logo
كاتب تركي: هل تستطيع أنقرة قيادة نظام عالمي جديد مبني على قيم الإسلام؟

كاتب تركي: هل تستطيع أنقرة قيادة نظام عالمي جديد مبني على قيم الإسلام؟

الجزيرة١٤-٠٤-٢٠٢٥

يرى الكاتب إحسان أكتاش أن تركيا ، بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان يمكنها أن تقود نظاما عالميا جديدا قائما على مفهوم العدالة الإسلامية، في ظل تآكل النظام العالمي الحالي الذي تأسس في جوهره على قيم غربية مادية استبدادية، فشلت في طرح حلول للأزمات التي تعصف بالعالم اليوم.
وفي مقال نشرته صحيفة "يني شفق" التركية، يقول الكاتب: إن أزمة الإنسانية الكبرى ظلّت محل نقاش منذ بداية الحقبة الاستعمارية، وهي في جوهرها أزمة حضارية، إذ تحدّى النموذجُ الحداثيّ هيمنة المسيحية في العصور الوسطى، وأسّس لعالم منزوع المرجعية.
نظام غربي ظالم
وحسب الكاتب، فإن هذا العالم الجديد قام على تصوّر يجعل من الإنسان إلها، إنسان لا يقدر على كبح جماح طمعه ولا يشبع من الغزو والاستعمار، فنتج عن ذلك تقسيم جوهري لشعوب الأرض إلى فئتين: مستعمِرون غربيون متوحشون، ومستَعمَرون يقبعون تحت نير الاستغلال.
وأضاف الكاتب، أن هذا التقسيم الطبقي الذي نشأ بين "الغرب وبقية شعوب العالم" أدى إلى زعزعة عميقة لمبدأ العدالة على وجه الأرض، فقد استحوذت طبقة تمثل 5% فقط من سكان العالم على ثروات الكوكب، بينما استُعبد بقية البشر كعبيد لهذه الثروات.
ويتابع إن قوى اليسار والاشتراكية حاولت في فترة ما مقاومة هذا الاختلال الفادح في الموازين، إلا أن الغرب استطاع التغطية على إرثه الاستعماري من ستينيات القرن الماضي وحتى هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001.
وأوضح أن الغرب غطى على إرثه الاستعماري بشعارات مثل الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وحقوق الأفراد، وحقوق المرأة، وحماية البيئة، إلا أن نهاية الحرب الباردة -وفقا للكاتب- كشفت عجز المنظومة اليسارية، التي كانت جزءا من النظام الغربي، عن تقديم حل حقيقي لأزمة الإنسانية الكبرى.
ويرى الكاتب أن عالم اليوم، تكفي فيه كلمة واحدة من رئيس الولايات المتحدة لتغيير مصير ملايين البشر، في حين أن القوى المناهضة مثل الصين وغيرها لا تملك ما تقدمه للبشرية سوى مظاهر التقدّم المادي، دون طرح بديل حضاري حقيقي.
بين الإسلام والغرب
ويستمر أكتاش: إن العناية الإلهية تبعث، كلما واجهت البشرية أزمة كبرى، عبر التاريخ، نبيا يُعيد صياغة العقيدة المفككة والمفاهيم المنحرفة، ويصلح الفساد الذي بلغ مداه.
وعندما جاء الإسلام، بدأ أولا بإعادة تشكيل العقيدة بالتوحيد، ثم جسّد النبي محمد ﷺ هذا التغيير على أرض الواقع في حياته الشخصية، واضعا نموذجا متكاملا لحياة إنسانية فاضلة شملت الأخلاق الفردية، والعدل، وتأسيس نظام دولة يضمن للناس العيش بطمأنينة من الألف إلى الياء.
ويضيف الكاتب أن دولة الإسلام، بعد أن توسعت إلى ما وراء النهر وبغداد خلال القرن الهجري الأول، ازدادت قوة وأصبحت حضارة عظيمة. وعلى امتداد القرون اللاحقة، أصبحت إمبراطوريات المسلمين، القوة المهيمنة في العالم.
ويتابع الكاتب: إن الحضارة الإسلامية امتدت عبر إمبراطوريات وشعوب متنوعة، ووصلت إلى حدود فرنسا من جهة الغرب، وشملت ألمانيا، وصقلية، والقوقاز، وماليزيا، وإندونيسيا، والهند، وإيران، وشمال أفريقيا من اليمن إلى المغرب، ولم يبقَ خارج هذا الامتداد الإسلامي سوى بعض بلدان الغرب، والولايات المتحدة، وأميركا اللاتينية.
لكن المسيحيين -حسب الكاتب- لم يروا في الإسلام يوما دينا سماويا، بل اعتبروه شكلا من أشكال الوثنية، وهو ما دفعهم إلى شن الحملات الصليبية، ولاحقا محاربة الدولة العثمانية ، وقد تحقق هذا الهدف في الحرب العالمية الأولى ، ولم يبقَ أمام الإمبريالية الاستعمارية الغربية دين منافس أو نموذج حضاري بديل.
بارقة أمل للإنسانية
يعتقد الكاتب أنه لا توجد أي فكرة جديدة قادرة على وقف الانحدار الذي تعيشه البشرية في الوضع الراهن، فالنخب الثرية التي تقود الإمبريالية العالمية لم تعد تؤمن بالمسيحية، بل باتت تمجّد الشر وتخدمه، وتعمل على تدمير الإنسان والإنسانية.
ويرى أن ما يجري في غزة هو انعكاس واضح لفساد النظام الغربي الصهيوني القائم على الظلم والاستعمار، والذي يعارضه الملايين في العالم، سواء في الشرق أم الغرب، دون أن يملكوا أي قدرة على تغييره، ما يُظهر الحاجة الملحة إلى نظام عالمي جديد أكثر عدلا.
تركيا ستلعب دورا محوريا
ويؤكد الكاتب أن تركيا بقيادة أردوغان، كانت خلال العقد الأخير من أبرز الأصوات التي واجهت الظلم العالمي، وانتقدت انعدام العدالة في النظام الدولي من خلال شعار "العالم أكبر من خمسة"، لذلك فإنها قادرة على أن تقدم حلا للأزمة التي تعيشها البشرية اليوم بتطبيق قيم الإسلام.
ويتم ذلك، حسب رأيه، بتطبيق مفهوم العدالة الاجتماعية بمعناه الواسع الذي يشمل الاقتصاد والأخلاق والقانون والسياسة، ومواجهة أزمات العصر بمؤسسات إسلامية مثل صندوق الزكاة والأوقاف وغيرها.
ويعتقد الكاتب أن تجربة تركيا التاريخية والحضارية تؤهلها للعب الدور المحوري في تعزيز هذه المبادئ وتحويلها إلى نموذج إسلامي معاصر يؤسس لعدالة حقيقية بين شعوب العالم ويحرر المستضعفين من الهيمنة الثقافية التي فرضها الاستعمار ويكون بارقة أمل للمظلومين وللإنسانية جمعاء.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

استضافة 1000 حاج وحاجة من ذوي الشهداء والأسرى والجرحى في فلسطين
استضافة 1000 حاج وحاجة من ذوي الشهداء والأسرى والجرحى في فلسطين

