
المقاومة وراء الاعتراف بدولة فلسطين
صحيح، أن مبدأ إقامة الدولة الفلسطينية يحظى باعتراف عالمي ساحق، سجلته قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقد قاربت نحو الألف قرار، أيدتها 147 دولة، من إجمالي 193 كيانا معترفا به على سطح المعمورة، قد تضاف إليها 20 دولة أخرى قبل ومع اجتماع سبتمبر المقبل، الجديد فيها انضمام دول من المعسكر الغربي لنصرة الحق الفلسطيني في حده الأدنى المطروح اليوم، وقد سبقت وتلحق أيرلندا وإسبانيا والنرويج وسلوفينيا والبرتغال وكندا وبلجيكا ولوكسمبورغ وسان مارينو ومالطا وأيسلندا وأستراليا وغيرها.
إضافة إلى تشقق التأييد الغربي التلقائي الأعمى لكيان الاحتلال، وتصاعد تمرد أعضاء بارزين في الاتحاد الأوروبي، وعلى نحو ما جرى في هولندا، وتأكيد عشر دول بين 27 دولة عضوا في الاتحاد الأوروبي، أنها تؤيد وقف اتفاق الشراكة التجارية التفضيلية مع إسرائيل، بينما لا تزال ألمانيا الأقوى اقتصاديا تعارض التوجه الأوروبي الجديد، ولأسباب كثيرة، ربما أهمها خلط الأوراق، والوقوع في أسر عقدة الذنب التاريخي العائد لزمن هولوكست هتلر لليهود، بما جعل ألمانيا ـ بعد هتلر ـ بقرة حلوبا للحركة الصهيونية، دفعت وتدفع لكيان الاحتلال مئات المليارات من الدولارات، وتحتل المرتبة الثانية في منح وتصدير السلاح للكيان، بعد أمريكا ذاتها، وإن كان الرأي العام الألماني يضيق بسياسة حكوماته الذيلية تجاه إسرائيل، وعلى نحو ما نشهده في شوارع مدن ألمانيا الكبرى والصغرى، من مظاهرات شعبية غاضبة، وصرخات ضمائر حية ضد حرب الإبادة والتهجير الجارية للفلسطينيين في غزة والضفة والقدس، ومظاهرات الألمان امتداد طبيعي لطوفان غضب الرأي العام في عواصم الغرب الكبرى، وعبوره المحيط الأطلنطي إلى كندا وأمريكا نفسها، وفي بلاد ديمقراطية التكوين السياسي، تأتي حكوماتها بالانتخابات الدورية، ويضطر بعضها إلى مسايرة الرأي العام، حتى إن جرى العدوان عليه وقهره أحيانا، كما جرى ويجري في أمريكا تحت إدارة دونالد ترامب، لكن الاتجاه العام لنصرة الحق الفلسطيني، يبدو صاعدا بانتظام منذ طوفان الأقصى، الذي تلته حرب الإبادة والعذاب الأسطوري للشعب الفلسطيني، وصمود مقاومته المذهلة على مدى ما يقارب سنتين إلى اليوم، صعد فيها الغضب الشعبي الغربي إلى أعلى ذراه، وبالذات في أوساط الأجيال الجديدة، التي بدت فلسطينية الهوى مقابل إسرائيلية الآباء والأجداد، ورفعت أعلام وكوفيات وصدحت هتافات فلسطين حرة في كل مكان، وبلغ تأثيرها في المشهد الشعبي الغربي حدودا بعيدة، ففي آخر استطلاع رأي أمريكي، أبدى 60% من الأمريكيين تأييدهم للحق الفلسطيني، ووقف حرب الإبادة، بينما تراجعت شعبية ترامب نفسه إلى 40%.
