
الصفات القيادية في شخصية عماد الدين زنكي " انتقاء الرجال الأكفاء وتقديره لهم "
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
كان عماد الدين زنكي يختار الرجال الأكفاء الذين أخلصوا له وكانوا دعائم دولته، ودولة أبنائه من بعده، فقد كانت له همَّةٌ عالية، ورغبة في الرجال ذوي الرأي والعقل، ويرغبهم ويخطبهم، ويوفر لـهم العطاء. وقـال ابن الأثير: «حكى لي والدي: قيل للشهيد: إنَّ هذا كمال الدين ، ويحصل له في كل سنة ما يزيد على عشرة الاف دينار أميرية ، وغيره يقنع منه بخمسمئة دينار. فقال لهم: بهذا العقل ، والرأي تدبرون دولتي؟! إنَّ كمال الدين يقل له هذا القدر ، وغيره يكثر له خمسمئة دينار ، إن شغلاً واحداً يقوم به كمال الدين خير من مئة ألف دينار ، وكان كما قال ـ رحمه الله ـ» (1).
وكان يتعهد أصحابه ، ويمتحنهم ، فقد أعطى يوماً خُشكُنانكه إلى طشت دار له وقال: احفظ هذه. فبقي نحو سنة لا يفارقه خوفاً أن يطلبها منه ، فلما كان بعد سنة سأله عنها ، فأخرجها من منديل كان لا يفارقه خوفاً من أن يطلب منه ، فاستحسن ذلك ، وجعله داراً لقلعة كواشي (2). وهي قلعة حصينة في الجبال الواقعة شرقي الموصل (3)، وكان يخطب الرجال ذوي الهمم والآراء الصائبة ، والأنفس الأبية ويوسع في الأرزاق، فيسهل عليهم فعل الجميل ، واصطناع الرجال ، ومن أسباب توفيقه: أنه كان نقاداً للرجال ، يعرف كيف يختار الأكفاء الصالحين منهم ، ويوليهم ثقته (4)، فمن هؤلاء:
أ ـ بهاء الدين الشهرزوري الذي يقول عنه ابن القلانسي: وكان صاحب عزيمة وهمة نافذة ويقظة ثابتة.
ب ـ ومنهم وزيره ضياء الدين أبو سعيد ابن الكفرتوثي ، وكان على ما حكي عنه: حسن الطريقة جميل العقل كريم النفس مرضي السياسة مشهوراً للنفاسة والرئاسة.
ج ـ ومنهم نصير الدين جقر ، وقد كان لنصير الدين أخبار في العدل والإنصاف وتجنب الجور والاعتساف ، أخباره متداولة بين التجار والمسافرين ، ومتناقلة بين الواردين ، والصادرين من السفار ، وقد كان رأيه جمع الأموال من غير جهة حرام ، لكنه يتناولها بألطف مقال ، وأحسن فعال ، وأرفق توصل واحتيال ، فهذا محمود من ولاة الأمور وقصد سديد في سياسة الجمهور ، وهذه هي الغاية في مرضيِّ السياسة ، والنهاية في قوانين الرياسة (5).
ويظهر تقديره للرجال من تولية نائبه بالموصل، فبعد مقتل نصير الدين ارتاب في من يقيمه في موضعه ، ويخلفه في منصبه، فوقع اختياره على الأمير علي كوجك، لعلمه بشهامته ومضائه في الأمور وبسالته ، فولاه مكانه، وعهد إليه أن يقتفي اثاره في الاحتياط والتحفظ ، وتتبع أفعاله في التحرز واليقظة ، وإن كان لا يغني غناءه ولا يضاهي كفاءته ومضاءه ، فتوجه نحوها ، وحصل بها وساس أمورها سياسة سكتت معها نفوس أهلها ، وبذل جهده في حماية المسالك وأمن السوابل ، وقضاء حوائج ذوي الحاجات ، ونصرة المظلومين ، فاستقام الأمر ، وحسنت بتدبيره الأحوال ، وتحققت بيقظته في أعماله الأمان (6).