أخبار قطر

timeمنذ يوم واحد

  • أخبار قطر

استضافة 1000 حاج وحاجة من ذوي الشهداء والأسرى والجرحى في فلسطين

بداية الحديث عن قرار الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود بضيافة 1000 حاج وحاجة من ذوي الشهداء والأسرى والجرحى من أبناء الشعب الفلسطيني الشقيق لأداء مناسك الحج لهذا العام 1446هـ، يأتي هذا القرار ضمن برنامج ضيوف خادم الحرمين الشريفين للحج والعمرة والزيارة الذي تنفذه وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد. وقد رفع معالي وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد الشيخ الدكتور عبداللطيف بن عبدالعزيز آل الشيخ شكره وتقديره للملك سلمان وولي العهد على هذه البادرة الكريمة التي تعكس اهتمام المملكة وقيادتها بأهمية دعم أبناء الشعب الفلسطيني وتعزيز الأخوة الإسلامية. في سياق متصل، أكد الشيخ آل الشيخ على أهمية البرنامج الذي استضاف منذ بدايته أكثر من 64 ألف حاج وحاجة من مختلف دول العالم، مؤكدًا على جهود قيادة المملكة في خدمة الإسلام والمسلمين وتعزيز مكانتها كقلب للعالم الإسلامي. كما بدأت الوزارة بوضع خطة تنفيذية لتقديم التسهيلات والخدمات للحجاج الفلسطينيين بدءًا من مغادرتهم بلادهم وحتى عودتهم بعد أداء المناسك، وهذا يعكس الحرص المستمر على تيسير أداء مناسك الحج لهؤلاء الحجاج في مكة المكرمة والمدينة المنورة. في الختام، ندعو الله أن يجزي خادم الحرمين الشريفين وولي عهده على دعمهما السخي للأشقاء في فلسطين، ونسأل الله أن يديم على المملكة نعمة الأمن والنماء والاستقرار، وهذا يعكس الاهتمام الكبير بقضايا الأمة الإسلامية.

حافة الهاوية.. تصدُّعات المكان والوجدان في صراع الهند وباكستان
حافة الهاوية.. تصدُّعات المكان والوجدان في صراع الهند وباكستان

