
بعد وقف الحرب... إلى أين ستتّجه إيران؟
أعلنَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب، مساءَ الاثنين الماضي، وقفاً للعملياتِ العسكرية بينَ إسرائيلَ وإيران، بعد 12 يوماً من التَّصعيد الحاد بين الأطراف المتصارعة، والذي بلغَ ذروتَه لدى استهدافِ القوات الأميركية ثلاثةَ مواقعَ نووية إيرانية حسَّاسة هي: «فوردو» و«نطنز» و«أصفهان»، بضرباتٍ دقيقة، وهذه المواقعُ الثلاثة تُعَدُّ أمَّهاتِ البرنامجِ النووي الإيرانيّ.
وفي خضمّ التحليلاتِ المتزاحمة بدا هذا الإعلانُ لحظةً فارقةً تستدعي التَّوقفَ والتأمل، ليسَ فقط بوصفه خطوةً لوقفِ التَّصعيد، بل لفهمِ موقعِ إيرانَ في المشهدِ الإقليميّ والدوليّ المعقد.
منذ ثورة الخميني عام 1979، قدَّمت إيران نفسَها على أنَّها مركزٌ لقوى المقاومةِ في الشَّرق الأوسط، وبنت سرديةً سياسية قائمة على الصمود في وجه الضغوطِ الخارجية، ودعمتْ الحركاتِ المناهضةَ للغرب، بدأت باحتجاز 52 موظفاً في السّفارة الأميركية بطهران لمدة 444 يوماً، إلى استهدافٍ مباشرٍ للمصالح الأميركية في المنطقة، مطلقةً شعاراتٍ معاديةً للولايات المتحدة واصفة إياها بـ«الشيطان الأكبر»، وهذا المسارُ منحَ طهرانَ نفوذاً لا يُنكر، في بعض الأوساطِ الراديكالية في المنطقة، لكنَّه في المقابل جعلَها في مواجهةٍ مستمرة مع محيطِها الإقليميّ والعالمي، وأدخلَها في عزلةٍ متنامية، دفع ثمنَها الأكبرَ المواطنُ الإيرانيّ.
الكاتبُ الأميركي توماس فريدمان كتب في «نيويورك تايمز» قبل يومين، أنَّ إيران اختارت منذ البداية أن تكونَ في صف «قوى الممانعة أو المقاومة» التي تعتمدُ على الصّراع، في مقابلِ قوى إقليميةٍ أخرى راهنتْ على التَّنميةِ والتكاملِ والازدهار، ورغم أنَّ طهرانَ حقَّقت بعضَ التَّقدم العسكري، فإنَّ فريدمان يرى أنَّ ما خسرته علَى المستوياتِ الاقتصاديةِ والاجتماعية والدبلوماسية يفوقُ بكثيرٍ ما كسبته، ففي الوقتِ الذي تراكمتْ فيه الأعباءُ على الدَّاخل الإيراني، كانت دولُ الاعتدال في الجوار تحقق مؤشراتِ نموٍّ وتنمية، وتعزّز حضورَها الدبلوماسيَّ كقوى مؤثرة في المشهدِ الدولي.
ويأتي تمسُّكُ إيرانَ ببرنامجها النووي بوصفه أحد أبرز تجلياتِ هذا الاتجاه الذي اختارته إيران، فالبرنامج لم يعد مجردَ محلِّ شكوك دولية، بل تحوَّل إلى مصدرِ تهديدٍ حقيقي لإيرانَ نفسها، قبل أن يكون تهديداً لجيرانِها، فالعالمُ اليوم لم يعد ينظر إلى القدراتِ النووية بعين الإعجابِ أو الرَّدع، بل بعينِ الرّيبة، خصوصاً حين ترتبطُ بعقيدة سياسيةٍ غير واضحة، وبعلاقاتٍ إقليمية متوترة. إذ كيفَ يمكن لدولة أن تطالب بثقة المجتمع الدولي، وهي ترفعُ منسوبَ الخطرِ إلى هذا الحدّ؟ وكيفَ يمكن الاطمئنانُ إليها، وهي تعتمدُ منطقَ: أنَّ الضامنَ الوحيدَ للبقاء هو اللهاث وراء أدوات الدَّمار؟
الحقيقة أنَّ الإشكالَ لا يكمن في البرنامج النووي ذاتِه، بقدر ما يكمن في العقلية التي تقفُ خلفَه، عقلية تراكم القوة لا التنمية، وتبحث عن الردع أكثر ممَّا تبحث عن التكامل، وتخشَى الداخلَ أكثر مما تخشَى الخصوم، وما لم يحدثْ تحوُّلٌ حقيقيٌّ في هذه العقلية، فلن يكونَ هناك فرقٌ كبيرٌ بين وقفِ حربٍ أو اندلاع أخرى، لأنَّ جوهرَ التفكير السّياسي سيبقى كما هو.
