
الدور البحري البريطاني.. من الهيمنة التقليدية إلى التأثير الاستراتيجي
الدور البحري البريطاني.. من الهيمنة التقليدية إلى التأثير الاستراتيجي
ظلت المملكة المتحدة قروناً طويلة من أبرز القوى البحرية العالمية، وارتكزت مكانتها على إرث استراتيجي ممتد من معركة «ترافلجار» إلى سيطرتها على خطوط التجارة البحرية إبان الحقبة الإمبراطورية؛ غير أن التحولات الجيوسياسية والتكنولوجية في القرن الحادي والعشرين فرضت تحديات غير تقليدية أملت ضرورة الانتقال من مفهوم الهيمنة البحرية التقليدية إلى مقاربة أكثر شمولاً تقوم على التأثير الاستراتيجي الذكي، وتكامل أدوات القوة الوطنية.
وقد مثّلت استراتيجية بريطانيا العالمية في عصر تنافسي، والاستراتيجية البحرية للمملكة المتحدة 2050، خريطة طريق لإعادة التموضع البحري البريطاني في النظام الدولي؛ فلم يعد التركيز مقصوراً على الانتشار العسكري فحسب، بل امتد أيضاً إلى إعادة صياغة الدور البحري ليواكب بيئة أمنية وتقنية معقدة.
وتشير المؤشرات الحكومية إلى أن ما يزيد على 95 في المئة من التجارة البريطانية يمر عبر البحر، وأن 99 في المئة من اتصالاتها الرقمية العابرة للحدود تعتمد على الكابلات البحرية. ومع تنامي التهديدات السيبرانية والأعمال التخريبية تحت سطح البحر، بات واضحاً أن الحفاظ على أمن المصالح البحرية يتطلب منظومة أمنية مرنة ومتكاملة؛ وقد أسفر عن ذلك إنشاء مركز الأمن البحري المشترك (JMSC)، بصفته أداة وطنية موحدة تنسق بين أجهزة الاستخبارات والعمليات البحرية ضمن منظومة تشغيلية متكاملة.
وتعزز هذا التوجه بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكست»، حين سعت المملكة المتحدة إلى إعادة تموضع عالمي لإعادة تعريف هوية المملكة البحرية عبر رؤية «بريطانيا العالمية»، التي تهدف إلى الجمع بين الابتكار والتأثير، وتعزيز الدور البريطاني في المحيطين الهندي والهادئ.
وتشير توقعات وزارة التجارة البريطانية إلى أن نحو 65 في المئة من الطبقة الوسطى العالمية ستتمركز في تلك المنطقة بحلول عام 2030؛ ما يجعلها نقطة ارتكاز استراتيجية في التنافس التجاري والجيوسياسي.
وفي هذا الإطار انخرطت المملكة المتحدة في تحالفات استراتيجية، مثل «أوكوس» (AUKUS)، إلى جانب دورها التقليدي ضمن حلف شمال الأطلسي (ناتو)؛ سعياً إلى تعزيز الحضور البحري في ممرات التجارة والتقنية. ويمثل تقرير «الاستراتيجية البحرية للمملكة المتحدة 2050»، إطاراً طموحاً لتحديث الأسطول البحري البريطاني وتحديث قطاع الشحن والموانئ، عن طريق توظيف الذكاء الاصطناعي، وأنظمة الملاحة الذاتية، والموانئ الذكية.
كما تطمح المملكة المتحدة إلى تصدّر مسار «الشحن الأخضر»؛ سعياً للوصول إلى انبعاثات صفرية بحلول منتصف القرن الجاري؛ وهو ما يعكس تناغماً بين الطموحات البيئية والأمن الوطني في سياق الأمن البحري الشامل. غير أن هذه الرؤية الطموحة لا تخلو من تحديات، لعل أبرزها تنامي الحضور الصيني في الممرات البحرية الحيوية، وتزايد التهديدات الروسية للكابلات البحرية في المحيط الأطلسي، فضلاً عن محدودية الموارد المالية، والتنافس الدولي على الكفاءات البشرية المتخصصة.
