logo
"يوروستاك".. خطة أوروبا لتحصين نفسها ضد المفاجأة الأميركية المرتقبة

"يوروستاك".. خطة أوروبا لتحصين نفسها ضد المفاجأة الأميركية المرتقبة

الجزيرةمنذ 2 أيام

"أوروبا تحت الحصار؛ لا تحاصرها الجيوش، بل سلاسل التوريد والخوارزميات". تلك العبارة كانت افتتاحية تقرير نُشر في نهاية شهر مارس/آذار الماضي في مجلة فورين بوليسي. تلخص هذه العبارة الوضع الإستراتيجي لواقع اقتصادي وتقني وأمني قائم في أوروبا. حيث اعتادت القارة العجوز أن تلقي بكل ثقلها على العقل التقني الأميركي، وكذلك الكثير من الواردات التكنولوجية الأجنبية، ولطالما أسندت أوروبا بنيتها التحتية الرقمية إلى سلاسل توريد عبر المحيطات وخوادم بيانات في قارات أخرى.
وكانت ترى في نفسها أنها تمتلك القدرة على إدارة هذه التحديات والتعامل معها بسلاسة، ولا سيما أنها تمتلك بيئة علمية ممتازة، تمكنها من تطوير وتوطين تلك التقنيات المستوردة.
لكن مؤخرا بدأت دول كثير أوروبية تنظر إلى هذا الاعتماد بكثير من الريبة، ولا سيما بعد الزلازل الجيوسياسية الأخيرة، كتحول الحليف الأميركي -بقيادة الرئيس دونالد ترامب – أو الصعود التكنولوجي الصيني، والتهديد العسكري الروسي، حيث قلبت هذه التحولات، التصورات الأوروبية، رأسًا على عقب، لتغدو التبعية الرقمية أزمة أمن قومي قد تُهدد جوهر السيادة الأوروبية، ومصدر قلق وجودي، وبات كبار مسؤولي الاتحاد الأوروبي يعتبرون التبعية الرقمية خطرًا أمنيًّا إستراتيجيًّا لا يمكن تجاهله، ويتحدثون عن هذه الأزمة بنفس نبرة القلق التي يتحدثون بها عن أمن الطاقة والدفاع.
لذا طرحت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين مفهوم "السيادة التكنولوجية" محورًا رئيسيًّا في إستراتيجية أوروبا المستقبلية.
فهل يشكّل اعتماد أوروبا على التكنولوجيا الأميركية مجرد معضلة تنافسية، أم أنه ثغرة خطيرة تمسّ أمنها القومي؟ من المتحكم الحقيقي في البنية التحتية الرقمية التي تُدير كافة المجالات الأوروبية، من إنتاج الصواريخ إلى إدارة المستشفيات؟ وماذا لو كانت مفاصل تلك الشبكة بأيدي حليف سياسي متقلب مثل حكومة ترامب؟ وماذا لو تحوّلت المنصات التي تدير المستشفيات والمصارف وشبكات الطاقة إلى كيانٍ معادٍ؟ ماذا لو انقلبت إلى سلاح يضغط على أوروبا؟
سلاح ضغط محوري
الأسئلة السابقة لم تكن افتراضية، بل تحقق بعضها فعلًا. سنبدأ بأوضح وأحدث مثال، أكد لأوروبا ضرورة أن تشرع في استقلالها الرقمي الحقيقي عن الولايات المتحدة، لاسيما بعد الدور المحوري لشركة خدمات الإنترنت الفضائي "ستارلينك" المملوكة ل إيلون ماسك في حرب أوكرانيا. كان هذا الحدث تأكيدًا على تحول التقنية الأميركية إلى سلاح ضغط محوري في أيدي حكومة واشنطن، حتى ضد أقدم وأهم حلفائها.
خدمة ستارلينك هي منظومة متقدمة من الأقمار الاصطناعية التجارية، تمتلكها شركة "سبيس إكس"، وتوفر خدمة إنترنت عالية السرعة. وتعتمد الشبكة على أقمار اصطناعية تدور في المدار المنخفض للأرض، مما يمنحها إمكانية توفير اتصال مستقر وسريع حتى في أكثر المناطق الجغرافية عُزلة.
ومنذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير/شباط 2022، برزت منظومة ستارلينك الفضائية أحدَ الأعمدة الرئيسية لصمود البنية التحتية للاتصالات في أوكرانيا، لأن البنية التقليدية، بما فيها أبراج شبكات الهاتف وشبكات الألياف الضوئية، سرعان ما انهارت تحت ضربات موسكو العسكرية والهجمات السيبرانية، مما أدى إلى انقطاع واسع في الاتصالات.
