
صراع النبوءات في الشرق الأوسط
في واحدة من أبرز تمثّلات هذه النبوءات، وقف رئيس وزراء الاحتلال نتنياهو عند حائط البراق، يضع أوراقه في شقوقه "المقدسة"، ويتوعّد إيران وغزة ولبنان والضفة بعدوان متسلسل. ذلك المشهد الذي يحمل دلالات دينية عميقة، يتحول إلى شرعنة سياسية للعنف، بينما يُمنع الفلسطيني من رفع يديه بالدعاء على أبواب المسجد الأقصى! المفارقة صارخة: يُمنح الاحتلال شرعية دولية لتحريضه، بينما تجرَّم المقاومة، ويُختزل دفاعها المشروع في تهمة "الإرهاب".
في قلب هذا المشهد المتفجّر، تتجلى "الصهيونية المسيحية" كإحدى أخطر المنظومات المؤثرة في صياغة السياسات الأميركية تجاه المنطقة. فتيارات اليمين الإنجيلي -التي تضم شخصيات نافذة كالسفير هاكابي ووزير الخارجية السابق بومبيو- تؤمن بأن قيام إسرائيل ومعاركها ضد "فارس" (إيران) هي مقدمات ضرورية لنهاية الزمان وعودة المسيح. وقد أُلهم قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس بهذا التصوّر اللاهوتي، لا بحسابات إستراتيجية بحتة. فالأرض هنا ليست وطنًا لشعب، بل مسرحًا لنبوءة، يُعيد فيها ترامب تمثيل دور كورش الفارسي، المنقذ الذي يستجيب لإرادة الرب في النصوص اليهودية.
وعلى الجانب الآخر، في إيران ترتبط المواجهة، وتُؤطّر الحروب في سياق نبوءات دينية. التصعيد، في هذه القراءة، ليس خيارًا سياسيًّا فحسب، بل هو إرهاصات نهاية، وهو شرارة "الفرج"، ما يجعل التضحية مقبولة ما دامت تصبّ في مثل هذا السيناريو. وهكذا، يتم تجريد الصراع من مسؤولياته الواقعية، وتُلبَس الكارثة قداسة ترفعها فوق النقد والمحاسبة.
هناك رؤية أخرى، تنظر إلى الحرب من زاوية مغايرة، لا تضعها في إطار النبوءات، بل في منطق الفعل المشروع لنصرة المظلوم والدفاع عن الأرض. وتُحذّر من تسطيح المعركة إلى صراع نهايات، وتدعو إلى أن تُدار بالحكمة، وتُضبط بالبصيرة، وتُوزَن بميزان العدل الرباني. الإيمان بوعد الآخرة -كما في قوله تعالى: {فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفًا}- لا يُحوَّل إلى مشروع سياسي متعجّل، بل يُفهم ضمن سنن التاريخ التي تشترط العمل والصبر ووحدة الأمة.
وفي خضم هذا التصادم الغيبي، تحتدم المعركة على القدس تحديدًا؛ إذ يجتمع التيار المسيحي الإنجيلي المتطرف مع جماعات يهودية متطرفة– كأمناء جبل الهيكل– على هدف واحد: هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل الثالث مكانه. هذه الرؤية تُحوّل الإيمان إلى تهديد مباشر، والعقيدة إلى مشروع استيطاني مدمر. فهي لا تقف عند انتظار القيامة، بل تسعى إلى صناعتها عبر إشعال حرب كونية باسم الرب.
والمفارقة أن هذه الرؤية المتطرفة لا تواجَه فقط من خارج المنظومة الدينية اليهودية، بل من داخلها. فتيارات كـ"ناطوري كارتا" والحريديم الأرثوذكس يعارضون قيام دولة (إسرائيل)، ويعتبرونه تمردًا على المشيئة الإلهية. بل ويستحضرون ما يعرف بـ"لعنة العقد الثامن"، المستندة إلى التاريخ اليهودي، الذي يفيد بأن أية مملكة يهودية لم تصمد لأكثر من 80 عامًا. ومع دخول (إسرائيل) عامها الـ77، تُعاد هذه "اللعنة" إلى واجهة الخطاب الديني التحذيري، في إشارة إلى اقتراب انهيار الكيان من الداخل.
كما تُسجَّل مفارقة إضافية في وجود تيارات دينية يهودية تدعو إلى قيام (إسرائيل)، ولكن من باب مختلف؛ إذ ترى أن هذا القيام هو علامة على غضب الرب على الأغيار (غير اليهود)، وأن هذا الغضب الإلهي يجب أن يتجلى بوضوح في انتصار اليهود عليهم. في هذه القراءة، لا يُنظر إلى قيام (إسرائيل) كنعمة، بل كأداة لعقاب العالم، وتحقيق عدالة إلهية تُعلي من شأن بني (إسرائيل).
