
تجويع غزة جريمة إسرائيلية مدانة قانونا ومحصنة أميركيا
وشكّل هذا الواقع سابقة تاريخية وفقا لتصريحات الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في مارس/آذار 2024، والتي أشارت إلى أن نصف سكان القطاع كانوا حينها يواجهون الجوع على نحو كارثي، وهي أعلى نسبة جوع سبق تسجيلها في أي مكان وفي أي زمان، وذلك نتيجة لـ"كارثة لم يصنعها سوى البشر".
وأدرج تقرير لجنة المسؤولية التي تم تشكيلها عام 1919 بعد الحرب العالمية الأولى "التجويع المتعمد للمدنيين" باعتباره انتهاكا لقوانين وأعراف الحرب يخضع للملاحقة الجنائية، ومنذ ذلك الحين أصبح قاعدة من قواعد القانون الدولي العرفي.
التجويع جريمة حرب
وينص القانون الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أن "استخدام تجويع المدنيين عمدا كأسلوب من أساليب الحرب" يعد جريمة حرب في النزاعات المسلحة الدولية.
وتشكل هذه القاعدة الأساس القانوني لمحاكمة دولة الاحتلال أمام كل من محكمة الجنايات الدولية و محكمة العدل الدولية بفعل جرائمها في قطاع غزة، وفي مقدمتها جريمة الإبادة الجماعية من خلال التجويع.
فقد شكل "تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب" البند الأول من التهم التي وجهها مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية كريم خان إلى كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت، والتي طلب على أساسها في 20 مايو/أيار 2024 إلقاء القبض عليهما.
كما تضمنت التهم "الإبادة (و/ أو) القتل العمد، بما في ذلك الموت الناجم عن التجويع باعتباره جريمة ضد الإنسانية"، مشيرا إلى أن الجرائم ضد الإنسانية التي وجِّه الاتهام بها قد ارتكِبت في إطار هجوم واسع النطاق ومنهجي ضد السكان المدنيين الفلسطينيين عملا بسياسة الدولة.
وأكد خان توفر ركن "القصد" في هذه الجرائم بقوله "يدفع مكتبي بأن الأدلة التي جمعناها، والتي شملت مقابلات مع ناجين وشهود عيان، ومواد مرئية وصورا فوتوغرافية ومواد مسموعة ثبتت صحتها، وصورا ملتقطة بالأقمار الصناعية، وبيانات أدلت بها المجموعة التي يُدَّعى أنها ارتكبت الجرائم تثبت أن إسرائيل تعمدت حرمان السكان المدنيين في كل مناطق غزة بشكل منهجي من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم الإنساني".
وقد حدث ذلك من خلال فرض حصار كامل على غزة تضمّن الإغلاق التام للمعابر الحدودية الثلاثة، وهي رفح وكرم أبو سالم وبيت حانون اعتبارا من 8 من أكتوبر/تشرين الأول 2023 ولفترات مطولة، ثم التقييد التعسفي لنقل الإمدادات الأساسية، بما في ذلك الطعام والدواء من خلال المعابر الحدودية بعد إعادة فتحها.
وشمل الحصار أيضا قطع أنابيب المياه العابرة للحدود من إسرائيل إلى غزة لفترة طويلة بدأت من 9 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وهي المصدر الرئيسي للمياه النظيفة التي يحصل عليها الغزيون، كما قطع الاحتلال إمدادات الكهرباء ومنعها منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم.
وقد وقع ذلك إلى جانب هجمات أخرى ضد المدنيين، بما في ذلك هجمات على أولئك الذين اصطفوا للحصول على الطعام، وإعاقة توصيل الوكالات الإنسانية للمساعدات، وشن هجمات على عمال الإغاثة وقتلهم، مما أجبر الكثير من الوكالات على إيقاف أعمالها في غزة أو تقييدها.
وأكد خان أن "هذه الأفعال قد ارتُكبت في إطار خطة مشتركة لاستخدام التجويع كأسلوب من أساليب الحرب وأعمال عنف أخرى ضد السكان المدنيين في غزة كوسيلة (1) للتخلص من حماس ، (2) ولضمان عودة الرهائن الذين اختطفتهم حماس، (3) ولإنزال العقاب الجماعي بالسكان المدنيين في غزة الذين رأوا فيهم تهديدا لإسرائيل".
