
نادية ابراهيم نوري تكتب : لو لم تُحرَق كتبنا عبر التاريخ
بقلم : نادية إبراهيم نوري :
من الثابت تاريخيًا أن أول ما يسعى إليه أي مستعمر عند احتلاله لبلد ما هو تدمير مراكز القوة الفكرية والعلمية فيه. فيبدأ بتصفية العلماء والمثقفين والأطباء، ويحرق الكتب، ويخرب المتاحف، ليُضعف ارتباط الشعب بماضيه ويحرمه من مصادر وعيه وقدرته على مقاومة الاحتلال والتمسك بأرضه. هذه سياسة ممنهجة تبنّتها معظم قوى الاستعمار، إذ لا يكتفي المحتل بنهب الثروات، بل يعمل على زرع الفتن والانقسامات بين أبناء الشعب الواحد، ويُنفذ مبدأ "فرّق تسد'، حتى يُجزئ المجزّأ ويحول الأوطان إلى كيانات متصارعة يسهل السيطرة عليها. والذاكرة العربية مليئة بشواهد الاستعمار الذي سعى بكل قوته إلى طمس حضارتنا. والتاريخ لا ينسى ما فعله المغول في بغداد زمن الخلافة العباسية، حين تحولت مياه دجلة والفرات إلى اللونين الأحمر والأزرق، اختلاطًا بدماء الشهداء وحبر الكتب التي كانت تملأ خزائن ومكتبات بغداد، تلك العاصمة التي كانت منارة العلم ومقصد العلماء من شتى بقاع الأرض. لقد قيل الكثير عن بغداد في أوج مجدها؛ قال عنها يونس بن عبد الأعلى الصدفي: "قال لي الإمام الشافعي: هل رأيت بغداد؟ قلت: لا، فقال: لم ترَ الدنيا.' وأضاف الشافعي: "ما دخلت بلدًا إلا عددته سفرًا، إلا بغداد، فإني حين دخلتها عددتها وطنًا.' ووصفها آخرون: "الدنيا بادية وبغداد حاضرتها.' وقال ابن علية: "ما رأيت أعقل في طلب الحديث من أهل بغداد ولا أحسن رغبة.' وأبو بكر بن عياش قال: "من لم يرَ بغداد لم يرَ الدنيا.' كل هذا يعبّر عن قيمة بغداد كرمز للعلم والحضارة والنهضة، لكنّ همجية الغزاة لم تكن لتدرك أن بإحراقها للكتب واغتيالها للعقول، لا تضر الأمة المحتلة وحدها، بل تُلحق الأذى بالبشرية جمعاء. يؤكد ذلك العالم الفرنسي الحاصل على نوبل في الفيزياء عام 1903، بيير كوري، بقوله: "لقد تمكنت من تقسيم الذرة بالاستعانة بثلاثين كتابًا من بقايا الحضارة الأندلسية.' وتابع قائلاً: "لو أُتيحت لنا فرصة الاطلاع على المئات أو الآلاف من كتب المسلمين التي أُحرقت، لكنا اليوم نتنقل بين المجرات.' إنّ إحراق تراث المسلمين لم يكن خسارة للأمة وحدها، بل للعالم أجمع، خصوصًا أن العصرين الأموي والعباسي شهدا ذروة التقدم العلمي والثقافي، وكانت الأندلس بوابة أوروبا إلى علوم العرب والمسلمين، من طب وفلك ورياضيات وفلسفة وغيرها. ولا يمكن إغفال دور الحضارات القديمة الأخرى في منطقتنا، مثل حضارات وادي الرافدين ووادي النيل واليمن والفينيقيين، التي أسهمت في بناء الفكر الإنساني منذ آلاف السنين. ومن الشواهد المهمة على ذلك، رُقيم طيني وُجد في بابل يصوّر مثلثًا قائم الزاوية، مما يُرجّح أن فيثاغورس – الذي زار بابل ومكث فيها – استقى نظريته من البابليين، إن لم يكن قد نقلها حرفيًا. إن ما توصل إليه الغرب من تطور علمي اعتمد بدرجة كبيرة على ما