أما الدور المحوري الأهم لأقمار ستارلينك ، فقد ظهر في ساحة المعركة؛ إذ اعتمدت الوحدات العسكرية الأوكرانية على الاتصالات الفضائية لتأمين التواصل القيادي والتنسيق الفوري للعمليات. وعادةً ما تُجهز معظم وحدات الجيش الأوكراني بمحطة ستارلينك، لتأمين الاتصال الثابت لمهام القيادة والتحكم. ويستخدم الجنود في الخطوط الأمامية أقمار ستارلينك للتواصل بينهم وبين قياداتهم، بهدف تنظيم العمليات القتالية في أرض المعركة.
كذلك أسهمت خدمة الإنترنت الفائق السرعة، التي توفرها أقمار ستارلينك، في رفع كفاءة الطائرات المسيّرة الأوكرانية التي تنفذ مهام الاستطلاع الفوري، وتحديد الأهداف بدقة، بجانب تنفيذ عمليات هجومية ضد القوات الروسية.
في فبراير/شباط 2023، أعلنت شركة "سبيس إكس" أنها اتخذت خطوات لمنع الجيش الأوكراني من استغلال خدمات ستارلينك للتحكم في الطائرات المسيّرة أثناء حربه مع روسيا، إذ قرر إيلون ماسك إيقاف الخدمة فوق شبه جزيرة القرم، كي لا يستخدمها الجيش الأوكراني في التحكم في الطائرات المسيّرة الانتحارية "الكاميكازي" لمهاجمة الأسطول الروسي.
من جانبها، اعتبرت أوكرانيا هذه القيود الأحادية تدخلا مستفزا في شؤونها، واتهم مسؤولون أوكرانيون ماسك بتجاوز صلاحياته وعرقلة العمليات العسكرية الأوكرانية في لحظة حاسمة من المعركة.
وحين رغبت الولايات المتحدة في الضغط على أوكرانيا لدفعها نحو مفاوضات محتملة لإنهاء الحرب مع روسيا، لوّح البيت الأبيض بحرمان أوكرانيا من خدمات منظومة "ستارلينك". هنا انتبهت دول أوروبية أخرى لهذا التلويح بقلق، إذ بدأت تخشى بدورها أن تُضحّي بها الولايات المتحدة لتحقيق مكاسب مؤقتة، فهي أيضًا تعتمد على "ستارلينك" وغيرها من البرمجيات والمعدات والتقنيات الأميركية في تسيير شؤونها اليومية.
مستعمرة رقمية
يرسم الحاضر تشبيهًا تاريخيًّا مؤلمًا، ومفارقة واضحة؛ في الحقبة الاستعمارية، كانت قارة أوروبا تقود توسّع الإمبراطوريات، فارضة سيطرتها على مناطق شاسعة من العالم لامتلاكها الموارد الإستراتيجية، محوّلة إياها إلى مستعمرات أو شبه مستعمرات خاضعة لنفوذها. أما اليوم، فقد انقلب المشهد، إذ أصبحت أوروبا نفسها مهدّدة بأن تقع في فخ التبعية التكنولوجية، وربما تتحول إلى مستعمرة رقمية بدورها.
بعض الأرقام قد تكشف جزءا من ملامح الأزمة؛ بدايةً، يقع ما يقارب 80% من البنية التحتية الرقمية في أوروبا تحت سيطرة شركات أجنبية، من العتاد الداخلي إلى البرمجيات، ومن الحوسبة السحابية إلى شبكات البيانات، كلها تُدار خارج حدود السيطرة الأوروبية.
في قطاع الخدمات السحابية، تهيمن ثلاث شركات أميركية -أمازون ومايكروسوفت وغوغل- على السوق الأوروبي، مستحوذة على نحو 72% من هذا السوق حتى الربع الثاني من عام 2022، في حين لم تتجاوز حصة الشركات الأوروبية 13% خلال نفس الفترة. قد يعني هذا التفاوت أن معلومات بالغة الحساسية، من بيانات حكومية وسجلات صحية إلى أسرار شركات، تُخزن على خوادم بيانات تخضع للقانون الأميركي.