قرار المحكمة الجنائية الدولية
وبالفعل، قبلت الدائرة التمهيدية الأولى في المحكمة الجنائية الدولية بتاريخ 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 دعوى كريم خان، ورفضت الطعنين المقدمين من دولة الاحتلال، وأصدرت أمرين باعتقال كل من نتنياهو وغالانت.
ونص قرارها على أنها توصلت إلى وجود "أسباب معقولة" للاعتقاد بأن نتنياهو وغالانت "يتحمل كل منهما المسؤولية الجنائية عن الجرائم الآتي ذكرها كمشاركيْن لارتكابهما الأفعال بالاشتراك مع آخرين: جريمة الحرب المتمثلة في التجويع كأسلوب من أساليب الحرب، والجرائم ضد الإنسانية المتمثلة في القتل والاضطهاد والأفعال اللاإنسانية الأخرى".
واعتبرت الدائرة أن هناك أسبابا معقولة للاعتقاد بأن كلا الشخصين حرم السكان المدنيين في غزة عن علم وقصد من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك الغذاء والماء والدواء والمواد الطبية إضافة إلى الوقود والكهرباء، استنادا إلى دورهما في عرقلة المساعدات الإنسانية.
كما أشارت إلى أن القرارات التي سمحت بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة أو بزيادتها كانت غالبا مرهونة بشروط.
ولم تُتخذ تلك القرارات حتى تفي إسرائيل بالتزاماتها بموجب القانون الدولي الإنساني أو لضمان تزويد السكان المدنيين في غزة على نحو مناسب بما يحتاجونه من سلع، بل كانت في الواقع استجابة لضغوط من المجتمع الدولي أو لطلبات من الولايات المتحدة الأميركية.
وعلى أي حال، لم تكن زيادات المساعدات الإنسانية كافية لتحسين وصول السكان إلى المواد الأساسية.
وإضافة إلى ذلك، توصلت الدائرة إلى وجود أسباب معقولة للاعتقاد بأنه لم يتسن تحديد حاجة عسكرية واضحة أو مبرر آخر بموجب القانون الدولي الإنساني للقيود المفروضة على النفاذ إلى عمليات الغوث الإنساني.
وعلى الرغم من التحذيرات والدعوات الصادرة عن جهات -من بينها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والأمين العام للأمم المتحدة ودول ومنظمات حكومية ومنظمات مجتمع مدني حول الوضع الإنساني في غزة- فإنه لم يُسمح إلا بالنزر اليسير من المساعدات الإنسانية.
وفي هذا الصدد، أخذت الدائرة في اعتبارها مدة الحرمان الطويلة وتصريح نتنياهو الذي ربط توقف السلع الأساسية والمساعدات بأهداف الحرب.
تباطؤ محكمة العدل الدولية
وتوصلت الدائرة التمهيدية الأولى في المحكمة الجنائية الدولية إلى وجود أسباب معقولة للاعتقاد بأن غياب الغذاء والماء والكهرباء والوقود ومواد طبية معينة أوجد أحوالا معيشية بقصد إهلاك جزء من السكان المدنيين في غزة، وهو ما أدى إلى وفاة مدنيين -بينهم أطفال- بسبب سوء التغذية والتجفاف.
لكنها، وعلى أساس ما قدمه الادعاء من مواد شملت الفترة الممتدة إلى غاية 20 أيار/مايو 2024 لم تتمكن من الوقوف على استيفاء جميع أركان الإبادة كجريمة ضد الإنسانية، ورغم ذلك فإنها توصلت إلى وجود أسباب معقولة للاعتقاد بأن الجريمة ضد الإنسانية المتمثلة في القتل ارتُكبت بالنسبة لهؤلاء المجني عليهم.
ويشير دليل أركان الجرائم للمحكمة الجنائية الدولية إلى ضرورة توفر 4 عناصر لإثبات جريمة حرب التجويع كأسلوب من أساليب الحرب، وهي أن يحرم مرتكب الجريمة المدنيين من مواد لا غنى عنها لبقائهم، وأن ينوي مرتكب الجريمة تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب، وأن يقع السلوك في سياق نزاع مسلح دولي ومرتبط به، وأن يكون مرتكب الجريمة على علم بالظروف التي تثبت وجود نزاع مسلح.
