
عشرات النسخ من حكاية فاوست أفضلها بطل غوته المدهش
هناك بالطبع، وفي المكان الأول في تاريخ الأدب، مسرحية "فاوست" كما كتبها الألماني الكبير وولفغانغ غوته (1749-1832) في عام 1806 ليستكملها في قسم ثان بعد ذلك بأكثر من ربع قرن فتكون خاتمة ما كتب. وتعد "فاوست" غوته واحداً من أعظم النصوص الإبداعية التي كتبت في اللغة الألمانية. وهناك إلى هذا العمل عدد لا يحصى من نصوص فاوستية تواصل صدورها في القرن الـ20 مع توماس مان أو بول فاليري وعديد غيرهم وهي نصوص حازت دائماً شهرة ومكانة كبيرين في تاريخ الفكر والأدب. ولكن هناك أيضاً "فاوست" على شكل مسرحية تعود تاريخياً إلى عام 1588 بمعنى أنها سبقت معظم النصوص المتحدثة عن "فاوست" وربما ليس تاريخياً فقط. ومسرحية "فاوست" التي نشير إليها هنا، هي بالطبع تلك المسرحية التي تتوسط، زمنياً، أعمال الشاعر والكاتب الإنجليزي توماس مارلو الذي نعرف على أية حال أنه لم يعش سوى 29 سنة كان خلالها كاتباً غزير الإنتاج و... منافساً رئيساً لـ...شكسبير بل غريماً له. وربما قبل الدخول في حديثنا عن "فاوست" مارلو، يجدر بنا أن ننتهز المناسبة لمحاولة الإجابة عن سؤال كثيراً ما طرح من قبل الدارسين والمؤرخين: لماذا لم يكرس شكسبير مسرحية لفاوست، هو الذي تنوعت مسرحياته وتوسعت موضوعاته لتشمل ما استعاره من عدد كبير من التواريخ والبلدان؟ ولعل الجواب يكون أن شكسبير حين وجد نفسه مهتماً بفاوست وأراد الكتابة عنه، اكتشف أن مارلو قد سبقه إلى ذلك. فالواقع أن حكاية فاوست الحقيقية التي كانت نشرت في اللغة الألمانية لم تعرف في بريطانيا حيث ترجم ذلك الكتاب الأساس عنها إلا في عام 1592 أي بعد ما لا يقل عن ثلاثة أعوام من اطلاع مارلو على الحكاية في مخطوط مبكر كما يبدو، وكتابته مسرحية عنها ربما تكون من أول ما عرف أوروبياً خارج ألمانيا، من مسرحيات عن تلك الشخصية المدهشة.
شخصية أكثر تجوالاً
طبعاً لا يمكن لأحد أن يزعم هنا أن فاوست مارلو يمكنه أن يبدو أكثر عمقاً من قرينه لدى غوته، فهذا الأخير تمكن في قسمي مسرحيته الخالدة من أن يبني واحدة من الشخصيات الأكثر هندسة فكرياً في تاريخ الأدب العالمي، بل ربما الشخصية الإنسانية الأكثر جدارة بهذا التوصيف، إذا اقتبسنا ما أجمع عليه باحثون ومؤرخون، استهواهم دائماً بناء غوته وفكره المحكم وتعمقه حتى في التاريخ المدون للقصة الحقيقية التي منها أتت تلك الشخصية في تاريخ الفكر. ومع ذلك يمكن التوقف طويلاً عند الشخصية التي قدمها مارلو في مسرحيته وعنوانها "حكاية الدكتور فاوست الفجائعية". فهي، وربما يبدو هذا غريباً بالنسبة إلى شخصية مسرحية بنيت في العهد الإليزابيثي البريطاني، شخصية تتجاوز ومن بعيد السمات المحلية، ونكاد نقول، الفولكلورية الألمانية، التي تطبع ليس فقط الشخصية كما بناها غوته، بل كل الفاوستات التي صورت على مدى تاريخ الأدب ودائماً استناداً إلى فاوست "الحقيقي" الذي تقول لنا الحكاية إنه قد وجد وعاش حقاً قبل انتشار حكايته بأزمنة طويلة. وهو أمر يمكن بسهولة أن يستشف من خلال تلخيص ما تحمله مسرحية مارلو من أحداث قد تبدو في ظاهرها مماثلة للأحداث الفاوستية المعروفة بصورة عامة. ففي نص الشاعر الإنجليزي الشاب والمكتوب في مزيج