أما في قطاع أشباه الموصلات، فتعتمد الصناعات الأوروبية على رقائق تُصنّع في آسيا باستخدام تصاميم وبراءات اختراع أميركية. كما تضاءلت حصة أوروبا من الإنتاج العالمي لأشباه الموصلات إلى نحو 9% فقط، ومعظمها تقليدي، في حين تُصنّع الرقائق المتطورة في مصانع آسيوية مثل "تي إس إم سي"، أو تأتي من شركات أميركية عملاقة كشركة "نفيديا". حتى إن شركة "إيه إس إم إل" الهولندية، درّة الصناعة الأوروبية في مجال إنتاج آلات الرقائق، تستورد مكوناتها من أميركا وموادها الخام من الصين، فتغدو عالقة بين مطرقة واشنطن وسندان بكين.
وفي مجال الذكاء الاصطناعي، يتبين أن نحو 70% من النماذج والمنصات مصدرها الولايات المتحدة. كذلك أنظمة تشغيل الهواتف والحواسيب، ومحركات البحث، وشبكات التواصل الاجتماعي تظل حكرًا على عمالقة التكنولوجيا الأميركية، في ظل غياب بدائل أوروبية حقيقية.
أما على صعيد البيانات والاتصالات، فالوضع لا يقل خطورة، وهو ما ظهر في اعتماد الجيوش الأوروبية على معدات اتصالات أميركية مؤمَّنة، كما شهدنا في لجوء الجيش الأوكراني إلى خدمات "ستارلينك" في حربه الجارية ضد روسيا.
لذا، فمن دون تحرك حاسم، قد تواجه أوروبا فعلًا خطر التحول إلى مستعمرة رقمية تابعة للولايات المتحدة. الملاحظ أن الأوروبيين يعيدون النظر فعلًا في اعتمادهم على مزوّدي الخدمات السحابية والمنصات الرقمية والأقمار الاصطناعية من شركات أميركية.
فمثلًا، كان الاعتماد المكثف على "ستارلينك" دافعًا لأوكرانيا وحلفائها إلى البحث عن بدائل أوروبية تزوّدهم بالاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية، وتُعد منظومة "يوتلسات ون ويب" (Eutelsat OneWeb) الأوروبية خيارًا محتملًا، حتى وإن لم توفر نفس خدمات وجودة منظومة "ستارلينك".
لكن، هل يكفي أوروبا أن تجد بدائل محلية للشركات الأميركية، أم إن الأمر أعقد من مجرد استبدال شركة بشركة؟
محاولة أوروبية للاستقلال
لتجاوز هذا الانكشاف التقني، تحاول أوروبا رسم معالم مشروع طموح يُعرف باسم "يوروستاك". لا يدّعي هذا المشروع الانعزال أو الاكتفاء الذاتي الكامل، بل يسعى إلى إعادة هندسة البنية التحتية الرقمية للقارة، طبقة تلو أخرى، بما يضمن وجود خيارات آمنة ومستقلة وغير خاضعة لنفوذ خارجي، كما يشير إليه تقرير فورين بوليسي.
يرتكز مشروع "يوروستاك" على تقسيم البنية التحتية الرقمية إلى سبع طبقات مترابطة، لا يمكن لأي منها أن تعمل بمعزل عن الأخرى. إذ لا يمكن الحديث عن سيادة تقنية في البرمجيات إذا كانت رقائق الأجهزة مستوردة، ولا عن أمان البيانات إذا كانت الشبكات تعتمد على خوادم أو أقمار صناعية أجنبية.
تبدأ أولى الطبقات بالمواد الخام، الأساس الذي تُبنى عليه مختلف تقنيات العصر، إذ تفتقر أوروبا اليوم إلى السيطرة على الموارد الإستراتيجية مثل الليثيوم والكوبالت والعناصر الأرضية النادرة، التي تهيمن الصين وحدها على إنتاج ما بين 60٪ إلى 80٪ منها.
هذا الواقع يجعل القارة العجوز في مهب أي أزمة في سلاسل التوريد. لذا، تتجه الخطط الأوروبية نحو تنويع مصادر التوريد، وإبرام شراكات مع دول غنية بالموارد مثل نامبيا وتشيلي، إلى جانب الاستثمار في إعادة التدوير وتخزين المعادن الحيوية.
أما الرقائق الإلكترونية فتمثّل الطبقة الثانية، وهي عصب الصناعات التقنية الحديثة. كما ذكرنا، لا تنتج أوروبا سوى 9٪ من هذه الرقائق، بينما تتربع شركات أميركية كشركة نفيديا وآسيوية كشركة تي إس إم سي على عرش التصميم والتصنيع. ومن هنا تأتي أهمية تعزيز الصناعة المحلية لهذه الرقائق، خاصة في القطاعات التي تملك فيها أوروبا ميزة نسبية، مثل صناعة السيارات والآلات الصناعية.