وفي سياق مواز، تشهد الدعوى التي قدمتها دولة جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية بشأن تورط دولة الاحتلال بجرائم ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية تباطؤا مما يحد من فاعليتها، ويجعل أي قرارات لاحقة لها ضعيفة التأثير، إذ إنها ستكون بعد تراجع ذروة الحاجة لها على الأغلب.
وكانت آخر محطات التأخير هي قبول المحكمة في 14 أبريل/نيسان 2025 طلب دولة الاحتلال تمديد المهلة المحددة لتقديم مذكرتها المضادة حتى 28 يناير/كانون الثاني 2026 على الرغم من تأكيد جنوب أفريقيا أن إسرائيل لم تقدم مبررا كافيا لمثل هذا التمديد.
ويعني هذا التمديد أن إسرائيل لن تخضع لأي عواقب جديدة كبرى من الناحية القانونية أو الدبلوماسية قبل عام 2026 أو ربما 2027.
الحماية الأميركية للجريمة
شنت الولايات المتحدة حملة دبلوماسية وإعلامية وقضائية ضد مؤسسات الأمم المتحدة التي تعارض الجرائم الإسرائيلية، ولا تتسق مع سياسات نتنياهو الساعية إلى تصفية القضية الفلسطينية وتهجير سكان غزة، بما شمل كل من المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية ووكالة الأونروا والعديد من كبار مسؤولي الأمم المتحدة.
ووصل الأمر بالرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى إصدار أمر تنفيذي في فبراير/شباط 2025 يعد أي جهد لمحكمة الجنايات الدولية للتحقيق في الجرائم الإسرائيلية "تهديدا غير عادي واستثنائي للأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة".
وبموجب ذلك، أعلن ترامب "حالة طوارئ وطنية لمعالجة هذا التهديد"، مما يجيز فرض عقوبات مالية وقيود سفر على أفراد ومنظمات تتعاون مع المحكمة الجنائية للتحقيق في قضايا تخص الولايات المتحدة أو حلفائها.
وبالفعل، فرضت الولايات المتحدة في 6 يونيو/حزيران 2025 عقوبات على 4 قاضيات في المحكمة الجنائية الدولية على خلفية قضايا مرتبطة بواشنطن وإسرائيل، بما يشمل حظر دخولهن إلى الولايات المتحدة، وتجميد أي أموال أو أصول يملكنها فيها.
كما أسهمت الضغوط الأميركية في استقالة أحد قضاة المحكمة في يوليو/تموز 2025، وهو القاضي البريطاني أندرو كايلي المكلف إلى جانب المحامية الأميركية بريندا هوليس في قيادة تحقيقات بشأن انتهاكات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ولا يمكن استبعاد دور الضغوط الأميركية في قرار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان في 16 مايو/أيار 2025 بالتنحي مؤقتا عن مهامه، بانتظار استكمال تحقيق خارجي في مزاعم تتعلق بسوء سلوك جنسي.
وفي المحصلة، بينما تحذر المؤسسات الأممية من جريمة تجويع غير مسبوقة في التاريخ الحديث يدفع الغطاء الأميركي غير المسبوق لهذه الجرائم باتجاه إطالة أمدها بهدف تحقيق الأهداف الأميركية الإسرائيلية المشتركة بشأن تصفية القضية الفلسطينية، حتى لو استلزم الأمر تقويض أسس " النظام الدولي القائم على القواعد"، والذي تشكل المؤسسات القضائية الدولية أحد أركانه الأساسية.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
إصابة فلسطينيين برصاص الاحتلال في مواجهات بالضفة الغربية