وفي المقابل، تتجلى خطورة الرؤية الإنجيلية التي ترى في الدمار العربي والإسلامي "ثمنًا مبررًا" لتحقيق الخلاص. فوفقًا لتأويلات "سفر الرؤيا"، يُباد ثلثا البشرية في معركة "هرمجدون"، قبل أن يظهر المسيح ويُقيم "مملكة السلام الألفي". بهذه المنظومة اللاهوتية، يصبح سفك الدم الفلسطيني والعربي مقدمة لخلاص لا يخص إلا المؤمنين بنسختهم من الرب، وتتحول السياسة الأميركية إلى أداة تنفيذيّة لهذه الخرافة.
وسط هذا كله، تُخاض حرب ثقافية شرسة لا تقل ضراوة عن المعارك العسكرية! فهي حرب على الوعي، وعلى تأويل النص، وعلى تكييف الدين لصالح مشاريع استعمارية مقنّعة بالقداسة! إنها لحظة انهيار أخلاقي، حين يُشرعَن الدمار باسم الخلاص، ويُجرَّد الإنسان من حقه في الحياة لأن وجوده لا يتماشى مع "نبوءة" ما.
لكن في ظل هذا السواد، يبرز الأمل في يقظة الشعوب، ووحدة الصف الإسلامي -بل والمسيحي المستنير- على أرضية إنسانية تُقدّم الإنسان على النبوءة، والعدل على الانتقام، والسلام على الفوضى المؤدلجة. إن بناء مشروع حضاري جامع يُعيد للأمة مركزها ليس ترفًا فكريًّا، بل ضرورة وجودية في مواجهة طوفان الأساطير الدموية. فصراع النبوءات، إذا تُرك بلا وعي ناقد، قد يحوّل الشرق الأوسط إلى مسرح دائم ليوم القيامة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 26 دقائق
- الجزيرة
انتخابات "الوطني الفلسطيني".. دوافع القرار ومبررات الرفض
رام الله- أثار قرار الرئيس الفلسطيني محمود عباس بإجراء انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني ، قبل نهاية العام الجاري، تساؤلات في الشارع الفلسطيني حول دوافعه ومبرراته، وهدف الاشتراطات التي تضمنها بخصوص المرشحين، وموقف الفصائل منه. وبينما يقول قيادي بالمنظمة إن إجراء الانتخابات استحقاق دعت إليه أطر المنظمة للمحافظة عليها، يقول معارضوه إنه جاء مخالفا لتوافقات سابقة للفصائل بهدف تشكيل مجلس وفق "مقياس الرئيس"، فضلا عن عدم ملاءمة الوقت كون الأولوية لوقف حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال في غزة. ويقع على عاتق المجلس الوطني الفلسطيني وهو بمثابة برلمان منظمة التحرير، وضع السياسات والمخططات والبرامج لمنظمة التحرير الفلسطينية وأجهزتها، وعقد 32 دورة منذ إنشائه عام 1964، دون أي انتخابات. وينص النظام الداخلي لمنظمة التحرير على أن ينتخب أعضاء المجلس الوطني لولاية تمتد 3 سنوات، عن طريق الاقتراع المباشر من قبل الشعب الفلسطيني بموجب نظام تضعه اللجنة التنفيذية لهذه الغاية، وإذا تعذر إجراء الانتخابات الخاصة بالمجلس الوطني استمر المجلس الوطني قائماً إلى أن تتهيأ ظروف الانتخابات. نص القرار جاء في قرار الرئيس الفلسطيني أن تعقد الانتخابات "وفقا لنظام انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني" على أن يحدد موعدها بقرار من رئيس اللجنة التنفيذية. كما نص على أن يتشكل المجلس من 350 عضوا، ثلثان من داخل فلسطين، وثلث من فلسطينيي الخارج والشتات، مشترطا لعضوية المجلس "التزام العضو ببرنامج منظمة التحرير الفلسطينية وبالتزاماتها الدولية وقرارات الشرعية الدولية". ونص القرار على أن تصدر اللجنة التنفيذية قرارا بتشكيل