وكان عماد الدين الزنكي رحمه الله قليل التلون والتنقل ، بطيء الملل والتغير ، شديد العزم ، لم يتغيَّر على أحد من أصحابه مُذْ مَلَك إلى أن قتل إلا بذنب يوجب التغيُّر والأمراء ، والمقدَّمون الذين كانوا معه أوَّلاً هم الذين بقوا أخيراً من سَلِمَ منهم من الموت ؛ فلهذا كانوا ينصحونه ، ويبذلون نفوسهم له ، وكان الإنسان إذا قدم عسكره؛ لم يكن غريباً ، إن كان جندياً؛ اشتمل عليه الأجناد ، وأضافوه ، وإن كان صاحب ديوان؛ قصد أهل الديوان ، وإن كان عالماً؛ قصد القضاة بني الشَّهرزوري، فيحسنون إليه، ويؤنسون غربته، فيشعر وكأنه في أهله، وسبب ذلك جميعه: أنه كان يخطب الرجال ذوي الهمم العليَّة والآراء الصائبة والأنفس الأبية ، ويوسع عليهم في الأرزاق ، فيسهل عليهم فعل الجميل ، واصطناع المعروف (7).
المصادر والمراجع:
( ) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، أبو شامة المقدسي، (1/159 ، 160).
(2) مفرج الكروب، محمد بن سالم التميمي الحموي، (1/103).
(3) الحروب الصليبية والأسرة الزنكية، شاكر أحمد أبو بدر، ص 166.
(4) المصدر نفسه ص 166.
(5) ذيل تاريخ دمشق، ابن القلانسي، ص 275. الحروب الصليبية والأسرة الزنكية، شاكر أحمد أبو بدر، ص 166.
(6) ذيل تاريخ دمشق، ابن القلانسي، ص 172.
(7) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، أبو شامة المقدسي، (1/163).

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشروق
منذ 2 ساعات
- الشروق
حكم بالإعدام قبل الميلاد
مَن مِن الكائنات العاقلة وغير العاقلة يخطر بباله ويسرح في خياله أن يوجد مثل هذا الحكم، وهو الحكم بالإعدام على مولود مايزال في صلب وترائب أبويه؟ لا يمكن أن يخطر مثل هذا الحكم إلا على من إذا ذكر اسمها ضجت الخلائق كلها لبشاعتها، ولا أعني إلا فرنسا المجرمة، فسجّل تاريخ القضاء 'براءة اختراع' هذا الحكم باسم هذه الدولة ذات التاريخ الأسود في العالم كله، إنها فرنسا المدعية لكل جميل، ولا تفعل إلا كل قبيح. عندما قدّر الله – عز وجل- أن يؤسس، الخيرة في الجزائر 'جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، رخصت لهم فرنسا ذلك، ظنا منها أن هذه الجمعية كالجمعيات التي أسست على عينيها اللتين أعماهما الاحتفال القرني الذي زعمت فيه فرنسا الصليبية أنها لا تحتفل بمرور قرن على تدنيسها الجزائر الطاهرة، ولكنها تحتفل بتشييع 'جنازة الإسلام' في هذه الربوع، وأن 'الصليب حطّم الهلال' كما زعم أحد كبار سفهاء فرنسا. وهل يوجد في فرنسا غير السفهاء؟ ما أن حال الحول على تأسيس هذه الجمعية المباركة حتى استيقنت فرنسا المجرمة أن هذه الجمعية ليست كأحد من الجمعيات، فبدأ مكر الليل والنهار ضد هذه المعية، والكيد لها، والتربص بها لدرجة أنها أصدرت قرارا يمنع نوادي الجمعية من بيع المشروبات من شاي وقهوة حتى تفلس وتغلق أبوابها، ألا لعنة الله على فرنسا. أوحت فرنسا إلى بعض من تسرّب إلى جمعية العلماء أن يخبلوا أمر الجمعية، وأن يخربوها من داخلها فأسسوا جمعية 'ضرّة'، حملت