أصيب فلسطينيان، مساء الجمعة، برصاص الجيش الإسرائيلي، أحدهما في بلدة بيت دقو، شمال غرب القدس المحتلة، والآخر في بلدة دير جرير، شرق مدينة رام الله، وسط الضفة الغربية المحتلة، في ظل حملة اعتقالات يشنها الاحتلال. وأفادت جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني -في بيان- بأن طواقمها تعاملت مع إصابة شاب (21 عاما) بالرصاص الحي بالرجلين إثر إطلاق النار عليه من قوات الاحتلال في بيت دقو. واندلعت المواجهات وسط البلدة بعد اقتحام الآليات الإسرائيلية وإطلاق الجنود قنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي. وفي بلدة دير جرير، اقتحم مستوطنون الليلة الماضية المدخل الغربي للبلدة وأضرموا النار في أراضٍ زراعية على أطرافها، مما أدى إلى اندلاع مواجهات مع الأهالي الذين تصدوا للهجوم. وأطلقت قوات الاحتلال، التي وفرت الحماية للمستوطنين، الرصاص الحي وقنابل الغاز، مما أسفر عن إصابة شاب بجروح طفيفة. ويأتي هذا الاعتداء بعد يوم واحد من اقتحام مماثل شهدته البلدة، تخلله اعتداءات على الأهالي وإصابات وإحراق لممتلكات خاصة. اقتحامات متواصلة تزامن ذلك مع اقتحام قوات الاحتلال منطقة كفر عقب شمال المدينة، وسط انتشار عسكري مكثف وتحليق طائرات استطلاع في الأجواء، في حين أفادت مصادر فلسطينية بأن قوات الاحتلال واصلت عملياتها في مدينة البيرة المجاورة باقتحام حي البالوع وتنفيذ مداهمات لمنازل الفلسطينيين. وأفادت مصادر فلسطينية بأن قوات الاحتلال اقتحمت بلدة طمون جنوب طوباس، ودهمت منازل في منطقة الرفيد، واعتقلت 4 فلسطينيين، بينهم زوجة مطارد. كما أخضعت ذوي عدد من المطاردين لتحقيقات ميدانية في محاولة للضغط على أبنائهم لتسليم أنفسهم. إعلان أما في نابلس ، فقد اقتحمت قوات الاحتلال المنطقتين الشرقية والوسطى من المدينة، واعتقلت فلسطينيا من حي التعاون بعد مداهمة إحدى العمارات السكنية، بالتزامن مع اقتحام عدد من البلدات جنوب المدينة. كذلك اعتقل فتى فلسطيني بعد مداهمة منزله في مدينة قلقيلية شمال الضفة. وواصلت قوات الاحتلال عملياتها في مدينة الخليل ، حيث اقتحمت حي وادي الهرية وشرعت بتفتيش منازل الأهالي، كما دهمت عدة منازل في بلدة السموع جنوب المحافظة. وبموازاة حرب الإبادة في قطاع غزة، قتل الجيش الإسرائيلي والمستوطنون بالضفة، بما فيها القدس الشرقية ، ما لا يقل عن 1011 فلسطينيا، وأصابوا نحو 7 آلاف آخرين، إضافة إلى اعتقال أكثر من 18 ألفا، وفق معطيات رسمية فلسطينية.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
كيف احتلت الهاغاناه القدس في إطار "الخطة دال"؟
"الخطة دال" خطة عسكرية وضعتها منظمة الهاغاناه الصهيونية عام 1948 لاحتلال مختلف مدن فلسطين ، بينها القدس وضواحيها، وتكونت الخطة من ثلاث مراحل عسكرية متتالية بقيادة لواء "عتسيوني"، حملت كل مرحلة منها اسما خاصا، وانتهت باحتلال غربي القدس كله وأجزاء من شرقي المدينة. إلا أن تدخل الجيش العربي في اللحظة الحاسمة حال دون سقوط البلدة القديمة والأجزاء الشرقية، التي بقيت تحت السيادة العربية حتى نكسة يونيو/حزيران 1967. التسمية والمراحل هي خطة عسكرية وضعتها قيادة "الهاغاناه"، برئاسة ديفيد بن غوريون ، بهدف السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية بالقوة أثناء نكبة عام 1948. وقد عُرفت هذه الخطة باسم "الخطة دال" لكونها رابع خطة في سلسلة حملت كل منها حرفا من الحروف الأبجدية العبرية. كان من المقرر أن يبدأ تنفيذ "الخطة دال" في نهاية فترة الانتداب البريطاني ، في أوائل النصف الثاني من شهر