على المدى الطويل." وصرح جمال قالينجو، رئيس مجلس إدارة مجموعة كاليون قائلاً: "بصفتنا أكبر مستثمر في الطاقة المتجددة في تركيا، نفخر بالمساهمة في تطوير وتحسين البنية التحتية في بلدنا الجار، سوريا، من خلال هذا المشروع." وبدوره قال السيد محمد جنكيز، رئيس مجلس إدارة شركة جينكيز إنرجي: "كوننا أكبر شركة طاقة في القطاع الخاص في تركيا، نأتي بخبرة تمتد لأكثر من ربع قرن في بناء وتشغيل محطات الطاقة في عدة مناطق. ونحن على ثقة بأن هذه الشراكة ستسهم في توفير حلول طاقة موثوقة وفعّالة لسوريا." وعند اكتمال هذه المشاريع، من المتوقع أن تُغطي أكثر من 50% من احتياجات سوريا الوطنية من الكهرباء، ما يمثل قفزة نوعية نحو أمن الطاقة، وإنعاش الاقتصاد، وتعزيز استقرار البنية التحتية. وإلى جانب تعزيز استقرار الشبكة الكهربائية، تهدف هذه المبادرة إلى تحقيق أثر اجتماعي واقتصادي واسع من خلال : • تعويض على نقص الكهرباء عبر رفع القدرة الإنتاجية لتلبية الطلب المتزايد من المنازل والمصانع والقطاعات التجارية. • تحفيز النمو الاقتصادي من خلال توفير طاقة موثوقة للقطاعات الحيوية كالصناعة، والزراعة والصحة والتعليم. • خلق آلاف فرص العمل في مجالات البناء والهندسة والتشغيل، مما يسهم في تطوير القوى العاملة. • تحسين الحياة اليومية عبر تعزيز جودة الخدمات العامة والتعليم ورفع مستوى المعيشة. • دعم التكامل الإقليمي عبر فتح قنوات للتجارة الكهربائية مع الدول المجاورة. • تمهيد الطريق نحو التحول للطاقة النظيفة من خلال تأسيس بنية تحتية متقدمة لمشاريع الطاقة الشمسية والمتجددة. وتشكل هذه المشاريع خطوة محورية في مسيرة إعادة إعمار سوريا وتحقيق الازدهار المستدام.


جريدة الوطن
منذ 2 أيام
- جريدة الوطن
آمال كبيرة.. وتحديات أكبر
سأحاول في هذا المقال أن أنقل إليكم من قلب العاصمة السورية، من دمشق الفيحاء، دمشق ما بعد الأسد، مشاهداتي وانطباعاتي، وسأحاول جهدي أن أكون محايدا في نقل صورة صادقة عما يدور على أرض الواقع. كان معظم من التقيتهم حتى الآن، واستمعت إلى آرائهم، يشعرون بسعادة غامرة لسقوط النظام السابق وهي فرحتهم الكبرى، ومن وجهة نظرهم أن ما حدث كان أشبه بانزياح كابوس ثقيل جثم على صدورهم لعقود، بعد أن فقدوا، في حقيقة الأمر، الأمل في أي تغيير بعد أن تراجعت أهمية المأساة السورية، إقليميا ودوليا، بسبب انعدام الإرادة الدولية لإيجاد حل عادل أولا، وأسباب أخرى منها على سبيل المثال، الفترة الزمنية الطويلة التي استغرقتها، وبسبب حالة اللا حرب، واللا سلم التي آلت إليها الأمور، وحالة السكون التي أصابت الجغرافيا السورية، وتوازع مناطق السيطرة بين أربع قوى، على الأقل، بالإضافة إلى انشغال المجتمع الدولي ببؤر توتر في مناطق أخرى، كموضوع مأساة غزة المستمرة للعام الثاني على التوالي، وما خلفته من ضحايا وشهداء يقارب الخمسين ألفا، ناهيك عن الجرحى، والدمار الشامل والانتهاكات الإسرئيلية المستمرة لأبسط قواعد حقوق الإنسان، ومنع وصول المساعدات الإنسانية، وسط صمت غربي أقل ما يمكن وصفه به بأنه عار