لجنة تحضيرية تختص باتخاذ الترتيبات اللازمة لإجراء الانتخابات، وتكون برئاسة رئيس المجلس الوطني الفلسطيني روحي فتوح ، ومشاركة مكتب رئاسة المجلس وأعضاء من اللجنة التنفيذية وممثلين عن الفصائل الوطنية الفلسطينية وعدد من المنظمات الشعبية والمجتمع المدني ومن الجاليات الفلسطينية في الخارج. وقال إن مهام اللجنة تحدد في قرار تشكيلها، وتعرض على رئيس اللجنة التنفيذية خلال مدة أقصاها أسبوعان من تاريخ صدور القرار للمصادقة عليه. الحفاظ على المنظمة يقول عضو اللجنة التنفيذية واصل أبو يوسف إن قرار الرئيس عباس جاء بعد أن تدارست اللجنة التنفيذية للمنظمة أهمية عقد الانتخابات حيث "جرى في اجتماعات اللجنة التنفيذية توافق على أن يكون هناك مجلس وطني فلسطيني جديد يجري انتخاباته قبل نهاية العام". موضحا أن المجلس الوطني في حال انعقاده يعتبر أعلى هيئة قيادية فلسطينية تتخذ قرارات. وأضاف أن الحفاظ على منظمة التحرير يعني انتظام أعمال مؤسساتها ودوائرها للحفاظ عليها كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني وانضواء الجميع في إطارها. وأشار إلى توافق داخل اللجنة التنفيذية حول أهمية عقد مجلس وطني فلسطيني جديد، مشيرا إلى أن البدايات كانت في القاهرة عام 2011 عندما تشكلت لجنة تحضيرية بحضور 14 فصيلا، والتوافق على تشكيل مجلس من 350 عضوا، وواصلت اللجنة أعمالها لاحقا في العاصمة الأردنية عمان. وأوضح أن التوافق في حينه كان على 200 عضو من خارج فلسطين و150 من الداخل، لكن المرسوم جاء مختلفا في هذه النقطة. وفق أبو يوسف، فإن إجراء الانتخابات وعقد المجلس الوطني بات استحقاقا، رغم أهمية انعقاد اجتماعات المجلس المركزي الفلسطيني ، المفوض بمهام المجلس الوطني منذ عام 2018. وقال إن اللجنة التحضيرية ستباشر عملها فور الإعلان عنها من خلال اجتماع اللجنة التنفيذية قريبا "بما في ذلك إجراء اتصالات وحوار مع جميع الفصائل والمنظمات والمستقلين وكل مكونات المجلس الوطني، للتحضير لعقد الانتخابات حيثما أمكن والتوافق حيثما لا يمكن إجراء الانتخابات". برأي القيادي في اللجنة التنفيذية فإن أغلب أعضاء المجلس الحالي منتخبون "فهم يمثلون المنظمات الشعبية والاتحادات وقادة الفصائل، وجميعهم منتخبون ضمن أطرهم، كما أن المستقلين يتم اختيارهم بالتوافق حيثما أمكن، وبعضهم منتخب". حول الالتزام ببرنامج منظمة التحرير الفلسطينية وبالتزاماتها الدولية وقرارات الشرعية الدولية، كشرط لعضوية المجلس، قال أبو يوسف: "الأصل فيمن يكون عضوا في هياكل المنظمة أن يكون ملتزما ببرنامجها السياسي الذي يتضمن حق العودة وتقرير المصير دولة مستقلة عاصمتها القدس". مبررات الرفض وفي بيان له، الثلاثاء، أعلن المؤتمر الوطني الفلسطيني أن قرار عباس "وفق الصيغة الُمعلن عنها، غير مستجيب لمتطلبات إعادة بناء المنظمة، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، أو غيرها من ضرورات المرحلة". وأعرب عن استغرابه "من محاولة القيادة القائمة فرض برنامجها السياسي على أبناء الشعب الفلسطيني، بمكوناته المختلفة"، وذكر مآخذه على القرار: إعلان الاشتراط على المترشحين الموافقة على التزامات المنظمة وهو ما يعني الموافقة المسبقة على اتفاق