
الانفصام الاجتماعي
التكنولوجيا الحديثة، خصوصًا وسائل التواصل الاجتماعي، أعادت برمجة طريقة تفكير البشر وتواصلهم. فالتفاعل المستمر مع المنصات الرقمية يحفز إفراز الدوبامين، ما يخلق إدمانًا على التفاعل الآني، لكنه يقلل من قدرة الدماغ على التعاطف مع الآخرين في العالم الحقيقي. هذا التناقض يُشبه "الانفصام الوظيفي"، حيث يعيش الفرد في فلك افتراضي مغلق، بعيدًا عن التفاعلات العميقة.
ومن الناحية العصبية، يشير الباحث شيري تركل من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إلى أن "الإنسان أصبح يتحدث أكثر لكنه يستمع أقل"، مما يُضعف المهارات الاجتماعية الأساسية مثل القراءة بين السطور أو فهم الإشارات غير اللفظية. هذه التحولات العصبية تُغذي حالة من "الانفصال العاطفي"، حتى داخل الأسر نفسها، حيث يجلس الأفراد في غرفة واحدة لكن كلًا منهم منشغل بهاتفه الذكي.
على المستوى الاجتماعي، يُعزى الانفصام إلى تعميق الانقسامات بين الجماعات بسبب تباين القيم والمعتقدات. في الولايات المتحدة، مثلًا، أظهر استطلاع للرأي عام 2023 أن 67% من المواطنين يشعرون بأن مجتمعهم "منقسم تمامًا" حول القضايا السياسية والدينية. هذا الانقسام يُعززه "الذكاء الاصطناعي" في منصات التواصل، الذي يُغذي المحتوى المتطرف عبر خوارزميات تعيد توجيه المستخدمين إلى المعلومات التي تتماشى مع آرائهم، ما يُعرف بـ"غرف المرآة".
على الصعيد النفسي، يعاني الأفراد من "ازدواج الهوية" في ظل التناقضات بين القيم التقليدية والحداثة. في المجتمعات العربية، مثلاً، تُظهر دراسة لجامعة القاهرة عام 2021 أن الشباب يعيشون صراعًا بين الانتماء للثقافة المحلية والانفتاح على القيم العالمية، ما يؤدي إلى اضطراب في الهوية وزيادة معدلات القلق والاكتئاب بنسبة 30 % مقارنة بالأجيال السابقة.
هذا التوتر النفسي يُترجم إلى سلوكيات تناقضية، مثل الانسحاب الاجتماعي أو الانخراط المفرط في الجماعات المتطرفة التي توفر إحساسًا بالانتماء. ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، هناك ارتباط مباشر بين الانفصال الاجتماعي وارتفاع معدلات الانتحار في الدول ذات الانقسامات العميقة، مثل كوريا الجنوبية واليابان.
رغم السلبيات، يحمل الانفصام الاجتماعي بعض الجوانب الإيجابية. ففي الوقت الذي يُضعف فيه الروابط بين الجماعات المختلفة، يُعزز التماسك داخل المجموعات الصغيرة. مثالًا، تشكلت مجتمعات داعمة للأقليات العرقية أو الجنسية عبر الإنترنت، مما ساعد أفرادًا كثيرين على العثور على الدعم العاطفي الذي يفتقدهم في مجتمعاتهم المحلية.
لكن هذا التماسك الجزئي لا يُعوِّض فقدان "الهوية الوطنية المشتركة". كما يحذر الباحث روبرت بوتمان، مؤلف كتاب "الانفصال الاجتماعي"، من أن "التركيز على الانتماءات الضيقة يُهدد مفهوم المواطنة، حيث تصبح الأولوية للطائفة أو العرق بدلًا من المصلحة العامة".
لعلاج الانفصام الاجتماعي، يُقترح تبني سياسات تعليمية تُعزز مهارات الحوار والتفكير النقدي، جنبًا إلى جنب مع تنظيم قانوني لمنصات التواصل لتفادي التضليل. في النرويج، مثلاً، تم تطبيق برامج مدرسية تُعلّم الطلاب كيفية التفاعل مع الآراء المخالفة، مما خفض معدلات الكراهية بنسبة 22 % خلال خمس سنوات.