من الشعر والنثر، يطالعنا الدكتور فاوست بوصفه أعظم عالم لاهوت عرفته المنطقة، التي يعيش فيها ناهيك بأن أحداً لا يمكنه أن يدانيه في قدرته على الجدل والتعمق في الفكر، وما من أحد يمكنه أن يدنو منه في الفهم واستخدام العقل، غير أنه لا يريد أن يكتفي بذلك، بل يتطلع دائماً إلى اكتساب مزيد من الفنون والمعارف، وصولاً إلى امتلاك قدرات سحرية لم تتح لإنسان من قبله. وهو يجد لزاماً عليه للبدء في السعي حقاً إلى ذلك أن يتخلى عن إيمان جدوده وأسلافه، والانطلاق بالتالي للحصول على عون أكيد من الشيطان مفيستوفيليس، مستعيناً في ذلك بالشيطان الأصغر لوسيفر. وبالفعل يصل مع هذا الأخير إلى اتفاق على شكل رهان يوقع عليه بدمه وسيكون ملزماً له. وينص الاتفاق على أن يحصل فاوست على 24 عاماً إضافياً سيعيشها مهما كانت عليه الأمور، لكنه لن يحصل من بعدها ولو على ثانية إضافية. وخصوصاً أن روحه عند موته ستصبح تلقائياً ملكاً للشيطان.
جولات وانتصارات
صحيح أن 24 سنة تعد مدة كافية بالنسبة إلى فاوست كي يحقق رغباته المعرفية وأحلام العظمة الخاصة به، لكنه وبالنظر إلى طموحه الذي لا يحد، يبدأ بالسعي راكضاً من فضاء إلى آخر لتحقيق كل ما يتطلع إليه، مروراً بمشاريع فكرية وحياتية تجعل منه الرجل الأقوى والأشهر في العالم. وهنا إذ يتنبه ملاك الخير لما يحدث لفاوست والمجازفات التي يتعرض لها، يشفق عليه ويحاول أن ينقذه من رهانه القاتل، فيخوض من أجله صراعات حادة مع ملاك الشر الذي يحضه على المزيد والمزيد، لكن الملاك الطيب يفشل في مهمته التي يحاول فيها إعادة فاوست إلى الصراط المستقيم. أما هذا الأخير فإنه يبدأ حينها تجوالات أوروبية تقوده إحداها إلى روما حيث يتمكن حتى من التلاعب بالكرادلة وكبار المسؤولين في الفاتيكان، كي يتمكن من إنقاذ بابا مزيف يدعى برونو كان قد قبض عليه. ولسوف نراه إثر ذلك، في ألمانيا، حيث يقدم في القصر الإمبراطورية عروضات تنم عن قدراته السحرية. وهو في خضم ذلك كله، يجد نفسه قادراً على خداع كل من هم حوله في وقت لا يقدر فيه أي من هؤلاء على مجابهته. فبكلمة أو نظرة منه، وبفضل قدراته الخارقة، يمكنه أن يسكت أي صوت بل أن يقتل وبإشارة خفية منه، أي شخص يحاول التصدي له.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولئن تطلع كثر من خصومه إلى قتله فإن ذلك مستحيل لأنه ضامن أن يعيش طوال السنوات التي ينص عليها رهانه. وفي المقابل إذا كان فاوست الآخر، فاوست غوته وغيره، مغرماً بمرغريت، يبدو فاوست مارلو هنا تواقاً إلى قبلة من هيلينا، تلك المرأة الإغريقية التي من أجلها اندلعت حروب طروادة. وها هو ذات لحظة يغني لها تلك الأغنية التي باتت شهيرة في إنجلترا منذ ذلك الحين ويقول فيها، "أوليس هذا هو الوجه الذي يمكنه عبر البحار أن يطلق ألف سفينة وسفينة؟". ولكن عند تلك اللحظة بالذات وقبل أن يصل فاوست إلى هدفه الأسمى ذاك تكون ساعته قد حلت ووصل إلى نهايته. لقد حلت الساعة التي كان يخافها إنما من دون أن يحسب لها حساباً... صحيح أنه يعتقد الآن أنه في مقدوره أن يؤجل ساعته لكنه الأمر الوحيد الذي يكتشف عنه عاجز عنه. وهكذا تحل نهايته وينتهي معه كل ذلك الجهد الذي بذل في سبيله السنوات الـ24 الأخيرة من حياة عاشها من أجل العلم. ولكن هل حقاً من أجل العلم أم من أجل هدف في التجاوز لا يكف عن أن يموت، لدى غوته كما لدى مارلو ولدى كل من دنا حق من هذه الحكاية الأخاذة. هدف لا يزال الإنسان يضعه نصب عينيه ويعقد من أجله تلك الاتفاقات والرهانات موقعاً عليها بدمه...؟