وبرغم ذلك؛ فإن المقاربة البريطانية لا تسعى إلى مواجهة هذه التحديات بالوسائل التقليدية، بل تتجه إلى تكييف البنية البحرية مع متغيرات العصر بأساليب ذكية ومتعددة الأبعاد. وتستند المملكة المتحدة في استراتيجيتها إلى ركائز بنيوية، من بينها هيمنة قطاع الخدمات البحرية في لندن، الذي يستحوذ على 35 في المئة من سوق التأمين البحري العالمي، و26 في المئة من سوق الوساطة البحرية؛ ما يمنحها ثقلاً اقتصاديّاً لا يُستهان به. كما تُواصِل تعزيز حضورها العسكري في مناطق استراتيجية، مثل منطقة الخليج العربي، عبر قواعد متقدمة أبرزها القاعدة البحرية في البحرين؛ لضمان حماية الممرات الحيوية، ولا سيَّما مضيق هرمز.
وفي السياق الخليجي، وتحديداً من منظور دولة الإمارات العربية المتحدة؛ فإن المملكة المتحدة تمثل شريكاً بحرياً استراتيجيّاً، ويمكن أن تسهم خبراتها في تطوير منظومات الردع الذكية، وربط الأمن السيبراني بالقدرات البحرية، وتعزيز مفهوم الأمن البحري ليشمل الابتكار المشترك، والتبادل الأكاديمي، والاستثمار في بنًى تحتية بحرية مستدامة.
وختاماً يمكن القول إن المملكة المتحدة لم تتخلَّ عن دورها البحري، بل أعادت رسم ملامحه بما ينسجم مع بيئة دولية متغيرة؛ وهي بذلك تنتقل من كونها قوة بحرية تقليدية إلى فاعل استراتيجي ذكي يمزج بين الإرث العسكري والابتكار التقني، ويوازن بين الانتشار المادي والتموضع المعرفي والتكنولوجي، في عالم باتت فيه القوة البحرية تُقاس بالقدرة على التكيف والابتكار أكثر من مجرد التفوق العددي أو التسليحي.
*موجِّه باحث في كلية الدفاع الوطني

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صحيفة الخليج
منذ 2 ساعات
- صحيفة الخليج
البرلمان الأوروبي يقر فرض رسوم إضافية على الأسمدة الروسية.. والكرملين يرد
موسكو ـ (أ ف ب) اعتبر الكرملين، الخميس، أن الاتحاد الأوروبي من خلال فرضه رسوماً إضافية على الأسمدة الروسية يلحق الأذى بمصالحه الخاصة. وصوت البرلمان الأوروبي، الخميس، لصالح فرض رسوم جمركية كبيرة على الأسمدة ومنتجات زراعية محددة من روسيا وحليفتها روسيا البيضاء لمنع تهديد محتمل للأمن الغذائي في الاتحاد الأوروبي والحد من موارد التمويل الذي تستخدمه روسيا خلال حربها ضد أوكرانيا. ـ معدل الارتفاع في الرسوم وسترتفع الرسوم الجمركية على أسمدة نيتروجينية محددة على مدى السنوات الثلاث المقبلة من 6.5 % إلى ما يعادل نحو 100 %، وهو مستوى من شأنه أن يوقف التجارة فعلياً. وبالنسبة للمنتجات الزراعية، من المقرر فرض رسوم إضافية بنسبة 50 في المئة. ـ رد فعل روسيا ومن المتوقع أن تدخل هذه الرسوم حيز التنفيذ في الأول من يوليو/ تموز. وقال الناطق باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف خلال إحاطته اليومية: «في نهاية المطاف، سيجد الاتحاد الأوروبي نفسه أمام سماد أعلى سعراً وأقلّ جودة»، مشيراً إلى أن «الأسواق في مجالات أخرى ستعوّض هذه الرسوم الجمركية، لكن الأوروبيين سيستمرّون على عادتهم» في إلحاق الأذية بمصالحهم.