أوسلو، وما تبعه من اتفاقيات، والاعتراف بإسرائيل (…) وهو ما يخالف أسس الديمقراطية والتعددية. القرار يُعمّق الانقسام، ويُلزم قوى حركة التحرر الوطني الفلسطيني بقيود اتفاق أوسلو، ويستهدف إخراج قوى فلسطينية متعددة من النظام السياسي. القرار يفتقد إلى آلية تنفيذ شفافة وواضحة لهذه الانتخابات، من خلال حصر التحضيرات بيد لجنة يشكّلها طرف واحد مهيمن على النظام الفلسطيني، ومن ثم فإنه يتجاهل بذلك مخرجات الحوار الوطني كلها، وآخرها وثيقة بكين (نص على التمهيد لإجراء انتخابات عامة: المجلس الوطني، الرئاسة، المجلس التشريعي، بإشراف لجنة الانتخابات المركزية). يتساءل المؤتمر الوطني عن مدى توفر الشروط الموضوعية لإجراء الانتخابات "قبل نهاية العام"، في سياق حرب الإبادة على قطاع غزة، وعمليات التهجير والضم والتطهير العرقي في الضفة الغربية. وخلص المؤتمر إلى رفض القرار "بالصيغة التي جاء عليها" مطالبا "بقرار يستند إلى توافق وطني مُسبق ينزع أي شرط مخالف للميثاق الوطني والنظام الأساسي". 60 عاما من المحاصصة من جهته يقول المحلل السياسي عمر عساف إن الشعب الفلسطيني كله محروم من حقه في الانتخابات وتحديدا المجلس الوطني الفلسطيني، حيث إن سياسة الكوتة والمحاصصة والاقتسام هي عمليا السائدة في الحالة الفلسطينية منذ 60 عاما. ورأى في دعوة عباس لإجراء انتخابات المجلس الوطني في هذه المرحلة "انقلابا على كل الأنظمة المعمول بها فلسطينيا، فالنظام الداخلي لمنظمة التحرير يتحدث عن انتخاب المجلس الوطني من الشعب حيثما وجد، دون اشتراطات". وأشار إلى توافق فلسطيني سابق على أن يكون 350 عدد أعضاء المجلس الوطني، 200 منهم من الخارج و150 من الداخل "لكن القرار الأخير جاء مخالفا لما اتفق عليه، ويتحدث عن ثلثين من الداخل أي من الضفة وقطاع غزة، مع أنهم يشكلون ثلث الشعب، وثلث من الخارج مع أن فلسطينيي الخارج هم الأغلبية". وقال عساف إن القرار "اشترط الموافقة على سياسة السيد محمود عباس وكل ما التزم به، لعضوية المجلس، مع أن 10% فقط من الشعب يؤيدون هذا النهج، و90% يطالبون برحيله وإجراء انتخابات عامة والتنصل من اتفاق أوسلو وتطبيق قرارات المجلس الوطني والمجلس المركزي حول إنهاء الالتزامات به لأن الاحتلال أنهى التزاماته". مجلس مفصّل واعتبر أن وضع "شرط على المرشح حالة غير مسبوقة ربما في التاريخ الإنساني" وأنه "لا يحق للسيد محمود عباس أن يشترط على أي عضو أن يقر بكل التزامات منظمة التحرير، لأن الشعب لم يُستشر فيها، كما أن الاشتراطات تفتقد إلى القانونية والمنطقية والسوابق لدى شعوب الأرض كلها". وأشار إلى موقف الفصائل بعدم القبول بالقرار وخاصة الجبهتان الشعبية والديمقراطية العضوان بالمنظمة، مضيفا أن أولوية الشعب الفلسطيني حاليا وقف العدوان وقف التجويع وجريمة الإبادة الجماعية وإنهاء الحصار على قطاع غزة الذي يستحيل إجراء الانتخابات فيه. وخلص إلى أن "ما يريده السيد محمود عباس مجلسا وطنيا وفق مقاسة ومقاس سياساته (…) وتجديد شرعية مهترئة متآكلة غير موجودة من جانب، ومن جانب آخر يريد الالتفاف على مطالب الشعب بانتخابات حقيقة ديمقراطية، دون أن يستبعد إمكانية أن غرض القرار امتصاص بعض الضغوط الغربية".