الطبقة الثالثة تتمثل في شبكات الاتصال، فمع اعتماد أوروبا الحالي على أقمار اصطناعية ومعدات أجنبية، يصبح المشروع الأوروبي مُلزمًا بتعزيز استقلالية هذه الشبكات، وتوسيع نطاق تغطية شبكات الجيل الخامس والسادس باستخدام بنى تحتية أوروبية.
الطبقة الرابعة تركز على إنترنت الأشياء، وهي الأجهزة المتصلة التي تخترق حياة المستخدم اليومية والمرافق الحساسة. وتكمن خطورتها في أن كثيرًا منها يُصنّع في بيئات قد لا تضمن الأمان السيبراني، مما يجعلها عرضة للاختراق. لذا، تدعم أوروبا التحوّل إلى إنتاج محلي آمن، خاصة في مجالات الروبوتات والسيارات الذكية، مع وضع معايير صارمة لحماية شبكات الكهرباء والنقل والمصانع.
وفي الطبقة الخامسة تأتي البنية التحتية السحابية، تلك المخازن الرقمية التي تسيطر عليها شركات أميركية عملاقة تستحوذ على نحو 70% من هذا السوق العالمي. هذا الواقع يجعل الشركات والحكومات الأوروبية مضطرة إلى استئجار خوادم سحابية خارج نطاق سيادتها، ولذا تبرز الحاجة إلى خدمات سحابية أوروبية مستقلة.
أما الطبقة السادسة، فهي البرمجيات والمنصات، إذ تتجلى أوجه العجز الأوروبي في أوضح صورها. من وسائل التواصل الاجتماعي إلى أنظمة التشغيل المختلفة، تهيمن الشركات الأميركية على هذا المجال، وتبقى أوروبا في موقع التبعية، باستثناءات نادرة كمنصة ساب (SAP) الألمانية، التي أصبحت تعتمد بدورها بشكل كبير على الولايات المتحدة. تسعى المبادرة الأوروبية إلى كسر هذه المعادلة عبر تشجيع تطوير البرمجيات المحلية والمفتوحة المصدر، واعتمادها في قطاعات التعليم والحكومة.
الطبقة السابعة، العليا في هذا البناء، هي طبقة البيانات والذكاء الاصطناعي. هنا يحتدم الصراع العالمي، فالدول التي تملك البيانات والقدرة الحوسبية تسيطر على قوانين السباق. وفي حين احتلت الولايات المتحدة والصين صدارة مبكرة عبر تقنيات أوبن إيه آي وأنثروبيك وديبسيك، فإن الساحة تظل مفتوحة.
ورغم امتلاك أوروبا لقاعدة بحثية قوية وحواسيب فائقة الأداء، فإنها لم تُترجم هذه الإمكانات بعد إلى منصات تنافسية. لذا، يقترح مشروع "يوروستاك" إنشاء "مصانع ذكاء اصطناعي" تُزوّد الشركات والباحثين بالبيانات والطاقة الحوسبية اللازمة لتطوير تطبيقات ذكاء اصطناعي تراعي المتطلبات والقيم الأوروبية.
قد لا يعكس مشروع "يوروستاك" مجرد محاولة للاستقلال الرقمي، بل يمكن اعتباره محاولة لبناء هوية تقنية أوروبية مستقلة. فالدولة التي لا تؤسس بنيتها التحتية الرقمية بنفسها -من مراكز بيانات محلية إلى دفاعات إلكترونية وشركات تقنية وطنية- ستستخدم بنية تكنولوجية أجنبية. وببساطة، فمن يملك هذه البنية التحتية، هو من يضع قواعد السيطرة.
وقد لخّص تقرير فورين بوليسي الوضع الأوروبي بعبارة ختامية لافتة: "مشروع يوروستاك هو آخر وأفضل فرصة لأوروبا كي تحدد مصيرها: إمّا أن تبنيه، أو تتحوّل إلى مستعمرة رقمية".
إذا نجحت تلك المبادرات، فربما تمثل بداية نهاية الإمبراطورية التكنولوجية الأميركية التي فُرضت على القارة العجوز خلال السنوات الماضية.
مأزق عالمي
سنحاول أن نبتعد قليلًا وننظر إلى الصورة الكبرى. يشهد العالم انقسامًا تقنيًّا متسارعًا بين الولايات المتحدة والصين، وسط تصاعد هيمنة شركات التكنولوجيا الأميركية العملاقة على معظم الخدمات الرقمية. في تسعينيات القرن الماضي، انطلقت موجة الإنترنت والخدمات المرتبطة بها، لتتضخم أحجام تلك الشركات إلى مستويات غير مسبوقة، والمثال الأوضح هو شركات مثل مايكروسوفت، وغوغل، وأمازون، وميتا.