بقي من إرث حضارتنا، التي تعرّضت في مراحلها المختلفة إلى حملات تدمير ممنهجة عبر الحروب والاحتلالات. ولعل من أهم الأسباب التي ساهمت في تراجعنا أيضًا هو تراجع شغف الأجيال الجديدة بالبحث والاطلاع، وضعف تقديرهم للإرث العلمي والحضاري الذي أنجزه الأجداد. ومن هنا، فإن مسؤوليتنا اليوم هي إعادة إحياء الوعي بقيمة هذا الإرث، وتحفيز الشباب على التمسك بجذور حضارتهم، والسير على خُطى الأجداد، حتى تستعيد أوطاننا مكانتها بين الأمم، وتشارك بفاعلية في بناء مستقبل البشرية

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


أخبارنا
منذ 25 دقائق
- أخبارنا
د محمد العزة يكتب : غزة مدينة الجوع لا تعرف الخضوع
أخبارنا : تصاعدت في الآونة الأخيرة نداءات الاستغاثة من قطاع غزة المنكوب، الذي تفوح منه رائحة الموت ويعاني من الجوع، لكنه يرفض الركوع أو الخنوع ، حتى رغم الحصار ممنوع من الصراخ، لكن المنظمات الدولية والهيئات الأممية الإغاثية لم تستطع أن تتجاهل المشهد، فأطلقت صرخاتها التي هزّت ما تبقى من ضمائر العالم إن وجدت ، هو ما دفع العديد من عواصم القرار إلى إعادة ملف الاعتراف بالدولة الفلسطينية إلى طاولة النقاش والقرار الدولية . اليوم، بات صوت غزة يعلو ليذكّر العالم بحقيقة المأساة: وضع إنساني كارثي مزرٍ وصل إلى حد المجاعة، وسط الهجمة البربرية الإسرائيلية، التي لا تفرق بين المدنيين الأبرياء من طفل أو امرأة أو شيخ أو جريح. في ظل هذا الصمت ظهرت صورة مؤثرة للملكة رانيا العبدالله، لفتت الأنظار عالميًا، لامرأة تُمسك طفلها المحتضر جوعًا، وهي تحتضنه بانتظار الموت ليرحمه من ألم الحياة. صورة تحمل في طياتها ألف رسالة والف قصة ، تعبّر عن قسوة الحصار وأهوال الحرب وجرائم الإبادة الجماعية التي حولت غزة إلى ركام تنهشه المجاعة والأمراض. هي رسالة صامتة للعالم المتخم المترف الذي لا يعرف ماذا يعني انقطاع الكهرباء عن أجهزة الأوكسجين، أو كيف تموت امرأة حبلى وقد جف حليبها ، لا تجد ما ترضعه لطفلها الذي ما زال متصل بحبلها السري ، أو لمريض جرعة غسيل كلى لا تصل. غزة اليوم لن تموت، بل تصنع الحياة بالمقاومة، وتقدّم درسًا أخلاقيًا وإنسانيًا وسياسيًا في مواجهة مشاريع الإذلال والتجويع والخضوع. لكن، خلف هذا المشهد المأساوي، عجلة السياسة هناك تتحرك. التصريحات الصادرة من واشنطن وتل أبيب حول «مفاوضات إنهاء الحرب» تبدو جزءًا من استراتيجية إلهاء، تهدف إلى كسب الوقت، وإعادة ترتيب المسرح وفق أجندة تستهدف الضفة الغربية، لا غزة فقط. الاحتلال لا يستهدف الجغرافيا فقط، بل يسعى إلى محو ديمغرافيا الإنسان الفلسطيني. ويسعى من خلال سياسة التجويع والعقوبات، لفرض تسويات تفرّغ الأرض من سكانها والسيطرة على الموارد ، لهذا يفرض هندسة حدود ميدانية تخدم مخططاته في الضفة وغزة على السواء. السيناريو الأكثر تفاؤلا ، للأسف، ليس سوى حكم محلي منزوع الدسم ، تابع، يعيش على