
جنوب السودان: ندرة العيادات النفسية تهدد آلاف المحتاجين
حيث تظهر بيانات منظمة الصحة العالمية أن جنوب السودان يسجّل رابع أعلى معدل انتحار في إفريقيا، والثالث عشر عالميًا.
وتشير المنظمة الدولية للهجرة إلى أن الانتحار يضرب بالأساس النازحين داخليًا، نتيجة البطالة والفقر والعنف القائم على النوع الاجتماعي.
كما أوضح جاكوبو روفاريني، من منظمة أمريف هيلث أفريكا، أوضح أن أكثر من ثلث من خضعوا للفحص النفسي في إطار المشروع أظهروا علامات اضطرابات عقلية، مضيفًا:
«العبء على الأفراد والأسر والمجتمع هائل، ولم يُعالَج بعد».
عيادات نادرة
وتعد عيادة موندري بولاية غرب الاستوائية، واحدة من ثماني نقاط طبية ضمن مشروع يقدّم لأول مرة خدمات الصحة النفسية لأكثر من 20 ألف شخص في أنحاء جنوب السودان. أُنشئت نهاية 2022 بجهود مشتركة بين منظمات خيرية بقيادة Amref Health Africa، وبالتعاون مع مراكز صحية حكومية ورعايا كاثوليك ومحطات إذاعية محلية.
لكن هذه الخدمة الحيوية مهددة بالتوقف، إذ يقترب تمويلها – المقدم من جهات إيطالية ويونانية – من الانتهاء، وسط غياب مصادر بديلة تضمن استمراريتها.
تحذيرات متصاعدة
وفي الشهر الماضي، أعلنت سلطات جوبا تسجيل 12 حالة انتحار خلال أسبوع واحد فقط، دون كشف تفاصيل إضافية.
وقالت الدكتورة أتونج أيول لونجار، رئيسة قسم الصحة العقلية بوزارة الصحة وأحد الأطباء النفسيين القلائل في البلاد، إن حالة «عدم اليقين» التي يعيشها السكان بسبب خطر الحرب المستمر، تقوّض إحساسهم بالأمان:
«لا يمكنك التخطيط للغد... قد يقول الناس: لا توجد حرب، لكنك لا تشعر بالسلام من حولك».
وفي موندري، ما تزال آثار قتال 2015، الذي دمّر المنطقة بين القوات الحكومية والمعارضة، حاضرة. كثيرون لم يتعافوا بعد من النزوح وفقدان الممتلكات والعنف الجنسي.
وبعض الجمعيات، مثل منظمة كاريتاس الكاثوليكية، تحاول توفير دعم مجتمعي عبر جلسات «Self Help Plus» – برنامج جماعي أطلقته منظمة الصحة العالمية عام 2021 لإدارة التوتر، ويستهدف بشكل خاص النساء، مع تقديم تمارين يمكن ممارستها في المنزل.
لكن لونجار تحذر من أن استمرار هذه المبادرات مرهون بالتمويل، في ظل تراجع الدعم الدولي، خاصة من الولايات المتحدة. إذا توقف التمويل، فقد تُغلق العيادات المتخصصة، ومنها عيادة موندري.
حرب ونزوح
ومنذ اندلاع الحرب الأهلية عام 2013، بين قوات الرئيس سلفا كير ونائبه ريك مشار، شهدت البلاد موجات نزوح هائلة، لتتحول – بعد عامين فقط من استقلالها عن السودان – إلى واحدة من أكبر الدول المصدّرة للاجئين.
رغم توقيع اتفاق سلام عام 2018، عاد القتال منذ يناير الماضي، ما دفع الأمم المتحدة للتحذير من احتمال انزلاق البلاد مجددًا إلى صراع شامل. اليوم، يعيش أكثر من 90 % من السكان على أقل من 2.15 دولار يوميًا، وفق البنك الدولي، ما يزيد الضغط النفسي على الملايين.
أبرز المعاناة التي يواجهها جنوب السودان:
• الصراعات المسلحة بين الحكومة والفصائل المتمردة، وما ينتج عنها من انعدام الأمن.
