
ذاكرة الألم والعدالة الانتقالية
وسوف يظل البحث عن الحقيقة يوقظ حماسة الانسان ونشاطه ما بقي فيه عرق ينبض وروح تشعر…'
هذا ما قاله المفكّر الألماني هيغل، وهو يصلح مدخلاً لبحثنا الموسوم 'ذاكرة الألم والعدالة الانتقالية'. والمقصود بذاكره الألم 'ذاكرة الضحايا وذويهم'، إن كانوا قد فارقوا الحياة، و'ذاكرة المجتمع' التي توجّعت بسبب ما عاناه الضحايا وذويهم والمجتمع ككل من آلام تركت تأثيراتها اللاحقة، والتي تحتاج إلى معالجات تنسجم مع قيم العدالة من جهة، وتستشرف إعادة بناء المجتمع على نحو سليم من جهة أخرى كي لا يتكرر ما حصل من استلاب للضحايا وحقوقهم الإنسانية، لاسيّما تعريضهم لآلام مبرحة، تظلّ محفورة في الذاكرة الجمعية.
وسؤال الضحايا هو سؤال قلق وليس سؤال طمأنينة، وهو سؤال ضيق وليس سؤال رهاوة، بقدر ما هو سؤال شك وليس سؤال يقين، والسؤال يولّد اسئلة، ما الذي حصل؟ وكيف حصل؟ ولماذا حصل؟ ومن المسؤول؟ وكيف السبيل إلى تعويض الضحايا وجبر الضرر؟
وقد ابتدع الفكر الحقوقي الدولي وعبر تجارب مختلفة فكرة العدالة الانتقالية، التي تُعتبر ذاكرة الألم إحدى أركانها كي تكون في دائرة الضوء، ولا يلفّها النسيان، لذلك كثيراً ما يتكرّر في الحديث عن العدالة الانتقالية: نغفر دون أن ننسى، وتلك المسألة مهمة وضرورية كدرس للأجيال المقبلة، ولكي نتابع المقصود بذاكرة الضحايا (ذاكرة الألم)، لا بدّ من التعمّق في مفهوم العدالة الانتقالية، فما المقصود منها؟
وإذا كانت فكرة العدالة قيمة مطلقة ولا يمكن طمسها أو التنكر لها أو حتى تأجيلها تحت أي سبب كان أو ذريعة أو حجة، فإن العدالة الانتقالية تشترك مع العدالة التقليدية في إحقاق الحق واعادته إلى أصحابه وفي كشف الحقيقة والمساءلة وجبر الضرر وتعويض الضحاياوإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية وأجهزة إنفاذ القانون بهدف تحقيق المصالحة الوطنيةالمجتمعية.
لكن العدالة الانتقالية تختلف عن العدالة التقليدية المتواترة في كونها تُعنى بالفترات الانتقالية مثل: الانتقال من حالة نزاع داخلي مسلح إلى حالة السلم، أو الانتقال من حالة صراع سياسي داخلي رافقه عنف مسلح إلى حالة السلم وولوج سبيل التحوّل الديمقراطي، أو الانتقال من حكم سياسي تسلّطي إلى حالة الانفراج السياسي والانتقال الديمقراطي، أي الانتقال من حكم منغلق بانسداد آفاق، إلى حكم يشهد حالة انفتاح واقرار بالتعددية، وهناك حالة أخرى وهي فترة الانعتاق من الكولونيالية أو التحرر من احتلال أجنبي باستعادة أو تأسيس حكم محلي.
وكل هذه المراحل تواكبها في العادة بعض الاجراءات الاصلاحية الضرورية وسعي لجبر الضرر لضحايا الانتهاكات الجسيمة وذويهم، فضلاً عن إبقاء الذاكرة حيّة مجتمعياً، فيما يتعلّق بالانتهاكات السابقة، والهدف هو الحيلولة دون تكرار آلام الماضي. ويختلف مفهوم العدالة الانتقالية عن مفهوم ما يسمّى ﺑ 'العدالة الانتقامية'، التي تقود إلى الثأر والكيدية، الأمر الذي يجعل دورة العنف والألم مستمرّة
قد يتصوّر البعض أن اختيار طريق العدالة الانتقالية يتناقض مع طريق العدالة الجنائية، سواءً على المستوى الوطني أم على المستوى الدولي، في حين أن اختيار الطريق الأول لا يعني استبعاد الطريق الثاني، وخصوصاً بالنسبة للضحايا، ومسألة إفلات المرتكبين من العقاب.