هامش قرارات تل أبيب، مقابل تنازلات تضمن بقاء القطاع في صيغة «إدارة داخلية» تحكم المدن، مقابل تفريغ الريف والمناطق الحدودية. وسط هذه الصورة، تبقى غزة علامة أسطورية فارقة مخالفة لقوانين الفيزياء الحيوية في زمن الموت، غزة تختار الحياة، في زمن الركوع، رغم الجوع. -رسالة إلى من هم في ميدان الخنادق أو على طاولة التفاوض داخل الفنادق: ما قمتم به هو حق مشروع، ودفاع بطولي عن الأرض والكرامة. ولكن، وفي ظل ما نعيشه من مجازر جماعية، واختلال في موازين القوى لا بد من شجاعة سياسية توقف هذا النزيف ، حيث من الشجاعة احيانا أن لا نموت . آن الأوان على حركة حماس أن تتحمل مسؤولياتها السياسية، وتوظف نضالها العسكري في خدمة الهدف السياسي الصحيح، خاصة ان قنوات الاتصال مفتوحة مع الولايات المتحدة ، الداعم الرئيسي لهذا العدوان ، آن الأوان لتحويل هذه القنوات إلى أدوات لوقف القتل، بدل الاكتفاء بالمواقف والبيانات. في المقابل، غير مقبول من بعض الأطراف المشبوهة تحميل المسؤولية للأردن ، في إيقاف حرب لم يبدأها أو يكن طرفا فيها ، لكنه لم يدخر جهدًا في الإغاثة ودعم القطاع من بدايه العدوان عليه ، وآخرها قوافل الإمداد الميدانية. بعض الأصوات المشككة ذات الأجندة تسعى لتشويه وإضعاف دوره ، لأنها تدرك مدى قوة تأثيره في الحالة الجارية لأسباب عدة : موقعه الجيوسياسي وأهميته، ملف اللاجئين وحق العودة ، الوصاية الهاشمية على المقدسات . كلها اوراق سياسية قادرة على إفشال مخططات الطرف الإسرائيلي الديني المتطرف الماثلة بتهديدات اطماع التوسعة وهواجس الهجرة القسرية لتصفية القضية الفلسطينية على حساب الاردن. أيضا مطلوب مشروع سياسي وطني فلسطيني جامع يعيد اللحمة الوطنية، ويضع حدا للانقسام المدمر. الاستمرار في الانقسام لن يخدم سوى إسرائيل، ويقدم رفاهية آنية لقيادات منقسمة يقابله وضع الآلاف من ابناء الشعب الفلسطيني في غزة والضفة في مواجهة مخاطر الموت على السواء. ختامًا نعم، الاحتلال الصهيوني هو المسؤول الأول عن هذه المذبحة، ومعه الحليف الأمريكي. لكن رفع هذه المأساة يتطلب قرارات استراتيجية، وخفض اسقف سياسية مؤقتة ، لدرء الخطر الأكبر: الإبادة الديمغرافية ، وهذا لا يعني بقبول املاءات الصهيوامريكي بالمطلق . إن فشل جهود تشكيل حكومة وحدة وطنية محايدة سيؤدي إلى انفجار أوسع، قد يمتد ليشعل الإقليم بأكمله. كما حذّر الملك عبد الله الثاني مرارًا: «المنطقة على صفيح ساخن، والشعوب باتت تتململ وقد تنفجر». من لا يقرأ عليه أن يبدأ إعادة القراءة ومن لا يفكر فليتعلم . المرحلة تتطلب وعيا وتفكيرًا استراتيجيا ديناميكيا مرنًا، يُوازن بين الثوابت والمصالح، ويؤسس لخارطة طريق تحرر الأرض وتحمي الإنسان، وتعيد للأمة دورها التاريخي. اليوم، لا نملك رفاهية الخيارات ، لكننا نملك إرادة البقاء، والصمود في صراع الوجود وهذا كاف بالحد الأدنى في هذه المرحلة الحرجة لاستيعاب ما هو آت.