• النزوح الجماعي لملايين السكان داخليًا وخارجيًا بسبب الحروب.
• انعدام الغذاء وانتشار المجاعة في عدة مناطق نتيجة النزاع والجفاف.
• تدهور الاقتصاد واعتماده شبه الكامل على النفط وسط تقلبات الأسعار.
• ضعف البنية التحتية وانهيار الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة.
• انتشار الفساد وضعف مؤسسات الدولة.
• الكوارث الطبيعية مثل الفيضانات والجفاف التي تزيد من سوء الأوضاع الإنسانية.
• انتهاكات حقوق الإنسان بما في ذلك العنف الجنسي والتجنيد القسري للأطفال.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


Independent عربية
منذ ساعة واحدة
- Independent عربية
الصداع... عندما ينوء الرأس تحت أحماله... 10 أسئلة
الصداع واحد من أكثر آلام الرأس التي يعانيها الناس في العالم كله، أنواعه وصوره متعددة، وتعد اضطرابات الصداع مشكلة عالمية، إذ تؤثر في الناس من جميع الأعراق ومستويات الدخل والمناطق الجغرافية، والصداع من أقدم الأعراض التي وثقها الإنسان ووصف علاجات لها، ويعد أقدم توثيق للصداع وأعراضه وعلاجه هي بردية "إيبرس" المصرية القديمة التي تعود إلى 1500 عام قبل الميلاد، مما يدلل على أن الصداع واحد من أقدم المشكلات الصحية التي عانها الإنسان. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) ينقسم الصداع إلى نوعين أساسيين، رئيس يأتي من تلقاء نفسه ولا يكون عرضاً لحال صحية أخرى، وثانوي يكون عرضاً لمشكلة صحية معينة، هو واحد من أعراضها، وهنا يكون هناك ضرورة لعلاج المرض ذاته حتى يزول الصداع. خلال عام 2022 نشر بحث ضمن مجلة "الصداع والألم العلمية" journal of headache and pain، إذ أجرى باحثون مراجعة لـ357 بحثاً عن الصداع منذ الستينيات من القرن الماضي وحتى وقت صدور البحث، وخلصت المراجعة إلى أنه يومياً واحد من كل ستة أشخاص في العالم يعاني الصداع. وفيما يلي 10 أسئلة وإجاباتها عن الصداع. 1- ما الصداع؟ يعرف الصداع بأنه الشعور بالألم في الرأس، وهو قد يراوح بين البسيط والشديد، وقد يكون مستمراً أو قد يحدث بين الحين والآخر لأسباب متفرقة، وفي بعض الأحيان قد يمتد إلى منطقة الرقبة، وهو من الأعراض الشائعة التي يعانيها غالب الناس بطرق متفاوتة خلال مراحل حياتهم، والإصابة بالصداع تسبب ألماً ينتج منه عدم التركيز وعدم القدرة على أداء المهام اليومية بصورة طبيعية، إضافة إلى الشعور بالضيق. 2- ما أنواع الصداع؟ وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، توجد أنواع متعددة من الصداع، إلى جانب الصداع البسيط الذي يعانيه قطاع كبير من الناس بصورة معتادة فهناك صداع التوتر، والصداع النصفي أو ما يطلق عليه (الشقيقة)، والصداع العنقودي، والصداع الناتج من الإفراط في تناول الأدوية، وغيرها، وتشير المنظمة إلى أنه يعاني نحو 50 في المئة من البالغين في العالم من الصداع بصوره المختلفة، وهو واحد من أكثر المشكلات الصحية شيوعاً، وتصنف منظمة الصحة العالمية الصداع النصفي بأنه ثالث أكثر الأمراض انتشاراً حول العالم، كما توضح أن النساء يصبن به بصورة أكبر. 3- هل للعامل الوراثي علاقة بالصداع؟ وفقاً للجمعية الأميركية للصداع النصفي فإن العامل الوراثي له دور في الإصابة، هناك احتمالية بنسبة تصل لنحو 50 في المئة أن يصاب الشخص بالصداع النصفي، إذا كان أحد والديه يعانيه، ومن أعراضه ألم في أحد جانبي الرأس، وتحسس للصوت والضوء، وأحياناً يصاحبه قيء وغثيان، وقد تستمر هذه النوبات بين أربع ساعات و72 ساعة، ويعتمد العامل الوراثي أيضاً على زيادة احتمالية الإصابة بكل أنواع الصداع الأخرى. 4- ما علاقة الحال النفسية بالصداع؟ الصداع النفسي واحد من الأعراض الشائعة، وتعرفة موسوعة علم النفس والتحليل النفسي بأنه ألم أو إحساس بعدم الراحة في الجزء العلوي من الرأس، ويمثل عرضاً مصاحباً لمعظم الأمراض العضوية والنفسجسمية، والألم الناتج منه يجعل الفرد يشعر أنه عاجز عن التعامل مع كثير من المواقف الحياتية. ووفقاً للجمعية الأميركية للصداع The US Consortium Headache، فالصداع النفسي يعد من الأعراض التي لها ارتباط وثيق بالتوترات والاضطرابات النفسية، وطبقاً لإحصاءات فإن أكثر أنواع الصداع انتشاراً هو الصداع النفسي أو الصداع التوتري، إذ قدر المصابون به بنحو ثلاثة في المئة من إجمال السكان في العالم، وتتزايد نسبة الإصابة به في الإناث عن الذكور بمقدار 3:1، وتتمثل أعراض الصداع التوتري بصورة عامة في الآلام الشديدة في الرأس مع عدم قدرة على التركيز، يصاحبها قصور في القدرة على القيام بالمهام اليومية المطلوبة، سواء كانت جسدية أو عقلية. 5- كيف تؤثر الهرمونات في الصداع؟ طبقاً لتصريحات إعلامية للطبيب المصري أحمد عكاشة، الرئيس السابق للجمعية العالمية للطب النفسي، فإن النساء أكثر عرضة للإصابة بالصداع والأعراض النفسية من الرجال بدرجة كبيرة، لأسباب متعددة من بينها تغير الهرمونات في مراحل مختلفة من حياتهن، فتغيرات هرمونات الأنوثة تؤثر بدرجة كبيرة في النساء، ومن أهم الأعراض المصاحبة لهذه التغييرات الصداع. الهرمونات لها دور كبير في ما يتعلق بالصداع، وعلى رأسها هرمون الأستروجين عند الإناث، فالتغيرات الهرمونية المصاحبة للدورة الشهرية وفترات انقطاع الطمث والحالات التي تتعاطى فيها بعض النساء علاجات هرمونية دائماً يصاحبها حالات من الصداع، بينما خلال فترات الحمل غالباً ما يقل الصداع عند قطاع كبير من النساء، بسبب ارتفاع هرمون الأستروجين بدرجة كبيرة. 6- هل الصداع يصيب الأطفال؟ يصيب الصداع الأطفال مثل الكبار تماماً، وهو أمر عادي، وقد يكون نتيجة إرهاق أو توتر أو إصابة بنزلة برد أو غيرها، ويمكن أن يرتبط بألم الأسنان أو مشكلات في النظر أو الجيوب الأنفية، وفي الأحوال العادية لا يكون الأمر خطراً، ويعالج بالراحة والمسكنات البسيطة، أما إذا زاد الألم أو صاحبته أعراض أخرى أو استمر فترة طويلة، هنا لا بد من البحث عن السبب الأساس للصداع، باعتباره هنا يكون عرضاً لأمر خاص يستوجب العلاج. 