على جبين الإنسانية جمعاء. أما رأي هؤلاء بالوضع الحالي، فيتراوح بين فريق متأفف يرى بطئا شديدا بالتغيير، وآخر لا يرى في طريقة إدارة الدولة ما يناسب سوريا التعددية، وفريق يرى ضرورة الصبر، وإعطاء الإدارة الجديدة المزيد من الوقت، وفريق موافق على على كل ما يجري، ولا يرى أن الإدارة الجديدة تقصر، أو ترتكب الأخطاء. ومما يلفت النظر أن السوريين جميعا بكل شرائحهم العلمية يدركون أهمية رفع العقوبات وانعكاساتها الإيجابية المأمولة على سوريا والسوريين. بالنسبة للواقع الخدمي، ما زالت معاناة السوريين مستمرة بموضوع الكهرباء التي لا تصل للمنازل لفترات تزيد على ست ساعات يوميا، وينطبق الأمر كذلك على موضوع المياه، وهي مشاكل معقدة يتطلب حلها وقتا قد يطول نسبيا. اقتصاديا، يبدو أن هناك تحسنا بسيطا، يلمسه البعض بانخفاض أسعار بعض السلع الأساسية بين الحين والآخر، لكن المؤكد أن مستويات الرواتب والأجور ما زالت بعيدة جدا عن الحد الذي يتيح لأي عائلة العيش الكريم، والحصول على الحد الأدنى من المأكل والمشرب والملبس والمسكن وأساسيات والصحة. على صعيد الشكل، تبدو الشوارع أكثر ازدحاما بشكل واضح وسط غياب لقوانين سير عصرية تسهل حركة المرور أمام مستخدمي الطرق، وتبدو أبنية دمشق عتيقة ومهترئة ومتسخة وكئيبة، أما محيط دمشق القريب، فقد أصابه الدمار نتيجة القصف الهمجي الذي تعرضت له ضواحي دمشق في مشهد قد لا يشبه إلا ما رأيناه بالأفلام عن الدمار بعد الحرب العالمية الثانية. وعلى صعيد آخر، كان واضحا جدا وصول أعداد كبيرة من المستثمرين العرب والأتراك، ناهيك عن الشركات الأجنبية، لدراسة الفرص الاستثمارية المتاحة، وهذا ما بدأ برفع سقف الآمال عند السوريين. سنحت لي الفرصة أن اجتمع بمدير إحدى دوائر الدولة الخدمية التي تعنى بتشجيع الاستثمار في مكتبه، كان المكتب مليئا بالمراجعين والمستفسرين، وقد لفت نظري إلى حد كبير حماس واندفاع وتجاوب المدير وطاقم العمل الذي يعمل إلى جانبه، لا تسويف، ولا مماطلة، ردود إيجابية، قرارات سريعة حاسمة تخدم أولا وأخيرا مصلحة المستثمر والبلد في آن. الآمال فعلا كبيرة، وليس لدي أدنى شك في أن المرحلة القادمة ستحول سوريا إلى خلية نحل تعمل على مدار الساعة، فالعين اليوم على سوريا لما فيها من استثمارات قادمة تربو قيمتها عن أربعمائة مليار دولار، حسب بعض التقديرات، لإعادة الحال إلى ما كانت عليه، لكن الحديث يدور عن مشاريع أكبر وأهم من إعادة إعمار ما تهدم فقط، بل يدور عن نهضة عمرانية شاملة وفق أحدث الطرز تشمل كافة مساحة الجغرافيا السورية، وعن مشاريع استراتيجية تشمل القطاعين الصناعي والخدمي، لا تخلو من مشاريع جاذبة للسياحة الداخلية والخارجية، وأعتقد أن الوفود الزائرة تشكل أكبر دليل على اهتمام كبير من الدول التي تسعى للحصول على جزء من هذه الكعكة الاستثنائية في وقت يضرب ركود اقتصادي أجزاء واسعة من سوريا. أما التحديات، فهي بلا شك كبيرة، بل وكبيرة جدا، بسبب ما خلفه نظام الأسد من إرث ثقيل يحتاج إلى تكاتف كل الجهود المخلصة لإعادة إعمار ما دمره نظام الطغيان.