مايو/أيار 1948، إلا أن تسارع الأحداث مثل التحول في موقف الولايات المتحدة الأميركية من قرار تقسيم فلسطين والانسحاب التدريجي للقوات البريطانية من فلسطين، إضافة إلى تمكن القوات العربية من السيطرة على طرق المواصلات في شهر مارس/آذار، كل ذلك دفع بقيادة الهاغاناه إلى تقديم موعد التنفيذ إلى الأسبوع الأول من أبريل/نيسان. كانت الخطة تهدف إلى السيطرة العسكرية الكاملة على الأراضي المخصصة "للدولة اليهودية" بموجب قرار التقسيم، واتخاذ هذه الرقعة قاعدة للانطلاق نحو السيطرة على مناطق واسعة داخل حدود "الدولة العربية" المقترحة، إما لأسباب إستراتيجية اعتبرتها القيادة الصهيونية ضرورية للدفاع عن "الدولة اليهودية"، أو لأن القيادة رفضت خروج هذه المناطق عن نطاق الدولة. وقد تضمنت "الخطة دال" 17 عملية عسكرية، خُصص لكل منها اسم محدد، وحددت أهدافا تفصيلية لكل من ألوية الهاغاناه العشرة، بحيث تُنفذ كل واحدة مهمتها وفق خطة منسقة وشاملة. احتلال القدس وفق "الخطة دال" أُوكلت إلى لواء "عتسيوني"، المؤلف من ثلاث كتائب، مهمة احتلال مدينة القدس وضواحيها بالكامل، إضافة إلى حصار الخليل و بيت لحم وبيت جالا. وفي الأول من أبريل/نيسان 1948، تقرر في اجتماع عُقد في منزل بن غوريون تشكيل قوة خاصة مكونة من ثلاث كتائب يبلغ قوامها حوالي 1500 مقاتل، بهدف احتلال القرى الواقعة على الطريق العام بين الساحل والقدس، لا سيما تلك التي تقع عند بداية صعود الطريق نحو جبال القدس، مثل باب الواد وسائر القرى الممتدة شرقا وصولا إلى ضواحي مدينة القدس. وأوكلت إلى هذه القوة الخاصة مهمة بدء تنفيذ "الخطة دال" ("دالت" بالعبرية) من خلال عملية افتتاحية حملت اسم " نحشون". ويشير هذا الاسم إلى نَحْشُون بن عميناداب، الشخصية التوراتية التي كانت أول من خاض مياه بحر القُلزم لتمهيد الطريق أمام بني إسرائيل، في دلالة رمزية واضحة، فكما فتح نَحْشُون الطريق هدفت العملية إلى فتح الممر نحو القدس. وتعكس التسمية أيضا "روح الريادة والشجاعة"، إذ كانت "نحشون" أول عملية هجومية كبرى ضمن الخطة، وتقول الهاغاناه إنها أطلقتها "بروح المبادرة والاستباق". تقرّر أن تبدأ العملية في 5 أبريل/نيسان 1948 بهجوم على القريتين العربيتين خلدة ودير محيسن الواقعتين غرب باب الواد، على الطريق الرئيسي المؤدي إلى القدس. وكان من المقرر أن يسبق هذه العملية احتلال قرية القسطل ، الواقعة في منتصف الطريق بين باب الواد والقدس، والتي شهدت معركة حاسمة انتهت بخسارة القوات الفلسطينية وسقوط القرية في 9 أبريل/نيسان. عقب ذلك، وقعت مجزرة دير ياسين، التي كانت بداية سقوط المدن الفلسطينية الواحدة تلو الأخرى. وبعد 5 أيام من مجزرة دير ياسين ، أي في 14 أبريل/نيسان، أرسلت قوات الهاغاناه قافلة مكونة من عشر مركبات إلى جبل المشارف عبر حي الشيخ جراح الغربي، غير أن المناضلين الفلسطينيين نصبوا كمينا للقافلة، واندلعت معركة عنيفة أسفرت عن مقتل 77 من ركابها وجرح 20 آخرين، وأُسر الباقون. المرحلة الأولى من "الخطة دال": عملية "يبوسي" سُميت العملية العسكرية المخصصة لاحتلال القدس بـ"يبوسي"، واسمها مأخوذ من "يبوس"، وهو الاسم التوراتي للقدس قديما، نسبة إلى سكانها الذين كانوا يسمّون اليبوسيين، وفي هذه التسمية إشارة تاريخية/دينية للصلات اليهودية القديمة بالمدينة، للتذكير بتاريخ غزو الملك