عمون
منذ 35 دقائق
- عمون
غزة مدينة الجوع لا تعرف الخضوع
تصاعدت في الآونة الأخيرة نداءات الاستغاثة من قطاع غزة المنكوب،الذي تفوح منه رائحة الموت و يعاني من الجوع، لكنه يرفض الركوع أو الخنوع ، حتى رغم الحصار ممنوع من الصراخ، لكنها المنظمات الدولية والهيئات الأممية الإغاثية لم تستطع أن تتجاهل المشهد، فأطلقت صرخاتها التي هزّت ما تبقى من ضمائر العالم إن وجدت ، هو ما دفع العديد من عواصم القرار إلى إعادة ملف الاعتراف بالدولة الفلسطينية إلى طاولة النقاش و القرار الدولية . اليوم، بات صوت غزة يعلو ليذكّر العالم بحقيقة المأساة: وضع إنساني كارثي مزري وصل إلى حد المجاعة، وسط الهجمة البربرية الإسرائيلية، التي لا تفرق بين المدنيين الأبرياء من طفل أو امرأة أو شيخ أو جريح. في ظل هذا الصمت ظهرت صورة مؤثرة للملكة رانيا العبدالله، لفتت الأنظار عالميًا، لامرأة تُمسك طفلها المحتضر جوعًا، وهي تحتضنه بانتظار الموت ليرحمه من ألم الحياة. صورة تحمل في طياتها ألف رسالة و الف قصة ، تعبّر عن قسوة الحصار وأهوال الحرب وجرائم الإبادة الجماعية التي حولت غزة إلى ركام تنهشه المجاعة والأمراض. هي رسالة صامتة للعالم المتخم المترف الذي لا يعرف ماذا يعني انقطاع الكهرباء عن أجهزة الأوكسجين، أو كيف تموت امرأة حبلى وقد جف حليب ضرعها ، لا تجد ما ترضعه لطفلها الذي ما زال متصل بحبلها السري ، أو لمريض جرعة غسيل كلى لا تصل. غزة اليوم لن تموت، بل تصنع الحياة بالمقاومة، و تقدّم درسًا أخلاقيًا و إنسانيًا و سياسيًا في مواجهة مشاريع الإذلال والتجويع والخضوع. لكن، خلف هذا المشهد المأساوي، عجلة السياسة هناك تتحرك. التصريحات الصادرة من واشنطن وتل أبيب حول "مفاوضات إنهاء الحرب" تبدو جزءًا من استراتيجية إلهاء، تهدف إلى كسب الوقت، وإعادة ترتيب المسرح وفق أجندة تستهدف الضفة الغربية، لا غزة فقط. الاحتلال لا يستهدف الجغرافيا فقط، بل يسعى إلى محو ديمغرافيا الإنسان الفلسطيني. ويسعى من خلال سياسة التجويع والعقوبات، لفرض تسويات تفرّغ الأرض من سكانها و السيطرة على الموارد ، لهذا يفرض هندسة حدود ميدانية تخدم مخططاته في الضفة وغزة على السواء. السيناريو الأكثر تفاؤلا ، للأسف، ليس سوى حكم محلي منزوع الدسم ، تابع، يعيش على هامش قرارات تل أبيب، مقابل تنازلات تضمن بقاء القطاع في صيغة "إدارة داخلية" تحكم المدن، مقابل تفريغ الريف والمناطق الحدودية. وسط هذه الصورة، تبقى غزة علامة أسطورية فارقة مخالفة لقوانين الفيزياء الحيوية في زمن الموت، غزة تختار الحياة، في زمن الركوع، رغم الجوع. -رسالة إلى من هم في ميدان الخنادق أو على طاولة