7- هل هناك فئات معينة أكثر عرضة للإصابة بالصداع؟ بالفعل هناك فئات معينة تكون أكثر عرضة للإصابة بالصداع، فطبقاً للدراسات النساء أكثر من الرجال في معدل الإصابة بالصداع بصورة عامة، وكبار السن أكثر من الشباب، وبعض أصحاب الأمراض المزمنة مثل ضغط الدم يكونون أكثر عرضة للإصابة بالصداع، وطبقاً لمنظمة الصحة العالمية فإن النساء يعانين الصداع النصفي أكثر من الرجال بثلاثة أضعاف، بينما الرجال أكثر عرضة للإصابة بالصداع العنقودي من النساء. وأفادت المنظمة ضمن تقرير صادر عنها عام 2024 بأن الأشخاص داخل البلدان النامية والمنخفضة الدخل أكثر عرضة للاضطرابات النفسية والصداع، بالنظر إلى عدم وجود اهتمام في بعض منها بالحصول على الرعاية الصحية والعلاج. 8- هل هناك أطعمة تساعد على الوقاية من الصداع؟ الأطعمة الغنية بالماغنيسيوم تساعد على تخفيف الصداع ومن بينها الموز والخضراوات الورقية والمكسرات، وتعمل الأكلات الغنية بالألياف على تقليل حدة الصداع مثل الخضراوات والفاكهة، وتساعد أيضاً الشوكولاتة الداكنة على تحسين الحالة عند الإحساس بالصداع، ودائماً ما يُنصح بالحرص على شرب الماء بكثرة وتناول الوجبات بانتظام حتى لا ينخفض السكر في الدم ويؤدي للإحساس بالصداع. وفي بعض الأحيان يُنصح بشرب فنجان من القهوة لكن دون إفراط، لأن زيادة الكافيين بصورة كبيرة في الجسم تؤدي إلى الإصابة بالصداع. 9- كيف يؤثر تغير المناخ في زيادة الإحساس بالصداع؟ الارتفاع الكبير في درجات الحرارة إضافة إلى ارتفاع الرطوبة وزيادة معدلات تلوث الهواء من مسببات الصداع، وحذرت دراسة للأكاديمية الأميركية لطب الأعصاب من التأثير الكبير لتغير المناخ في زيادة حالات الصداع بكل صورها، وبخاصة في المناطق التي تشهد تأثيرات كبيرة لتغير المناخ بكل صوره، وعلى رأسها ارتفاع درجات الحرارة عن المعدلات الطبيعية، أيضاً فإن المناطق التي تشهد تلوثاً كبيراً للهواء سواء بفعل الازدحام المروري أو حرائق الغابات مثلاً يكون الموجودون فيها أكثر عرضة بدرجة كبيرة للصداع من الآخرين الذين يقطنون ضمن أماكن أقل في نسبة التلوث. 10- ما أبرز علاجات الصداع؟ في الحالات الطبيعية يجري علاج الصداع باستخدام مسكنات الألم العادية التي في غالب الأحوال تباع دون وصفة طبية، وبعد تناولها من المفترض أن يختفي الصداع، أما في حال حدوث غير ذلك أو كان الصداع مقترناً بأعراض أخرى هنا لا بد من استشارة الطبيب للبحث عن الأسباب التي تؤدي لهذا الصداع وعلاجها من جذورها. وأقرت جمعية الصحة العالمية خلال مايو (أيار) 2022 خطة عمل عالمية في شأن الاضطرابات العصبية للفترة 2022-2031، وكان من بين أهدافها توفير الرعاية والخدمات للمصابين باضطرابات متعددة من بينها الصداع، تتضمن توفير الرعاية والتشخيص والعلاج الفعال وتشجيع البحث العلمي.


