logo
الصين وأميركا.. حرب باردة في معادن ساخنة

الصين وأميركا.. حرب باردة في معادن ساخنة

ورغم الهدنة التجارية التي جرى التوصل إليها مؤخرًا في جنيف بين أكبر اقتصادين في العالم، إلا أن تصريحات وتحركات الطرفين، لا سيما في ملف المعادن النادرة، تعكس واقعًا هشًا ينذر بانفجار قريب.
المعادن النادرة... المخزون الصيني والورقة الرابحة
تمتلك الصين نحو 50 بالمئة من احتياطي العالم من المعادن النادرة، وتنتج ما يزيد عن 60 بالمئة من مجمل الإنتاج العالمي، بينما تعتمد الولايات المتحدة على بكين في تغطية نحو 70 بالمئة من حاجتها من هذه المواد الحيوية. هذا الواقع يمنح الصين ورقة ضغط استراتيجية، وهو ما استعرضه بإسهاب أنطوني ساسين، كبير استراتيجيي الاستثمار في شركة "Kraneshares"، خلال حديثه إلى برنامج "بزنس مع لبنى" على سكاي نيوز عربية.
يقول ساسين: "المعادن النادرة سلاح تستخدمه الصين لتدفع الولايات المتحدة إلى المسار الذي تريده. هي قادرة في أي وقت على فتح أو إغلاق الصادرات، وهذا يعطيها نفوذاً تفاوضياً بالغ القوة". هذه التصريحات لا تُفهم إلا ضمن سياق ديناميكية العلاقات بين القوتين، حيث تتقاطع المصالح الاستراتيجية مع المصالح الصناعية والتكنولوجية.
هدنة هشة ومفاوضات مضطربة
عقب توقيع الهدنة المؤقتة في جنيف لمدة 90 يومًا، والتي هدفت إلى تهدئة التصعيد وفتح قنوات تفاوض جديدة، بدأت الشكوك تتصاعد بشأن استمراريتها. ساسين يرى أن "الهدنة تتضعضع شيئاً فشيئاً، لكنها في ذات الوقت تُظهر التعقيد العميق في العلاقة بين البلدين". ويضيف أن المفاوضات لا تعني بالضرورة تقارباً استراتيجياً، بل مجرد تنظيم للاشتباك الدبلوماسي والتجاري.
ويشير ساسين إلى أن النقاط الخلافية بين الطرفين لا تزال قائمة، لا سيما ملف الذكاء الاصطناعي وتايوان والدفاع، وهي قضايا "لن تُحل بسهولة وربما لن تُحل أبداً"، على حد تعبيره. ويبدو أن المعادن النادرة أصبحت في قلب هذا الاشتباك، خاصة بعد إعلان الصين عن قيود على تصدير سبعة من أهم هذه المعادن.
في مواجهة هذه الخطوة الصينية، اتجهت الولايات المتحدة إلى إقرار حزم تحفيزية هائلة، خاصة في قطاع الطاقة النظيفة والسيارات الكهربائية ، في محاولة لتقليل الاعتماد على سلاسل التوريد الصينية. ويعلق ساسين: "أميركا بدأت بإعداد حزم تحفيز ضخمة منذ سبتمبر 2024، حتى قبل وصول ترامب، لكن هذه الحزم لن تكون كافية على المدى القصير لتعويض الفجوة مع الصين".
وتبقى مشكلة التضخم في الداخل الأميركي عائقاً رئيسياً أمام أي تحرك اقتصادي كبير، إذ أن رفع الفائدة واستمرار الضغوط التضخمية تضعف من قدرة المستهلك الأميركي، كما تضع الإدارة الاقتصادية أمام تحديات سياسية، لا سيما مع اقتراب الاستحقاق الرئاسي.
ثلاثة أسلحة صينية ضد ترامب: من المعادن إلى المزارعين
يشير تقرير سكاي نيوز عربية إلى أن الصين استخدمت ثلاثة أسلحة رئيسية في مواجهتها مع إدارة ترامب:
المعادن النادرة: فرضت بكين قيوداً على تصديرها، ما أثار قلق الصناعات الأميركية من الدفاع إلى الإلكترونيات.
ضرب القاعدة الزراعية الأميركية: عبر وقف استيراد منتجات مثل فول الصويا والذرة واللحوم، ما شكل ضغطاً على قاعدة ترامب الانتخابية.
توسيع العلاقات التجارية الدولية: إذ أصبحت الصين الشريك التجاري الأول لـ60 دولة، مقابل 30 فقط لأميركا، ما عزز مكانة بكين في التجارة العالمية.
ويعلق ساسين على هذه النقطة بالقول: "الصين لم تعد بحاجة لأميركا كما كانت سابقاً. لقد تنوعت شراكاتها وتوسعت استثماراتها، وهذا يمنحها قدرة أكبر على الصمود والمناورة".