اسما شريفا لتحقيق مهمة قذرة، وهو 'جمعية علماء السنة' – فكانت كمن ولد من سفاح ووالداه مسيلمة الكذاب وسجاح. سل أعضاء الجمعية الحرة أقلامهم، وسددوا ضرباتهم القائلة إلى هذه الجمعية التي سماها الإمام الإبراهيمي جمعية 'السنة الكسكسية'، لأن أعضاءها هم من أصحاب 'الزردات والوعدات' كما يقول المرحوم سي مولود قاسم، فكانت جريدة 'السنة المحمدية'، لم تصبر فرنسا المجرمة على لهجة 'السنة النبوية المحمدية' فعطلتها بعد 13 عددا، فأصدرت الجمعية جريدة 'الشريعة النبوية المحمدية'، فأوقفتها فرنسا بعد 7 أعداد، فأخرجت الجمعية جريدة 'الصراط السوي'.. استفحل كلب فرنسا فأصدرت قرارا بتوقيف 'الصراط' بعد 17 عددا، وقد ذيلت هذا القرار بحكم بشع بشاعة فرنسا وهو: 'لا يسمح لهذه الجمعية أن تصدر أية جريدة في المستقبل'. سخر الإمام الإبراهيمي من فرنسا 'الديمقراطية' بقوله إن فرنسا بتذييلها ذاك كانت كمن يحكم بالإعدام على مولود قبل ولادته. آه لو أن لي قوة لأذقت فرنسا ضعف الحياة وضعف الممات، لأنها 'مجرمة بالفطرة' كما يقول رجال القانون، ولأنهم كما قال شاعر: رأيت آدم في نومي فقلت له أبا البريّة: إن الناس قد حكموا أن 'الفرانس' نسل منك، قال إذن حواء طالقة إن صح ما زعموا


النهار
منذ 4 ساعات
- النهار
عميد جامع الجزائر يستقبل الرئيس اللبناني
استقبل عميد جامع الجزائر، الشيخ محمّد المأمون القاسمي الحسنيّ، صبيحة اليوم، فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية، جوزاف عون، وذلك في ختام الزيارة الرسميّة التي قام بها إلى الجزائر. وفي كلمة ترحيبيّة، عبّر العميد عن تقدير جامع الجزائر لهذه الزيارة، مؤكّدًا مكانة #لبنان التاريخية في الوجدان الجزائري والعربيّ، ومعربًا عن أمله في أن تشكّل المناسبة دفعة جديدة للتعاون الثقافيّ والعلميّ والدينيّ بين البلدين، عبر مؤسّساتهما المرجعية، بما تزيدها قوّةً ومتانة. كما قدّم الشيخ القاسميّ للضيف الكريم عرضًا مختصرًا عن رسالة جامع الجزائر، وأبعاده الروحيّة والعلميّة والحضاريّة، 'في ضوء تطلّع الجزائر إلى إرساخ خطاب دينيّ وسطيّ، ومعتدل، وسياديّ'؛ مشيرًا إلى أنّ 'هذا الجامع يُعتبر حصن المرجعيّة الدينيّة الجامعة'؛ وفق رؤية جديدة تندرج ضمن التصوّر العميق للسيّد رئيس الجمهورية عبد المجيد تبّون في بناء مؤسّسات ذات وظيفة روحيّة وسياديّة في آنٍ واحد. وفي ختام الكلمة، دعا عميد جامع الجزائر بأن يحفظ اللهُ لبنانَ وأهلَه؛ ويقيه شرّ الفتن؛ ويظلّ واحة حوار وتلاقٍ كما عرفه العرب والإنسانية. وتوجّه بالدعاء بعاحل الفرج والنصر لأهلنا في فلسطين، وأن يرفع الله عنهم الظلم والعدوان، ويكتب لهم التحرير والتمكين. وعبّر الرئيس اللّبنانيّ، من جهته، عن شكره على حفاوة الاستقبال، مُبدِيًا إعجابه بجمال هذا الصرح الدينيّ، وهيْبته المعمارية، ورسالة السكينة التي يبعثها المكان. كما أعاد التأكيد على عمق العلاقات بين الجزائر ولبنان، الّتي تعود إلى عصور بعيدة، منذ العهد الفينيقي، وتتجدّد اليوم بروح الوفاء والتكامل.