الجزيرة
منذ 3 أيام
- الجزيرة
"يوروستاك".. خطة أوروبا لتحصين نفسها ضد المفاجأة الأميركية المرتقبة
"أوروبا تحت الحصار؛ لا تحاصرها الجيوش، بل سلاسل التوريد والخوارزميات". تلك العبارة كانت افتتاحية تقرير نُشر في نهاية شهر مارس/آذار الماضي في مجلة فورين بوليسي. تلخص هذه العبارة الوضع الإستراتيجي لواقع اقتصادي وتقني وأمني قائم في أوروبا. حيث اعتادت القارة العجوز أن تلقي بكل ثقلها على العقل التقني الأميركي، وكذلك الكثير من الواردات التكنولوجية الأجنبية، ولطالما أسندت أوروبا بنيتها التحتية الرقمية إلى سلاسل توريد عبر المحيطات وخوادم بيانات في قارات أخرى. وكانت ترى في نفسها أنها تمتلك القدرة على إدارة هذه التحديات والتعامل معها بسلاسة، ولا سيما أنها تمتلك بيئة علمية ممتازة، تمكنها من تطوير وتوطين تلك التقنيات المستوردة. لكن مؤخرا بدأت دول كثير أوروبية تنظر إلى هذا الاعتماد بكثير من الريبة، ولا سيما بعد الزلازل الجيوسياسية الأخيرة، كتحول الحليف الأميركي -بقيادة الرئيس دونالد ترامب – أو الصعود التكنولوجي الصيني، والتهديد العسكري الروسي، حيث قلبت هذه التحولات، التصورات الأوروبية، رأسًا على عقب، لتغدو التبعية الرقمية أزمة أمن قومي قد تُهدد جوهر السيادة الأوروبية، ومصدر قلق وجودي، وبات كبار مسؤولي الاتحاد الأوروبي يعتبرون التبعية الرقمية خطرًا أمنيًّا إستراتيجيًّا لا يمكن تجاهله، ويتحدثون عن هذه الأزمة بنفس نبرة القلق التي يتحدثون بها عن أمن الطاقة والدفاع. لذا طرحت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين مفهوم "السيادة التكنولوجية" محورًا رئيسيًّا في إستراتيجية أوروبا المستقبلية. فهل يشكّل اعتماد أوروبا على التكنولوجيا الأميركية مجرد معضلة تنافسية، أم أنه ثغرة خطيرة تمسّ أمنها القومي؟ من المتحكم الحقيقي في البنية التحتية الرقمية التي تُدير كافة المجالات الأوروبية، من إنتاج الصواريخ إلى إدارة المستشفيات؟ وماذا لو كانت مفاصل تلك الشبكة بأيدي حليف سياسي متقلب مثل حكومة ترامب؟ وماذا لو تحوّلت المنصات التي تدير المستشفيات والمصارف وشبكات الطاقة إلى كيانٍ معادٍ؟ ماذا لو انقلبت إلى سلاح يضغط على أوروبا؟ سلاح ضغط محوري الأسئلة السابقة لم تكن افتراضية، بل تحقق بعضها فعلًا. سنبدأ بأوضح وأحدث مثال، أكد لأوروبا ضرورة أن تشرع في استقلالها الرقمي الحقيقي عن الولايات المتحدة، لاسيما بعد الدور المحوري لشركة خدمات الإنترنت الفضائي "ستارلينك" المملوكة ل إيلون ماسك في حرب أوكرانيا. كان هذا الحدث تأكيدًا على تحول التقنية الأميركية إلى سلاح ضغط محوري في أيدي حكومة واشنطن، حتى ضد أقدم وأهم حلفائها. خدمة ستارلينك هي منظومة متقدمة من الأقمار الاصطناعية التجارية، تمتلكها شركة "سبيس إكس"، وتوفر خدمة إنترنت عالية السرعة. وتعتمد الشبكة على أقمار اصطناعية تدور في المدار المنخفض للأرض، مما يمنحها إمكانية توفير اتصال مستقر وسريع حتى في أكثر المناطق الجغرافية عُزلة. ومنذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير/شباط 2022، برزت منظومة ستارلينك الفضائية أحدَ الأعمدة الرئيسية لصمود البنية التحتية للاتصالات في أوكرانيا، لأن البنية التقليدية، بما فيها أبراج شبكات الهاتف وشبكات الألياف الضوئية، سرعان ما انهارت تحت ضربات موسكو العسكرية والهجمات