داود لها من سكانها القدامى، وفيها أيضا دلالة ضمنية على الرغبة في "استعادة" أو "تحرير" القدس من سكانها العرب بطرق عسكرية، بعد آلاف السنين من بداية "يبوس". وقد تقرر بدء تنفيذها في 23 أبريل/نيسان 1948. وفي ذلك اليوم شنت قوات الهاغاناه و تنظيم الأرغون هجوما من 4 محاور رئيسية: المحور الأول (شمالي): باتجاه قرية النبي صموئيل، التي تشرف من مرتفعاتها على كامل مدينة القدس، وتتحكم بطريق المواصلات بين القدس وشمال فلسطين. المحور الثاني (شرقي): انطلق من جبل المشارف جنوبا باتجاه جبل الزيتون و قرية الطور ، المطلّين على البلدة القديمة من الشرق، وعلى طريق المواصلات المؤدي إلى شرق الأردن. المحور الثالث (شمالي البلدة القديمة): استهدف حي الشيخ جراح، الواقع شمالي البلدة القديمة. المحور الرابع (غربي): انطلق من الأحياء اليهودية في غربي القدس باتجاه حي القطمون، أحد أهم الأحياء العربية في الجزء الغربي من المدينة، في تمهيد لاحتلال سائر الأحياء العربية في غربي القدس. وقد فشل الهجوم على المحورين الأول والثاني، في حين نجح جزئيا في المحور الثالث، لكن القوات البريطانية تدخلت وأجبرت القوات الصهيونية على الانسحاب من حي الشيخ جراح، لأنه يقع على خط انسحابها الرئيسي مع اقتراب نهاية الاحتلال البريطاني. ورغم ذلك، تم الاتفاق بين الطرفين على أن يسلم الجيش البريطاني الحي لقوات الهاغاناه يوم انسحابه الرسمي، مقابل انسحاب فوري مؤقت من الحي. أما أعنف المعارك فقد دارت على المحور الرابع، إذ استمر القتال دون توقف حتى 30 أبريل/نيسان، حين تمكنت القوات اليهودية من احتلال حي القطمون كله، وبدأت بعد ذلك بالتوسع نحو باقي الأحياء العربية في غربي القدس. المرحلة الثانية من "الخطة دال": عملية "كيلشون" جاءت المرحلة الثانية الكبرى من تنفيذ "الخطة دال" لاحتلال القدس عشية انسحاب الجيش البريطاني في 14 مايو/أيار 1948، إذ كانت قوات الاحتلال البريطاني لا تزال تحتل مناطق أمنية إستراتيجية وسط المدينة حتى ذلك التاريخ. وكانت هذه المناطق تفصل بين الأحياء العربية واليهودية في كل من شرقي القدس وغربها، ما منحها أهمية عسكرية كبيرة. كما كانت هذه المناطق تضم عددا من أهم المرافق الحيوية في المدينة، بما في ذلك مقر الشرطة العامة والمستشفى الحكومي ومباني الهاتف والبريد والمصارف الرئيسية والمحاكم. وقد أطلقت قوات "الهاغاناه" على هذه العملية اسم "كيلشون"، وتعني "المذراة"، وهي أداة زراعية تُستخدم لنثر القشّ وفصل الحَبّ عن التبن. ويُجسّد هذا الاسم رمزية واضحة: ضربة مباغتة وسريعة، تشبه حركة الطرح الحادة بالمذراة نحو هدف محدد، كما يُشير إلى "تطهير الأرض بقوة"، من خلال السيطرة على الأحياء وطرد سكانها، ضمن خطة تهدف إلى "تنظيف" مناطق إستراتيجية في القدس. ويعكس الاسم البُعد العسكري المباشر للعملية، باعتبارها ضربة حاسمة نحو إحكام السيطرة على المدينة، ونفذت تزامنا مع الانسحاب النهائي للجيش البريطاني من القدس، في 14 مايو/أيار، واستندت إلى هجوم من 3 محاور رئيسية: المحور الأول: باتجاه حي الشيخ جراح، وأدى الهجوم إلى قطع الاتصال بين عرب القدس وشمال فلسطين، وإحكام الحصار على البلدة القديمة من الجهة الشمالية. المحور الثاني: استهدف مناطق الأمن وسط المدينة، والتي سلمها الجيش البريطاني مباشرة إلى قوات الهاغاناه، ما سهّل السيطرة عليها