وبدا التحول الدرامي الهائل في الغرب من آيات وتجليات وبركات المقاومة الفلسطينية بكل المعاني، فقد ولدت ونمت الظاهرة الجديدة، بالتوازي مع ما جرى في فلسطين وفي غزة بالذات، وبدا ذلك كله انقلابا تاريخيا في الرأي العام الغربي، فالحركة الصهيونية غربية المنشأ في الأساس، ووثيقة الصلة العضوية بحركة الاستعمار والإمبريالية الغربية، وانتقلت رعاية الكيان الصهيوني من بريطانيا إلى أمريكا بعد حرب السويس 1956، التي قطعت ذيل الأسد البريطاني، وأنهت هيمنته الكونية، وكان الأمر الطبيعي في السياق الغربي حكومات وشعوبا، أن تكون الرواية الصهيونية هي الغالبة، بل السائدة لعقود، وأن يجري التغني بمعجزة إسرائيل قاعدة الغرب المتقدمة في المنطقة العربية، وفي أوقات سبقت، كما في الخمسينيات والستينيات وبعض السبعينيات من القرن العشرين، كان تأييد الحق الفلسطيني يكاد يكون محصورا في جماعات مثقفين تقدميين وأحزاب يسارية راديكالية قريبة ومناصرة لحركات التحرر العربي، وبعد انهيار موسكو الشيوعية أوائل التسعينيات، تداعى تأثير وحضور جماعات اليسار الراديكالي، وبالتوازي مع انحسار المشاركة العربية في نصرة الحق الفلسطيني، انتقلت المقاومة الفلسطينية إلى أرضها، بعد خفوت الصوت العربي العام، وتوالت الانتفاضات الفلسطينية الأولى والثانية، وصولا إلى طوفان الأقصى صباح السابع من أكتوبر 2023، وقبلها مع الخذلان العربي للفلسطينيين بعد حرب أكتوبر 1973، وتوابعها المعاكسة في المغزى، كانت تنشأ وتتطور ظاهرة جديدة، كان الفلسطينيون وحدهم ـ باستثناء حزب الله اللبناني ـ في ميادين الانتفاض والمقاومة، وكان الفلسطينيون في الشتات الغربي وحدهم تقريبا في نصرة شعبهم، وكانت جماعات نشيطة من الفلسطينيين تتزايد أدوارها في نشر الرواية الفلسطينية المضادة للسردية الإسرائيلية، والمتحدية لسطوة اللوبيهات الصهيونية المسيطرة في عواصم الغرب الكبرى، ونجح الجهد الفلسطيني وبعض العربي الشعبي المهاجر، وجذب شرائح هامشية من الرأي العام الغربي، وكانت تلك خميرة أولية مناسبة، وجدت في لحظة طوفان الأقصى وما تبعها مددا فياضا، مع التطور الطفري في وسائط التواصل الاجتماعي، وكثافة الحوادث الدموية المنقولة لحظيا بالصوت والصورة، وكل ذلك قاد إلى تحول مثير غير مسبوق، انتقلت معه صرخة فلسطين حرة من الهامش الغربي إلى المتن الفعال، وصارت الرواية الفلسطينية منافسة مزاحمة للرواية الصهيونية في الوجدان الغربي، وجرى التحول الذي ضغط على سياسة حكومات غربية متزايدة العدد، وظهر الميل الغربي المتزايد للاعتراف بالحق الفلسطيني كثمرة مباشرة لكفاح المقاومة وغرس الدم الفلسطيني.