الشروق
منذ 5 ساعات
- الشروق
النُّخَب الفرنسية وأوهام عُقْدَة المستعمر القديم
تابعت مجريات الموائد المستديرة في بعض القنوات الفرنسية على مضض لأعرف ما تقوله النُّخَب الفرنسية سواء اليمينية المتطرفة أو اليسارية فيما يخص العلاقة القائمة اليوم بين دولتنا الجزائرية السيدة والسلطة الفرنسية الحاكمة التي انقسمت بين متطرف داع إلى إلهاب المعركة ضد الجزائر ومعاقبتها وداع إلى التهدئة وممارسة الحوار المتكافئ كما دعا إلى ذلك السيد 'دومينيك دو فيلبان' رئيس الحكومة الأسبق، خاصة بعد زيارة الرئيس عبد المجيد تبون إلى إيطاليا وعقد مجموعة من الاتفاقيات المهمة في مجالات متنوعة. تابعتُ ذلك، فوجدت أن أكثر هذه النُّخب المحسوبة على الثقافة والإعلام والسياسة والتي تبوّأ بعضها مناصب حساسة في بعض الحكومات الفرنسية السابقة يدفعها حقدها الاستعماري القديم إلى مهاجمة الجزائر، سلطة وشعبًا، بكل وقاحة وتطرّف وكأن الجزائر خُلقت لتكون -في ظنهم المريض- تابعة لفرنسا سياسيًّا، وخادمة لمصالحها اقتصاديًّا، وجارية في فلكها ثقافيًّا وتربويًّا… وقد أعرب أغلب هؤلاء القوم في حواراتهم -وهذا ما أسعدني- عن أن الدولة الجزائرية تمكّنت من اللعب بحنكة سياسية ودبلوماسية راقية في إدارة الخلاف مع الحكومة الفرنسية، أو بعبارة أدق مع بعض المتعصبين الاستعماريين في السلطة الفرنسية، وعلى رأسهم وزير الداخلية الجمهوري 'اليميني' المتطرف 'رونو روتايو' الذي يتزعم قيادة حرب قذرة على الجزائر استعمل فيها أحط الوسائل للضغط عليها، ومنها تعمُّد إهانة الدبلوماسيين الجزائريين العاملين بالسفارة الجزائرية بفرنسا، وملف المهاجرين، وورقة الكاتب الفرنكوصهيوني بوعلام صنصال، والعزف على وتر 'الإسلاموفوبيا'، وقبل هذا المتاجرة بمسألة الصحراء الغربية التي هي مسألة تدخل في باب تصفية الاستعمار وترعاها الأمم المتحدة، ودفعوا الرئيس الفرنسي 'إيمانويل ماكرون' تحت ضغطهم المحسوب إلى الاعتراف بما سمّاه 'مغربية' الصحراء الغربية، وهذا من أخطائه السياسية الكبرى بشهادة بعض البارزين من المحللين الفرنسيين أنفسهم، خلافًا لما تدعو إليه الجزائر ومن سار على مذهبها السياسي الوسطي المعتدل منذ عشرات السنين إلى ضرورة فسح المجال للشعب الصحراوي ليقرر مصيره بنفسه ديمقراطيًّا عبر الاستفتاء النظيف بإشراف الأمم المتحدة! إن هذا السلوك الاستعلائي الاستعماري الرخيص من قبل نُخَبٍ فرنسية كثيرا ما ادّعت التحضُّر والديمقراطية، وتمثيل ما يسمونه 'قيم الجمهورية'، لا يكشف سوى عن ازدواجية عميقة في التفكير المرتبط بالذهنية الاستعمارية الموروثة التي لم تستطع التخلّص -إلى حد الآن- من منظورها الاستعبادي وهمجيتها المتوحشة، ففرنسا العجوز رغم دخولنا عصر الذكاء الاصطناعي فقد فقدت ذكاءها بسبب الخرف السياسي، وما زالت تتصرف تجاه الآخرين من الدول التي ابتليت باحتلالها المخزي للإنسانية سابقا بالثنائية الآتية (السيد والعبد)، وهي لا تحتمل منذ استقلال الجزائر بفضل الله ثم بفضل تضحيات أبنائها البررة أن تراها دولة ذات سيادة، تتخذ قراراتها باستقلالية وفق قاعدة الحفاظ على مصالحها، وتقف الند للند في المحافل الدولية والتجمعات العالمية، وتُحبط مشاريع الإملاء والإذلال السياسي التي كانت تحمل عنوان 'الشراكة' ولكن الشراكة غير المتكافئة. أعرب أغلب هؤلاء القوم في حواراتهم عن أن الدولة الجزائرية تمكّنت بحنكة سياسية ودبلوماسية راقية من إدارة الخلاف مع الحكومة الفرنسية، أو بعبارة أدق مع