Independent عربية
منذ 3 ساعات
- Independent عربية
زحام ولا أحد... كيف مات شعورنا بالآخر؟
كانت المدينة القديمة كائناً حياً ينبض بالعلاقات بين سكانها، أي بين الجار وجاره، والبائع وزبونه، والمار وسكان الأحياء الذين يحولون الساحات إلى أمكنة للتلاقي والتسامر وتبادل الأحاديث. وكان سكان الحارات يعرفون بعضهم بعضاً، وأبواب بيوتهم مفتوحة من دون أن تعلوها كاميرات مراقبة، وكانت التحية الملقاة فعلاً بديهياً لا مجاملة ثقيلة، والتعاون وتبادل المساعدة والخدمات هو القاعدة، وحين يمرض أحد سكان الحي يهرع الجيران إلى مساعدته من دون أن يطلب. وكما في الأحزان كذلك في الأفراح، كان الجميع يتبادلون المشاعر في ما بينهم إما لمساندة الحزين أو لمشاركة السعيد فرحه. لكن هذا النمط من العلاقات لم يعد يحتل المشهد في المدينة الحديثة، حيث صارت العلاقة بين الجيران محصورة بإلقاء تحية الصباح أو المساء كما لو أنها فرض واجب، ومن دون أن يعرف أحدهم اسم الآخر. قد يعود الأمر إلى صعود الحياة الرقمية على حساب الروابط الاجتماعية بعدما تحول التواصل إلى مجرد إشعارات تمر في التطبيقات الإلكترونية، وغابت الأيدي التي تطرق الباب لتسأل الجار عن حاله، أو إذا ما كان يحتاج إلى المساعدة في أمر ما. الفردانية الحديثة والاكتئاب بدأ علم النفس الاجتماعي يسلط الضوء على العلاقات الاجتماعية في المجتمعات التقليدية، التي كانت تخلق إحساساً بالانتماء إلى الجماعة أو المكان أو إلى تقاليد عامة مشتركة، وقد وجد علماء النفس وعلماء الاجتماع أن هذا الشعور بالانتماء كان عنصراً محورياً في استقرار الفرد النفسي، وأن غياب الدعم الاجتماعي الذي لا يعتمد على فائدة أو مصلحة يجعل الإنسان أكثر عرضة للاكتئاب والقلق والشعور بالعزلة. وتؤكد تقارير صادرة عن منظمة الصحة العالمية أن المجتمعات التي لا تزال تحتفظ ببعض مظاهر العلاقات التقليدية، تشهد نسباً أقل من الأمراض النفسية وحالات الانتحار مقارنة بتلك التي تعيش تحت وطأة الفردانية الحديثة. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) والفردانية الحديثة تبدو تحرراً شكلياً يراه بعض الفلاسفة قيداً مموهاً، وكما يشير عالم الاجتماع دوركهايم فإن الإنسان لم يخلق ليكون جزيرة في بحر المجتمع بل عقدة في نسيج اجتماعي حي، وكما استنتج دوركهايم نفسه فقد سكنا المدن الجديدة، لكننا لم نعرف كيف نتساكن نفسياً مع بعضنا بعضاً في داخلها. في الدراسات الأنثروبولوجية التي تناولت المجتمعات الحضرية، ثمة شبه إجماع على أن المدن التقليدية في الشرق كانت تقوم على "شبكات اجتماعية حيوية". لم تكن البنية الحضرية معمارية فحسب، بل أخلاقية وعاطفية. البيت كان جزءاً من الشارع، والشارع جزءاً من الحي، والحي امتداداً للعائلة. على سبيل المثال في العاصمة اللبنانية بيروت وفي دمشق والقاهرة قبل عقود لم تكن الشرفات للفصل بين الجيران بل لتواصلهم. كانت النساء يتبادلن الطعام، والأطفال يتقافزون بين بيوت لا تفرق بينهم، والعتبة مساحة سردية تتشكل عليها الحكايات. لم يكن هناك شيء اسمه "خصوصية مفرطة"، بل شيء يشبه الأمان الجماعي. في المقابل، أفرزت المدن الحديثة ما يمكن تسميته سوسيولوجيا العزلة، وهو نمط الحياة القائم على الانفصال. فالأبراج الشاهقة والمجمعات السكنية الضخمة حيث لا يعرف السكان أسماء بعضهم بعضاً، أخفت "الإنسان الحميمي" أو العلاقات الحميمية