السيبرانية، مما أدى إلى انقطاع واسع في الاتصالات. أما الدور المحوري الأهم لأقمار ستارلينك ، فقد ظهر في ساحة المعركة؛ إذ اعتمدت الوحدات العسكرية الأوكرانية على الاتصالات الفضائية لتأمين التواصل القيادي والتنسيق الفوري للعمليات. وعادةً ما تُجهز معظم وحدات الجيش الأوكراني بمحطة ستارلينك، لتأمين الاتصال الثابت لمهام القيادة والتحكم. ويستخدم الجنود في الخطوط الأمامية أقمار ستارلينك للتواصل بينهم وبين قياداتهم، بهدف تنظيم العمليات القتالية في أرض المعركة. كذلك أسهمت خدمة الإنترنت الفائق السرعة، التي توفرها أقمار ستارلينك، في رفع كفاءة الطائرات المسيّرة الأوكرانية التي تنفذ مهام الاستطلاع الفوري، وتحديد الأهداف بدقة، بجانب تنفيذ عمليات هجومية ضد القوات الروسية. في فبراير/شباط 2023، أعلنت شركة "سبيس إكس" أنها اتخذت خطوات لمنع الجيش الأوكراني من استغلال خدمات ستارلينك للتحكم في الطائرات المسيّرة أثناء حربه مع روسيا، إذ قرر إيلون ماسك إيقاف الخدمة فوق شبه جزيرة القرم، كي لا يستخدمها الجيش الأوكراني في التحكم في الطائرات المسيّرة الانتحارية "الكاميكازي" لمهاجمة الأسطول الروسي. من جانبها، اعتبرت أوكرانيا هذه القيود الأحادية تدخلا مستفزا في شؤونها، واتهم مسؤولون أوكرانيون ماسك بتجاوز صلاحياته وعرقلة العمليات العسكرية الأوكرانية في لحظة حاسمة من المعركة. وحين رغبت الولايات المتحدة في الضغط على أوكرانيا لدفعها نحو مفاوضات محتملة لإنهاء الحرب مع روسيا، لوّح البيت الأبيض بحرمان أوكرانيا من خدمات منظومة "ستارلينك". هنا انتبهت دول أوروبية أخرى لهذا التلويح بقلق، إذ بدأت تخشى بدورها أن تُضحّي بها الولايات المتحدة لتحقيق مكاسب مؤقتة، فهي أيضًا تعتمد على "ستارلينك" وغيرها من البرمجيات والمعدات والتقنيات الأميركية في تسيير شؤونها اليومية. مستعمرة رقمية يرسم الحاضر تشبيهًا تاريخيًّا مؤلمًا، ومفارقة واضحة؛ في الحقبة الاستعمارية، كانت قارة أوروبا تقود توسّع الإمبراطوريات، فارضة سيطرتها على مناطق شاسعة من العالم لامتلاكها الموارد الإستراتيجية، محوّلة إياها إلى مستعمرات أو شبه مستعمرات خاضعة لنفوذها. أما اليوم، فقد انقلب المشهد، إذ أصبحت أوروبا نفسها مهدّدة بأن تقع في فخ التبعية التكنولوجية، وربما تتحول إلى مستعمرة رقمية بدورها. بعض الأرقام قد تكشف جزءا من ملامح الأزمة؛ بدايةً، يقع ما يقارب 80% من البنية التحتية الرقمية في أوروبا تحت سيطرة شركات أجنبية، من العتاد الداخلي إلى البرمجيات، ومن الحوسبة السحابية إلى شبكات البيانات، كلها تُدار خارج حدود السيطرة الأوروبية. في قطاع الخدمات السحابية، تهيمن ثلاث شركات أميركية -أمازون ومايكروسوفت وغوغل- على السوق الأوروبي، مستحوذة على نحو 72% من هذا السوق حتى الربع الثاني من عام 2022، في حين لم تتجاوز حصة الشركات الأوروبية 13% خلال نفس الفترة. قد يعني هذا التفاوت أن معلومات بالغة الحساسية، من بيانات حكومية وسجلات صحية إلى أسرار شركات، تُخزن على خوادم بيانات تخضع للقانون الأميركي. أما في قطاع أشباه الموصلات، فتعتمد الصناعات الأوروبية على رقائق تُصنّع في آسيا باستخدام تصاميم وبراءات اختراع أميركية. كما تضاءلت حصة أوروبا من الإنتاج العالمي لأشباه الموصلات إلى نحو 9% فقط، ومعظمها تقليدي، في حين تُصنّع الرقائق المتطورة في