واحدة من أكثر القطاعات تأثراً بتوتر العلاقات بين البلدين هو قطاع السيارات الكهربائية، الذي يعتمد بشكل كبير على المعادن النادرة والبطاريات. وقد شهد هذا القطاع في الأشهر الماضية حالة من التذبذب الحاد في الأسعار والمبيعات.
يقول ساسين: "القطاع مر بفترة نمو قوية بعد حزمة التحفيزات، لكننا اليوم نرى تباطؤاً واضحاً. بعض الشركات مثل BYD الصينية استطاعت الصمود عبر تخفيض الأسعار بنحو 30-35 بالمئة، لكن هناك مخاوف من حرب أسعار جديدة تضرب السوق".
ويضيف أن شركات مثل تسلا تواجه صعوبات في طرح منتجات جديدة، بينما شركات صينية مثل Xpeng وNIO بدأت تحقق اختراقات في الأسواق الخارجية بأسعار تنافسية، ما يضع الشركات الأميركية في موقف صعب.
الصلب والألمنيوم: تعريفات ترفع تكلفة الصناعة
قرار الصين الأخير بفرض رسوم على صادرات الصلب والألمنيوم كان له أثر مباشر على تكلفة السيارات والإلكترونيات في السوق الأميركية. ويشير ساسين إلى أن هذه الرسوم قد تزيد تكلفة السيارات بنسبة تتراوح بين 3 إلى 5 بالمئة، ما يعني مزيداً من الضغط على المستهلك الأميركي الذي يعاني أصلاً من معدلات تضخم مرتفعة.
ويضيف: "ترامب يضغط من أجل إظهار أن التضخم سببه إدارة بايدن، لكن الحقيقة أن هذه الضغوط نتيجة سياسة مواجهة اقتصادية معقدة مع الصين، والتي لن تنتهي بقرار سياسي بسيط".
اليوان الصيني... تصاعد الثقة والتوقعات الاستثمارية
على صعيد العملات، يشير ساسين إلى أن أداء اليوان الصيني في تحسن مستمر، مدفوعاً بنمو اقتصادي ثابت وشراكات دولية ناجحة. ويقول: "اليوان قد يتفوق على الدولار خلال 5 إلى 7 سنوات إذا استمرت الصين بهذا النمو. نحن نرى تدفقات استثمارية متزايدة نحو السوق الصينية، خاصة مع تحركات شركات مثل علي بابا".
ويرى أن تحسن اليوان يعني المزيد من الاستقلالية الاقتصادية للصين، وتراجع الاعتماد على الدولار في التجارة العالمية، وهو ما يتماشى مع الاستراتيجية الصينية طويلة المدى.
رغم كل التوترات، يجمع المراقبون، ومن بينهم ساسين، على أن واشنطن وبكين لن تنفصلا اقتصادياً بشكل كامل. "البلدان يعلمان أنهما بحاجة لبعضهما البعض. حتى في ظل النزاعات، هناك إدراك متبادل للترابط بين الاقتصادين"، يقول ساسين.
لكن ساسين في الوقت ذاته يحذر من أن "قضايا مثل الذكاء الاصطناعي، الدفاع، وتايوان ستظل خطوطاً حمراء تمنع الوصول إلى مصالحة شاملة". ويرى أن التفاوض سيظل الشكل الأساسي للعلاقة، دون أن يعني ذلك الوصول إلى حلول حقيقية.
الصين تقود والعالم يتابع
في نهاية المطاف، تقف الولايات المتحدة والصين أمام مفترق طرق في علاقتهما التجارية. المعادن النادرة ليست سوى عنوان بارز لواقع أعقد من مجرد تبادل تجاري؛ إنه صراع إرادات، وقوة اقتصادية، وهيمنة جيوسياسية. تصريحات أنطوني ساسين تضيء على هذه الزوايا المخفية، وتكشف أن العالم مقبل على مرحلة جديدة من الحرب التجارية، حيث لا تعود الرسوم الجمركية وحدها هي السلاح، بل الموارد الحيوية، وسلاسل الإمداد، والتحالفات العالمية.
ربما لا تُقرع طبول الحرب بعد، لكن رنينها بات مسموعاً في أروقة الاقتصاد العالمي، و"الهدنة" تبدو أقرب إلى استراحة محارب منها إلى اتفاق سلام دائم.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ترامب يتّهم إيران بـ«المماطلة» في ما يتعلق بالاتفاق النووي
ترامب يتّهم إيران بـ«المماطلة» في ما يتعلق بالاتفاق النووي