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


Independent عربية
منذ 6 أيام
- Independent عربية
عشرات النسخ من حكاية فاوست أفضلها بطل غوته المدهش
هناك بالطبع، وفي المكان الأول في تاريخ الأدب، مسرحية "فاوست" كما كتبها الألماني الكبير وولفغانغ غوته (1749-1832) في عام 1806 ليستكملها في قسم ثان بعد ذلك بأكثر من ربع قرن فتكون خاتمة ما كتب. وتعد "فاوست" غوته واحداً من أعظم النصوص الإبداعية التي كتبت في اللغة الألمانية. وهناك إلى هذا العمل عدد لا يحصى من نصوص فاوستية تواصل صدورها في القرن الـ20 مع توماس مان أو بول فاليري وعديد غيرهم وهي نصوص حازت دائماً شهرة ومكانة كبيرين في تاريخ الفكر والأدب. ولكن هناك أيضاً "فاوست" على شكل مسرحية تعود تاريخياً إلى عام 1588 بمعنى أنها سبقت معظم النصوص المتحدثة عن "فاوست" وربما ليس تاريخياً فقط. ومسرحية "فاوست" التي نشير إليها هنا، هي بالطبع تلك المسرحية التي تتوسط، زمنياً، أعمال الشاعر والكاتب الإنجليزي توماس مارلو الذي نعرف على أية حال أنه لم يعش سوى 29 سنة كان خلالها كاتباً غزير الإنتاج و... منافساً رئيساً لـ...شكسبير بل غريماً له. وربما قبل الدخول في حديثنا عن "فاوست" مارلو، يجدر بنا أن ننتهز المناسبة لمحاولة الإجابة عن سؤال كثيراً ما طرح من قبل الدارسين والمؤرخين: لماذا لم يكرس شكسبير مسرحية لفاوست، هو الذي تنوعت مسرحياته وتوسعت موضوعاته لتشمل ما استعاره من عدد كبير من التواريخ والبلدان؟ ولعل الجواب يكون أن شكسبير حين وجد نفسه مهتماً بفاوست وأراد الكتابة عنه، اكتشف أن مارلو قد سبقه إلى ذلك. فالواقع أن حكاية فاوست الحقيقية التي كانت نشرت في اللغة الألمانية لم تعرف في بريطانيا حيث ترجم ذلك الكتاب الأساس عنها إلا في عام 1592 أي بعد ما لا يقل عن ثلاثة أعوام من اطلاع مارلو على الحكاية في مخطوط مبكر كما يبدو، وكتابته مسرحية عنها ربما تكون من أول ما عرف أوروبياً خارج ألمانيا، من مسرحيات عن تلك الشخصية المدهشة. شخصية أكثر تجوالاً طبعاً لا يمكن لأحد أن يزعم هنا أن فاوست مارلو يمكنه أن يبدو أكثر عمقاً من قرينه لدى غوته، فهذا الأخير تمكن في قسمي مسرحيته الخالدة من أن يبني واحدة من الشخصيات الأكثر هندسة فكرياً في تاريخ الأدب العالمي، بل ربما الشخصية الإنسانية الأكثر جدارة بهذا التوصيف، إذا اقتبسنا ما أجمع عليه باحثون ومؤرخون، استهواهم دائماً بناء غوته وفكره المحكم وتعمقه حتى في التاريخ المدون للقصة الحقيقية التي منها أتت تلك الشخصية في تاريخ الفكر. ومع ذلك يمكن التوقف طويلاً عند الشخصية التي قدمها مارلو في مسرحيته وعنوانها "حكاية الدكتور فاوست الفجائعية". فهي، وربما يبدو هذا غريباً بالنسبة إلى شخصية مسرحية بنيت في العهد الإليزابيثي البريطاني، شخصية تتجاوز ومن بعيد السمات المحلية، ونكاد نقول، الفولكلورية الألمانية، التي تطبع ليس فقط الشخصية كما