وعلى الجهة المقابلة من العالم، شرعت الصين منذ عقود في تشييد فضاء رقمي مغلق على طريقتها الخاصة عبر ما يُعرف بـ"جدار الحماية العظيم"، الذي شكّل حاجزًا منيعًا أمام المنصات الغربية، مفسحًا المجال أمام تطبيقات ومنصات محلية مثل وي تشات، وعلي بابا، وبايدو، لتفرض سيطرتها على سوق داخلي ضخم، منعزل فعليًّا عن المنافسة العالمية.
وفي السنوات الأخيرة، شددت بكين رقابتها على التقنيات الناشئة، واضعة إياها ضمن أطر تنظيمية صارمة. على سبيل المثال، لوائح الذكاء الاصطناعي الجديدة منعت دخول روبوتات المحادثة الغربية القائمة على النماذج اللغوية الضخمة، مما عجّل بظهور بدائل صينية معتمدة رسميًّا من الدولة.
لكن هذا الانغلاق الداخلي لم يمنع الصين من التطلع إلى الخارج، فعبر مبادرة "طريق الحرير الرقمي"، بدأت بكين تصدير بنيتها التحتية الرقمية إلى الدول الشريكة، من الألياف الضوئية إلى شبكات الجيل الخامس والخدمات السحابية. وبهذه الخطوة، لا تكتفي بكين بمد شبكاتها التقنية حول العالم، بل تسعى أيضًا إلى ترسيخ معاييرها الرقمية ونموذجها السيبراني على الساحة الدولية.
هذا الانقسام لا يقتصر تأثيره على أوروبا فحسب، بل يصل إلى دول عديدة في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية، إذ اعتادت تلك الدول الاعتماد على عدد محدود من مزوّدي الخدمات الرقمية. فوسائل التواصل الاجتماعي الأميركية أصبحت القناة الرئيسية للتواصل، والمعدات الصينية تُستخدم على نطاق واسع في البنية التحتية للاتصالات، وشركات الحوسبة السحابية العالمية تخزن كميات هائلة من البيانات الحيوية لتلك الدول.
قد يكشف هذا الاعتماد المفرط على التقنيات الأميركية والصينية عن نقاط ضعف عميقة، إذ إن سحب هذه الخدمات أو تقييدها أو حتى توظيفها سياسيًّا في نزاعات جيوسياسية، قد يؤدي إلى اضطرابات تتجاوز حدود أوروبا، لتصيب بنية الاتصالات والمعرفة في مناطق متعددة من العالم.
أصبحت الدول الآن تنظر إلى التقنيات الرقمية كأصول استراتيجية، تمامًا كما تنظر إلى الطائرات المقاتلة أو احتياطيات النفط؛ وذلك لأنها تمنح من يمتلكها ميزة تفاضلية في ميزان القوى، وبالتالي لا بد من السيطرة عليها أو تأمينها أو حتى حرمان الخصوم منها.
وربما أدرك حلفاء الولايات المتحدة أخيرًا أن تغيّر موازين القوى قد يهدّد شرايينهم الرقمية الحيوية، إذ يمكن استخدامها كورقة ضغط أو تُقطع فجأة. وهكذا، لم تعد تشققات الإمبراطورية تقتصر على الامتداد الأفقي بين القوى العظمى المتنافسة، بل باتت تمتد عموديًّا أيضًا، بين الدول ذات السيادة وشركات التقنية الضخمة العابرة للحدود.
ما تواجهه أوروبا مع الشركات الأميركية يعبّر عن أزمة عالمية، خصوصًا في مناطق التبعية التقنية مثل العالم العربي والشرق الأوسط، لا سيما بعد اتضاح دور تلك الشركات في الحروب الجارية. وربما جاء اكتشاف أوروبا متأخرًا، لأن الحليف الأميركي هذه المرة انقلب على أقرب حلفائه. أما نحن -في العالم العربي- فقد تأكدنا من أن تلك الشركات العملاقة تحولت إلى أدوات في يد الإمبراطورية الأميركية، كما شهدنا خلال حرب الإبادة الجارية على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