صحيفة الخليج

timeمنذ 41 دقائق

  • صحيفة الخليج

ترامب يتّهم إيران بـ«المماطلة» في ما يتعلق بالاتفاق النووي

واشنطن - أ ف ب اتهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الأربعاء، إيران بـ«المماطلة» في ما يتعلق بالمباحثات الجارية مع الولايات المتحدة بشأن برنامجها النووي، مشدداً على أنه يريد من طهران «رداً نهائياً في وقت زمني قصير جداً». وكتب ترامب على منصته «تروث سوشال» عقب مباحثة هاتفية مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، إن الأخير ألمح إلى أنه قد «يشارك» في المباحثات الهادفة إلى التوصل إلى اتفاق جديد بشأن برنامج طهران النووي والتي تجريها الولايات المتحدة وإيران بوساطة عمانية منذ نيسان/ إبريل.

مفاهيم اختلفت معانيها
مفاهيم اختلفت معانيها

صحيفة الخليج

timeمنذ ساعة واحدة

  • صحيفة الخليج

مفاهيم اختلفت معانيها

أتذكر أياماً لم نختلف فيها حول معاني المفاهيم. كنا سذجاً أم كنا نعيش في عالم بمعالم واضحة خطوطه مستقرة والنوايا فيه ثابتة. الاستعمار مثلاً، جاءت فترة كانت المؤتمرات الدولية الأهم تعقد تحت اسمه. لم تخجل الدول الأوروبية من أن توصف بكونها استعمارية ولم يخف ممثلوها من العسكر والمدنيين نواياهم عصر إمكانات وثروات الدول الضعيفة حتى آخر قطرة. ثم جاءت فترة انتفضت شعوب، شعب تلو شعب، لتخرج من تحت عباءته. كانت الانتفاضات مكلفة في الأرواح كما في الممتلكات، لكنها كانت كافية لتنهي مرحلة الاستعمار. شهدنا على دول كانت ذات يوم رائدة في فلك الاستعمار راحت بكل شجاعة ووقار تخلع عن اسمها لقب «العظمى». بريطانيا في مطلع هذه المرحلة لم تعد تخاطب الدول الأخرى تحت صفة «العظمى»، لكنها لم تتخل تماماً عن بعض أساليب الاستعمار الأول. انحدرت المكانة، لكن بذكاء خارق استطاعت قيادتها أن تحل بروحها وخبرتها في جسد «المستعمرة الأمريكية» لتصير، وصارت، خير خلف لإمبراطورية لم تغب عنها الشمس إلا يوم أفولها. كثير من أبناء جيلي تأملوا طويلاً، وببعض الدهشة، المقابلة التي جرت وقائعها أمام جمهرة الصحفيين بين الرئيس الأمريكي القادم لتوه من آثار تجربة في الحكم لم تكتمل وبين رئيس دولة أوكرانيا الضحية النموذجية لكل ما دخل من تغيير على تطبيقات مفهوم الاستعمار. نعرف، أو قل علمونا في جامعاتهم، أن حلف الأطلسي أقيم لأهداف بينها هدف حماية ما تبقى لدول أوروبا الاستعمارية من نفوذ وممتلكات ومستعمرات بعد حرب أنهكت دولاً كثيرة في أوروبا وأنعشت الولايات المتحدة. للمرة الثانية في أقل من ثلاثين عاماً تخرج الولايات المتحدة من حرب عالمية منتصرة. في هذه المرة الأخيرة لم تتردد الولايات المتحدة في أن تتولى قيادة التيار الغالب في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، تيار «تصفية الاستعمار»، في شكله القديم، أي المباشر والقائم أحياناً على الاحتلال العسكري. ولكن، ومن دون الإعلان أي من دون التصريح به، كان يهدف إلى حماية أنواع جديدة من «الاستعمار» سواء بالتدخل الأمريكي المباشر أو بأدوات وآليات حلف الأطلسي. المثال الأبرز هو ما كشفت عنه، وبجرأة أو تهور لم