التفاوض داخل الفنادق: ما قمتم به هو حق مشروع، ودفاع بطولي عن الأرض والكرامة. ولكن، وفي ظل ما نعيشه من مجازر جماعية، و اختلال في موازين القوى لا بد من شجاعة سياسية توقف هذا النزيف ، حيث من الشجاعة احيانا أن لا نموت . آن الأوان على حركة حماس أن تتحمل مسؤولياتها السياسية، و توظف نضالها العسكري في خدمة الهدف السياسي الصحيح، خاصة ان قنوات الاتصال مفتوحة مع الولايات المتحدة ، الداعم الرئيسي لهذا العدوان ، آن الأوان لتحويل هذه القنوات إلى أدوات لوقف القتل، بدل الاكتفاء بالمواقف والبيانات. في المقابل، غير مقبول من بعض الأطراف المشبوهة تحميل المسؤولية للأردن ، في إيقاف حرب لم يبدأها أو يكن طرفا فيها ، لكنه لم يدخر جهدًا في الإغاثة و دعم القطاع من بدايه العدوان عليه ، وآخرها قوافل الإمداد الميدانية. بعض الأصوات المشككة ذات الأجندة تسعى لتشويه و أضعاف دوره ، لأنها تدرك مدى قوة تأثيره في الحالة الجارية لأسباب عدة : موقعه الجيوسياسي و أهميته، ملف اللاجئين وحق العودة ، الوصاية الهاشمية على المقدسات . كلها اوراق سياسية قادرة على إفشال مخططات الطرف الإسرائيلي الديني المتطرف الماثلة بتهديدات اطماع التوسعة و هواجس الهجرة القسرية لتصفية القضية الفلسطينية على حساب الاردن. أيضا هذه القيادة مطالبة اليوم بإعادة النظر في موقفها من المبادرة العربية، والانخراط في مشروع سياسي وطني فلسطيني جامع يعيد اللحمة الوطنية، ويضع حدا للانقسام المدمر. الاستمرار في الانقسام لن يخدم سوى إسرائيل، و يقدم رفاهية آنية لقيادات منقسمة يقابله وضع الآلاف من ابناء الشعب الفلسطيني في غزة والضفة في مواجهة مخاطر الموت على السواء. ختامًا نعم، الاحتلال هو المسؤول الأول عن هذه المذبحة، ومعه الحليف الأمريكي. لكن رفع هذه المأساة يتطلب قرارات استراتيجية، و خفض اسقف سياسية مؤقتة ، لدرء الخطر الأكبر: الإبادة الديمغرافية ، وهذا لا يعني بقبول املاءات اسرائيلية امريكية بالمطلق . إن فشل جهود تشكيل حكومة وحدة وطنية محايدة سيؤدي إلى انفجار أوسع، قد يمتد ليشعل الإقليم بأكمله. كما حذّر الملك عبد الله الثاني مرارًا: "المنطقة على صفيح ساخن، والشعوب باتت تتململ وقد تنفجر". من لا يقرأ عليه أن يبدأ إعادة القراءة ومن لا يفكر فليتعلم . المرحلة تتطلب وعيا و تفكيرًا استراتيجيا ديناميكيا مرنًا، يُوازن بين الثوابت والمصالح، ويؤسس لخارطة طريق تحرر الأرض و تحمي الإنسان، وتعيد للأمة دورها التاريخي. اليوم، لا نملك رفاهية الخيارات ، لكننا نملك إرادة البقاء، و الصمود في صراع الوجود و هذا كاف بالحد الأدنى في هذه المرحلة الحرجة لاستيعاب ما هو آت.