الجزيرة

time١١-٠٥-٢٠٢٥

  • الجزيرة

حافة الهاوية.. تصدُّعات المكان والوجدان في صراع الهند وباكستان

من الملاحظات الثمينة التي أتحفنا بها عالم الجغرافيا السياسية جمال حمدان (1928-1993) في كتابه "العالم الإسلامي المعاصر" قولُه: "إذا كان الإسلام قد فقَدَ البحر المتوسط كبحيرة إسلامية -أو شبه إسلامية- تقليدية، فقد كسب المحيط الهنديَّ الذي أصبح البحر المتوسط الجديد في العالم الإسلامي." ويشير حمدان هنا إلى ظاهرة عميقة في الجغرافيا السياسية الإسلامية، وهي انتقال ثِقل الإسلام شرقًا، بعد خسارة المسلمين غربًا. كما أشار حمدان في الكتاب ذاته إلى كسب الإسلام في جزر جنوب شرق آسيا التي جاءها الإسلام "راكبا البحر" حسب تعبيره. وذلك بفضل حركية وحيوية سكان الساحل الجنوبي من الجزيرة العربية، أهل اليمن وعُمان، الذين نقلوا الإسلام بحرًا إلى الطرف الجنوبي الغربي من الهند، وإلى جزر جنوب شرق آسيا، ومنها ماليزيا، وإندونيسيا كُبرى دول العالم الإسلامي اليوم من حيث عدد السكان. بيد أن هذا الكسب الإسلامي الذي أشاد به حمدان لم يمرَّ دون منغِّصات في العصر الحديث، خصوصا مع بداية الاستعمار الغربي (البرتغالي والهولندي والبريطاني) لضفاف المحيط الهندي، ثم الصراع المزمن بين باكستان والهند. وهو صراع قديم متجدد، نعيش هذه الأيام ملامح خطيرة منه، بسبب الخلاف القديم الجديد حول إقليم كشمير ومياه نهر السند. إعلان وفي هذا المقال لمحة عن سطوة الجغرافيا وأعباء التاريخ المتحكمة في معادلات هذا الصراع الذي يلقي بظلاله على العالم الإسلامي، وعلى مجمل التحولات الإستراتيجية في المنظومة الدولية. وتبدو لي خريطة باكستان دائما في شكل أسَد متحفِّز، منتصبِ الجسد على الضفة الشرقية لبحر العرب، يحمل أفغانستان على ظهره، ويُطلُّ برأسه الشامخ من قمم جبال الهيمالايا، وهو يتَّجه عبر سفوحها بغضب إلى الهند. وقد كان الفيلسوف الشاعر محمد إقبال (1877-1938) سبَّاقا إلى النداء بإنشاء دولة مستقلة للمسلمين في الأقاليم ذات الكثافة السكانية الإسلامية من شبه القارة الهندية، حفاظا على ذاتهم وهويتهم، وضمانا لاستمرار إسهامهم في الحضارة الإسلامية، وارتباطهم بالأمة الإسلامية التي آمن إقبال بوحدتها إيمانا عميقا. وجاء هذا النداء -الذي سرعان ما تحول برنامجا سياسيا للملايين من المسلمين- في خطاب ألقاه إقبال بمدينة "الله آباد" في ديسمبر/كانون الأول 1930م أمام المؤتمر السنوي لـ"رابطة عموم مسلمي الهند"، ثم تحول الخطاب -الذي اشتهر لاحقًا باسم "خطاب الله آباد"- إلى ما يشبه شهادة الميلاد الرسمية لجمهورية باكستان الإسلامية. ويجد زائر باكستان اليوم مقتطفات من ذلك الخطاب التاريخي مرسومة على لوحات جدارية، تتزين بها بعض المؤسسات العامة. باكستان والميلاد القيصري على الرغم مما اكتسبه المهاتما غاندي (1869-1948) من سمعة تاريخية مستحقَّة حول انتزاع الهند من براثن الاستعمار البريطاني بنضاله السلمي في خواتيم الحقبة الاستعمارية، فإن المسلمين الهنود كانوا رأس الحربة العسكرية في مقاومة ذلك الاستعمار الطويل قبل ذلك بكثير. فقد قاوم المسلمون البريطانيين بشراسة، خصوصا في انتفاضة 1857، المعروفة باسم "حرب الاستقلال الهندية الأولى". وهي لحظة تاريخية فاصلة، هزَّت أركان المشروع الاستعماري البريطاني، وكادت تجتثّه من جذوره. وقد جعلت تلك الانتفاضة البريطانيين والهندوس يتقاربون على حساب المسلمين، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، إلى حين استقلال الهند وباكستان عن التاج البريطاني عام 1947. وقد أدرك الفيلسوف محمد إقبال الخطر الداهم الذي بدأ يهدد وجود مسلمي القارة الهندية في نهاية الحقبة الاستعمارية البريطانية، من خلال احتكاكه المباشر مع النخبة السياسية الهندوسية، ولقاءاته ومراسلاته مع المهاتما غاندي (1869-1948م) وجواهر لال نهرو (1889-1964م) وغيرهما من الساسة الهندوس، ففهِم سعيهم إلى تفتيت الكتلة البشرية الإسلامية في الهند، وحرمانها من التحول قوة سياسية ذات شأن. إعلان وقد أصرَّ غاندي وصحبه على جعل الهوية القومية الهندية أساس الاجتماع السياسي في الهند، بينما آمن إقبال بأن العقيدة والثقافة أهم للاجتماع السياسي السليم من الرابطة القومية، وتوصَّل إلى أن الفجوة الثقافية بين المسلمين والهندوس تجعل من الأسلم للطرفين أن يعيشا بسلام في كيانين سياسيين منفصلين تماما. كما أدرك العلامة أبو الأعلى المودودي (1903-1979) ذلك الخطر الداهم والمصاب القادم خلال أسفاره داخل الهند، وملاحظاته اليومية الذكية في تلك الأسفار. ففي حديث له عام 1970م يتذكر المودودي أنه فهِم في زيارة له لدلهي عام 1937 أخطار "الإحساس بالهزيمة" لدى بعض المسلمين. ويذكر أنه في أحد أسفاره بالقطار آنذاك لاحظ التعامل الاستعلائي الفظَّ من طرف أحد القادة الهندوس مع المسلمين، فأحسَّ بجرح في الكرامة، ولم يستطع النوم لعدة أيام، حزنا على حال المسلمين في الهند، وقلَقا عل مستقبلهم. وتوصل كل من إقبال والمودودي إلى أن مصير المسلمين في الهند سيكون في أقاليمها الشمالية الغربية، حيث تتركز الكثافة السكانية الإسلامية. ولاحظ كلاهما بقلق بالغ إحساس الهندوس الواضح -مع اقتراب رحيل البريطانيين- بأن مستقبل الهند أصبح بأيديهم، دون اعتبار للمسلمين، الذين كانوا صفوة المجتمع وحكام معظم البلاد لقرون. كما لاحظ كلاهما أن العلاقة بين الهندوس والمسلمين بدأت تتحول تدريجيا -عشية رحيل المستعمرين البريطانيين- علاقة محكوم بحاكم، وتابع بمتبوع، أكثر مما هي علاقة شركاء في الوطن والتاريخ. لكن ميلاد جمهورية باكستان الإسلامية التي نظَّر لها إقبال لم يكن سهلا، بل جاء أقرب ما يكون إلى الولادة القيصرية الأليمة، بسبب تعصُّب النخب الهندوسية وروح الثأر التاريخي التي تحملها اتجاه المسلمين، وبسبب العبث البريطاني الاستعماري بمصائر الشعبين، وزرع الشقاق بينهما، وعدم تسوية الأمور بينهما تسوية عادلة قبل الرحيل. إعلان فاشتملت عملية التقسيم على حيف كبير ضد المسلمين في شبه القارة الهندية، خصوصا في إقليم كشمير، الذي كانت كل الاعتبارات التاريخية والبشرية تدفع إلى اعتباره جزءا من باكستان، لا من الهند. وهكذا تحولت الهند إلى عدوٍّ لدودٍ وجارٍ مزعج للدولة الباكستانية منذ ميلادها إلى اليوم. إقبال وجناح.. الثنائي الذهبي لقد وُلدت جمهورية باكستان الإسلامية من تركيب أفكار محمد إقبال الإسلامية والوطنية مع الروح العملية والمهارة السياسية التي اتسم بها الزعيم محمد علي جناح. وقد شكَّل إقبال وجناح ثنائيًّا ذهبيًّا وضَع بصمته على تلك المرحلة التكوينية الأولى لفكرة الدولة الباكستانية. فعِناق رؤية إقبال وكلماتِه الملهِمة مع حركية جناح وبراعته التكتيكية، هو