الجزيرة
منذ 26 دقائق
- الجزيرة
القناة 12 الإسرائيلية عن عنصر أمن أميركي بمراكز مساعدات بغزة: قررت وقف العمل بسبب سلوك حراس الأمن
القناة 12 الإسرائيلية عن عنصر أمن أميركي بمراكز مساعدات بغزة: الموظفون عاملوا سكان غزة بشكل سيئ وعرضوهم للخطر القناة 12 الإسرائيلية عن عنصر أمن أميركي بمراكز مساعدات بغزة: يجب وضع حد لما يجري في مراكز توزيع المساعدات القناة 12 الإسرائيلية عن عنصر أمن أميركي بمراكز مساعدات بغزة: حراس أمن أميركيون أطلقوا النار على الفلسطينيين القناة 12 الإسرائيلية عن عنصر أمن أميركي بمراكز مساعدات بغزة: قررت وقف العمل بسبب سلوك حراس الأمن


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
جنود عائدون من غزة يعانون مشاكل نفسية أحد أعراضها التبول اللاإرادي
وجهت صحيفتان إسرائيليتان انتقادات لاذعة للمؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، فاتهمتاها بدفع الجنود إلى "حروب أبدية" دون اكتراث بالتبعات النفسية والأخلاقية والتداعيات البدنية. وفي مقال له بموقع "واينت" اعتمد الكاتب الإسرائيلي عيناف على تقرير للمراسل العسكري يوآف زيتون كشف فيه عن نقاشات محتدمة داخل الهيئة الطبية في الجيش الإسرائيلي تتعلق بازدياد حالات الانتحار في صفوف الجنود منذ مطلع عام 2025، والتي بلغت -حسب تقرير لإذاعة "غالي تساهال"- 19 حالة. وأشار الكاتب إلى أن الجيش الإسرائيلي اختار توصيف هذه الحالات بمصطلح "اضطراب هوية"، في محاولة لتجنب التسمية الحقيقية التي تُعرف بها في الأدبيات النفسية العسكرية الغربية، أي "الضرر الأخلاقي" أو "الضرر المعنوي" (Moral Injury) الناتج عن القيام بممارسات تناقض منظومة القيم الفردية. وعلّق الكاتب على ذلك ساخرا "لا يُعقل أن يعترف الجيش الأكثر أخلاقية في العالم بأضرار أخلاقية، ولذلك يتم تلطيف المفردات: القائد لا يتأخر، بل يتعثر، التحقيقات لا يتم تجاهلها، بل تتأخر، والجنود لا ينهارون، بل يمرون باضطراب مؤقت في الهوية". ويصف الكاتب جانبا من معاناة الجنود العائدين من غزة، مؤكدا أن "الكوابيس الليلية تنتشر بينهم وأسرّتهم تتبلل"، في إشارة إلى حالات التبول اللاإرادي الناتج عن الصدمات النفسية الحادة. ويضيف أن هؤلاء الجنود -حتى من يؤمنون بعدالة الحرب- يواجهون في الميدان مشاهد صادمة، منها: أشلاء، أطفال مذعورون، نساء بائسات، مما يتسبب بانهيار في آليات الدفاع النفسية، وصولا إلى شعور مدمر بعدم القدرة على الاستمرار. ويحمّل الكاتب القادة السياسيين والإعلام الإسرائيلي جزءا كبيرا من المسؤولية، مؤكدا أنهم يرفعون معنويات الجنود بأوسمة وكلمات فارغة، ثم يتركونهم وحيدين في أتون صراع نفسي لا يطاق. ويختم الكاتب بأنه يمكن الاستمرار في دفن الرؤوس في الرمال، واتهام من يجرؤ على الكلام بأنه يُضعف الجبهة، لكن النتيجة واضحة وهي "مزيد من الضحايا بين الجنود الذين سينظرون إلى إسرائيل ويجدون فيها مرآة مخيفة لروسيا ، وعندها سيفهمون معنى الإصابة في الهوية". بدورها، سلطت الكاتبة شير-لي غولان الضوء على هذه القضية التي وصفتها بـ"الحساسة"، حيث يعاني من لم يصابوا جسديا في الحرب معاناة نفسية بعد عودتهم من ساحات القتال. ولفتت إلى حادثة انتحار 4 جنود في الآونة الأخيرة، مما أثار موجة قلقل وتساؤلات، ونقلت في هذا الإطار عن البروفيسور يؤسي ليفي-بليز الخبير في علم النفس والانتحار تأكيده على أهمية التدخل المبكر والاستماع والتعاطف مع من يعانون، وهو ما لم يحدث في بعض الحالات، مثل جندي خدم في غزة وتوسل ألا يعاد إلى الميدان بعد تهديده بالانتحار. وتشير الكاتبة إلى أن الجيش لا ينشر بيانات دقيقة عن حالات الانتحار، في حين تعاني عائلات الجنود المنتحرين من التهميش والوصمة الاجتماعية، بل وأحيانا من عدم الاعتراف بأن أبناءها قضوا أثناء تأدية الواجب. في المقابل، تقول غولان إن الجنود الذين يصابون جسديا أو يموتون في ساحة القتال يمجدون، في حين يُتجاهل من تتشوه أرواحهم بفعل الحرب رغم شجاعتهم وتضحياتهم. وفي ختام المقال، تدعو الكاتبة إلى تغيير النظرة المجتمعية وتقبّل الألم النفسي كجزء من تجربة القتال ودعم من يعانون بصمت، والاعتراف بأن "البطولة لا تعني عدم الانكسار". وتختم الكاتبة بالتأكيد على أن الوقت قد حان لاحتضان الجنود الذين عادوا بأجساد سليمة، لكن بأرواح مثقلة بالجراح، على حد قولها.