ولكن مفهوم العدالة الانتقالية ودوافعها السياسية والقانونية والحقوقية والانسانية، أخذ يتبلور وإنْ كان ببطيءفي العديد من التجارب الدولية وفي العديد من المناطق في العالم، ولاسيما في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية فيما يخص ضحايا النازية، وانْ كان قد شابه شيء من التسيس وبخاصة بعد تقسيم ألمانيا من جانب دول الحلفاء، كما اتخذ بُعداً جديداً في أمريكا اللاتينية،وبخاصة بعد ما حصل في تشيلي إثر الانقلاب العسكري في 11 أيلول (سبتمبر) 1973، الذي قاده الجنرال بنوشيهضدّ حكومة سلفادور ألندي المنتخبة.
ومنذ السبعينيات وحتى الآن شهد العالم أكثر من 40 تجربة للعدالة الانتقالية من بين أهمها تجربة تشيلي والرجنتين والبيرو والسلفادور ورواندا وسيراليون وجنوب أفريقيا وتيمور الشرقية وصربيا واليونان.
كما شهدت البرتغال وإسبانيا والدول الاشتراكية السابقة نوعاً من أنواع العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، وثمة تجارب غير مكتملة أو مبتورة لمفهوم العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية لا تنطبق عليه الشروط العامة للعدالة الانتقالية، وخصوصاً كشف الحقيقة والمساءلة وجبر الضرر وتعويض الضحايا والاصلاح المؤسسي.
ولا بد من ادراج تجربة المغرب كأحد أهم التجارب العربية والدولية في امكانية الانتقال الديمقراطي السلمي من داخل السلطة، خصوصاً بإشراك المعارضة التي كان في مقدمتها عبد الرحمن اليوسفي الذي تم تعيينه رئيساً للوزراء ( الوزير الأول)، وفتح ملفات الاختفاء القسري والتعذيب، وفيما بعد تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة وتعويض الضحايا، والعمل على إصلاح وتأهيل عدد غير قليل من المؤسسات.
قد يعتقد البعض أن وصفة العدالة الانتقالية لوحدها ستكون شافية لصلاح الوضاع وإعادة الحقوق وانتهاج سبيل التطور الديمقراطي، خصوصاً بتسليط الضوء على ذاكرة الألم، لكن مثل هذا الاعتقاد غير واقعي ان لم يترافق مع اعتبار العدالة الانتقالية مساراً متواصلاً لتحقيق المصالحة الوطنية والسلم الهلي والمجتمعي والقضاء على بؤر التوتر والارهاب والعنف، وصولاً إلى انجاز مهمات الاصلاح المؤسسي والتحوّل الديمقراطي.
وبالرغم من حداثة التجربة التاريخية للعدالة الانتقالية، الاّ أنها أكدت انه لا توجد تجربة انسانية واحدة ناجزة يمكن اقتباسها بحذافيرها، بل هناك طرقاً متنوعة ومختلفة للوصول اليها وتحقيق المصالحة الوطنية والانتقال الديمقراطي، ومثل هذا الاستنتاج يعنينا على المستوى العربي، فلا يوجد بلد عربي يمكنه الاستغناء عن مبادئ العدالة الانتقالية وصولاً للتحوّل الديمقراطي، خصوصاً وأنها بحاجة إليه بهذه الدرجة أو تلك لوضع المستلزمات الضرورية للصلاح والتحوّل الديمقراطي ووضع حد للانقسام والتمييز المجتمعي.