الدعامة التي أثمرت استقلال الكتلة الإسلامية الكبرى في شبه القارة الهندية. وقد لاحظتُ عبارة معبِّرة عن هذا في أحد منشورات "بستان إقبال" -وهو مركز ثقافي في لاهور- تقول: "فكِّر مثل إقبال، وتصرَّف مثل جناح". فلإقبال وجناح مكانة خاصة في الهوية التكوينية لباكستان، ولا عجب أن تفرَّد جناح في باكستان بلقب "القائد الأعظم"، وتفرَّد إقبال فيها بلقب "العلاَّمة". ومن المهم التذكير في هذا السياق بأن إقبالا ينتمي لأسرة سنية، وهو إسلامي حتى النخاع، أما محمد علي جناح فهو ينتمي لأسرة شيعية، وكان علمانيَّ التوجُّه في حياته السياسية المبكِّرة، وكل من أسرة إقبال وجناح متحدِّرة -قبل إسلامها- من طبقة البراهمة، أي من عِلْيَة القوم طبقا لنظام الطبقات في المجتمع الهندوسي التقليدي. لكن كلا الرجلين كان يفكر بأفق رحب، وينظر إلى مصائر أجيال المسلمين اللاحقة، ومكانة الأمة الإسلامية بين الأمم، ورسالتها الخالدة، بعيدا عن الاعتبارات الطائفية أو الاجتماعية الضيقة. فقد حرص إقبال على كسب محمد علي جناح لفكرته، بعد أن أدرك كفاءته السياسية، وأهليته لقيادة معركة استقلال المسلمين في الهند. أما جناح فقد خرج من ضِيق العَلمانية والطائفية إلى سَعة الإسلام الجامع، بعد تقاربه مع إقبال، وتماهِيهِ مع وجدان شعبه، وهكذا "تحوَّل العلماني جناح إلى داعية متحمِّس للإسلام باعتباره القاعدة التأسيسية لدولة باكستان"، كما لاحظ المفكر السياسي الأميركي صمويل هنتنغتون في كتابه "صدام الحضارات". إعلان وهذا درس تاريخي مهم للذين تمزقهم اليوم النزعات الطائفية في العالم العربي، فيسقطون في أحابيل القوى الدولية الباغية، التي تضرب بعضهم ببعض، وتسعى إلى تدميرهم جميعا. وقد أورد الباحث الباكستاني حفيظ مالك في كتابه "إقبال والسياسة" قصة معبِّرة عن شخصية إقبال السياسية الذكية، وعمق الثقة بينه وبين جناح. فقد زار الزعيم الهندي جواهر لال نهرو إقبالًا في بيته في يناير 1938م، وهو مريض في خواتيم حياته، وأصرَّ نهرو على الجلوس على الأرض توقيرًا لإقبال. وكان نهرو ثعلبا سياسيا، ومن غايات زيارته التفريق بين إقبال وجناح، من أجل إضعاف جبهة المسلمين السياسية. وفي ختام لقائهما تحدث ممثل حزب "المؤتمر" المرافق لنهرو إلى إقبال، قائلا: "يا دكتور.. لماذا لا تصبح قائد المسلمين؟ فالمسلمون يحترمونك أكثر بكثير مما يحترمون (محمد علي) جناح، ولو أنك تفاوضت مع حزب المؤتمر باسم المسلمين فستكون النتائج أفضل". أدرك إقبال لعبة القوم ومراميها فورًا، وكان متَّكئا تحت وطأة المرض، فنهض غاضبا، ورد بحسم قائلا: "إن إستراتيجيتكم هي إطرائي أنا، ودفعي للتنافس مع جناح. لكني أخبركم أن جناح هو القائد الفعلي للمسلمين، وأنا مجرد جندي من جنوده"؛ فما كان من نهرو إلا أن نهض، وأنهى الزيارة فورًا. الهند من غاندي إلى مودي ومما عقَّد نشأة الدولة الباكستانية وعرقل نموَّها أن جارتها الجغرافية وخصمها التاريخي، الهند، ذات هوية تاريخية وجغرافية منشطرة ومشحونة بالتناقضات. فالهند فيها ثالث أكبر كتلة بشرية من المسلمين على وجه الأرض في بلد واحد (بعد إندونيسيا وباكستان)، إذ يتجاوز عدد مسلمي الهند 200 مليون نسمة، لكنهم مع ذلك أقلية في بحر عرمرم من الهندوس. ومن مفارقات الهند أيضا أنها دولة يتنازعها المكان والوجدان: فهي آسيوية الهوية لكنها غربية الهوى، وهي كانت فيما مضى موطن إمبراطورية إسلامية مزدهرة، أما في الزمن الحاضر فهي دولة قومية هندوسية، وهي تقع داخل جغرافية العالم الإسلامي -حيث تشطر شقَّيْه البري والبحري- لكنها ليست دولة إسلامية. ولذلك لا يمكن إدراج الهند بالكامل ضمن العالم الإسلامي، ولا يمكن فصلها عنه فصلا تاما، بحكم الثقل التاريخي والثقافي والبشري لمسلميها. إعلان ويمكن القول إجمالا إن البوصلة الإستراتيجية الهندية أصبحت تائهة ومضطربة، بعد أن تحكَّم في زمام أمرها اليمين الهندوسي المتعصب بقيادة رئيس الوزراء ناريندرا مودي منذ عام 2014. فلا عجب أن حمل العديد من قادة الرأي وصناع القرار الباكستانيين اليوم همًّا عميقا حول مستقبل التعايش بين باكستان والهند، ومصائر المسلمين في الهند، بعد تصاعد سطوة اليمين الهندوسي، المدفوع بذاكرة انتقامية قاتمة، والمتناغم بألاعيب القوى الغربية، الساعية إلى اتخاذ الهند مطيَّة لصراعها الإستراتيجي مع العالم الإسلامي، ومع جارتها الصاعدة الصين. ومن الملاحظ اليوم أن جزءا مهما من الصراع في شبه القارة الهندية يتجسَّد في صراع السرديات، وجدَل الذاكرة المتوازية، بين النخب الإسلامية والنخب الهندوسية، حول ميلاد دولتي باكستان والهند المعاصرتين. وقد قدَّم البحَّاثة الباكستاني خرَّام شفيق في كتابه: "كيف حرَّر جناح الهند" الصادر عام 2022م مرافعة تاريخية رصينة ضد المزاعم المتوارثة بين النخب الهندوسية التي تتَّهم المسلمين بتقسيم الهند، وبرهن على أن الهند لم تكن في تاريخها دولة واحدة أصلًا، بل كانت موطن دول عديدة، إسلامية وهندوسية، وأن النخب الإسلامية الهندية بقيادة جناح كانت أكثر جِدًّا واجتهادًا في سعيها لتحقيق استقلال الهند من نظيراتها الهندوسية التي استكانت للمستعمر، ووجدت فيه مصلحة لها، خصوصا أن المستعمِرين البريطانيين هم الذين هدُّوا أركان الإمبراطورية الإسلامية المغولية في الهند، وأعادوا هندسة المجتمع الهندي لصالح الهندوس على حساب المسلمين. وبينما يتمسك المسلمون بسردية أصالة الوجود الإسلامي في الهند، ويفتخرون بمآثرهم التاريخية هناك، وليس أقلها شأنا "تاج محل" الذي هو أحد العجائب المعمارية في تاريخ الحضارة البشرية، فضلا عن معالم تاريخية أخرى عظيمة، مثل "القلعة الحمراء"، و"مئذنة "قطب منار"، و"ضريح همايون" في دلهي؛ يسعى اليمين الهندوسي الذي يقوده مودي اليوم إلى تجريد المسلمين من شرعيتهم التاريخية، والتعامل معهم تعاملا شوفينيا، وكأنهم مستعمِرون دخلاء، بشكل لا يختلف كثيرا عن تعامل إسرائيل مع الفلسطينيين. إعلان وبسبب هذه الشوفينية القومية والدينية، وتعامل حكومة مودي الفظِّ مع مسلمي الهند، تمزقت روابط تاريخية ثمينة بين الهند والعالم الإسلامي، وأصبح الطرفان اليوم على طرفي نقيض. فرغم أن مؤسسي الهند المعاصرة من غاندي ونهرو وجيلهما كانوا متحيزين ضد الهوية الإسلامية لصالح الهوية الهندوسية، ولم يمنحوا المسلمين فرصة عادلة تشجِّعهم على البقاء مع الهندوس في ظلال دولة جامعة تحترم الجميع، فإن ما نراه في عهد مودي تجاوز التحيزات القومية والثقافية المعتادة بين الشعوب إلى التطرف الفاقع، والاضطهاد الوحشي، بل والنفي المطلق للوجود الإسلامي، الذي ضرب بجذوره في تربة الهند قبل ميلاد مودي بأربعة عشر قرنا. الحيف التاريخي في كشمير وزاد الطين بلَّة أن أحد جراح استقلال باكستان والهند