مصانع آسيوية مثل "تي إس إم سي"، أو تأتي من شركات أميركية عملاقة كشركة "نفيديا". حتى إن شركة "إيه إس إم إل" الهولندية، درّة الصناعة الأوروبية في مجال إنتاج آلات الرقائق، تستورد مكوناتها من أميركا وموادها الخام من الصين، فتغدو عالقة بين مطرقة واشنطن وسندان بكين. وفي مجال الذكاء الاصطناعي، يتبين أن نحو 70% من النماذج والمنصات مصدرها الولايات المتحدة. كذلك أنظمة تشغيل الهواتف والحواسيب، ومحركات البحث، وشبكات التواصل الاجتماعي تظل حكرًا على عمالقة التكنولوجيا الأميركية، في ظل غياب بدائل أوروبية حقيقية. أما على صعيد البيانات والاتصالات، فالوضع لا يقل خطورة، وهو ما ظهر في اعتماد الجيوش الأوروبية على معدات اتصالات أميركية مؤمَّنة، كما شهدنا في لجوء الجيش الأوكراني إلى خدمات "ستارلينك" في حربه الجارية ضد روسيا. لذا، فمن دون تحرك حاسم، قد تواجه أوروبا فعلًا خطر التحول إلى مستعمرة رقمية تابعة للولايات المتحدة. الملاحظ أن الأوروبيين يعيدون النظر فعلًا في اعتمادهم على مزوّدي الخدمات السحابية والمنصات الرقمية والأقمار الاصطناعية من شركات أميركية. فمثلًا، كان الاعتماد المكثف على "ستارلينك" دافعًا لأوكرانيا وحلفائها إلى البحث عن بدائل أوروبية تزوّدهم بالاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية، وتُعد منظومة "يوتلسات ون ويب" (Eutelsat OneWeb) الأوروبية خيارًا محتملًا، حتى وإن لم توفر نفس خدمات وجودة منظومة "ستارلينك". لكن، هل يكفي أوروبا أن تجد بدائل محلية للشركات الأميركية، أم إن الأمر أعقد من مجرد استبدال شركة بشركة؟ محاولة أوروبية للاستقلال لتجاوز هذا الانكشاف التقني، تحاول أوروبا رسم معالم مشروع طموح يُعرف باسم "يوروستاك". لا يدّعي هذا المشروع الانعزال أو الاكتفاء الذاتي الكامل، بل يسعى إلى إعادة هندسة البنية التحتية الرقمية للقارة، طبقة تلو أخرى، بما يضمن وجود خيارات آمنة ومستقلة وغير خاضعة لنفوذ خارجي، كما يشير إليه تقرير فورين بوليسي. يرتكز مشروع "يوروستاك" على تقسيم البنية التحتية الرقمية إلى سبع طبقات مترابطة، لا يمكن لأي منها أن تعمل بمعزل عن الأخرى. إذ لا يمكن الحديث عن سيادة تقنية في البرمجيات إذا كانت رقائق الأجهزة مستوردة، ولا عن أمان البيانات إذا كانت الشبكات تعتمد على خوادم أو أقمار صناعية أجنبية. تبدأ أولى الطبقات بالمواد الخام، الأساس الذي تُبنى عليه مختلف تقنيات العصر، إذ تفتقر أوروبا اليوم إلى السيطرة على الموارد الإستراتيجية مثل الليثيوم والكوبالت والعناصر الأرضية النادرة، التي تهيمن الصين وحدها على إنتاج ما بين 60٪ إلى 80٪ منها. هذا الواقع يجعل القارة العجوز في مهب أي أزمة في سلاسل التوريد. لذا، تتجه الخطط الأوروبية نحو تنويع مصادر التوريد، وإبرام شراكات مع دول غنية بالموارد مثل نامبيا وتشيلي، إلى جانب الاستثمار في إعادة التدوير وتخزين المعادن الحيوية. أما الرقائق الإلكترونية فتمثّل الطبقة الثانية، وهي عصب الصناعات التقنية الحديثة. كما ذكرنا، لا تنتج أوروبا سوى 9٪ من هذه الرقائق، بينما تتربع شركات أميركية كشركة نفيديا وآسيوية كشركة تي إس إم سي على عرش التصميم والتصنيع. ومن هنا تأتي أهمية تعزيز الصناعة المحلية لهذه الرقائق، خاصة في القطاعات التي تملك فيها أوروبا ميزة نسبية، مثل صناعة السيارات والآلات الصناعية. الطبقة