كما يلعب الإعلام دورًا محوريًا عبر تقديم قصص إنسانية تُظهر التعقيد بدلًا من التبسيط، مثل ما فعلته قناة الجزيرة في سلسلة تقاريرها عن اللاجئين السوريين. وأخيرًا، يُشجع على تطوير مساحات عامة مفتوحة تحفز التفاعل بين مختلف الطبقات، مثل المهرجانات الثقافية أو المبادرات التطوعية المشتركة.
الانفصام الاجتماعي ليس مرضًا بقدر ما هو مرآة تعكس تناقضات العصر. بينما يُهدد هذا الواقع تماسك المجتمعات، فإنه يُذكّرنا بأهمية التوازن بين الاحتفاء بالاختلاف والتمسك بروابط الإنسانية المشتركة. ربما الحل لا يكمن في تجاوز الانقسامات، بل في تعلُّم العيش معها بوعي واحترام، كخطوة أولى نحو مجتمع أكثر إنصافًا وتكافؤًا.. يقول الفيلسوف هانس يوناس: "الإنسان أصبح قويًا بما يكفي ليُدمّر نفسه، لكنه ضعيف بما يكفي ليبحث عن من يُنقذه".
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ 10 دقائق
- الشرق الأوسط
الذكاء الاصطناعي... تجارب أدبية وسرديات معرفية
للدكتورة نادية هناوي صدر كتاب «الذكاء الاصطناعي: التأهيل والتهويل» عن دار «أبجد للنشر». يشتمل الكتاب البالغة صفحاته 325 من القطع المتوسط على عشرة فصول، توزعت بين قسمين: جاء الأول تحت عنوان «الذكاء الاصطناعي: تجارب أدبية»، وجاء الثاني تحت عنوان «الذكاء الاصطناعي: سرديات معرفية». وترى المؤلفة أنه يتوجب على مستخدم الذكاء الاصطناعي أن يضع في حسبانه أمرين: أولاً أن هذا الذكاء لا يقدر على تدريب نفسه بصورة ذاتية وهو يستعمل البيانات الضخمة، وثانياً أن احتمالية وقوع هذا الذكاء في الأخطاء واردة من ناحية ما تسميه «الهلوسة المعلوماتية»، وكذلك اضطرابه في تنفيذ بعض المطالب المعقدة وغير المتوقعة. وتشير إلى أن الاختبارات التي أُجريت في هذا المجال تؤكد أن عيب الكتابة الأدبية بنماذج الذكاء الاصطناعي يتمثل في عجز هذه النماذج عن فهم بعض التعقيدات اللغوية والسياقية، فضلاً عن عدم قدرتها على التواصل اللغوي المعقد، مما يولد ردوداً غير دقيقة أو مضللة، بسبب عدم فهمها للنصوص التي تنتجها، ولعدم شعورها بها بالمعنى البشري للشعور. وتقوم أطروحة الكتاب على تفنيد الأفكار المتداولة والشائعة حول قدرات الذكاء الاصطناعي، التي تضخِّم وتعظِّم ما يتوقع منها القيام به مستقبلاً. والملاحظ على كثير من مستخدمي الذكاء الاصطناعي أنهم يتابعون مستحدثات هذه التكنولوجيا ويداومون على استعمال نماذجها وبرامجها على اختلاف أشكالها، لكنهم لا يسعون بالمثل إلى التزود بثقافة إلكترونية تعرِّف بأهمية الذكاء الاصطناعي بوصفه وسيلة تقنية، وليس هدفاً بحد ذاته. وهنا تطرح المؤلفة عدداً من الأسئلة: هل يمكن للآلة الذكية أن تعمل بشكل حر (متخيَّل) وتأتي بنتائج مقنعة؟ إلى أي مدى يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون مفيداً في حقل الأدب؟ ما نقاط قوته وضعفه؟ كيف يمكن لنا تمييز المحتوى الرقمي البشري عن نظيره الاصطناعي؟ هل يمكن باستعمال تقنيات الذكاء الاصطناعي إنتاج قصة أو رواية ناجحة وبشكل تام من الناحية الإبداعية ومن دون أي تدخل للذكاء البشري فيها؟ هل يمكن للذكاء الاصطناعي إنتاج الجنسانية أو محاكاتها؟ ما الهويات التي ينتجها الذكاء الاصطناعي؟ كيف يمكن لقدرات الذكاء الاصطناعي أن تكون منتجة وفاعلة في المستقبل؟ ما الفرضيات التي بها يمكن النظر بمسؤولية إلى دينامية هذا الذكاء؟ وتعتمد د. نادية هناوي في إجاباتها عن هذه الأسئلة على تجارب وإحصاءات، تصب في صالح أطروحة كتابها. فبالاستناد إلى تجارب علماء النفس والشبكات العصبية، ترى أن «مظاهر السلوك البشري ليست كلها واعية كي تحاكيها الآلة الذكية؛ فثمة تجارب وسلوكيات تصدر عن مناطق في دماغ الإنسان مسؤولة عن اللاوعي والتجارب غير الإرادية. وهذه هي المعضلة في عمل الروبوتات، كونها لا تستطيع أن تثبت نجاحها في مجال الإحساس والوعي بشكل ذاتي. من ثم هي بحاجة دوماً إلى المراقبة من قبل خبراء بشريين. ذلك أن خوارزميات هذه الآلات الذكية ليس لها إحساس عاطفي في التفاعل مع العالم الواقعي. أولاً لأن ذلك يتطلب منها أن تستشعر الوقت وتعي المواقف بشكل ذاتي، وهو أمر مستحيل، وثانياً أن احتمال تدهور الأنظمة والبرمجيات وارد دائماً، وعادة ما يقع بشكل مفاجئ سريع وكلي على عكس الكائنات الحية التي لا تنهار فجأة». ومما تركز المؤلفة عليه الضوء أن المحاكاة هي أساس ما نراه في الذكاء الاصطناعي من قدرات، وأن هذا ما ينبغي أن نضعه في بالنا ونحن نتعامل معه، مدركين أن ما يقدمه هو في الحقيقة خلاصة عمليات محاكاته الرقمية للبيانات المتراكمة في الإنترنت والمخزونة على مدى العقود الماضية. والأمر في نجاح عملية المحاكاة مرهون بمستخدم الذكاء الاصطناعي فقد يُحسن استعماله فيسهل عليه أداء أغراضه بدقة وسرعة. أما بالنسبة إلى المستخدم الذي يريد من الذكاء الاصطناعي كتابة أدب سردي أو شعري أو نقدي، فهو بالأساس يستعين بالدينامية العصبية للبرمجيات الحاسوبية كي تحاكي الآلاف وربما الملايين من النصوص التي لها علاقة بما يُراد البحث فيه، ومن ثم لن يقع على جديد، فتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي ليست مثل العقل البشري تتضمن عمليات نفسية وذاتية، بل هي تستطيع المحاكاة كعلمية منطقية حسب، مع ضرورة وجود وسيط بشري كي يؤدي الذكاء الاصطناعي الوظائف المطلوبة منه. ومن دون هذا الوسيط لن تتمكن أقوى برامج الذكاء الاصطناعي من العمل من تلقاء نفسها.