عن بريطانيا لا يزال طريًّا حتى اليوم، وهو جرح كشمير. فأخطر تهديد للعلاقات بين هاتين الدولتين النوويتين، وللسلم الدولي تبعا لذلك، هو خلاف السيادة بين الدولتين على إقليم جامو وكشمير، الذي تَدين الغالبية الساحقة من سكانه بدين الإسلام، وكان يجب أن يكون جزءا من دولة باكستان في لحظة ميلادها عام 1947، طبقا لتفاهمات الطرفين الإسلامي والهندوسي مع بريطانيا. حيث تتضمن تلك التفاهمات الاعتراف بأن تكون الأقاليم ذات الغالبية المسلمة جزءا من جهورية باكستان الإسلامية. لكن حكومة الهند آنذاك، وحاكم إقليم كشمير هاري سينغ (1895-1961) -وهو غير مسلم- أعاقا ذلك المسار المنطقي، بتواطؤ ضمني من البريطانيين. فالخلاف بين باكستان والهند على إقليم جامو وكشمير خلاف قديم، ترجع جذوره إلى الحرب التي نشبت بين الدولتين بعد تأسيسهما مباشرة، وانتهت بتقاسم السيطرة عليه بينهما، ثم لحقت الصين بهذا الخلاف فضمَّت جزءا من الإقليم بعد هزيمتها للهند في الحرب الحدودية بينهما عام 1962. فهو اليوم صراع ثلاثي، أطرافه دول نووية ثلاث، هي الهند وباكستان والصين، ويكفي ذلك دلالةً على أهميته وخطورته، لكن باكستان والصين متفقتان في منظورهما للموضوع، ضمن تفاهماتهما الإستراتيجية الكبرى في أكثر من قضية حيوية. إعلان ولا تزال باكستان تطالب بتطبيق قرارات مجلس الأمن الدولي، الداعية إلى إجراء استفتاء شعبي في كشمير، لتقرير مصير الإقليم طبقا لإرادة أهله، بما يضمن حقوقهم الإنسانية والسياسية. وهو استفتاء يؤمن القادة الباكستانيون بأنه سيقود سكان الإقليم -ذوي الغالبية المسلمة- إلى اختيار الانضمام لجمهورية باكستان الإسلامية. على أن موضوع كشمير يحمل لباكستان أخطارا إستراتيجية جمَّة، تتجاوز قضايا الهوية والانتماء. فكشمير تقع في موقع الرأس من خريطة الأسد الباكستاني المتحفِّز، وسيطرة الهند على كل الإقليم تعني تهشيم رأس الأسد الباكستاني، وفتح حدود مباشرة بين الهند وأفغانستان (ومن وراء أفغانستان دول آسيا الوسطى)، وإغلاق الحدود المباشرة بين باكستان والصين. ويترتب على كل ذلك تطويق باكستان جغرافيًّا، وخنْقها إستراتيجيًّا، ويستحيل أن تقبل باكستان بذلك. كما يترتب عليه أيضا تسلُّق الهند عبر جبال الهيمالايا إلى إقليم التِّبت داخل الأراضي الصينية، ومن المستحيل أن تتسامح الصين مع ذلك. والأهمّ من كل هذا بالنسبة لباكستان أن استمرار سيطرة الهند على القسم الأعظم من إقليم كشمير يعني استمرار تحكُّمها في مياه الأنهار التي تتغذَّى منها باكستان، وهي أنهار تتفرع من نهر السند، الذي ينبع من هضبة التبت في الصين، ويتدفق عبر الأراضي الهندية والباكستانية نحو 3000 كيلومتر، إلى أن يصبَّ في بحر العرب. ومعظم هذه الأنهار المتفرعة من نهر السند تمرُّ من إقليم كشمير. وقد بدأت حكومة مودي في الهند خلال الأعوام الأخيرة بناء السدود، وفرض القيود على تدفق مياه تلك الأنهار إلى باكستان، مخالفة بذلك اتفاقية تقاسم المياه الموقَّعة بين البلدين مطلع الستينيات من القرن العشرين. وذلك خطر إستراتيجي على دولة باكستان وشعبِها، يتفاقم يوما بعد يوم. فالصراع بين الهند وباكستان على إقليم جامو وكشمير -من المنظور الباكستاني- ليس مجرد صراع على قطعة من الأرض، أو دفاع عن حق أهل كشمير، بل هو قضية موت وحياة للأمة الباكستانية كلها، بسبب ارتباطه بشريان الحياة الباكستاني، أي نهر السند وفروعه التي تعبر ذلك الإقليم. ويمكن اعتبار تحكُّم الهند في مصادر المياه المتدفقة إلى باكستان شبيها بتحكم إثيوبيا في مصادر المياه المتدفقة إلى مصر، وتلك مقارنة يفهم القارئ العربي معناها ومغزاها. إعلان مكانة إستراتيجية فريدة كانت زيارتي الأولى لباكستان رحلة من الدوحة إلى مدينة كراتشي على الضفة الشرقية من بحر العرب. وقد حطَّت بي الطائرة في مطار مدينة كراتشي فجرًا، بعد رحلة من مطار حمَد بن خليفة في الدوحة استمرت ساعتين وبضع دقائق. وكان أول ما فاجأني -حين أعلن طاقم الطائرة قرب الهبوط- هو قِصَر زمان الرحلة. فقد كنت أدرك دائما أن باكستان قريبة من الجزيرة العربية في الوجدان، لكني لم أنتبه من قبلُ إلى أنها قريبة منها في المكان لهذا الحدّ. ولعل ما دعاه الأديب المصري جمال الغيطاني (1945-2015م) "الحَوَل الثقافي" الذي أصاب العرب المعاصرين، فجعلهم لا ينظرون إلا غربًا، هو الذي أنساني هذه الحقيقة الجغرافية الواضحة. فأنا الذي ضربتُ في الأرض مغرِّبًا، وعشتُ في أقصى بقعة من غربِ الغرب، على سواحل كاليفورنيا، لم أكن منتبها لقرب المسافة بين باكستان والجزيرة العربية. فالانجذاب إلى الأجنبي الغريب أنْسانَا الشقيق القريب! تقع كراتشي على الضفة الشرقية من بحر العرب، في الطرَف الجنوبي الغربي لباكستان، وهي أوفر مدن البلاد سكانًا، إذ يتجاوز عدد سكانها 16 مليون نسمة. وهذا الجزء الغربي من باكستان هو أوثق أقاليمها صلة تاريخية بالعالم العربي، خصوصا سواحل عمان واليمن والخليج. كما أن كراتشي هي عاصمة إقليم السّنْد المشهور في تاريخ صدر الإسلام، لأنه أول أقاليم القارة الهندية التي وصل إليها الفتح الإسلامي في نهاية القرن الأول الهجري. لقد آن الأوان ليدرك العرب قيمة الأسد الباكستاني المتحفِّز على الضفة الشرقية لبحر العرب. فباكستان دولة فتيَّة قوية، ذات موقع إستراتيجي بالنسبة للعالم العربي، بحكم إطلالتها على بحر العرب، وقربها من مدخل الخليج، فضلا عن الأرحام الدينية والإنسانية والتاريخية التي تربطها بالعالم العربي. ومهما يكن لديها من معضلات بنيوية، لا تخلو الدول العربية من مثلها، فإن لديها إمكانا كامنا عظيما، وإنما القوة الإمكان. إعلان ولا تقتصر أهمية باكستان الإستراتيجية على العالم العربي فقط، بل هي دولة ذات أهمية للعالم الإسلامي كله. وقد رشَّح صمويل هنتنغتون في كتابه "صدام الحضارات" جمهورية باكستان الإسلامية -من بين ست دول أخرى- لأن تكون دولة محورية قائدة في العالم الإسلامي. ولاحظ هنتنغتون أن باكستان تملك بعض المؤهلات الضرورية لهذه الريادة، ومنها: المساحة الجغرافية الفسيحة، والكتلة السكانية الكثيفة، والقوة العسكرية الضاربة. لكن هنتنغتون لم يَغفل عن العوائق التي تحْرِم باكستان من الاضطلاع بهذا الدور، وأهم هذه العوائق أن باكستان "تجاوزت الرقم القياسي في عدم الاستقرار السياسي" حسب تعبيره. وقد استجابت باكستان للتحدي الهندي الدائم المتربص بها، وبموقِعها في قلب "اللعبة الكبرى" الدولية في جنوب آسيا، فبنت قوة عسكرية ضاربة، تصونها وتحميها. وحققت باكستان اختراقا إستراتيجيا لا مثيل له في العالم الإسلامي كله، وهو تصنيعها سلاحا نوويا، بفضل العزائم الصلبة لقادتها السياسيين والعسكريين، وبفضل جهود علمائها، وعلى رأسهم "أبو القنبلة النووية