بين الناس والسكان. كان عالم النفس إريك فروم أشار مبكراً إلى هذه الظاهرة، وكتب أن "المدينة الحديثة لا تقتل التواصل فحسب، بل تخلق شعوراً دائماً بالاغتراب حتى وأنت بين الناس". عتبة تلد الحكاية في كثير من القرى والبلدات في العالم العربي لا تزال العتبة تحتفظ بمعناها ودورها القديمين، حيث هي مكان للجلوس ولرؤية العالم يمر، ولطرح الأسئلة وتبادل الأحاديث مع المارة، وهناك مئات الأمثال الشعبية حول أهمية عتبة الباب، التي تدل على الكرم أو البخل أو على اتساع صدر أصحاب البيت أو ضيقه أو على ثراء وفقر صاحب العتبة. فعتبة البيت دليل إلى ما فيه، وهي في الوقت نفسه حده الذي يوصله بالشارع أو بالحي. وإذا كانت المدينة القديمة قد حاولت محاكاة هذا التكوين، فإن المدينة الحديثة تخلت عنه طوعاً، لأن العتبة ليست مجرد بناء هندسي، إنها رمز ثقافي واجتماعي وهندسي عمراني، إنها صلة بين الداخل والعالم، بين الأنا والآخرين، ومن ثم فإن خسارة العتبة ودورها ربما يعني خسارتنا أنفسنا ككائنات اجتماعية. ففي المدينة القديمة، لم يكن العمل مجرد مصدر للدخل، بل وأيضاً سبباً للعلاقات الاجتماعية المتينة. فصاحب المهنة كان أب المتدربين عنده أو العاملين، والزبائن لم يكونوا مجرد زبائن بل وجوهاً مألوفة تعرف بالاسم. وكان في الحي المديني لكل دكان جمهوره، وكل مهنة مرتبطة بعلاقة ثقة تدوم من جيل إلى جيل، بينما في أيامنا هذه تحولت العلاقات إلى عقود واتفاقات وربما إلى انتباه وارتياب من الآخر بعدما اختفى التواصل الحي والمباشر بين الجيران أو بين الموظفين ومديريهم لمصلحة البريد الإلكتروني وخدمة العملاء الآلية أو مجموعات الـ"واتساب"، أو يكتفي الجميع بالتواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي ناشراً للصور، وعارضاً حياته اليومية أمام الآخرين، وكأنه بذلك يقوم بكل ما هو مطلوب منه للحفاظ على العلاقات الاجتماعية التي تصير إلى ما يشبه التلصص بين الأصدقاء والأقارب على بعضهم بعضاً، وتصبح المشاركة بـ"اللايك" أو القلب أو الضحكة على البوست المنشور بديلاً عن تبادل الأحاديث والنقاش وتفعيل الذاكرة المشتركة للطفولة مثلاً. اليوم، يعيش الأطفال داخل جدران مؤسسات مغلقة مثل الحضانات والمدارس والأندية وشاشات الهواتف والكمبيوتر، فانقطعت صلتهم بالمحيط المكاني، سواء كان الجيران في المبنى أو الحي والزقاق. وما عاد بإمكان طفل اليوم أن يكون ذاكرة جمعية عن المدينة، بل يعيش في فضائه الخاص. وينطبق الأمر على النساء في المدينة القديمة اللاتي كن صانعات للنسيج الاجتماعي للحي، وكان تبادل الزيارات والصبحيات والجلسات المسائية والاحتفالات والتحضير لها وتبادل الطعام والطبخ بمثابة الشبكة الحامية لاستمرار العلاقات الاجتماعية الصحية. أما في المدينة الحديثة فقد تزايد ضغط العمل وتقلص هذا الدور واختفت المجالس النسائية المفتوحة التي كانت تكرس التربية والتضامن. في المدن التقليدية، كان الحي كياناً حياً تنسج فيه ذاكرة مشتركة. ولم يكن الشارع ممراً فحسب، بعدما صار مجرد وظيفة أو شقة للاستئجار أو عنوان على "جي بي أس". وكان الحديث مع شخص غريب في باص أو مقهى أمراً عادياً وشائعاً يولد حكاية أو صداقة، وكان الناس يرمقون بعضهم باهتمام عكس اليوم، حيث كل شخص يقبع خلف سماعة أو شاشة محاطاً بجدار من الصمت الرقمي. وحين نريد أن نعبر عن مشاعرنا للآخرين تحل محلها رموز مبتسمة