عكاظ
منذ ساعة واحدة
- عكاظ
فيديو: 13 تريليون دولار وعقول إلكترونية.. ماذا يُخبئ الذكاء الاصطناعي؟
يشهد عام 2025 طفرة غير مسبوقة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ليبدأ عصر لا يشبه ما قبله. فقد غيّر هذا الذكاء الاصطناعي قواعد الطب، من خلال تشخيصات دقيقة وعلاجات مخصصة، إلى جانب أجهزة قابلة للارتداء وشرائح ذكية تراقب صحة الإنسان لحظة بلحظة. كما بدأت الروبوتات بالتحوّل إلى مساعدين صحيين يشاركون في إدارة الأمراض المزمنة، بينما تعتمد شركات الأدوية على الذكاء الاصطناعي لاكتشاف عقاقير جديدة بسرعة غير معهودة. ولا تقتصر الثورة على الطب، بل تمتد إلى الأمن والطاقة والصناعة. فأنظمة الذكاء الاصطناعي توفّر حماية سيبرانية استباقية، وتكشف مواد جديدة تُحدث تحولات جذرية في قطاعات الطاقة والصناعة. كما تسهم نماذج التفكير الذكي في حل المشكلات المعقدة، بل وتساعد مرضى الشلل على التواصل من خلال الدمج المباشر مع أدمغتهم. وبحلول 2030، يُتوقع أن يضيف الذكاء الاصطناعي ما يصل إلى 13 تريليون دولار للاقتصاد العالمي، في تحول تاريخي تعيد فيه «العقول الإلكترونية» رسم مستقبل العالم. أخبار ذات صلة


الرجل
منذ ساعة واحدة
- الرجل
فجوات الصحة النفسية في العمل.. كبار السن والنساء في مرمى الإهمال
كشف تقرير حديث أعدّه المدير العام لمنصة Calm Health، كريس كاري، عن وجود ثغرات بارزة في برامج الصحة النفسية المعتمدة في أماكن العمل، رغم التقدم الملحوظ في تبنّي هذه المبادرات خلال السنوات الأخيرة. وأكد التقرير أن تلك البرامج لا تزال تُهمل فئات أساسية من الموظفين، أبرزها كبار السن، والنساء خلال المراحل الانتقالية الصحية، فضلًا عن مقدمي الرعاية الذين يواجهون ضغوطًا مزدوجة ضمن ما يُعرف بجيل "السندويتش"، الذي يتحمّل مسؤولية الأبناء والآباء في آن واحد. أكثر من 20% من القوة العاملة في الولايات المتحدة اليوم تتجاوز أعمارهم 55 عامًا، ومع ذلك، لا تزال البرامج النفسية في أماكن العمل تركّز على الشباب، متجاهلة التحديات الخاصة بهذه الفئة مثل الألم المزمن، فقدان الأحبة، والمسؤوليات العائلية. وبحسب دراسة حديثة، فإن العمال بين 50 و59 عامًا يعانون تأثيرات نفسية تقطع عليهم 5 أيام عمل شهريًا في المتوسط، وهو رقم مقلق مقارنة بالمعدلات السابقة. المفارقة أن أكثر من 80% من الموظفين من كافة الأعمار أبدوا استعدادهم لاستخدام أدوات رقمية للصحة النفسية إذا توفرت، بشرط أن تكون سهلة وموثوقة وملائمة لاحتياجاتهم. لكن المشكلة تكمن في ضعف الوعي، إذ لا يعلم بوجود هذه الأدوات سوى 23% فقط من الموظفين. الفئات المنسية في برامج الصحة النفسية تشير البيانات إلى أن ثلث الموظفين تعرّضوا خلال العام الماضي لحالة تتطلب رعاية عائلية، سواء لآباء مسنين أو أطفال أو شركاء مرضى، ما انعكس سلبًا على إنتاجيتهم وقدرتهم على التركيز، واضطر كثير منهم لأخذ إجازات متكررة. ورغم أن فوائد دعم مقدمي الرعاية تُصنّف من بين الأكثر فاعلية، إلا أنها لا تزال نادرة في برامج الشركات. أما النساء، فتواجهن تحديات مضاعفة. فالمراحل الصحية المهمة مثل الحمل غالبًا ما تكون غائبة عن برامج الدعم النفسي، رغم تأثيرها العميق على الأداء. ففي المملكة المتحدة مثلًا، قالت 56% من النساء إن مشاكل الصحة الإنجابية أثّرت سلبًا على قدرتهن في العمل، مقارنة بـ37% فقط في الولايات المتحدة. الدراسة نفسها تشير إلى أن 78% من الموظفين واجهوا حدثًا كبيرًا في حياتهم خلال عام واحد، مثل مرض عائلي أو خسارة مفاجئة، لكن 30% منهم فقط وجدوا برامج نفسية متاحة للتعامل مع هذه الأحداث. وهذا يعكس الفجوة الحقيقية بين ما يحتاجه الموظفون وما تقدمه المؤسسات. ويختتم التقرير بتوصية واضحة: إذا أرادت الشركات أن تبني فرقًا مرنة ومهيأة للمستقبل، فعليها أن تتجاوز برامج العافية التقليدية، وأن تضع استراتيجيات مخصصة لكل فئة عمرية، وكل حالة نفسية، مدعومة بقيادة متعاطفة وأدوات تلبي احتياجات الموظف في موقعه الحقيقي—ليس فقط في ملفه الوظيفي.