نشهد مثيلاً له منذ بدأنا نتابع الانسحاب التدريجي للاستعمار بصوره التقليدية، المقابلة الأشهر في تاريخ «دبلوماسية الاستعمار الجديد»، أقصد المقابلة بين زيلنسكي رئيس أوكرانيا وترامب الرئيس الأمريكي في مكتبه البيضاوي وأمام الصحفيين المعتمدين لدى البيت الأبيض. كانت درساً تلقفه بالعناية اللازمة والقلق الشديد والإنكار العظيم زعماء عديدون في عالم الدول الناشئة، وبخاصة الدول الزاخرة أراضيها أو بحارها بالمعادن النادرة ومقومات الطاقة المستجدة. عشنا خلال المقابلة، مع ملايين المشاهدين من كافة أنحاء العالم المستفيد من الشبكة الإلكترونية، دقائق غير مسبوقة من متابعة بالصوت والصورة أقصى درجات الضغط في مقابلة دبلوماسية بين طرفين غير متقاربين في القوة والنفوذ، بل تفرق بينهما جميع حسابات ومعايير القوة المتعارف عليها في العلاقات الدولية. بمعنى آخر كنا شهوداً، بل وكنا أيضاً بصفتنا ممثلي دول وشعوب من عالم الجنوب مشاريع ضحايا أو أطراف محتملة في عملية استعمارية تقليدية صارخة ومكشوفة وصريحة «ومتوحشة» الأسلوب إن صح التعبير. كانت «المقاومة» الضحية الثانية في عمليات تغيير المفاهيم. كنا في شبابنا نغني لها أحلى الأناشيد. تعرفت إليها في دورة تدريب جرى تنظيمها في الأرض الفضاء الفاصلة بين كليتي التجارة ودار العلوم على ما أذكر. كان الانضمام للمقاومة شرفاً لا يعادله فخر أو شرف آخر في وعي مراهق أو شاب دخل للتو مرحلة النضج. أظن أننا نضجنا في جو صحي شاركت في صنعه المقاومة المسلحة ضد المستعمر الإنجليزي. تذوقنا متعة حمل السلاح لحماية وطن محتل، ويا لها من متعة! هناك في غزة، وكنا في رحلة كشفية، أقمنا معسكرنا في باحة مدرسة. ذات يوم خرجت مبكراً بمفردي متوجهاً نحو مخيم الشاطئ. مشيت في شوارعه وأزقته أبحث عن شاب حملت له رسالة من قريبة له في القاهرة. وجدته اصطحبني في المشي، اخترنا مكاناً قصياً لنتحادث. هناك فهمت مجدداً معنى أن تبدأ حياتك الواعية مقاوماً. حدث كل هذا في أوائل الخمسينات من القرن الماضي، كانت المقاومة المصرية تعمل في منطقة القناة ضد معسكرات وأفراد الجيش الإنجليزي وكانت المقاومة الفلسطينية تعمل ضد مستوطنات إسرائيل، وكانت المقاومة الجزائرية محل إعجاب كل العرب من دون استثناء وشعوب الدول حديثة الاستقلال. وقتها سجلت المقاومة سطوراً من النور تحكي بطولاتها وفضلها على شعوبها، سجلت أيضاً في تلك السطور فضل شعوبها ودعمها لها. تغير المقصود بمفهوم الاستعمار وتغير المقصود بمفهوم المقاومة، تغير محتوى المفهومين ومفاهيم أخرى في ظاهرة تستحق الاهتمام بالتسجيل والتنبيه. نحن في أشد الحاجة إلى كتابات تتابع التغيرات التي أصابت، أو استجدت على، محتوى مفاهيم من نوع المطورين والمحرقة واليهودية والمسيحية الصهيونية والوسطاء أو الوساطة في عصر الاستعمار، والدبلوماسية في زمن الفوضى، ومحتوى مفاهيم من نوع العروبة والشرق أوسطية الجديدة والأنهار الدولية والقانون الدولي وإسرائيل الكبرى والإقليمية الجديدة ومستقبل المواجهة الناشبة بين مفهومي السايكس بيكوية والترامبوية في الشرق الأوسط على ضوء ما تغير، وما أكثره.