دون قتال كبير. المحور الثالث: انطلق باتجاه سائر الأحياء العربية في غربي القدس، خصوصا حي البقعة الفوقا، والبقعة التحتا، وحي الطالبية، التي كانت تعد من أبرز المناطق السكنية العربية في الجزء الغربي من المدينة. المرحلة الثالثة من "الخطة دال": محاولة اقتحام البلدة القديمة بدأت المرحلة الثالثة الكبرى من تنفيذ "الخطة دال" بهدف إكمال السيطرة على مدينة القدس كلها، وذلك عبر اقتحام البلدة القديمة. وكانت قوات الهاغاناه تحتفظ بحامية قوامها نحو 250 مقاتلا داخل البلدة القديمة، يتمركزون في الحي اليهودي قرب حائط البراق و المسجد الأقصى ، تحت حماية الجيش البريطاني التي انتهت بانسحابه. مع اقتراب هذا الانسحاب شرعت قيادة الهاغاناه في التخطيط لتعزيز هذه الحامية، ووضعت خطة عسكرية حملت اسم "شفيفون"، وهو اسم يطلق على أفعى سامة مثلثة الرأس، وتضمنت الخطة 3 خطوات رئيسية: احتلال مواقع الجيش البريطاني القريبة من الحي اليهودي فور إخلائها. الانطلاق من هذه المواقع لاحتلال مواقع عربية محددة داخل البلدة القديمة. نسف المنازل العربية المحيطة بالحي اليهودي، بهدف حرمان أي قوة عربية من إمكانية استخدامها غطاء أو قواعد هجومية. وفي الوقت نفسه، بدأت قوات الهاغاناه والبلماح بالاحتشاد خارج أسوار البلدة القديمة استعدادا لاقتحامها، وتقرر أن تهاجم قوات الهاغاناه باب الخليل، أحد المداخل الغربية الرئيسة للقدس، بينما تتولى قوات البلماح، بقيادة إسحق رابين ، احتلال تلة مقام النبي داود الواقعة إلى الجنوب الغربي من الأسوار، والتي تُشرف على البلدة القديمة من الخارج. وقد فشل الهجوم على باب الخليل، إذ تصدت له القوات العربية، لكن قوات البلماح نجحت في 17 مايو/أيار، بعد قتال عنيف، في احتلال مقام النبي داود، مما منحها موقعا إستراتيجيا مشرفا على البلدة القديمة. في 18 مايو/أيار تقرر أن تقتحم قوات البلماح أسوار مقام النبي داود للاتصال بالحامية في الداخل، وفعلا تمكنت من ذلك بعد أن نسفت بوابة السور المعروفة ببوابة النبي داود واستطاعت أن تدخل. إنقاذ القدس كانت القدس على وشك السقوط في يد القوات الصهيونية أثناء الحرب التي اندلعت مع انتهاء الاحتلال البريطاني. وفي تلك الأثناء أطلق أحمد حلمي باشا، عضو اللجنة القومية الوحيد المرابط في القدس، نداء استغاثة عاجلا إلى هزاع المجالي ، أحد كبار الموظفين في القصر الملكي الأردني قائلا "إن لم تنجدونا، سقطت القدس نهائيا في أيدي اليهود". أبلغ المجالي الملك عبد الله الأول بالأمر، ثم تلقى اتصالا ثانيا من حلمي باشا يناشده بشكل عاجل "أناشدكم الله أن تنجدونا وتنقذوا المدينة وأهلها من سقوط مؤكد". استجاب الملك عبد الله على الفور واتصل عبر الهاتف بأحمد حلمي باشا مستفسرا عن تفاصيل الأوضاع في القدس، ثم أمر بتدخل الجيش العربي لإنقاذ القدس، رغم تحفظ رئيس الوزراء توفيق أبو الهدى، الذي عبر عن تردده بسبب اتفاق بريطانيا مع الأردن على عدم التدخل العسكري في القدس، إلا أن إصرار الملك عبد الله كان حاسما. بناء على ذلك، جرى اتصال بين أبو الهدى ورئيس أركان الجيش العربي الجنرال البريطاني جون غلوب (غلوب باشا)، وتم الاتفاق على عقد جلسة رسمية برئاسة الملك في القصر، وعقد مجلس الوزراء بحضور الملك ورئيس الأركان ومساعده عبد القادر الجندي، وقرر المجلس التدخل العسكري في القدس. استجاب الملك عبد