سبوتنيك بالعربية
منذ 6 ساعات
- سبوتنيك بالعربية
مجلس الأمن الروسي: الاتحاد الأوروبي يحضر مواطنيه للحرب مع روسيا
مجلس الأمن الروسي: الاتحاد الأوروبي يحضر مواطنيه للحرب مع روسيا مجلس الأمن الروسي: الاتحاد الأوروبي يحضر مواطنيه للحرب مع روسيا سبوتنيك عربي أكد نائب سكرتير مجلس الأمن الروسي، ألكسندر فينيديكتوف، اليوم الخميس، أن الاتحاد الأوروبي يقوم بتهيئة أيديولوجية واسعة النطاق للأوروبيين للحرب مع روسيا. 22.05.2025, سبوتنيك عربي 2025-05-22T07:54+0000 2025-05-22T07:54+0000 2025-05-22T07:54+0000 روسيا أخبار الاتحاد الأوروبي موسكو- سبوتنيك. وقال فينيديكتوف لـ"سبوتنيك": "إن مستوى الخطاب المعادي لروسيا في بروكسل وبعض العواصم الأوروبية، ارتفع إلى مستويات غير مسبوقة في الآونة الأخيرة. تطوير العديد من الوثائق الاستراتيجية في مجال الدفاع من قبل الاتحاد الأوروبي له دلالة كبيرة، وعلى وجه الخصوص، أقرت المفوضية الأوروبية، في نهاية شهر آذار/مارس من هذا العام، ما يسمى باستراتيجية الاستعداد لحالات الأزمات. وقدم الاتحاد الأوروبي، قبل شهر، "الكتاب الأبيض بشأن الدفاع الأوروبي - الجاهزية 2030".وأردف نائب سكرتير مجلس الأمن الروسي: "من الجدير بالذكر أن وثائق الاتحاد الأوروبي هذه تؤكد بشكل خاص على الحاجة إلى تشكيل وترسيخ "ثقافة الاستعداد للعمل العسكري" في وعي الأوروبيين. "الاستعداد" مسؤولية جماعية، وهو الآن مدرج في العملية التعليمية للاتحاد الأوروبي، وكذلك في برامج الشباب والتدريبات ذات الصلة".وتدهورت العلاقات بين روسيا وحلف "الناتو" كثيراً، بعد انطلاق العملية العسكرية الخاصة الروسية في أوكرانيا، في 24 شباط/فبراير 2022، وفي قمة حلف "الناتو" في مدريد خلال العام ذاته، تم الإعلان عن وقف عمل مجلس "روسيا-الناتو".وتواصل القوات المسلحة الروسية، منذ يوم 24 شباط/فبراير 2022، تنفيذ عمليتها العسكرية الخاصة، بهدف نزع سلاح أوكرانيا، والقضاء على التهديدات الموجرها إلى أمن روسيا، وحماية المدنيين في إقليم دونباس، الذين تعرضوا على مدار 8 سنوات إلى الاضطهاد من قبل نظام كييف.رئيسة مجلس الفيدرالية الروسي: الاتحاد الأوروبي يريد منع أي مفاوضات سلام بشأن أوكرانياالكرملين: مذكرة التفاهم بين روسيا وأوكرانيا يتم العمل عليها بشكل سري سبوتنيك عربي +74956456601 MIA 'Rossiya Segodnya' 252 60 2025 سبوتنيك عربي +74956456601 MIA 'Rossiya Segodnya' 252 60 الأخبار ar_EG سبوتنيك عربي +74956456601 MIA 'Rossiya Segodnya' 252 60 1920 1080 true 1920 1440 true 1920 1920 true سبوتنيك عربي +74956456601 MIA 'Rossiya Segodnya' 252 60 سبوتنيك عربي روسيا, أخبار الاتحاد الأوروبي


العين الإخبارية
منذ 6 ساعات
- العين الإخبارية