بناها غوته، بل كل الفاوستات التي صورت على مدى تاريخ الأدب ودائماً استناداً إلى فاوست "الحقيقي" الذي تقول لنا الحكاية إنه قد وجد وعاش حقاً قبل انتشار حكايته بأزمنة طويلة. وهو أمر يمكن بسهولة أن يستشف من خلال تلخيص ما تحمله مسرحية مارلو من أحداث قد تبدو في ظاهرها مماثلة للأحداث الفاوستية المعروفة بصورة عامة. ففي نص الشاعر الإنجليزي الشاب والمكتوب في مزيج من الشعر والنثر، يطالعنا الدكتور فاوست بوصفه أعظم عالم لاهوت عرفته المنطقة، التي يعيش فيها ناهيك بأن أحداً لا يمكنه أن يدانيه في قدرته على الجدل والتعمق في الفكر، وما من أحد يمكنه أن يدنو منه في الفهم واستخدام العقل، غير أنه لا يريد أن يكتفي بذلك، بل يتطلع دائماً إلى اكتساب مزيد من الفنون والمعارف، وصولاً إلى امتلاك قدرات سحرية لم تتح لإنسان من قبله. وهو يجد لزاماً عليه للبدء في السعي حقاً إلى ذلك أن يتخلى عن إيمان جدوده وأسلافه، والانطلاق بالتالي للحصول على عون أكيد من الشيطان مفيستوفيليس، مستعيناً في ذلك بالشيطان الأصغر لوسيفر. وبالفعل يصل مع هذا الأخير إلى اتفاق على شكل رهان يوقع عليه بدمه وسيكون ملزماً له. وينص الاتفاق على أن يحصل فاوست على 24 عاماً إضافياً سيعيشها مهما كانت عليه الأمور، لكنه لن يحصل من بعدها ولو على ثانية إضافية. وخصوصاً أن روحه عند موته ستصبح تلقائياً ملكاً للشيطان. جولات وانتصارات صحيح أن 24 سنة تعد مدة كافية بالنسبة إلى فاوست كي يحقق رغباته المعرفية وأحلام العظمة الخاصة به، لكنه وبالنظر إلى طموحه الذي لا يحد، يبدأ بالسعي راكضاً من فضاء إلى آخر لتحقيق كل ما يتطلع إليه، مروراً بمشاريع فكرية وحياتية تجعل منه الرجل الأقوى والأشهر في العالم. وهنا إذ يتنبه ملاك الخير لما يحدث لفاوست والمجازفات التي يتعرض لها، يشفق عليه ويحاول أن ينقذه من رهانه القاتل، فيخوض من أجله صراعات حادة مع ملاك الشر الذي يحضه على المزيد والمزيد، لكن الملاك الطيب يفشل في مهمته التي يحاول فيها إعادة فاوست إلى الصراط المستقيم. أما هذا الأخير فإنه يبدأ حينها تجوالات أوروبية تقوده إحداها إلى روما حيث يتمكن حتى من التلاعب بالكرادلة وكبار المسؤولين في الفاتيكان، كي يتمكن من إنقاذ بابا مزيف يدعى برونو كان قد قبض عليه. ولسوف نراه إثر ذلك، في ألمانيا، حيث يقدم في القصر الإمبراطورية عروضات تنم عن قدراته السحرية. وهو في خضم ذلك كله، يجد نفسه قادراً على خداع كل من هم حوله في وقت لا يقدر فيه أي من هؤلاء على مجابهته. فبكلمة أو نظرة منه، وبفضل قدراته الخارقة، يمكنه أن يسكت أي صوت بل أن يقتل وبإشارة خفية منه، أي شخص يحاول التصدي له. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) ولئن تطلع كثر من خصومه إلى قتله فإن ذلك مستحيل لأنه ضامن أن يعيش طوال السنوات التي ينص عليها رهانه. وفي المقابل إذا كان فاوست الآخر، فاوست غوته وغيره، مغرماً بمرغريت، يبدو فاوست مارلو هنا تواقاً إلى قبلة من هيلينا، تلك المرأة الإغريقية التي من أجلها اندلعت حروب طروادة. وها هو ذات لحظة يغني لها تلك الأغنية التي باتت شهيرة في إنجلترا منذ ذلك الحين ويقول فيها، "أوليس هذا هو الوجه الذي يمكنه عبر البحار أن يطلق ألف