أخبارنا
منذ ساعة واحدة
- أخبارنا
د. مهند النسور : التنوع مصدر قوة: روسيا الاتحادية مثالًا حيًا
أخبارنا : في عالم تتنازع فيه الدول بسبب التعدد العرقي والديني، تبرز روسيا الاتحادية كحالة فريدة تُظهر كيف يمكن للتنوع أن يكون مصدرًا للقوة لا سببًا للتفكك. تمتد روسيا من أقصى شرق آسيا إلى حدود أوروبا، وتضم أكثر من 190 قومية وعشرات الديانات واللغات، ومع ذلك حافظت على كيان سياسي موحد. السر في ذلك يتجذر في التاريخ ويستمر في الحاضر. منذ عهد القياصرة، تبنّت روسيا نهج الاحتواء بدل الإقصاء. لم تُلغَ الهويات المحلية بل تم دمجها تدريجيًا في نسيج الدولة. وفي الحقبة السوفييتية، تم اعتماد نموذج يعترف رسميًا بالجمهوريات القومية ضمن دولة موحدة، فالاتحاد لم يكن للتنميط، بل للتعايش المنسجم تحت قيادة مركزية. ولعلّ الأسماء القيادية خير دليل على نجاح هذا النهج. ستالين كان جورجيًا، وخروتشوف أوكرانيًا، وفي روسيا الحديثة، يشغل سيرغي لافروف منصب وزير الخارجية رغم أصوله الأرمنية. رجل الأعمال اليهودي رومان أبراموفيتش، تولّى منصب حاكم إقليم ناءٍ، بينما عُرف السياسي جيرينوفسكي بأصوله المختلطة الكازاخية واليهودية. هذه الأسماء تعبّر عن سياسة دمج لا تفرّق، تقوم على أساس الولاء للدولة. ويتجاوز هذا النهج المجال السياسي ليشمل الثقافة والفنون. فـأنّا أخماتوفا الشاعرة الشهيرة كانت من أصول تتارية، وجوزيف برودسكي، الحائز على نوبل، من عائلة يهودية. أما شوستاكوفيتش، فقد مزج في موسيقاه بين الأرثوذكسية واليهودية والتقاليد السلافية. كما تحتفي المتاحف الروسية بأعمال فنانين من أصول داغستانية وأرمنية وقرمية، ما يعكس ثراءً حضاريًا جامعًا. هذا التنوع ما كان ليزدهر لولا النظام الفيدرالي المرن الذي اعتمدته روسيا. يمنح هذا النظام الكيانات الفيدرالية حرية إدارة شؤونها الثقافية والتعليمية والدينية ضمن إطار الولاء للدولة. ففي تتارستان تُدرّس التترية إلى جانب الروسية، وفي ياقوتيا تُنتج برامج بلغة ياقوتية وتُدرّس في المدارس، بينما يُمارس السكان شعائرهم بحرية. في العمق الروحي، تقوم روسيا على قاعدة الأرثوذكسية المسيحية، لكنها في الوقت نفسه احتضنت الإسلام باعتزاز. يعيش أكثر من 20 مليون مسلم في روسيا، ولهم مساجدهم ومفتيهم وتعليمهم. يكفي أن ثاني أكبر مسجد في أوروبا يقع في قلب موسكو، ليعكس هذا الاحترام المؤسسي. وبينما تعاني دول كثيرة من تفكك الهويات، تُقدّم روسيا نموذجًا عمليًا لإدارة التعددية بدون طائفية أو عنف. البوذية، الأرثوذكسية، اليهودية، والإسلام كلها ديانات معترف بها قانونيًا وتتمتع بحماية الدولة. ورغم التحديات، حافظت روسيا على وحدتها دون أن تقع في فخ الطائفية أو الانقسام. إن التجربة الروسية تؤكد أن الوحدة لا تعني إلغاء الفروقات، بل احترامها وتنظيمها ضمن مشروع وطني جامع. فعندما تنظر إلى خريطة روسيا، وتسمع لغاتها، وتقرأ آدابها، وتدخل متاحفها، تدرك أن هذه الدولة لا تقوم على مركزية خانقة، بل على فسيفساء وطنية رحبة تتسع للجميع.