الثالثة تتمثل في شبكات الاتصال، فمع اعتماد أوروبا الحالي على أقمار اصطناعية ومعدات أجنبية، يصبح المشروع الأوروبي مُلزمًا بتعزيز استقلالية هذه الشبكات، وتوسيع نطاق تغطية شبكات الجيل الخامس والسادس باستخدام بنى تحتية أوروبية. الطبقة الرابعة تركز على إنترنت الأشياء، وهي الأجهزة المتصلة التي تخترق حياة المستخدم اليومية والمرافق الحساسة. وتكمن خطورتها في أن كثيرًا منها يُصنّع في بيئات قد لا تضمن الأمان السيبراني، مما يجعلها عرضة للاختراق. لذا، تدعم أوروبا التحوّل إلى إنتاج محلي آمن، خاصة في مجالات الروبوتات والسيارات الذكية، مع وضع معايير صارمة لحماية شبكات الكهرباء والنقل والمصانع. وفي الطبقة الخامسة تأتي البنية التحتية السحابية، تلك المخازن الرقمية التي تسيطر عليها شركات أميركية عملاقة تستحوذ على نحو 70% من هذا السوق العالمي. هذا الواقع يجعل الشركات والحكومات الأوروبية مضطرة إلى استئجار خوادم سحابية خارج نطاق سيادتها، ولذا تبرز الحاجة إلى خدمات سحابية أوروبية مستقلة. أما الطبقة السادسة، فهي البرمجيات والمنصات، إذ تتجلى أوجه العجز الأوروبي في أوضح صورها. من وسائل التواصل الاجتماعي إلى أنظمة التشغيل المختلفة، تهيمن الشركات الأميركية على هذا المجال، وتبقى أوروبا في موقع التبعية، باستثناءات نادرة كمنصة ساب (SAP) الألمانية، التي أصبحت تعتمد بدورها بشكل كبير على الولايات المتحدة. تسعى المبادرة الأوروبية إلى كسر هذه المعادلة عبر تشجيع تطوير البرمجيات المحلية والمفتوحة المصدر، واعتمادها في قطاعات التعليم والحكومة. الطبقة السابعة، العليا في هذا البناء، هي طبقة البيانات والذكاء الاصطناعي. هنا يحتدم الصراع العالمي، فالدول التي تملك البيانات والقدرة الحوسبية تسيطر على قوانين السباق. وفي حين احتلت الولايات المتحدة والصين صدارة مبكرة عبر تقنيات أوبن إيه آي وأنثروبيك وديبسيك، فإن الساحة تظل مفتوحة. ورغم امتلاك أوروبا لقاعدة بحثية قوية وحواسيب فائقة الأداء، فإنها لم تُترجم هذه الإمكانات بعد إلى منصات تنافسية. لذا، يقترح مشروع "يوروستاك" إنشاء "مصانع ذكاء اصطناعي" تُزوّد الشركات والباحثين بالبيانات والطاقة الحوسبية اللازمة لتطوير تطبيقات ذكاء اصطناعي تراعي المتطلبات والقيم الأوروبية. قد لا يعكس مشروع "يوروستاك" مجرد محاولة للاستقلال الرقمي، بل يمكن اعتباره محاولة لبناء هوية تقنية أوروبية مستقلة. فالدولة التي لا تؤسس بنيتها التحتية الرقمية بنفسها -من مراكز بيانات محلية إلى دفاعات إلكترونية وشركات تقنية وطنية- ستستخدم بنية تكنولوجية أجنبية. وببساطة، فمن يملك هذه البنية التحتية، هو من يضع قواعد السيطرة. وقد لخّص تقرير فورين بوليسي الوضع الأوروبي بعبارة ختامية لافتة: "مشروع يوروستاك هو آخر وأفضل فرصة لأوروبا كي تحدد مصيرها: إمّا أن تبنيه، أو تتحوّل إلى مستعمرة رقمية". إذا نجحت تلك المبادرات، فربما تمثل بداية نهاية الإمبراطورية التكنولوجية الأميركية التي فُرضت على القارة العجوز خلال السنوات الماضية. مأزق عالمي سنحاول أن نبتعد قليلًا وننظر إلى الصورة الكبرى. يشهد العالم انقسامًا تقنيًّا متسارعًا بين الولايات المتحدة والصين، وسط تصاعد هيمنة شركات التكنولوجيا الأميركية العملاقة على معظم الخدمات الرقمية. في تسعينيات القرن الماضي، انطلقت موجة الإنترنت