اليوم، لم تعد التنميةُ خياراً ثانوياً، بل أصبحتِ المعيارَ الأهمَّ للشرعية السياسية، والبوصلة التي تقيس بها الدولُ قدرتَها على التَّقدم والاستقرار، ولدى إيران من المقوّماتِ ما يكفي لأن تكونَ قوةً اقتصاديةً إقليمية مؤثرة، إن اختارت هذا الطريق، لكن ذلك لن يتحقق من دون مراجعةٍ داخلية عميقة، ومن دون إعادةِ تعريفٍ لمعنى «القوة» في خطابها السياسي.
وقفُ الحرب، كمَا أعلنه ترمب يومَ الاثنين الماضي، ليس انتصاراً لأي طرفٍ، بقدرِ ما هو لحظة اختبار، فإمَّا أن تستثمرَها طهران كبدايةٍ لتحول هادئ نحو الداخل، وإما أن تظلَّ عالقةً في دوائر التصعيد والتراجع، والانكفاء والتوجّس من كلّ ما هو خارجيٌّ وداخليٌّ على حدّ سواء، وأمامَ هذا المفترق، لا يقاس وزنُ الدولِ بعدد الصواريخ الباليستيةِ، بل بمدَى امتلاكِها الرؤية، وقدرتِها على صناعة الأمل.
صحيح أنَّ الثورةَ الإيرانية صمدت 46 عاماً، لكن ما شهدته المنطقة في العامين الماضيين من ضرباتٍ مزلزلة لمشاريعها التوسعية أظهر أنَّ هذا الصمودَ بدأ يتحوَّل إلى عبء، وما تبقَّى من الثورة، يؤمل أن يُترجمَ إلى مشروع بناء، لا إلى مزيدٍ من الحصار والتوجّس، فالدّولُ اليوم تُقاس بما تحقّقه لشعوبِها... لا بمَا تخيفُ به الآخرين.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


أرقام
منذ 20 دقائق
- أرقام
الخارجية الإيرانية: التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية مُعلَّق ولم يُنهَ
أكدت وزارة الخارجية الإيرانية أن لطهران الحق الكامل في استخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية. وأشارت إلى أن التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد تم تعليقه وليس إنهاؤه، مضيفة: "هناك فرق كبير بين الأمرين"، حسبما نقلت "الشرق بلومبرج".