بعض المتعصبين الاستعماريين في السلطة الفرنسية، وعلى رأسهم وزير الداخلية الجمهوري 'اليميني' المتطرف 'رونو روتايو' الذي يتزعم قيادة حرب قذرة على الجزائر استعمل فيها أحط الوسائل للضغط عليها، ومنها تعمُّد إهانة الدبلوماسيين الجزائريين العاملين بالسفارة الجزائرية بفرنسا، وملف المهاجرين، وورقة الكاتب الفرنكوصهيوني بوعلام صنصال، والعزف على وتر 'الإسلاموفوبيا'، وقبل هذا المتاجرة بمسألة الصحراء الغربية… إن ما يثير الغثيان حقا هو هذا الانفصام الأخلاقي الفرنسي لدى بعض ساستها ونُخَبتها غير السوية، التي تُهاجم الجزائر السيدة لأنها ترفض الخنوع، وتُصرّ على بناء علاقاتها الخارجية على مبدأ الاحترام المتبادل والتكافئية لا التبعية لأحد مهما تكن قوته وسطوته. إن تسليط وزير داخلية فرنسا المتطرف 'رونو روتايو' اليوم، سيفَ الابتزاز السياسي والإعلامي ضد الجزائر، واستعمال أوراق قذرة مثل ملف المهاجرين، والضغط على الجالية الجزائرية، وفتح منصات إعلامية للشخصيات الفرنكوصهيونية واليمينية المتطرفة لمهاجمة الجزائر، هو تأكيدٌ على أن العقلية الاستعمارية لا تزال حيّة في قصر الإليزي وملاحق السلطة الفرنسية، وأنّ فرنسا، برغم ما تدّعيه من ديمقراطية وتحضُّر، لا تحتمل في العمق أن ترى مستعمراتها السابقة حرة وسيدة على أراضيها وقراراتها. أما بخصوص ملف الصحراء الغربية، فقد عبّرت الجزائر بكل صدق وشفافية عن تمسُّكها بالشرعية الدولية وحق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، وهذا ما يضمن نهاية حقيقية لهذه المسألة، بينما اختارت باريس -خلافًا لمواقفها التاريخية الرمادية- الانحياز الوقح للموقف المغربي المخزني، في محاولة للضغط على الجزائر وعزلها إقليميًّا، وهو أمرٌ لم يتحقق البتة لأن الحسابات المبنية على العقلية الميكيافلية لا تؤتي ثمارها مع أصحاب المبادئ والقيم، خاصة في ظل توسيع الجزائر تحالفاتِها الدولية مع القوى الفاعلة في العالم التي تتعامل معها بندّية، ومع الدول الإفريقية التي باتت تنفض عنها الهيمنة الفرنسية الواحدة تلو الأخرى، لأنها أدركت أن فرنسا في هذه المرحلة ما يزال كثير من ساستها يفكرون بذهنية المستعمر المتطرف الوقح. إن الجزائر اليوم، بفضل تضحيات الملايين من شهدائها ووعي شعبها ووطنية سلطتها ونضج دبلوماسيتها، لا تُرهبها هذه المناورات القذرة، ولا يُخيفها صراخ ساستهم ولا نباح إعلامهم، بل هي ماضية بثقة نحو تعزيز شراكات دولية أكثر اتزانًا وعدالة، مدركة أن زمن التبعية قد ولّى، وأنّ محاولة إحياء الاستعمار بثوب ناعم أو ضغط اقتصادي لن تُجدي نفعًا، مع جيل من الجزائريين يؤمنون إيمانا راسخا بأن الجزائريين قد ولدوا أحرارا وهم أسياد في اتخاذ قراراتهم السيدة من دون تبعية إلى أي جهة مهما تكن هذه الجهة… ورحم الله إمامنا الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي تنبّأ ببصيرته الربانية فقال: إن الاستقلال حقٌّ طبيعي لكل أمّة من أمم الدنيا، وقد استقلت أممٌ كانت دوننا في القوة والعلم، والمَنعة والحضارة، ولسنا من الذين يدّعون علم الغيب مع الله، ويقولون إن حالة الجزائر الحاضرة ستدوم إلى الأبد'. ثم يمضي بكل إيمان في تقرير هذه المعاني في معرض حديثه: 'وليس من العسير، بل إنه من الممكن أن يأتي يوم تبلغ فيه الجزائر درجة عالية من الرقي المادي والأدبي(…) وتصبح الجزائر مستقلة استقلالا واسعا، تعتمد عليها فرنسا اعتماد الحر على الحر' [لإمام ابن باديس حياته وآثاره، جــ3. ص320-321].