الباكستانية"، المهندس العبقري عبد القدير خان (1936-2021م). سطوة الجغرافيا السياسية ويمكن القول إن باكستان -شأنها شأن كل دول العالم الإسلامي- تواجه تحديات ثلاثة: هي الهوية والحرية والتنمية. أما صراع الهوية فهو محسوم في باكستان، بحكم ظروف نشأتها التكوينية التي جعلت الهوية الإسلامية مبرر وجودها، وعلامة تميزها عن المحيط الهندوسي، فلا يوجد تنازع سياسي جدِّيٌّ في هوية باكستان الإسلامية. بَيْدَ أن تحدِّي الحرية وتحدِّي التنمية لا يزالان معضلتين مزمنتين في باكستان. وبدون تجاوزهما بنجاح سيظل إقلاعها بعيد المنال. وبمنطق الجغرافيا السياسية، تواجه باكستان تحدِّياتٍ جسيمةً، تستلزم تعاونًا بين نخبها المدنية والعسكرية، وتعاليًا على الأنانية السياسية والحزازات الصغيرة التي تستنزف هذا البلد الكبير. إعلان ومن هذه التحديات الخلافُ الحدودي المزمن مع أفغانستان، وحالة الفوضى السياسية والغموض الإداري في المناطق القبَلية الرابطة بين البلدين. فليس من مصلحة باكستان ولا أفغانستان استمرار هذا الخلاف المزمن، بل تقتضي مصلحة البلدين تجاوزه بسرعة، وتحويل تلك المنطقة الحدودية الملتهبة إلى مساحة الْتِحام، ومصدرِ وئامٍ، بين الشعبين الشقيقين، اللذين تجمع بينهما أرحام الدين والتاريخ والجغرافيا. كان الشاعر محمد إقبال -وهو الأب الروحي لباكستان- يحمل تقديرا خاصا للشعب الأفغاني، وقد طفح شعره بالثناء على شجاعة الأفغان وشهامتهم، فهم الشعب الذي "تسري دماء الأُسُود في عروقه" حسب تعبيره. وأفغانستان هي الجار الشقيق والوطن الثاني من منظور إقبال. فمن الوفاء لرسالة إقبال أن تكون العلاقات بين باكستان وأفغانستان علاقاتٍ أخويةً وإستراتيجيةً، خصوصا أن باكستان وأفغانستان تقعان في قلب "اللعبة الكبرى" للسيطرة على آسيا والعالم. وقد أشرنا في صدر هذا المقال إلى أن الأسد الباكستاني المتحفِّز يحمل أفغانستان على ظهره، ويجب أن لا تظل هذه الصورة مجرد تعبير مجازي. ليس أمام باكستان إلا أن تَحْمل وتتحَمَّل الأوضاع الأليمة التي مرَّ بها الشعب الأفغاني منذ عام 1979، وتوثِّق علاقاتها الإستراتيجية بأفغانستان. فدعم باكستان لأفغانستان الجديدة المتحررة من أعباء الاستعمار الروسي والاستعمار الأميركي يسدّ الباب أمام عبث الهند بالواقع الأفغاني، وسعيها لتطويق باكستان من الشمال الشرقي. ونهوض أفغانستان من كبوتها الطويلة، ودخول باكستان معها في حلف إستراتيجي -بالتعاون مع العملاق الصيني الصاعد- مفتاح لنجاح البلدين في التعاطي مع المعضلات الداخلية والأخطار الخارجية، خصوصا مع ما يشهده النظام الدولي اليوم من انزياح القوة ورحيلها من الغرب الأطلسي إلى الشرق الأوراسي، تلك الظاهرة التي دعوناها "شروق الشرق وغروب الغرب" في دراسة خاصة نُشرت في مركز الجزيرة للدراسات بهذا العنوان. إعلان رسائل الزمن الآتي إن أخطار الحرب الحالية يجب أن تكون نذيرا للنخب الباكستانية، ودافعا لها إلى التعاطي الجاد مع المعضلات البنيوية المزمنة في الداخل، وأخطار الجغرافيا السياسية المحدقة من الخارج. ويمكن تحقيق ذلك عبر مسارات أربعة: أولا: تعضيد الجبهة الداخلية، من خلال تحويل العلاقة المدنية العسكرية في باكستان إلى علاقات سويَّة، بحيث يتوقَّف الجيش الباكستاني عن أي تدخل في السياسة، سرًّا أو علنًا، وينصرف إلى مهمته المقدسة في صيانة البلاد، وصد الصائل عليها. وتتحرَّر النخبة السياسية الباكستانية من الأنانية السياسية، لكي تُحسن احتواء الجيش، والاعتراف له بمكانته الحيوية، في ظل التهديد الوجودي الهندي، مع تجنب الاصطدام بالجيش، والسعي لتحييده سياسيا بهدوء وذكاء، على شاكلة "الثورة الصامتة" في تركيا. وبذلك يتمكن الأسد الباكستاني المتحفِّز من النهوض من عثراته المتكررة، ويستجيب للتحديات الجسيمة المحيطة به. ثانيا: تأمين الطوق الإقليمي المحيط بباكستان، باحتواء الشقيق الأفغاني ضمن منظور إستراتيجي يخدم الطرفين، وتوثيق العلاقة مع الدول الإسلامية عموما، وخصوصا دول الخليج والمشرق العربي، وإيران، ودول جنوب شرق آسيا ووسطها. فالفضاء الحضاري الإسلامي المشترك يجب ترجمته إلى تعاون سياسي واستثمار اقتصادي، وتنسيق إستراتيجي، وأحلاف عسكرية، على نحو ما عليه الأمر اليوم في الفضاء الحضاري الغربي. فلدى باكستان الكثير مما تقدمه للدول الإسلامية الأخرى، خصوصا في مجال التقنية العسكرية، ولدى بعض تلك الدول الكثير مما تقدمه لباكستان، خصوصا في مجال التعاون الاقتصادي والسياسي. وقد تطورت العلاقة بين باكستان وبعض الدول الإسلامية تطورا حسنا، خصوصا تركيا والسعودية. ثالثا: إدارة العلاقة مع الهند بحكمة وقوة وحزم. فليس من ريب في أن من حق باكستان ردع عدوان مودي وفاشيته، وأن من واجبها دعم أهل كشمير في مسعاهم لتقرير مصيرهم السياسي، طبقا لقرارات الأمم المتحدة. إعلان لكن الحرب المباشرة بين الهند وباكستان لا تخدم مصلحة الإسلام والمسلمين في شبه القارة الهندية. لأن المسلمين على طرفي الحدود بين الهند وباكستان بمئات الملايين، وهم من سيكونون وقود المعركة وأكبر خاسر فيها، وهم قد عانوا أصلا ما يكفي من تمزقات المكان والوجدان في تاريخهم المعاصر. ففي كل مواجهة لباكستان مع الهند يتعين على القيادة الباكستانية الانتباه إلى مصلحة أشقائهم من مسلمي الهند، فهم ليسوا أمرا ثانويا يمكن اعتباره ضررا جانبيا للحرب. رابعا: ترسيخ باكستان لتحالفاتها الدولية، وخصوصا علاقاتها التاريخية الوثيقة مع الصين. فالصين هي القوة الدولية الصاعدة في عالم اليوم، بخلاف القوة الغربية السائدة التي بدأت تعيش مرحلة الأفول والانحسار. ومن حسن حظ باكستان أن الصين عدو تاريخي للهند، بحكم خلافهما الحدودي القديم على هضبة التبت وجبال الهيملايا، واختلافات المنظور الإستراتيجي والهوى الثقافي بينهما. فالصين اليوم هي أهم حليف دولي لباكستان، بل لعدد من دول آسيا المسلمة، فتوثيق العرى معها مهم للوقوف في وجه الحلف الهندي الغربي المعادي للمسلمين وقضاياهم العادلة، مثل قضية كشمير وقضية فلسطين. وحاصل الأمر أن باكستان من أهم دول العالم الإسلامي مكانا ومكانة، وهي قوة فتيَّة ولبنة صلبة من لبنات الفضاء الحضاري الإسلامي، فيتعين على جميع الدول الإسلامية دعمها والتعاون معها لتحقيق الخير المشترك. ويجب أن تكون الحرب الحالية دافعا للجميع للوقوف مع باكستان في هذه الأزمة الخطيرة، مع السعي إلى احتواء الصراع على المدى البعيد، وحلِّ معضلة كشمير بالعدل، طبقا لقرارات الأمم المتحدة التي تنص على حق أهل كشمير في تقرير المصير. فالسلم والتعايش والتواصل بين الهند وباكستان هو الذي يخدم مصالح الجميع على المدى البعيد، وهو الذي سيعيد للحضارة الإسلامية ألَقَها التاريخي في شبه القارة الهندية بأسرها.