سفينة وسفينة؟". ولكن عند تلك اللحظة بالذات وقبل أن يصل فاوست إلى هدفه الأسمى ذاك تكون ساعته قد حلت ووصل إلى نهايته. لقد حلت الساعة التي كان يخافها إنما من دون أن يحسب لها حساباً... صحيح أنه يعتقد الآن أنه في مقدوره أن يؤجل ساعته لكنه الأمر الوحيد الذي يكتشف عنه عاجز عنه. وهكذا تحل نهايته وينتهي معه كل ذلك الجهد الذي بذل في سبيله السنوات الـ24 الأخيرة من حياة عاشها من أجل العلم. ولكن هل حقاً من أجل العلم أم من أجل هدف في التجاوز لا يكف عن أن يموت، لدى غوته كما لدى مارلو ولدى كل من دنا حق من هذه الحكاية الأخاذة. هدف لا يزال الإنسان يضعه نصب عينيه ويعقد من أجله تلك الاتفاقات والرهانات موقعاً عليها بدمه...؟


الوطن
١٢-٠٥-٢٠٢٥
- الوطن
سدد وقارب
تأمل الفيلسوف الشاب الذي يعلن بثقة، «أن تكون أو لا تكون، تلك هي المسألة»، بينما يناقش أحدث صيحات «تيك توك». قد يتساءل المرء ما إذا كان شكسبير قد تخيل يومًا أن تأملاته الوجودية ستستخدم لتبرير تحدي رقص! ومع ذلك، نحن هنا، نعيش في زمن تُنتزع فيه الاقتباسات من حدائقها الأدبية وتُلقى حولها كالألعاب النارية في موكب، مُجردة من جذورها ومعانيها. في عالم حيث الحكمة مجرد نقرة بعيدة، أتقن شباب اليوم فن السطحية. لقد ولت الأيام التي كانت تتطلب فيها المعرفة قراءة عميقة وتفكيرًا نقديًا. بدلًا من ذلك، نعيش في عصر أصبح فيه الاقتباس من العظماء رياضة تنافسية، حتى لو كان السياق مفقودًا كما تضيع الجوارب في غياهب الغسالة. لحظة يجب ألّا ننسى وليمة الأخطاء الإملائية! اليوم، يستخرج الشباب هواتفهم، ويكتبون بسرعة، لكن بنتائج محبطة: مثلًا، كلمة «تلعن» بدلًا من «تعلن» و«يشتعل» بدلًا من «يشتغل»، و«بالتأكيد» غالبًا ما تُكتب «بالتأكييد» - وهو مصطلح يبدو أنه يحدد نهج جيل كامل تجاه اللغة: سدد وقارب! ثم تخيل نقاشًا حادًا حول تغير المناخ، حيث يصر أحد الشباب، أن «العالم في حالة احتراق، وعلينا أن نتصرف الآن!» ليُتبعه باقتباس يُنسب إلى ألبرت أينشتاين: «الخيال أهم من المعرفة»، رائع! إلا أنه، كما يتضح، يتم غالبًا نسب هذا الاقتباس بشكل خاطئ، لكن من يحتاج إلى الدقة عندما تكون في ذروة الحماس؟ في هذا العالم الجديد الجريء يجب أن تكون المعرفة بسيطة وواضحة وسهلة الهضم - مثل الوجبات السريعة للعقل! حقًا لماذا نقرأ نصًا فلسفيًا كثيفًا بينما يمكننا مشاهدة ملخص على يوتيوب لمدة خمس دقائق؟! لقد حُلت متعة التفكير العميق بمتعة مشاهدة فيديوهات «أفضل 10 اقتباسات من المفكرين المشهورين»، على أي حال من يحتاج إلى مواجهة نقد العقل الخالص لكانط عندما يمكنك اقتباسه خارج السياق لتبدو ذكيًا؟ وهنالك الباحث السطحي؛ وهو الطالب المزود بهاتفه الذكي، الذي يعلن وبكل فخر، «قرأت الكتاب كاملًا!» ليظهر لاحقًا أنه شاهَد سلسلة من مقاطع «تيك توك» تلخص المحتوى، نعم يستطيع سرد المصطلحات الرئيسية لكنه بالوقت نفسه يجد صعوبة في الانخراط في مناقشة ذات معنى. هذه هي النتيجة: مفكر جديد وجريء، لكن ما الثمن؟! على الطلاب أن يسعوا لخلق روابط بين الأفكار وفهم السياقات التي تأتي منها؛ وهذا يعني أنه يجب عليهم قراءة المرجع الأصلي بالكامل بدلًا من الاكتفاء بمقاطع أو آراء الآخرين، إن الفهم