خبراء: مقترح ويتكوف الجديد "انقلاب" على الاتفاق السابق
خبراء: مقترح ويتكوف الجديد "انقلاب" على الاتفاق السابق

الجزيرة

timeمنذ 6 ساعات

  • الجزيرة

خبراء: مقترح ويتكوف الجديد "انقلاب" على الاتفاق السابق

أجمع خبراء ومحللون سياسيون على أن المقترح الأميركي الجديد لوقف إطلاق النار في غزة يمثل انقلابا كاملا على الاتفاق الذي تم التوصل إليه مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في الدوحة ، مما يضع العملية التفاوضية في مأزق جديد. وبحسب الخبير في الشؤون الإسرائيلية الدكتور مهند مصطفى، فإن هذا المقترح الذي قدمه المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف يستجيب لأغلب المصالح الإسرائيلية. وأكد مصطفى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يريد هذه الصفقة، لأنها تحرر إسرائيل من الضغوط الدولية وتمنحه نصف الأسرى الأحياء والأموات. وكانت الحكومة الإسرائيلية وافقت الخميس على مقترح المبعوث الأميركي بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى في غزة، في الوقت الذي تدرس فيه حركة حماس المقترح، وسط تأكيدات من وسائل إعلام إسرائيلية بأن المقترح الجديد أكثر انحيازا إلى تل أبيب من المقترحات السابقة. الجزيرة نت حصلت على معلومات مفصلة عن المقترح الأميركي الجديد، وهذا أبرز ما جاء فيه: المدة: وقف إطلاق نار لمدة 60 يوما، ويضمن الرئيس ترامب التزام إسرائيل بوقف إطلاق النار خلال الفترة المتفق عليها. إطلاق سراح الرهائن: 10 رهائن إسرائيليين أحياء و18 رهينة متوفون، من قائمة "الـ58 رهينة" المقرر إطلاق سراحهم في اليومين الأول والسابع. سيتم إطلاق سراح نصف الرهائن الأحياء والمتوفين (5 أحياء و9 متوفين) في اليوم الأول من الاتفاق، أما النصف المتبقي من الرهائن (5 أحياء و9 متوفين) فسيتم إطلاق سراحهم في اليوم السابع. المساعدات الإنسانية: سيتم إرسال المساعدات إلى غزة فور موافقة حماس على اتفاق وقف إطلاق النار. سيتم احترام أي اتفاق يتم التوصل إليه بشأن المساعدات المقدمة للسكان المدنيين طوال مدة الاتفاق. نصوص مبهمة من جانبه، أكد الباحث في الشؤون السياسية والإستراتيجية سعيد زياد أن المقترح الجديد ينسف كل بنود الاتفاق السابق، ويتضمن نصوصا ملتبسة ومبهمة، بحيث يضمن المقترح لإسرائيل أن تأخذ نصف الأسرى ثم تصبح مطلقة اليد. وأوضح زياد أن مقترح ويتكوف الجديد يعتبر المقترح الثالث الذي يقدمه، والمفترض أنه تكميلي للورقة التي اتفق عليها مع حماس في الدوحة، لكنه فاجأ الجميع بتقديم ورقة جديدة تماما. من جانبه، حاول كبير الباحثين في المجلس الأميركي للسياسة الخليجية الدكتور جيمس رومانس تبرير الأمر بالقول إن "ما حدث بسبب سوء تواصل بين المفاوض الذي كان يتعامل مع حماس والمفاوض الذي يتعامل مع إسرائيل". وبشأن الضغوط الداخلية في إسرائيل، أوضح مصطفى أن نتنياهو ما زال لديه بعض العمل لإقناع شركائه اليمينيين بأهمية هذه الصفقة، خاصة في مسألتين مركزيتين: إدخال المساعدات الإنسانية ومدة الهدنة التي وصلت إلى 60 يوما. من جهته، أشار الكاتب والباحث السياسي الإسرائيلي يوآف شتيرن إلى أنه بدون الوزيرين بتسلئيل سموتريتش و إيتمار بن غفير لن تكون هناك حكومة لنتنياهو، وأوضح أنهما يرفضان الحلول الجزئية، مما يجعل نتنياهو يتلاعب في كل الاتجاهات. فرص الحل وبشأن فرص الحل، أكد زياد أن القرار الذي يوقف الحرب في البيت الأبيض وليس في تل أبيب "والأميركي لا يملك حتى اللحظة قرارا راسخا بوقف هذه الحرب والضغط على إسرائيل". أما رومانس فرأى أنه طالما لا توجد هناك مطالبة أميركية واضحة لنتنياهو بوقف الحرب فإنه لن يتخذ هذا القرار، لأن استمرار الحرب يضمن له البقاء في الحياة السياسية. ووصف زياد المقترح بأنه "كارثي بامتياز"، ويمنح نتنياهو صفقة على طبق من ذهب يحصل فيها على 10 أسرى ونصف الجثامين، ويتخلص من الضغط الأوروبي، ثم يعود إلى الهجوم على غزة بكل قوة. وأكد أن نتنياهو يتحدث بوضوح عن خطة خماسية "إطلاق سراح الأسرى، ثم إنهاء حكم حماس، ثم جمع السلاح، ثم التهجير، وأخيرا تصفية القضية الفلسطينية".