الموقف من الصين يبقى لغز ترامب الأكبر
الموقف من الصين يبقى لغز ترامب الأكبر

البيان

timeمنذ ساعة واحدة

  • البيان

الموقف من الصين يبقى لغز ترامب الأكبر

إدوارد لوس يقول المحللون المختصون، إن نقطة قوة دونالد ترامب تكمن في وضوح بعض مواقفه، خاصة حين يتعلق الأمر بكراهيته للمهاجرين، وهوسه بالعجز التجاري، لكن الأمر ليس كذلك بالمرة بالنسبة لما يخص الصين. لا يوجد شيء يمكن التنبؤ به في ما يتعلق بسياسة ترامب تجاه الصين، ناهيك عن الاتساق، فهل تعنيه تايوان حقاً؟ لا أحد يعلم. وهل يسعى إلى فك الارتباط بين الولايات المتحدة والصين؟ أدر عجلة الحظ، بالتالي من غير المرجح أن تبدد المكالمة بين ترامب والرئيس الصيني ارتباكنا، فالصين تبقى لغز ترامب الأكبر. ولا يمكنك لوم الصينيين على حذرهم من التحدث معه، ففي نهاية أبريل الماضي صرح ترامب لمجلة «تايم» بأن الرئيس الصيني هاتفه، وأنه لا يظن أن تلك علامة على ضعفه، غير أنه لم تكن هناك أي مكالمة أساساً، بالتالي فإن أي محاولة من ترامب لتحليل نفسية شي جين بينج لا بد أن تكون هلوسة مثل التي تصيب الذكاء الاصطناعي. واتهمت وزارة الخارجية الصينية ترامب بـ«تضليل الجماهير»، وهو التصريح الذي يعد مهذباً كثيراً وفق معايير اليوم، لكن لا يجب علينا تفسير تجنب شي لخطاب «الذئب المحارب» على أنه إذعان لترامب في حرب التعريفات الجمركية، والصين ليست المملكة المتحدة، كما أن الصينيين حائرون بشأن الهدف النهائي من خطوات ترامب، شأنهم في ذلك شأن الجميع. وإذا وافق الرئيس الصيني أخيراً على مهاتفة ترامب، وستكون الأولى منذ تنصيبه، فسيشكل تضارب البيانات الرسمية الصادرة عن واشنطن وبكين قراءة مثيرة للاهتمام، ويكاد يكون من المستحيل تصور موافقة شي على المشاركة في واحدة من حلقات تلفزيون الواقع الخاصة، التي يجريها ترامب من المكتب البيضاوي، فقد كان لهذه المخاطرة تأثير سلبي كبير على فولوديمير زيلينسكي، الرئيس الأوكراني، وسيريل رامافوزا، رئيس جنوب أفريقيا، لكنها كانت مفيدة لمارك كارني، رئيس وزراء كندا، وربما كير ستارمر، رئيس وزراء المملكة المتحدة، لكن لن يوافق شي أبداً على المشاركة في ذلك العرض. إن الصراع التجاري بين أمريكا والصين يتميز بطابع خاص، أما بقية نزاعات ترامب الأخرى مع دول أو تكتلات اقتصادية مثل الاتحاد الأوروبي وكندا فهي إما وهمية و إما مبالغ فيها، ومن غير المُرجح أن يعترف الاتحاد الأوروبي بأن ضريبة القيمة المضافة الخاصة به تعد حاجزاً تجارياً، مثلما لن تعترف كندا بتصدير الفنتانيل إلى الولايات المتحدة، فكلاهما ضرب من الخيال. في المقابل تشكل طموحات الصين التكنولوجيا مزدوجة الاستخدام معضلة جيوسياسية كبيرة للولايات المتحدة، وكيف سيتعامل ترامب معها؟ وسواء قام بإلغاء قيود جو بايدن «الساحة الصغيرة، السياج العالي» على تجارة أشباه الموصلات مع الصين أم لا فهو أمر يهم الجميع. رغم ذلك لا تتوفر لدينا الكثير من المعلومات عن قدر قلق ترامب من هذا، فكلا الجانبين يتمتع بالنفوذ، ويمكن للولايات المتحدة أن تواصل فرض القيود على وصول الصين إلى تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، والرقائق التي تشغلها، لكن ترامب خفف بالفعل بعض هذه القيود. ويُعد جنسن هوانغ، الرئيس التنفيذي لـ «إنفيديا» مناصراً ذا تأثير على ترامب في ما يتعلق بتخفيف القيود. وعلى الجانب الآخر تهيمن الصين على الإمدادات العالمية من المعادن الأرضية النادرة، وهي الضرورية لمجموعة واسعة من المنتجات الأمريكية، وزعم ترامب أن الصين حنثت باتفاق الشهر الماضي، الذي كان يرمي إلى استئناف صادرات المعادن الأرضية النادرة إلى الولايات المتحدة. وفي برهة التوقف المؤقت هذه خفض ترامب تعريفاته الجمركية ضد الصين من 145% إلى 30 %. فهل سيرفع ترامب التعريفات الجمركية من جديد إذا لم ترفع الصين الحظر الذي فرضته؟ ليست هناك طريقة لتبين ذلك، فقد سبق لترامب أن ظن أن منصة «تيك توك» المملوكة للصين تمثل تهديداً للأمن القومي الأمريكي، أما الآن فقد أبقى على استمرار تطبيق التواصل الاجتماعي، مع احتمال بيعه قسراً إلى شريك لترامب في الأعمال، بخلاف رغبات الكونجرس والمحكمة العليا. لذلك قد تمضي سياسة ترامب بشأن الصين على شاكلة سياسته إزاء «تيك توك». ويسود ارتباك مشابه بشأن تايوان، فكثير من الأصوات داخل إدارة ترامب تحثه على الدفاع المستميت عن تايوان، وقال بيت هيغسيث، وزير الدفاع الأمريكي، الأسبوع الماضي: «إن التهديد الذي تشكله الصين لتايوان حقيقي، وقد يكون وشيكاً»، لكن لا يأخذ كثيرون في أمريكا أو حول العالم هيغسيث على محمل الجد، فقد عينه ترامب ليلعب دور وزير الدفاع على شاشات التلفزيون. ويُعتقد على نطاق واسع أن الصين تتأهب لغزو تايوان بحلول عام 2027. ربما يكون هيغسيث محقاً في حديثه، لكن هناك من يرى أنه غير موثوق به، وهكذا فقد صنع ترامب خطراً حقيقياً يجابه الأمن القومي بتعيينه وزير دفاع يطلق تحذيرات غير حقيقة. ويمثل عدم اليقين إزاء سياسة ترامب تجاه الصين أيضاً عبئاً على الاقتصاد العالمي، وتحدث الرئيس الفرنسي، بلسان الكثيرين الأسبوع الماضي عندما قال: «لا نرغب في تلقي تعليمات يومية عما هو مسموح به، وما هو ممنوع، وكيف ستتغير حياتنا بسبب قرار يصدر عن شخص مفرد». كانت هذه واحدة من الطرق للتعبير عن الأمر، وإليكم طريقة أخرى صدرت عن جيمي دايمون، الرئيس التنفيذي لـ«جيه بي مورغان»: «تُعد الصين خصماً محتملاً، لكن ما يقلقني حقاً هو نحن وليس الصين»، وكان دايمون دبلوماسياً عندما لم يذكر اسم الرئيس الأمريكي، وبذلك تُعد الصين وبقية دول العالم على قلب رجل واحد في ما يتعلق باللغز، الذي تتسبب به تقلبات ترامب.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store