العميق يتطلب التفكير النقدي والمناقشة، ما يعزز قدرة الفرد على استخدام المعرفة بشكل فعال، فعندما يقرأ الطلاب النصوص الأصلية، يتمكنون من فهم المعاني الدقيقة والارتباطات الثقافية والتاريخية التي تحملها، مما يجعلهم أكثر قدرة على الانخراط في حوارات ذات مغزى. لقد شملت المناهج الدراسية السابقة طيفًا واسعًا من المواد الدراسية، ما شجع على التنمية الشاملة. أما اليوم، فهناك توجه نحو المعرفة المتخصصة، مما قد يحد أحيانًا من التعمق في مجالات متنوعة، كما يحد أيضًا دمج المواد الدراسية من اطّلاع الطلاب على نطاق واسع من المعرفة، وهو أمر بالغ الأهمية لتنمية أفراد متكاملين؛ فالمنهج الدراسي المتنوع يشجع على التفكير النقدي والإبداع، بينما تكثيف المواد الدراسية لجعلها أسهل استيعابًا، قد يؤدي إلى فهم سطحي للمواضيع المعقدة وغالبًا ما يُضحى بعمق المعرفة من أجل الإيجاز. نعم لقد سعت الدراسات التربوية للتركيز على بيئات التعلم المبتكرة كما أكدت على تفعيلها، إلا أنها يجب أن تُكمّل منهجًا دراسيًا قويًا يُقدّر كلًا من الاتساع والعمق في التعليم، كما أنه وعلى الرغم من الجهود المبذولة لتعزيز التفكير النقدي، فلا يزال العديد من الطلاب يجدون صعوبة في تطبيق هذه المهارات بفعالية في سياقات العالم الحقيقي؛ بمعنى بدلًا من الاعتماد على معلومات سريعة وسطحية، ينبغي عليهم أن يأخذوا الوقت اللازم لاستكشاف الأفكار بشكل شامل، مما يساعدهم على تطوير مهارات التفكير النقدي وفهم أعمق للموضوعات المطروحة. بينما نتخبط بعيدًا في هذا البحر من السطحية، من الضروري أن ندرك تأثير ذلك على الأجيال القادمة، لقد أصبحت المعرفة عبارة عن سلسلة من العبارات القصيرة، خالية من العمق والدقة وأصبح فن التفكير النقدي، الذي كان يُحترم في الماضي، الآن قطعة أثرية، مظللة بضغط الاستهلاك الرقمي. إلى أين نحن ذاهبون؟ بتنا نقرأ اقتباسا من شكسبير وسط منافسة رقص على «تيك توك»! دعونا نترحم على أيام كانت النصيحة بـ«جمل» الذي تحول على أيدي أصحاب «سدد وقارب» إلى «حمل» وربما «عمل» أو «قمل» معشش في رؤوس الفصحاء الجدد! لنساعد جيل اليوم والغد ببدء البحث عن الحلول بأنفسنا. هذه الحلول مدفونة بين الأرفف التي تغشاها الغبار والأتربة. هل نحن جادون في سعينا نحو المعرفة، أم سننتظر الحلول تأتي من أولئك الذين يروجون لمقاطع مثل: «هذا موضوع خطير أريد أن أحدثكم عنه اليوم، لذا لا تنسوا أن تضغطوا على زر الإعجاب والمتابعة»؟ إن الوقت قد حان لنخرج من حالة التراخي ونستعيد شغف التعلم، إن المعرفة ليست مجرد معلومات سريعة تُستهلك، بل هي كنز يحتاج إلى جهد وعناية. فلنبدأ في البحث، في القراءة، وفي الفهم، حتى نتمكن من بناء مستقبل يليق بنا، ويضمن لأبنائنا جيلًا واعيًا قادرًا على التمييز بين الحقائق والأوهام، بعيدًا عن ضوضاء السطحية. إن لم نتحرك نحو التفكير النقدي، فقد نفقد القدرة على التمييز بين الحقيقة والخيال! يجب أن نستعيد قدرتنا على التفكير بعمق، وأن نقدر المعرفة كشيء يتطلب الجهد والوقت، وليس مجرد معلومات سريعة ! فلنبدأ بالتفكير مرة أخرى، ولنُعطِ الأفكار قيمة أكبر من مجرد كونها أدوات ترفيهية توزع كوجبات «تيك أوي» على صفحات السوشال ميديا.