ما رسائل ودلالات افتتاح مقر إقامة السفير الأميركي في دمشق؟
ما رسائل ودلالات افتتاح مقر إقامة السفير الأميركي في دمشق؟

الجزيرة

timeمنذ 6 ساعات

  • الجزيرة

ما رسائل ودلالات افتتاح مقر إقامة السفير الأميركي في دمشق؟

أثار افتتاح المبعوث الأميركي لسوريا توماس باراك مقر إقامة سفير بلاده في دمشق لأول مرة بعد 13 عاما من قطع العلاقات بين البلدين تساؤلات بشأن ما الذي يعنيه ذلك في هذا التوقيت، وانعكاس الخطوة على ملفات تهم واشنطن في سوريا. ويرى الكاتب والباحث السياسي مؤيد غزلان قبلاوي الخطوة أنها رسالة كبيرة، وتضفي رمزية في التقدم الدبلوماسي، وتمثل اعترافا أميركيا ضمنيا نحو رفع كامل للعقوبات، وتعيد بناء الثقة بين الطرفين. ووفق حديث قبلاوي لبرنامج "ما وراء الخبر"، فإن الخطوة تشرعن الحكومة السورية الجديدة دوليا، وتشير إلى "تحول واشنطن من سياسة الترقب والتماس الحذر إلى تبادل الثقة والانهماك المباشر بالمصالح الأميركية في سوريا". وخلص إلى أن هذا المسار يؤسس لمحور عربي جديد في مكافحة الإرهاب، مشيرا إلى تصريحات أعضاء في الكونغرس بضرورة إبعاد إيران استثمارا في الاستقرار والأمن الإقليمي. وتراهن واشنطن على القوة الاقتصادية في سوريا لمنع عودة تنظيم الدولة الإسلامية ، وأشار قبلاوي إلى سقوط الخلايا النائمة في التنظيم بحلب وريف دمشق. بدورها، قالت وزارة الخارجية السورية إن المبعوث الأميركي التقى الرئيس أحمد الشرع ووزيري الخارجية أسعد الشيباني والدفاع مرهف أبو قصرة ورئيس جهاز الاستخبارات حسين السلامة. وكان باراك قال إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب اتخذ قرارا جريئا بشأن سوريا دون شروط أو متطلبات، وتتلخص رؤيته في إعطاء الحكومة السورية فرصة بعدم التدخل. بدوره، قال ستيفن هايدمان الباحث في مركز سياسات الشرق الأوسط بمعهد بروكينغز إن الخطوة تعكس اهتماما من ترامب، وتقر في الوقت نفسه بحدوث تغييرات وتشجع على المزيد منها نحو عملية انتقالية شاملة تحترم حقوق الإنسان والأقليات. لكنه لم يستبعد عودة الحديث عن شروط أميركية على سوريا لرفع العقوبات بشكل كامل، خاصة عند مناقشة الكونغرس إنهاء عقوبات " قانون قيصر". وشدد هايدمان على ضرورة حدوث "تغيير مهم" داخل سوريا، لكي يكون رفع العقوبات مؤثرا في الاقتصاد السوري مثل النظام القضائي وتطبيق القرارات بشكل عادل، مع إشارته إلى أن الحكومة الجديدة تواجه تحديات الهيكلة. في المقابل، يشجع ترامب رجال الأعمال والشركات الأميركية على الاستثمار في سوريا، حسب هايدمان الذي أكد أن الولايات المتحدة لديها مصلحة في أمن سوريا واستقرارها. تحديات داخلية وخارجية وأعرب قبلاوي عن قناعته بأن سوريا تحتاج استتبابا أمنيا لبناء جبهتها الداخلية، مشيرا إلى التصريحات الأميركية بوجوب احترام خط فض الاشتباك بين دمشق وتل أبيب. وعلى الصعيد الداخلي، قال قبلاوي إن أنقرة ترى أن هناك مماطلة في اندماج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في هيكلة وزارة الدفاع، مشددا على ضرورة أن تستوعب "قسد" أن الشرعية الدولية نحو دمشق وليس العكس. وبشأن العلاقات مع إسرائيل ، يرى الباحث في مركز سياسات الشرق الأوسط بمعهد بروكينغز أن معاهدة "عدم اعتداء" بين سوريا وإسرائيل ستدعم جهود تعزيز قوة الاقتصاد السوري الجديد، إذ يشكل الأمن إحدى العقبات الرئيسية أمام الاستثمارات. وأقر هايدمان بأن إسرائيل هي المسؤولة عن الاعتداءات التي شهدتها سوريا منذ سقوط نظام بشار الأسد في أواخر عام 2024، في حين أصرت إدارة الرئيس أحمد الشرع على "علاقات سلمية". وفي هذا السياق، قال المبعوث الأميركي "نحن بحاجة للبدء باتفاقية عدم اعتداء بين سوريا وإسرائيل والحديث عن الحدود"، مؤكدا أنها "مشكلة قابلة للحل، لكن الأمر يبدأ بالحوار". وبشأن تعيين سفير أميركا في تركيا مبعوثا لواشنطن بدمشق، قال هايدمان إن ترامب يرى في أنقرة "عاملا رئيسيا في صياغة المستقبل السياسي لسوريا"، مؤكدا أن المبعوث الجديد يعتبر خيارا جيدا ويعرف المنطقة برمتها.