الاستخبارات الفرنسية تكشف.. كيف يحاول الإخوان التأثير على بروكسل؟
بعد سنوات من الصمت، تضع الدول الأوروبية الكبرى يدها على مفاصل النشاط الإخواني الخطير في القارة. ووفق تقرير أعدته الاستخبارات الفرنسية، فإن منظمات على صلة بجماعة الإخوان تحاول التأثير على مؤسسات الاتحاد الأوروبي من خلال 'أنشطة ضغط كبيرة'. كما سعى الحلفاء الأيديولوجيون للجماعة الإسلاموية إلى دفع بروكسل إلى الترويج لرؤية 'أحادية' للحرية الدينية تتعارض مع نموذج فرنسا الصارم للدولة العلمانية التي تحمي حرية الدين والحرية من الدين، بحسب التقرير. التقرير أشار إلى أن البرلمان الأوروبي وأعضاءه 'مستهدفون بشكل خاص'. وكان من المتوقع أن تصدر وزارة الداخلية الفرنسية نسخة منقحة من الوثيقة، لا تتضمن أسماء المصادر التي يمكن أن تتعرض للخطر بسبب نشرها والإشارة إلى القضايا القانونية الجارية،ً بعد مناقشتها خلال اجتماع مجلس الأمن القومي برئاسة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وعقب الاجتماع، قال مكتب ماكرون إن التقرير سيصدر بحلول نهاية الأسبوع. منظمات أوروبية التقرير قال أيضا؛ إن جماعة الإخوان التي تأسست قبل أكثر من 100 عام في مصر بهدف إنشاء دولة تحكمها الشريعة الإسلامية، تدفع بأجندتها عبر العديد من المنظمات الأوروبية التي تشارك الجماعة أيديولوجيتها وتتلقى أموالًا من دول في الخارج. ومن بين المنظمات المدرجة مجلس مسلمي أوروبا ومنتدى المنظمات الشبابية والطلابية الإسلامية الأوروبية (FEMYSO). ووفق التقرير، فإن أعضاء من الدائرة المقربة من جماعة الإخوان كانوا أعضاء في مجلس مسلمي أوروبا، وأن منتدى المنظمات الشبابية والطلابية الإسلامية الأوروبية كان يستخدم 'كهيكل تدريبي' لمسؤولي الإخوان. تتشابه نتائج التقرير، التي تستند إلى عشرات المقابلات مع أكاديميين وقادة مسلمين وضباط استخبارات، مع نتائج مراجعة حكومية نشرت في المملكة المتحدة قبل عقد من الزمن. إلى ذلك، كلف ماكرون حكومته باقتراح إجراءات لمحاربة نفوذ جماعة الإخوان، ومن المتوقع أن تتم مناقشتها الشهر المقبل، حسبما أعلن مكتب الرئيس الفرنسي. تهديد وجرى تسريب نسخة مبكرة من التقرير إلى صحيفة لوفيغارو اليومية المحافظة ومجلة Valeurs Actuelles اليمينية. وقال ريتيلو، الذي كان بإمكانه الاطلاع على التقرير كاملاً بحكم منصبه، للصحفيين في وقت سابق من هذا الأسبوع، إن الوثيقة ستوضح كيف أن 'تسلل الإسلاميين يشكل تهديدًا'. واستغل المرشحون للرئاسة هذا التسريب لطرح نقاط الحوار الخاصة بهم حتى قبل نشر التقرير رسميًا. وقال رئيس حزب التجمع الوطني، جوردان بارديلا، أمس، إن جماعة الإخوان تشكل 'أحد أكثر التحديات الوجودية لبلادنا". aXA6IDgyLjIxLjI0Mi4xMjMg جزيرة ام اند امز GB