والخدمات المرتبطة بها، لتتضخم أحجام تلك الشركات إلى مستويات غير مسبوقة، والمثال الأوضح هو شركات مثل مايكروسوفت، وغوغل، وأمازون، وميتا. وعلى الجهة المقابلة من العالم، شرعت الصين منذ عقود في تشييد فضاء رقمي مغلق على طريقتها الخاصة عبر ما يُعرف بـ"جدار الحماية العظيم"، الذي شكّل حاجزًا منيعًا أمام المنصات الغربية، مفسحًا المجال أمام تطبيقات ومنصات محلية مثل وي تشات، وعلي بابا، وبايدو، لتفرض سيطرتها على سوق داخلي ضخم، منعزل فعليًّا عن المنافسة العالمية. وفي السنوات الأخيرة، شددت بكين رقابتها على التقنيات الناشئة، واضعة إياها ضمن أطر تنظيمية صارمة. على سبيل المثال، لوائح الذكاء الاصطناعي الجديدة منعت دخول روبوتات المحادثة الغربية القائمة على النماذج اللغوية الضخمة، مما عجّل بظهور بدائل صينية معتمدة رسميًّا من الدولة. لكن هذا الانغلاق الداخلي لم يمنع الصين من التطلع إلى الخارج، فعبر مبادرة "طريق الحرير الرقمي"، بدأت بكين تصدير بنيتها التحتية الرقمية إلى الدول الشريكة، من الألياف الضوئية إلى شبكات الجيل الخامس والخدمات السحابية. وبهذه الخطوة، لا تكتفي بكين بمد شبكاتها التقنية حول العالم، بل تسعى أيضًا إلى ترسيخ معاييرها الرقمية ونموذجها السيبراني على الساحة الدولية. هذا الانقسام لا يقتصر تأثيره على أوروبا فحسب، بل يصل إلى دول عديدة في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية، إذ اعتادت تلك الدول الاعتماد على عدد محدود من مزوّدي الخدمات الرقمية. فوسائل التواصل الاجتماعي الأميركية أصبحت القناة الرئيسية للتواصل، والمعدات الصينية تُستخدم على نطاق واسع في البنية التحتية للاتصالات، وشركات الحوسبة السحابية العالمية تخزن كميات هائلة من البيانات الحيوية لتلك الدول. قد يكشف هذا الاعتماد المفرط على التقنيات الأميركية والصينية عن نقاط ضعف عميقة، إذ إن سحب هذه الخدمات أو تقييدها أو حتى توظيفها سياسيًّا في نزاعات جيوسياسية، قد يؤدي إلى اضطرابات تتجاوز حدود أوروبا، لتصيب بنية الاتصالات والمعرفة في مناطق متعددة من العالم. أصبحت الدول الآن تنظر إلى التقنيات الرقمية كأصول استراتيجية، تمامًا كما تنظر إلى الطائرات المقاتلة أو احتياطيات النفط؛ وذلك لأنها تمنح من يمتلكها ميزة تفاضلية في ميزان القوى، وبالتالي لا بد من السيطرة عليها أو تأمينها أو حتى حرمان الخصوم منها. وربما أدرك حلفاء الولايات المتحدة أخيرًا أن تغيّر موازين القوى قد يهدّد شرايينهم الرقمية الحيوية، إذ يمكن استخدامها كورقة ضغط أو تُقطع فجأة. وهكذا، لم تعد تشققات الإمبراطورية تقتصر على الامتداد الأفقي بين القوى العظمى المتنافسة، بل باتت تمتد عموديًّا أيضًا، بين الدول ذات السيادة وشركات التقنية الضخمة العابرة للحدود. ما تواجهه أوروبا مع الشركات الأميركية يعبّر عن أزمة عالمية، خصوصًا في مناطق التبعية التقنية مثل العالم العربي والشرق الأوسط، لا سيما بعد اتضاح دور تلك الشركات في الحروب الجارية. وربما جاء اكتشاف أوروبا متأخرًا، لأن الحليف الأميركي هذه المرة انقلب على أقرب حلفائه. أما نحن -في العالم العربي- فقد تأكدنا من أن تلك الشركات العملاقة تحولت إلى أدوات في يد الإمبراطورية الأميركية، كما شهدنا خلال حرب الإبادة الجارية على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023.