ان مجرد قبول فكرة العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية يعني أن أوساطاً واسعة أخذت تقرّ بأهمية وضرورة التعاطي مع ذاكرة الألم من مواقع إنسانية، بحيث تعطي مؤشرات وعلامات على الاستعداد للقطيعة مع الماضي، انطلاقاً من رؤية جديدة لإعادة بناء الدولة والمجتمع في إطار قواعد جديدة قوامها احترام حقوق الانسان وحكم القانون، الامر الذي يحتاج تأهيل وتدريب وتطوير للأجهزة الحكومية وبخاصة القضائية والتنفيذية بما فيها أجهزة الشرطة والأمن.
– نص محاضرة ألقاها الباحث في المؤتمر الدولي السنوي الموسوم 'ذاكرة الألم في العراق' بدعوة من كرسي اليونيسكو لدراسات منع الإبادة الجماعية التابع لكلية الآداب في جامعة بغداد 16 نيسان / أبريل 2025 (برعاية من العتبة العباسية في كربلاء).

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


موقع كتابات
منذ 2 أيام
- موقع كتابات
ذاكرة الألم والعدالة الانتقالية
وسوف يظل البحث عن الحقيقة يوقظ حماسة الانسان ونشاطه ما بقي فيه عرق ينبض وروح تشعر…' هذا ما قاله المفكّر الألماني هيغل، وهو يصلح مدخلاً لبحثنا الموسوم 'ذاكرة الألم والعدالة الانتقالية'. والمقصود بذاكره الألم 'ذاكرة الضحايا وذويهم'، إن كانوا قد فارقوا الحياة، و'ذاكرة المجتمع' التي توجّعت بسبب ما عاناه الضحايا وذويهم والمجتمع ككل من آلام تركت تأثيراتها اللاحقة، والتي تحتاج إلى معالجات تنسجم مع قيم العدالة من جهة، وتستشرف إعادة بناء المجتمع على نحو سليم من جهة أخرى كي لا يتكرر ما حصل من استلاب للضحايا وحقوقهم الإنسانية، لاسيّما تعريضهم لآلام مبرحة، تظلّ محفورة في الذاكرة الجمعية. وسؤال الضحايا هو سؤال قلق وليس سؤال طمأنينة، وهو سؤال ضيق وليس سؤال رهاوة، بقدر ما هو سؤال شك وليس سؤال يقين، والسؤال يولّد اسئلة، ما الذي حصل؟ وكيف حصل؟ ولماذا حصل؟ ومن المسؤول؟ وكيف السبيل إلى تعويض الضحايا وجبر الضرر؟ وقد ابتدع الفكر الحقوقي الدولي وعبر تجارب مختلفة فكرة العدالة الانتقالية، التي تُعتبر ذاكرة الألم إحدى أركانها كي تكون في دائرة الضوء، ولا يلفّها النسيان، لذلك كثيراً ما يتكرّر في الحديث عن العدالة الانتقالية: نغفر دون أن ننسى، وتلك المسألة مهمة وضرورية كدرس للأجيال المقبلة، ولكي نتابع المقصود بذاكرة الضحايا (ذاكرة الألم)، لا بدّ من التعمّق في مفهوم العدالة الانتقالية، فما المقصود منها؟ وإذا كانت فكرة العدالة قيمة مطلقة ولا يمكن طمسها أو التنكر لها أو حتى تأجيلها تحت أي سبب كان أو ذريعة أو حجة، فإن العدالة الانتقالية تشترك مع العدالة التقليدية في إحقاق الحق واعادته إلى أصحابه وفي كشف الحقيقة والمساءلة وجبر الضرر وتعويض الضحاياوإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية وأجهزة إنفاذ القانون بهدف تحقيق المصالحة الوطنيةالمجتمعية. لكن العدالة الانتقالية تختلف عن العدالة التقليدية المتواترة في كونها تُعنى بالفترات الانتقالية مثل: الانتقال من حالة نزاع داخلي مسلح إلى حالة السلم، أو الانتقال من حالة صراع سياسي داخلي رافقه عنف مسلح إلى حالة السلم وولوج سبيل التحوّل الديمقراطي، أو الانتقال من حكم