ملامح الممارسة السياسية عند عصام العطار
ملامح الممارسة السياسية عند عصام العطار

الجزيرة

time١٠-٠٥-٢٠٢٥

  • الجزيرة

ملامح الممارسة السياسية عند عصام العطار

إن الرؤية الإسلامية للسياسة قائمة على ركيزة أساسية في فهم الإسلام، وهي أنه دين شامل لكل جوانب الحياة، وهو ليس ديناً كهنوتياً ينأى بنفسه عن واقع الناس، ولا حكماً ثيوقراطياً يحكم الناس باسم الرب. والمسلم ينظر إلى الوجود كله من منظوره الإسلامي؛ فالسياسة والاقتصاد والإدارة والقانون وغيرها ليست بمعزلٍ عن الإسلام، بل إنه ينظر إليها بمرجعيته الإسلامية إلى جانب فهمه لتطورات عصره ومتطلبات واقعه. والسياسة كما أنها في معناها اللغوي راجعة إلى القيام على الشيء بما يصلحه، فهي في الرؤية الإسلامية مستندة إلى تحصيل مصالح العباد، وتحقيق الأصلح في إدارة الشأن العام؛ فالسياسي المسلم يعرك الواقع مجتهداً في درء المفاسد وجلب المصالح، يفهم زمانه وواقعه، ويتقن السياسة وتعقيداتها، ويحترف العلاقات وتشابكها، ويجتهد بنقل هذا التصور النظري إلى واقع الممارسة العملية من خلال حركته المرنة المراعية للمتغيرات، ضمن الإطار الشرعي والقيمي الذي يغلف جميع ممارساته. إن هذا التصور الإسلامي للممارسة السياسية تجلى في مختلف محطات حياة الراحل الأستاذ عصام العطار، حيث تميزت حياته السياسية بالتمسك بالمرجعية الإسلامية ومنظومتها القيمية، إلى جانب المرونة العالية في التطبيق والممارسة. وقد تجلت في حياته السياسية مجموعة من المبادئ الأساسية؛ كالحرص على وحدة الصف، وتمجيد الحرية السياسية، وأهمية شرعية السلطة، وتقديم المصلحة العامة، والثبات في المواقف، والصبر على التضييقات والملاحقات، وغير ذلك من ملامح الممارسة السياسية الرشيدة. لقد نشأ العطار في بيئة دمشقية مهتمة بالسياسة والشأن العام؛ فوالده الشيخ محمد رضا العطار كان أحد رجال القضاء الشرعي والعدلي، ورئيس محكمة الجنايات والتمييز، لذا لم تكن شخصية عصام التي نشأت على مواجهة الاستبداد السياسي طفرةً، فقد خاض والده من قبله كفاحاً ضد جمعية الاتحاد والترقي التركية، حتى حكم عليه والي سوريا جمال باشا السفاح بالإعدام، ما اضطره للهرب إلى حوران، ثم نفي بعد اعتقاله إلى إسطنبول، ليرجع بعد ذلك إلى سوريا بعد تفكك الدولة العثمانية. في شبابه المبكر اعتنى العطار بالثقافة والفكر، ونبغ في علوم العربية والبلاغة، وأتقن الخطابة منذ كان في الابتدائية، واعتنى بتحصيل العلوم الشرعية، حيث كان من طلاب المعهد العربي الإسلامي بدمشق، ثم أشرف على جريدة المنار. ومنذ انطلاقته الأولى؛ كان العطار مؤمناً بقيمة العمل الجماعي، فانتمى إلى جمعية "شباب سيدنا محمد"، ثم إلى جماعة الإخوان المسلمين حيث ظهرت شخصيته المتفوقة مبكراً، فانتُخب عضواً في المكتب التنفيذي للجماعة عام 1954، ثم صار الناطق الرسمي باسمها قبل أن يصبح مراقباً عاماً من منفاه في الأعوام 1964-1973. إن تفوق العطار القيادي جعل المؤتمر الإسلامي الذي يضم كبار علماء وسياسيي سوريا آنذاك ينتخبه بالإجماع أميناً عاماً له عام 1955، وهو ابن 28 سنة. والعطار كشخصية قيادية كان مؤمناً بأن القيادة الحقيقية تعني أن تتقدَّم الرموز صفوفَ الناس، وأن تتواجد في الزمان والمكان المناسبَين، وأن أي تأخُّرٍ عن اتخاذ الموقف وبيانه جريمةٌ بحق الناس الذين يتلمّسون قياداتهم ونخبهم ليعلنوا اصطفافهم خلفها، وقد جعل العطار من مسجد جامعة دمشق منبراً لبيان آرائه ومواقفه الوطنية والسياسية. والقيادة بالنسبة للعطار تعني أيضاً المسؤولية، فقد واجه بصلابة معظم الأزمات التي واجهت السوريين في نضالهم ضد الاستبداد، والتي واجهت الحركة الإسلامية حيث كان أبرز رموزها في سوريا، وعندما أصدرت دولة البعث القرار 49 القاضي بإعدام كل منتمٍ إلى الإخوان في سوريا، خرج وعرف بنفسه بصفته المراقب العام للجماعة. ومن ملامح الممارسة السياسية الرشيدة عند العطار حرصه على جمع الكلمة ونبذ الفرقة، فقد كان أيقونة تلتف حولها الأطياف المختلفة، وقبلة يحج إليها الأحرار من أنحاء العالم على اختلاف انتماءاتهم وأوطانهم. لم يفارق مصطلح الوطنية خطاباته السياسية، لإيمانه بالانتماء إلى الوطن ومصالح الوطن ومستقبل الوطن، وليس في هذا تعارض مع إسلاميته؛ فالمسلم أكثر الناس وطنيةً وانتماءً وتضحيةً في سبيل الوطن. وإلى جانب ذلك، كان الأستاذ العطار شخصيةً منفتحةً على جميع التيارات والجماعات التي تتفق أو تختلف مع فكره، مشدِّداً على جمع كلمة مختلف الأطياف السورية حول نقاط مشتركة تؤسس لبناء الدولة، لا سيما في مرحلة ما بعد جلاء الفرنسيين عن سوريا. ولمّا ترك الإخوان أواخر السبعينيات لم يتوقف عن كفاحه السياسي؛ لأنه يرى أن الجماعات إنما هي وسائل لا تتجاوز الفكرة والكفاح السياسي، وهكذا ظل العطار نسراً يحلّق في سماء الحرية، دون أن ينتمي إلى أي تيار، لكنه كان داعماً لكل حراك شعبي من أجل حرية وطنه وشعبه. يقول في إحدى مقابلاته: "أنا لما كنت في سوريا بالنسبة إليّ دافعت عن حق كل إنسان مظلوم ولو كان خصماً لي، دافعت بالفعل وهذا جعل الأكثرية من أبناء الشعب تقف ورائي خلال هذه الفترة في سوريا.. يعني بالفعل دافعت عن قضايا كبرى، مثلاً: قضايا الوحدة، قضايا التحرر من الاستعمار الجديد والقديم، وكذلك قضية مقاومة الأحلاف الإمبريالية الخارجية، وقضايا تحقيق العدالة الاجتماعية، وقضايا الحريات العامة داخل البلاد". ولما سئل عن علاقته بالإخوان المسلمين قال: "طبعاً الإخوان أنا قطعة منهم، مثل ما قلت.. لحمي ودمي، وكثير من الإخوان هم عندي أبنائي وإخواني، لكن الحقيقة لا أفرق بين الإخوان وغير الإخوان على الصعيد العربي والإسلامي، ولا أنظر إلى مصلحة الإسلاميين بمعزل عن مصالح غيرهم". وقف العطار ضد جميع الانقلابات العسكرية في الفترة 1949-1963، بدايةً من انقلاب حسني الزعيم، ثم انقلاب سامي الحناوي عام 1949، مروراً بانقلاب أديب الشيشكلي عام 1951 ومع كونه دمشقياً عتيقاً وسورياً أصيلاً، كان متبنياً لقضايا أمته، لا يترك منبراً في نصرة قضاياها من فلسطين إلى أفغانستان والشيشان، وصولاً إلى ثورات الربيع العربي التي ردّت للعطار عنفوانه وحيويته، فقد أيد الثوار في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، وقال فيهم: "هذه الجماهير التي تتحدى الطاغوت وتفضل الموت على العيش الذليل"، ثم هاجم الأنظمة التي ثارت الشعوب عليها بقوله: "وهذه أنظمة طاغية ظالمة فاسدة، هذه أنظمة جائرة، هذه أنظمة سرقت آمال الأمة، سرقت حرية الأمة، لكن الشعوب تمردت على الخوف". لقد كان العطار يرى في ثورات الشعوب بريق الأمل الذي سيغيّر واقع أمتنا، ولطالما خاف على هذه الثورات وعلى تضحيات الشعوب، فخاطب الجموع مركزاً على ضرورة الحفاظ على الاستقلالية ونبذ التبعية. لقد مجَّد الأستاذ العطار الحرية واعتبرها أم القيم السياسية، لذا كانت رؤيته في منح الشعب حقه في اختيار من يحكمه ويسوسه، وأن يعيش كريماً له الحق في التعبير عن رأيه بعيداً عن الإرهاب والسجون والمعتقلات، وقد كان واثقاً أن بيئة الحرية في أوطاننا لن ترفع إلا قيم الدين، ولن تُعلي إلا الثقافة الإسلامية التي تنتمي إليها. ومن أقواله في ذلك: "إن الإسلام يكفر بالديكتاتورية جمهوريةً كانت أو ملكية، يكفر بالاستبداد مهما كان شكل هذا الاستبداد. من الذي يقول إن الإسلام لا يريد حكم الشورى… لا يريد أن يكون للشعب ممثلوه الذين يقررون في أمره ويقررون في شأنه؟ من الذي يقول إن الإسلام يفرض على الناس ملوكاً أو شيوخاً أو أمراء؟". وانطلاقاً من ذلك؛ فقد كان الوقوف في وجه الاستبداد السياسي يمثل أبرز ملامح الممارسة السياسية في حياة العطار، لذا كان دائمَ التركيز على شرعية السلطة، وضرورة أن يكون الحُكم شرعياً، فهو يرى أن شرعية الحكم إنما تستمد من اختيار الناس، لا من قهرهم وإجبارهم، ولما طالب الأسد في بداية الثورة السورية في تصويره الشهير بالاستقالة، قال له: "قم بإعادة شرعية السلطة إلى الناس". من هنا، فقد وقف العطار ضد جميع الانقلابات العسكرية في الفترة 1949-1963، بدايةً من انقلاب حسني الزعيم، ثم انقلاب سامي الحناوي عام 1949، مروراً بانقلاب أديب الشيشكلي عام 1951، حيث صدر الأمر باعتقاله ثم نفيه إلى مصر. كما أنه رفض المشاركة في العروض المتكررة التي حاولت استمالته للمشاركة في الحكومات التي انبثقت عن الانقلابات، كحكومة معروف الدواليبي رغم أنه كان في وقتها نائباً برلمانياً عن دمشق، وكحكومة بشير العظمة؛ رفضها جميعاً وأصرَّ على التمسك بمبدأ شرعية السلطة، فكيف يقبل المشاركة في حكم يراه غير شرعي؟ لا يمكن أن ينقلب العطار على مبادئه وقيمه. وفي مرحلة الوحدة بين سوريا ومصر، كان العطار مؤيداً للوحدة رغم موقفه من جمال عبد الناصر، لكن صاحب الروح الحرة لا يطيب له أن يعيش تحت نير الاستبداد، وقد كان العطار قوياً في الحق، يعلن موقفه بكل وضوح ويعبر عما يؤمن بكل جرأة وشجاعة، فعندما بدأ عبد الناصر يتخذ القرارات الجائرة بعد الوحدة، وقف العطار في وجه الاستبداد الناصري، فقد كان الأستاذ عصام يرى أن تكون الوحدة مبنية على أساس برلماني ديموقراطي، لكنه على الرغم من ذلك رفض التوقيع على وثيقة الانفصال التي وقع عليها القوميون في ذلك الوقت، مؤكداً أن الوحدة أكبر من أخطائها. ظلَّ العطار منسجماً مع مبادئه وشعاراته في مواجهة الاستبداد ورفض الانقلابات، وعندما كانت دبابات الانقلاب البعثي تحتل شوارع العاصمة، كان العطار من فوق منبر مسجد الجامعة يعلن موقفه الراسخ، ويصرخ متحدياً: صفحتنا أنصع من أي صفحة، وجبهتنا أرفع من أي جبهة، وطريقنا أقوى من ‏أي طريق، وأنا أتحدى كل إنسان كائناً من كان أن يضع ذرّة من الغبار، لا أقول ‏على جباهنا المرتفعة، ولكن على أحذيتنا وأقدامنا، وأعلن أنني أرفض أي ضرب ‏من ضروب الحكم الديكتاتوري الاستبدادي، والطغاة الماضون سقطوا طاغية بعدَ ‏طاغية بعد طاغية تحت أقدامنا ونحن على هذا المنبر، وسيذهب الطغاة الجدد ‏كما ذهب الطغاة القدماء. حاول البعثيون بعد ذلك استمالة العطار وشخصيات وطنية أخرى للتغطية على انقلابهم المشؤوم؛‏ فبعد تعيين مجلس وطني لقيادة الثورة بقيادة لؤي الأتاسي، تمت دعوته للمشاركة في استلام الحكم، لكنه رفض قائلاً: لا يمكنني القبول بالمشاركة في حياة تقول إنها ديمقراطية ولكنها جاءت بانقلاب عسكري، وهذه الانتخابات لن تعيش طويلاً حتى يتم الانقلاب عليها من جديد. ولم تكن تلك محاولتهم الأخيرة، فقد دعاه حافظ الأسد لاحقاً كي يعود إلى سوريا، لكنه رفض وطالب بالحرية لوطنه وشعبه، وعندما عُيّنت أخته نجاح العطار نائبة لبشار الأسد عام 2014، عرضت عليه العودة مجدداً لكنه رفض، وقال: تعيينها -يقصد أخته- لا يعنيني بشيء، ولا يرتبط بموقف بأي حال من الأحوال. تعاظم دور العطار السياسي وتأثيره الاجتماعي في دمشق، حتى خاف النظام البعثي من شعبيته. وبعد فشل اغتياله عام 1963، قرر البعث منعَ العطار من العودة إلى سوريا بعد أدائه الحج عام 1964، لتبدأ رحلة الابتلاء المريرة، والهجرة الطويلة، من لبنان إلى بلجيكا التي أصيب فيها بالشلل عام 1968، ليحطّ رحاله في آخن بألمانيا، ولما عجز زبانية الأسد عن الوصول إليه لم يجدوا إلا النيل من زوجته السيدة الدمشقية بنان، ابنة أديب العلماء وعالم الأدباء علي الطنطاوي، وحدث هذا عام 1981، لكن ذلك لم يفت في عزيمة العطار، بل ظل محافظاً على ثوريته ومواقفه وصلابته حتى وافته المنية في آخن بألمانيا في 2 مايو/ أيار عام 2024. ذاق التهجير عن وطنه فعاش في المنافي مطارداً من بلد إلى بلد، ثم ابتلي بصحته فأصيب بالشلل، لكن جسده المنهك لم يمنعه من الاستمرار في التحليق. لقد كان شديد التفاؤل، دائم الأمل، بعودته لوطنه وانتصار الشعب السوري على حكم الأسد لقد عاش الأستاذ عصام العطار حياةً حافلةً بالعطاء والعمل، ذاخرةً بالمواقف النبيلة، عامرةً بمحبة الوطن والحنين إلى الديار، زاهدةً بكل المناصب والنياشين، ولو أراد لمُنحت له أكبر المناصب، ولو داهن لحصل على أعلى الرتب، لقد حمل روحاً حرةً يضيق عليها جسدٌ أرهقته الحياة الطويلة والابتلاءات الثقيلة. لقد أظهر خلال حياته ثباتاً في المواقف، وصبراً على الابتلاءات، وجلداً في مواطن المساومة.. ذاق التهجير عن وطنه فعاش في المنافي مطارداً من بلد إلى بلد، ثم ابتلي بصحته فأصيب بالشلل، لكن جسده المنهك لم يمنعه من الاستمرار في التحليق. لقد كان شديد التفاؤل، دائم الأمل، بعودته لوطنه وانتصار الشعب السوري على حكم الأسد. هاك كلماته تتردد اليوم في ساحات الشام الحرة معطرةً بعبق الياسمين: وباسـم الفجــر عبر الأفـق نلـمحه .. يهــفو لملــقاتنا غــاراً ونســرينــا وقـــادمَ الـنـــصـر أحــياه وأَلمسـه .. الله أكَّـــده فـالـنــصـــر آتـيـــنـــــا وقــد يكــون بـنـا والعمـر منفسـحٌ .. وقــد يـكــون بأجــيـال تـوالـيــنــا فإن ظـفـرنا فـقـد نلـــنا مطــالبـنـا .. وإن هلكـــنا فـإن الله جــازيــنــــا الموت في طاعة الرحمن يسـعدنا .. والعيش في سخط الرحمن يشقينا أما الـمـنيــة في عـزٍّ وفي شـرفٍ .. فهـي الأثيـرةُ نطـريها وتطـريـنـا نرجو الشـهادة أو نصـراً يواتـينا .. نُعطي الحياة فنعلي الحق والدِّينـا

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store