الله لنداء النجدة واتصل بقائد الكتيبة السادسة عبد الله التل، الذي كان قد حقق انتصارا في معركة كفر عصيون، وطلب منه التوجه فورا إلى القدس لإنقاذها. قبل وصول تلك الكتيبة النظامية، كانت هناك قوات تطوعية من رام الله وبيت لحم، إضافة إلى متطوعين من جماعة الإخوان المسلمين في مصر، الذين شنوا هجمات لتخفيف الضغط عن البلدة القديمة. وصلت الكتيبة السادسة إلى القدس فجر 18 مايو/أيار 1948، وبدأ الجيش الأردني هجومه من مواقع إستراتيجية مهمة مثل رأس العامود وجبل الزيتون، مدعوما بمدفعية ثقيلة شملت مدافع من عيار 6 أرطال ومدافع هاوزر من عيار 80 ملم، مستهدفا مواقع القوات الصهيونية المتحصنة داخل البلدة القديمة. في المقابل ضاعفت القوات الصهيونية تعزيزاتها في القدس، وتجاوز عدد أفرادها 15 ألف جندي مسلح بأسلحة حديثة. شهدت الأيام التالية معارك عنيفة في مناطق عدة، تمكن فيها الجيش الأردني من السيطرة على أحياء حيوية حول البلدة القديمة، مثل الشيخ جراح وباب الواد، وفرض حصارا محكما على الحي اليهودي داخل الأسوار، ومع ذلك لم يستطع اقتحام عمارة النوتردام الإستراتيجية بعد هجمات متكررة تكبد فيها خسائر كبيرة في صفوف جنوده. في باب النبي داوود دارت معارك شرسة تمكن فيها الجيش الأردني من صد هجمات متكررة من قوات "الهاغاناه"، وأحكم السيطرة على مواقعه حتى داخل البلدة القديمة، مما عزز الحصار على الحي اليهودي. استمر الحصار والتصعيد العسكري حتى 28 مايو/أيار 1948، حين استسلمت القوات الصهيونية داخل الحي اليهودي بعد حصار عنيف، وسلمت أسلحتها وتم أسر 340 من مقاتليها. ويستعيد الجيش العربي السيطرة الكاملة على البلدة القديمة وشرقي القدس، وظلت القدس تحت السيادة الأردنية حتى سقوطها في يد جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال حرب يونيو/حزيران 1967.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
قائد إسرائيلي سابق: نقترب من كارثة مع بقائنا في غزة
اعترف قائد القوات البرية السابق بالجيش الإسرائيلي يفتاح رون تال بأن تل أبيب تقترب من كارثة مع بقاء قواتها في قطاع غزة بعد قرابة عامين من الحرب، منتقدا الحكومة لفشلها في تقديم استراتيجية واضحة، وفق ما نقلته اليوم السبت صحيفة جيروزاليم بوست. وبحسب الصحيفة، قال القائد العسكري الإسرائيلي السابق إن عجز إسرائيل عن إدارة الوضع الميداني في قطاع غزة يقوض ما وصفها بـ"مكاسبها العسكرية". وشدد على أن الجيش الإسرائيلي يواجه استنزاف عملياتي، مؤكدا أن القوات الاحتياطية منهكة للغاية. أهداف غير واضحة وطالب رون تال الحكومة الإسرائيلية بأن تحدد أهدافها بوضوح وتتجنب التردد بما يتعلق بالحرب المستمرة على قطاع غزة، قائلا "لا يمكن للحرب أن تستمر إلى الأبد. لدي انتقادات لاذعة للحكومة. عليها أن تقرر إلى أين نتجه". كذلك أقر بأن إسرائيل فشلت بالتعامل مع قضية المساعدات في غزة، موضحا أن الجيش الإسرائيلي لم يستطع طوال أشهر الحرب أن ينشئ كيانا للتعامل مع الشؤون الإنسانية في القطاع ولذلك ما تزال حركة المقاومة الإسلامية (حماس) تسيطر على المستوى المدني، وفق تعبيره. ولا يبدو أن الحكومة الإسرائيلية تمتلك خطة لإنهاء الحرب على قطاع غزة رغم مطالبات الجيش الإسرائيلي بذلك جراء إنهاك جنوده، في ظل مطالبة عائلات المحتجزين بإبرام صفقة تنهي الحرب وتعيد الأسرى الإسرائيليين.