سياسي تسلّطي إلى حالة الانفراج السياسي والانتقال الديمقراطي، أي الانتقال من حكم منغلق بانسداد آفاق، إلى حكم يشهد حالة انفتاح واقرار بالتعددية، وهناك حالة أخرى وهي فترة الانعتاق من الكولونيالية أو التحرر من احتلال أجنبي باستعادة أو تأسيس حكم محلي. وكل هذه المراحل تواكبها في العادة بعض الاجراءات الاصلاحية الضرورية وسعي لجبر الضرر لضحايا الانتهاكات الجسيمة وذويهم، فضلاً عن إبقاء الذاكرة حيّة مجتمعياً، فيما يتعلّق بالانتهاكات السابقة، والهدف هو الحيلولة دون تكرار آلام الماضي. ويختلف مفهوم العدالة الانتقالية عن مفهوم ما يسمّى ﺑ 'العدالة الانتقامية'، التي تقود إلى الثأر والكيدية، الأمر الذي يجعل دورة العنف والألم مستمرّة قد يتصوّر البعض أن اختيار طريق العدالة الانتقالية يتناقض مع طريق العدالة الجنائية، سواءً على المستوى الوطني أم على المستوى الدولي، في حين أن اختيار الطريق الأول لا يعني استبعاد الطريق الثاني، وخصوصاً بالنسبة للضحايا، ومسألة إفلات المرتكبين من العقاب. ولكن مفهوم العدالة الانتقالية ودوافعها السياسية والقانونية والحقوقية والانسانية، أخذ يتبلور وإنْ كان ببطيءفي العديد من التجارب الدولية وفي العديد من المناطق في العالم، ولاسيما في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية فيما يخص ضحايا النازية، وانْ كان قد شابه شيء من التسيس وبخاصة بعد تقسيم ألمانيا من جانب دول الحلفاء، كما اتخذ بُعداً جديداً في أمريكا اللاتينية،وبخاصة بعد ما حصل في تشيلي إثر الانقلاب العسكري في 11 أيلول (سبتمبر) 1973، الذي قاده الجنرال بنوشيهضدّ حكومة سلفادور ألندي المنتخبة. ومنذ السبعينيات وحتى الآن شهد العالم أكثر من 40 تجربة للعدالة الانتقالية من بين أهمها تجربة تشيلي والرجنتين والبيرو والسلفادور ورواندا وسيراليون وجنوب أفريقيا وتيمور الشرقية وصربيا واليونان. كما شهدت البرتغال وإسبانيا والدول الاشتراكية السابقة نوعاً من أنواع العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، وثمة تجارب غير مكتملة أو مبتورة لمفهوم العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية لا تنطبق عليه الشروط العامة للعدالة الانتقالية، وخصوصاً كشف الحقيقة والمساءلة وجبر الضرر وتعويض الضحايا والاصلاح المؤسسي. ولا بد من ادراج تجربة المغرب كأحد أهم التجارب العربية والدولية في امكانية الانتقال الديمقراطي السلمي من داخل السلطة، خصوصاً بإشراك المعارضة التي كان في مقدمتها عبد الرحمن اليوسفي الذي تم تعيينه رئيساً للوزراء ( الوزير الأول)، وفتح ملفات الاختفاء القسري والتعذيب، وفيما بعد تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة وتعويض الضحايا، والعمل على إصلاح وتأهيل عدد غير قليل من المؤسسات. قد يعتقد البعض أن وصفة العدالة الانتقالية لوحدها ستكون شافية لصلاح الوضاع وإعادة الحقوق وانتهاج سبيل التطور الديمقراطي، خصوصاً بتسليط الضوء على ذاكرة الألم، لكن مثل هذا الاعتقاد غير واقعي ان لم يترافق مع اعتبار العدالة الانتقالية مساراً متواصلاً لتحقيق المصالحة الوطنية والسلم الهلي والمجتمعي والقضاء على