أو غاضبة ترسل عبر أثير الإنترنت. الهندسة المضادة للعلاقات اليوم معظم المدن الكبرى صممت لأجل المرور لا لأجل اللقاء. وقد أظهرت دراسة أجراها Urban Land Institute أن 74 في المئة من مشاريع التطوير الحضري في السنوات الـ10 الأخيرة ركزت على الكفاءة والنقل والربحية، بينما تراجعت الاعتبارات الاجتماعية والبيئية. المدينة الحديثة، كما يصفها علم الاجتماع الحديث لم تعد جسداً حياً بل آلة مخصصة للتنقل والعمل. تقرير WHO لعام 2022 كشف عن أن سكان المدن يعانون الاكتئاب بنسبة 39 في المئة أكثر من سكان الأرياف. أما القلق المزمن، فارتفعت معدلاته بنسبة 60 في المئة بين من يعيشون في مناطق حضرية مكتظة. ويلاحظ تقرير مشترك بين جامعة "طوكيو" ومؤسسة Gallup أن معدلات الانتحار في المدن الكبرى تضاعفت مرتين في العقد الأخير، مع روابط واضحة بانعدام الدعم الاجتماعي والشعور باللاجدوى. منذ العقد الثاني من الألفية، بدأت حركات مدنية وحكومية في أوروبا وأميركا تعيد النظر في هذا المسار. وبحسب تقرير نشره معهد Project for Public Spaces الأميركي، فإن "تصميم المساحات لا يتعلق بالجمال أو التنقل فحسب، بل بإعادة إحياء الحميمية الجماعية". في العاصمة الألمانية، طورت بلدية برلين منذ 2016 مشروعاً اسمه Berliner Begegnungsorte أو "أماكن اللقاء البرلينية"، حيث حولت الأرصفة المتروكة في بعض الأحياء إلى نقاط تجمع محلية، وضعت فيها مقاعد ملونة، وخزائن كتب صغيرة مجانية. وفي العاصمة الفرنسية باريس، أطلقت البلدية مشروعJardins partagés (الحدائق المشتركة)، حيث يمنح سكان الأحياء إمكانية إنشاء حديقة في مساحة فارغة مهجورة، يزرعون فيها، يلتقون، ويطبخون أحياناً. هذه الحدائق، التي تتجاوز اليوم 150 حديقة في العاصمة وحدها، صارت بمثابة غرف معيشة خارجية. في دراسة لبلدية باريس، قال 78 في المئة من المشاركين إنهم تعرفوا إلى جيرانهم للمرة الأولى من خلال هذه الحدائق. في مانهاتن، حيث تقدر قيمة العقار بالمليمتر، بدا من المستحيل تحرير مساحات للناس. لكن تجربةOpen Streets عام 2020 أثناء جائحة كورونا فتحت العيون، فحين أغلقت شوارع أمام السيارات، وتركت للمشاة والدراجات والأنشطة الفنية ازدهرت الحياة، لذا وبعد انتهاء مرحلة كورونا تم تثبيت هذه التجربة في 2023، وإغلاق 80 شارعاً أمام السيارات أيام العطل. وبحسب تقرير لبلدية نيويورك، فإن هذه المبادرة أسهمت في تعزيز الصحة النفسية. من أكثر التجارب راديكالية تجربة "السوبر بلوك" (Superilla) في برشلونة. تقوم الفكرة على دمج تسعة مربعات سكنية في وحدة واحدة تغلق أمام المرور غير الضروري، وتخصص للمشاة والأطفال والموسيقى والأنشطة المجتمعية.


حضرموت نت
منذ 9 ساعات
- حضرموت نت
مساعد الأمين العام للشؤون الإنسانية: الصندوق الإنساني باليمن سيخصص 20 مليون دولار لمواجهة آثار انعدام الغذاء
مساعد الأمين العام للشؤون الإنسانية: الصندوق الإنساني باليمن سيخصص 20 مليون دولار لمواجهة آثار انعدام الغذاء مساعد الأمين العام للشؤون الإنسانية: الصندوق الإنساني باليمن سيخصص 20 مليون دولار لمواجهة آثار انعدام الغذاء ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة 2 ديسمبر , ولا يعبر عن وجهة نظر حضرموت نت وانما تم نقله بمحتواه كما هو من 2 ديسمبر ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة على المصدر السابق ذكرة.