الرياض
١٠-٠٥-٢٠٢٥
- الرياض
الحب والفراق.. وكلمات شكسبير
الحب من أسمى المشاعر الإنسانية، وقد عبر عنه العديد من الشعراء والكتاب على مر العصور. ومن بين هؤلاء، يبرز الشاعر الإنجليزي وليام شكسبير، الذي قدم لنا تأملات عميقة حول الحب والفراق. في قوله: "إذا قررت أن تترك حبيبا أو صديقا فلا تترك له جرحا"، يضع شكسبير أمامنا مبدأ إنسانياً راقياً: أن الحب الحقيقي لا يترك آثاراً سلبية في قلوب الآخرين، بل يسعى دائماً للحفاظ على الذكريات الجميلة. والحب ليس مجرد شعور عابر، بل هو علاقة نبيلة تتطلب الاحترام والتفاهم.. عندما نحب، نفتح قلوبنا ونستقبل شخصاً آخر في عالمنا. هذا الشخص يصبح جزءاً من حياتنا، ونبني معه ذكريات جميلة قد تبقى معنا طوال العمر. لذا، عندما يأتي وقت الفراق، يصبح من الضروري أن نكون حذرين في كيفية إنهاء تلك العلاقة. فكما يقول شكسبير، (من أعطانا قلبا لا يستحق منا أن نغرس فيه سهما). وهذا يشير إلى أهمية التعامل مع من نحب برفق ورعاية، حتى في الأوقات الصعبة. والفراق هو جزء من الحياة، ولا مفر منه. قد يحدث لأسباب مختلفة، سواء كانت ظروف الحياة، أو الاختلافات الشخصية، أو حتى تغييرات في المشاعر. ومع ذلك، يجب أن نتذكر أن الفراق لا يعني بالضرورة أن تنتهي الذكريات الجميلة. بل، يجب أن نستثمر في تلك اللحظات، ونحتفظ بها ككنوز في قلوبنا. كما يقول شكسبير: (ما أجمل أن تبقى في روحيكما دائماً لحظات الزمن الجميل). هذه اللحظات هي ما يمكن أن يعزينا في الأوقات الصعبة، وتساعدنا على المضي قدماً. وعندما نفكر في من نحب، من المهم أن نتذكر أن المشاعر الصادقة هي التي تعطي للحب قيمته الحقيقية. قد تكون هناك لحظات من الألم والفراق، لكن تلك اللحظات لا تعني أننا يجب أن نتذكر الألم فقط. بدلاً من ذلك، يجب أن نتذكر كل إحساس صادق مررنا به مع من أحببنا. هذه المشاعر، سواء كانت فرحا أو حزنا تشكل جزءاً من تجربتنا الإنسانية، وتجعلنا نتعلم ونتطور … ويُظهر لنا وليام شكسبير في مسرحياته أن الحب والفراق هما وجهان لعملة واحدة. إن الحب يتطلب منا أن نكون أكثر طيبة ورقة، حتى عندما نواجه صعوبات الفراق. يجب أن نحتفظ بالذكريات الجميلة ونعبر عن مشاعرنا بصدق، لأن هذا هو ما يجعلنا بشراً. فالحب هو ما يربطنا ببعضنا، حتى في أوقات الفراق.. لذا، دعونا نتذكر دائماً أن نترك أثر الحب في قلوب الآخرين، بدلاً من أن نغرس فيهم سهام الألم.