بؤر التوتر والارهاب والعنف، وصولاً إلى انجاز مهمات الاصلاح المؤسسي والتحوّل الديمقراطي. وبالرغم من حداثة التجربة التاريخية للعدالة الانتقالية، الاّ أنها أكدت انه لا توجد تجربة انسانية واحدة ناجزة يمكن اقتباسها بحذافيرها، بل هناك طرقاً متنوعة ومختلفة للوصول اليها وتحقيق المصالحة الوطنية والانتقال الديمقراطي، ومثل هذا الاستنتاج يعنينا على المستوى العربي، فلا يوجد بلد عربي يمكنه الاستغناء عن مبادئ العدالة الانتقالية وصولاً للتحوّل الديمقراطي، خصوصاً وأنها بحاجة إليه بهذه الدرجة أو تلك لوضع المستلزمات الضرورية للصلاح والتحوّل الديمقراطي ووضع حد للانقسام والتمييز المجتمعي. ان مجرد قبول فكرة العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية يعني أن أوساطاً واسعة أخذت تقرّ بأهمية وضرورة التعاطي مع ذاكرة الألم من مواقع إنسانية، بحيث تعطي مؤشرات وعلامات على الاستعداد للقطيعة مع الماضي، انطلاقاً من رؤية جديدة لإعادة بناء الدولة والمجتمع في إطار قواعد جديدة قوامها احترام حقوق الانسان وحكم القانون، الامر الذي يحتاج تأهيل وتدريب وتطوير للأجهزة الحكومية وبخاصة القضائية والتنفيذية بما فيها أجهزة الشرطة والأمن. – نص محاضرة ألقاها الباحث في المؤتمر الدولي السنوي الموسوم 'ذاكرة الألم في العراق' بدعوة من كرسي اليونيسكو لدراسات منع الإبادة الجماعية التابع لكلية الآداب في جامعة بغداد 16 نيسان / أبريل 2025 (برعاية من العتبة العباسية في كربلاء).


ساحة التحرير
منذ 2 أيام
- ساحة التحرير
اليمن بعد هزيمة أمريكا وكبح الكيان.. أي توازنات ردع على المسرح الإقليمي والدولي؟حلمي الكمالي
اليمن بعد هزيمة أمريكا وكبح الكيان.. أي توازنات ردع على المسرح الإقليمي والدولي؟ حلمي الكمالي في إطار عملياته العسكرية المساندة لغزة، يواصل اليمن فرض المعادلات الإستراتيجية على مسرح المواجهة الإقليمي والدولي، والظهور كلاعب أسطوري بيده مفاتيح القوة، يفرض توازنات الردع والرعب على إمتداد الخارطة، بعد أن فقأ عين القوة العسكرية الكبرى، الولايات المتحدة وحلفائها ووكلائها الإقليميين، وألجم ربيبتها 'إسرائيل'؛ في مشهد إذلال تاريخي شهدته ميادين الحرب وسجلته عدسات الكاميرا بتوقيع الصواريخ والمسيّرات اليمنية وهي تلاحق حاملات الطائرات الأمريكية في البحر، وتصطاد أفخر مقاتلاتها الشبحية في الجو، وتضرب قلب الكيان. فعلى وقع معركة الطوفان، يستمر اليمن في إبهار العالم أجمع من موقعه على منصة الدعم والإسناد لغزة، بمعادلات ردع عسكرية، نوعية وغير مسبوقة ومتسلسلة، فبعد أن نجح في إغلاق ميناء 'إيلات' بشكل كامل عقب سيطرته النارية على البحرين الأحمر والعربي ومضيق باب المندب، يذهب اليمن لإغلاق ميناء حيفا الصهيوني المُطل على البحر الأبيض المتوسط، والذي يبعد عن اليمن حوالي 2300 كم، وذلك بعد أيام قليلة من إعلان القوات المسلحة اليمنية فرض حصاراً جوياً شاملاً على مطارات الاحتلال الصهيوني رداً على توسيع العدو عملياته العسكرية العدوانية في قطاع غزة. معادلات الردع هذه، التي يتفنن اليمن في ترجمتها سريعاً على الميدان بلغته وأسلوبه وتكتيكاته العسكرية الخاصة التي