الخارجية الأميركية توضح للجزيرة رؤية ترامب بشأن سوريا
الخارجية الأميركية توضح للجزيرة رؤية ترامب بشأن سوريا

الجزيرة

timeمنذ 6 ساعات

  • الجزيرة

الخارجية الأميركية توضح للجزيرة رؤية ترامب بشأن سوريا

قال المتحدث الإقليمي باسم وزارة الخارجية الأميركية مايكل ميتشل إن رؤية الرئيس دونالد ترامب تتماشي مع رفع العقوبات عن سوريا ، مؤكدا أن الولايات المتحدة مستعدة لبدء عصر جديد من التعاون والشراكة مع سوريا. وكشف ميتشل -في حديثه للجزيرة- عن بدء تنفيذ الخارجية الأميركية لرؤية ترامب بعد زيارته الخليجية الأخيرة، التي شملت كلا من السعودية وقطر والإمارات. وأشار إلى أن هذه الرؤية قائمة على السلام والاستقرار، ودعم حكومة جديدة تتصرف بطريقة مسؤولة و"لا تشكل خطرا على جيرانها". وأكد أن إدارة ترامب تريد رؤية حكومة سورية قادرة على فرض سيطرتها على كافة الأراضي السورية، وكذلك تحترم حقوق السوريين بغض النظر عن الدين والعرق، إضافة إلى محاسبة المتورطين بتأجيج العنف والمذهبية. وأمس الخميس، افتتح المبعوث الأميركي لسوريا توماس باراك مقر إقامة سفير بلاده بدمشق لأول مرة بعد 13 عاما من قطع العلاقات بين البلدين. وقال باراك إن ترامب اتخذ قرارا جريئا بشأن سوريا دون شروط أو متطلبات، وتتلخص رؤيته في إعطاء الحكومة السورية فرصة بعدم التدخل، كما أنه سيرفع سوريا من قائمة الدول الراعية للإرهاب. ولفت المتحدث الإقليمي باسم الخارجية الأميركية إلى أن صلاحيات ترامب تمكنه من رفع العقوبات عن سوريا بشكل مؤقت، لكنه يحتاج الكونغرس لرفعها بشكل كامل، كاشفا عن اتصالات يجريها ترامب مع الأطراف المعنية لتحقيق الإلغاء التام للعقوبات المفروضة. وشدد على حاجة سوريا لاستثمارات من أجل تأهيل البنى التحتية والنظام الكهربائي، مما يؤدي إلى تحسين الوضع الأمني، ورؤية مستقبل أفضل للسوريين. ووفق ميتشل، فإن من أولويات الولايات المتحدة وأهدافها منع عودة ظهور تنظيم الدولة الإسلامية أو أي تنظيم إرهابي آخر في سوريا. سوريا وإسرائيل وأشار المتحدث الأميركي إلى علم واشنطن بـ"اتصالات مباشرة بين سوريا و إسرائيل لمناقشة الملفات الأمنية"، معتبرا هذه الاتصالات "أساسا لأي حل دبلوماسي دائم ومستدام للمشكلة". واستند في حديثه إلى تصريحات الإدارة السورية الجديدة بأنها تريد السلام مع جيرانها، و"لا تريد أن تشكل خطرا على أي بلد مجاور". وفي هذا السياق، قال المبعوث الأميركي "نحن بحاجة للبدء باتفاقية عدم اعتداء بين سوريا وإسرائيل والحديث عن الحدود"، مؤكدا أنها "مشكلة قابلة للحل، لكن الأمر يبدأ بالحوار". يذكر أن ترامب التقى الرئيس السوري أحمد الشرع في الرياض منتصف شهر مايو/أيار الجاري، وأعلن ترامب وقتها رفع إدارته العقوبات الأميركية على سوريا. وتم تعيين باراك في منصب مبعوث بلاده إلى دمشق في 23 مايو/أيار الجاري، وهو أيضا سفير الولايات المتحدة لدى تركيا. ويجري حاليا أول زيارة رسمية له إلى سوريا.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store