عكاظ
منذ 25 دقائق
- عكاظ
الذهب يصعد مع ترقب الأسواق قرارات الفيدرالي وتطورات الشرق الأوسط
شهدت أسعار الذهب ارتفاعاً طفيفاً خلال جلسة التداول اليوم (الخميس)، مدعومةً بتراجع الدولار إلى أدنى مستوياته منذ مارس 2022، وتزايد القلق حيال التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط واستقلالية مجلس الاحتياطي الفيدرالي. ووفقاً لتقرير نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال»، يدرس الرئيس الأمريكي دونالد ترمب اختيار بديل لرئيس الفيدرالي جيروم باول في وقت مبكر خلال سبتمبر أو أكتوبر، ما أثار مخاوف بشأن تأثير ذلك على استقلالية البنك المركزي. ووصف ترمب باول بـ«البغيض»، مشيراً إلى أنه ينظر في 3 أو 4 مرشحين لخلافته، ما عزز جاذبية الذهب كملاذ آمن في ظل حالة عدم اليقين. في الوقت ذاته، ساهم تراجع الدولار في جعل الذهب، المسعر بالعملة الأمريكية، أكثر جاذبية للمستثمرين الذين يحملون عملات أخرى. وانخفض مؤشر «بلومبيرغ» للدولار بنسبة 0.3%، مسجلاً أدنى مستوى له منذ أبريل 2022، مع تراجع الدولار أمام الين الياباني وعملة تايوان. كما هبطت عوائد سندات الخزانة الأمريكية لأجل 10 سنوات إلى 4.27%، ما عزز توقعات خفض أسعار الفائدة في وقت أقرب مما كان متوقعاً. وعلى صعيد التوترات الإقليمية، أشاد ترمب خلال قمة حلف شمال الأطلسي بوقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران، الذي استمر 12 يوماً، معبراً عن عزمه التفاوض مع إيران لإنهاء طموحاتها النووية خلال الأسبوع المقبل. ومع ذلك، لا تزال الأسواق تترقب بيانات الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي وبيانات نفقات الاستهلاك الشخصي المقرر صدورها اليوم وغداً. وفي الأسواق، ارتفعت العقود الآجلة للذهب بنسبة 0.1% إلى 3347 دولاراً للأونصة، بينما زاد سعر التسليم الفوري بنسبة أقل من 0.1% إلى 3334.46 دولار. وفي سياق آخر، ارتفعت أسعار النفط لليوم الثاني، وسط متابعة المستثمرين تطورات وقف إطلاق النار في الشرق الأوسط. أخبار ذات صلة


الاقتصادية
منذ 26 دقائق
- الاقتصادية
أسهم أوروبا تصعد مع صمود وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران
ارتفعت الأسهم الأوروبية اليوم الخميس مدعومة بمؤشرات على أن وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران يبدو صامدا، في حين أثارت انتقادات وجهها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب لرئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي الأمريكي) المخاوف إزاء استقلالية البنك المركزي. وبحلول الساعة (07:07) بتوقيت جرينتش، ارتفع مؤشر ستوكس 600 الأوروبي 0.3 % إلى 538.75 نقطة. كما ارتفعت مؤشرات رئيسية أخرى في أوروبا. ووصف ترمب أمس الأربعاء رئيس مجلس الاحتياطي جيروم باول بأنه "فظيع" وقال إن لديه 3 أو 4 أشخاص في ذهنه كمنافسين على أعلى منصب في البنك المركزي. وذكرت صحيفة وول ستريت جورنال أن ترمب ألمح إلى تعيين بديل لباول في سبتمبر أو أكتوبر. وعادت سياسات ترمب الفوضوية المتعلقة بالرسوم الجمركية إلى دائرة الضوء مرة أخرى مع اقتراب الموعد النهائي الذي حدده في التاسع من يوليو لإبرام اتفاقيات تجارية. ويبلغ قادة دول الاتحاد الأوروبي اليوم الخميس المفوضية الأوروبية برأيهم بشأن حل مسألة الرسوم الجمركية مع الولايات المتحدة وما إذا كانوا يفضلون إبرام اتفاق تجاري سريع يضمن لواشنطن شروطا أفضل لصالحها أو تصعيد النزاع على أمل الوصول إلى ما هو أفضل لهم. وفي الوقت نفسه، وعلى الساحة العالمية، قال ترمب أمس الأربعاء إنه سيسعى على الأرجح للحصول على التزام من إيران بإنهاء طموحاتها النووية في محادثات خلال الأسبوع المقبل. وقادت أسهم شركات التعدين الأوروبية مكاسب القطاعات الفرعية، إذ صعد مؤشر القطاع 1.1 بالمئة، وارتفع مؤشر قطاع المرافق 0.8 %. وارتفع سهم شركة إتش آند إم 5.3 % بعد أن أعلنت شركة الأزياء السويدية تحقيق أرباح أعلى قليلا في الربع الثاني من العام.