جاءت من خارج 'الصندوق الغربي' وتحمّل روحه وعزيمته الإيمانية اليمانية الصلبة؛ تحقق غايتها الآنية وتشكل ضغطاً كبيراً على الكيان الصهيوني وأحد أبرز العوامل التي ستجبره في نهاية المطاف على وقف عدوانه ورفع حصاره عن قطاع غزة، لكنها في الوقت نفسه تحقق نجاحات عميقة وبعيدة المدى، حيث تضرب في صميم الهيمنة الأمريكية الصهيونية على العالم، وتُنذر بمتغيرات دراماتيكية سريعة في مفاهيم الهيمنة ومعايير القوة السائدة منذ الحرب العالمية الثانية. وفي هذا السياق، يمكن التأكيد أن إعلان واشنطن وقف العدوان على اليمن، وتركها 'إسرائيل' المتقزمة خلف إخفاقات الطوفان الفلسطيني، لتواجه مصيرها المحفوف بالمخاوف الآنية والتاريخية والمليء بالألغام والضربات السحيقة في مواجهة اليمن الناشئ بقوة على أنقاض القوى العظمى، المؤمن بقضيته وإرادته وعقيدته وبنصره المحتوم على أعداءه؛ هو بداية النهاية لمحور الشر الصهيوني الأمريكي الجاثم على صدر الأمم الشريفة على مدى قرن من الزمان. لم يسبق أن تركت واشنطن ربيبتها وذراعها الطولى 'إسرائيل' في خضم المواجهة، وأعلنت ذلك على الملأ، منذ نشأة هذه العلاقة الخبيثة، بل سبق وأن قدمت الأولى مصالح الأخيرة على مصالحها في أحايين كثيرة ومحطات مختلفة حتى في أحلك المعارك والظروف، ولكن الضربات اليمنية موجعة للغاية للحد الذي يصعب على الإمبرطورية العجوز تحمّل تداعياتها القاتلة، فهي تهدد عرش هيمنتها ووصايتها الإقليمية والدولية، وتُعجّل بانهيار نظام القطب العالمي الواحد، وتضع معايير القوة والسرديات والمحددات التي وضعتها الولايات المتحدة خلال عقود في مهب الريح. وعلى وقع هذه الضربات اليمنية الإستراتيجية، يمكن التأكيد أنها قد شلّت محور الشر الصهيوني الأمريكي وعززت تلاشي قدراته التي تشهد اضطرابات غير تقليدية خلال الآونة الأخيرة على ضوء الإخفاقات المتراكمة في مختلف ساحات الاختبار الممتدة من غزة إلى أوكرانيا والصين وشرق آسيا وأمريكا اللاتينية ومنها إلى عموم الجنوب العالمي، وهو ما أدركه سريعاً ترامب، رجل العقارات و'مُحصل' البيت الأبيض، الذي يشبه أمريكا كثيراً في هبوطها من أعلى القمة إلى قاع الوحل. واستناداً لمعطيات المواجهة القائمة ونتائج الحرب عموماً في أرض النزال في لحظتها الراهنة ومختلف جولاتها السابقة، نؤكد أيضاً أن المعادلات النوعية التي فرضتها القوات المسلحة اليمنية على وقع مشاركتها في معركة طوفان الأقصى، سواءً بضرب عمق الكيان الصهيوني، أو في خوضها معارك البحر والجو في وجه الأساطيل والأسراب الأمريكية؛ لن تنضب قط بعد انتهاء هذه المعركة وانقشاع غبار الحرب؛ بل ستظل راسخة في عمق المشهد العالمي، وسيكون لها الدور البارز في التأثير على مجريات الأحداث والمتغيّرات شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، وذلك في صالح الأمم والشعوب الحرة والمستضعفة وعلى رأسها الأمة العربية والإسلامية، بإذن الله تعالى. 2025-05-26


موقع كتابات
منذ 3 أيام
- موقع كتابات
دعوة أميركية للإبادة… هل من رد فعل؟
لم استغرب دعوة عضو الكونغرس الأميركي، الجمهوري، رندي فاين قصف قطاع غزة بقنبلة نووية، مستذكراً هذا العضو وبعجرفة قصف اليابان في الحرب العالمية الثانية مرتين. كذلك لم استغرب بعض الدعوات الغربية، والاميركية، إلى ابادة سكان القطاع، وتصويرهم القضية الفلسطينية انها 'قضية شريرة'. كل هذا طبيعي ممن يتنكر للحق والعدالة، المتبجح بحقوق الانسان فيما هو يمارس عكس ذلك، فهذا لن يكون غير ذلك، وربما من المهم الاستفادة من الدروس القاسية التي يعاني منها العرب عموما، والفلسطينيون خصوصا منذ 'سايكس – بيكو' إلى اليوم، وتأسيسهم 'لوبيات' وقوى ضغط في عواصم القرار الدولي، وعدم الاكتفاء بالتحالفات والمعاهدات، إذ رغم أنها تساعد، لكن ليس لديها اظافر واسنان، وهذه نقطة ضعف علينا جميعا ان ننتبه إليها. لقد وضع العرب بيضهم طوال العقود الماضية في سلال الدول التي كانت تستعمرهم، وبعضهم اتجه إلى سلال دول اعتبرت صديقة، وصحيح انها كانت فاعلة في يوم ما، لكنها تقيس خطواتها بدقة وفق مصالحها، ولهذا كان العرب دائما صدى صوت، وليس صوتا فاعلاً. من هنا عندما تعترف 147 دولة بفلسطين، ولا ينفذ هذا الامر في الواقع، ويبقى مجرد اعلان، فليس له اي قيمة إذا لم يصاحبه ضغط على الولايات المتحدة اولا، وثانيا على إسرائيل ليس لوقف الابادة الجماعية فقط، بل البدء بجعل تلك الدولة تتنفس عبر منح مؤسساتها الرسمية حرية العمل اولا، وثانيا ان تكون قادرة على تمثيل شعبها، وثالثا ممارستها سلطتها من دون تدخل إسرائيل. إذ صحيح أن هناك فورة غضب شعبية عالمية على ممارسات إسرائيل، وقد تعاظمت في الاشهر الاخيرة، لكنها لم تساعد على تقديم ما يمكّن الجوعى في غزة من سد رمقهم، بل تكون بالقطارة، لان تل ابيب لا تزال تعتمد على قوة الولايات المتحدة ودعمها المطلق، إذ رغم تصريحات ترامب عن التخلي عنها إذا لم تقبل خطته لادخال المساعدة إلى القطاع، لكنها لا تزال لا تلقي بالا لهذا. تل ابيب تستند إلى قوة شعبية مؤيدة لها، وهي صحيح باتت محدودة، لكنها لا تزال فاعلة، ومنذ ايام رأيت في احد المنتديات 'فيديوهات' عن تظاهر عدد محدود من المؤيدين لإسرائيل في العاصمة البريطانية لندن، كان المشاركون فيها يرفعون شعارات تؤيد الابادة الجماعية ضد 'الفلسطينيين كافة'، وكانت بحماية الشرطة، في المقابل فإن الالاف الناس ممن يدعمون الحق الفلسطيني كانوا في المواجهة، لكنهم اتهموا بمعادة السامية. ولان العين الغربية لا ترى إلا الاسود، فقد اتهم المناصرون للحق المشروع لفلسطين، وشعبها بمعاداة السامية، وهذه لازمة وشعار يراد به باطل، لكنه مدعوم من قوى ضغط مالية واقتصادية وسياسية غربية قادرة على جعل العدالة عمياء، تؤيد الظالم، فيما تتنكر لحق المظلوم. لهذا فإن تصريحات عضو الكونغرس الاميركي ليست ردة فعل على حادث عرضي، إنما هي سلوك سياسي، لانه لم يقابل باي قوة مضادة لتصحيح المفاهيم. استناداً إلى ما ذلك، على العرب اليوم أن يعملوا على بناء قوى ضغط دولي حقيقية، فالسكين الصهيونية لن تقف عند حد، وعلينا ان ننظر إلى 77 عاماً من المعاناة الفلسطينية، كي نتعلم ان هذا الشعب المظلوم له الحق في العيش الكريم، واثبات أن 'القضية الصهيونية هي الشريرة' وليست القضية الفلسطينية، كي لا نأكل مرة اخرى، فيثبت علينا المثل 'اكلت يوم أكل الثور الابيض'.