ومع التسليم بأن طريق التحرير لا يزال طويلا وشاقا، فإن مؤتمرات الاعتراف بدولة فلسطين لا تخلو من أثر إيجابي، صحيح أن دولة فلسطين لن تقوم في الخمسة عشر شهرا المقبلة، كما يطمح البيان الختامي لمؤتمر نيويورك الأخير، والسبب ببساطة، أن تعهدات التنفيذ من قبل ما يسمى المجتمع الدولي، لا تملك الاستعداد ولا القوة الجبرية اللازمة لتحرير الأراضي، وإنهاء الاحتلال، وعلينا أن نضع الأمر في مكانه الذي لا يبارحه، فكسب الرأي العام الدولي مفيد جدا لنصرة الحق الفلسطيني، وعلى نحو سياسي رمزي الطابع غالبا، لكن التحرير الفعلى يظل رهنا بتطور المقاومة الفلسطينية، وبكل صورها الشعبية السلمية والمسلحة، وهو ما يجعل بعض نصوص البيان الختامي لمؤتمر نيويورك خارج النص وفاقدة الصلاحية، فلا يمكن ـ مثلا ـ لجماعات المقاومة تسليم سلاحها قبل القيام الفعلي للدولة، ولا تستساغ إدانة البيان إياه لهجوم السابع من أكتوبر الفلسطيني، فالحق في المقاومة مقدس ومسنود ومكفول بشرائع السماء والقوانين الدولية، وما دام ثمة احتلال فلا بد من المقاومة، والمقاومة هي التي تصنع التعاطف الدولي وليس العكس، وفي التاريخ الفلسطيني الحديث والمعاصر، نجحت مرحلة مقاومة فتح وأخواتها في كسب تأييد دولي من الصين وروسيا وشعوب ودول الجنوب العالمي، ثم أضافت موجة مقاومة حماس وأخواتها بالذات بعد طوفان الأقصى وتوابعه، وكسبت مددا جديدا مناصرا للحق الفلسطيني، وفي خلخلة حائط التأييد الغربي الأعمى لكيان الاحتلال وحروبه الهمجية، ولا تزال هناك أشواط مضافة، لا تفيد فيها مناشدات عربية بائسة لحكومة الاحتلال في تل أبيب، ولا لحكومة إسرائيل العليا في واشنطن، فلسنا بصدد سوق خيري وتسول للحقوق، وقد فرضوا ويفرضون الاحتلال بالقوة على الشعب الفلسطيني والشعوب العربية المجاورة، والحقوق لا تعود بالاستجداء، بل بتغيير موازين القوى في الميدان، وحتى في التفاوض، لا يكسب أحد فوق الموائد بأكثر مما تصل إليه مدافعه، ولم تملك أي حركة مقاومة وتحرير في التاريخ ما يملكه عدوها من سلاح، ووظيفة المقاومة هي إنهاك العدو تدريجيا ودفعه للتراجع في النهاية.
وبالجملة، لا تقوم دولة فلسطين بمجرد الاعتراف الدولي بالحق في إقامتها، بل تقوم الدولة حين تتحرر أرضها، وما من سبيل لتحرير بغير المقاومة أولا وأخيرا.
كاتب مصري
نقلا عن القدس العربي
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الصحراء
منذ ساعة واحدة
- الصحراء
في حضرة العروي.. كيف التهمت الأيديولوجيا أوطاننا؟
في أغلب الدول العربية، تتشابك داخل الدولة الواحدة تيارات فكرية متعددة: دينية، وقومية، وتقليدية، وحداثية، دون أن تملك الدولة رؤية موحدة توجّه هذا التنوع وتؤطّره ضمن مشروع سياسي موحّد. هذا الغياب يؤدي إلى احتقان سياسي وانقسام في الوعي العام، فيصبح كل موقف سياسي موضع شك، كما نراه مؤخرًا في تفاعلات الحرب على غزة. ومع كل أزمة كبيرة، تعود الأسئلة القديمة لتطرح نفسها: لماذا تعجز الدولة عن احتواء الاختلاف؟ لماذا يبدو خطابها مفصولًا عن الواقع؟ لماذا يفقد السياسيون قدرتهم على الإقناع؟ ولماذا تنقسم الولاءات داخل البلد الواحد؟ في مثل هذه اللحظات، أستحضر فكر عبد الله العروي، لأن منهجه التاريخاني وأدواته المفاهيمية تمنحني إطارًا لفهم ما يدور من حولنا بوعي أعمق. يرى العروي أن بناء الدولة الحديثة يستلزم فهمًا تاريخانيًا للمفاهيم، باعتبارها نتاجًا لسياقات اجتماعية وثقافية محددة. لذا، لا يجوز استيرادها أو استعادتها دون نقد تاريخي. فالتاريخانية شرط لبناء دولة وطنية عقلانية، تقوم على المواطنة والقانون، وتتجاوز الانتماءات التقليدية والخطاب الميتافيزيقي نحو مشروع تحديثي لا يعيد إنتاج الماضي. الدولة الحديثة، كما يفهمها العروي، لا تكتفي بالمؤسسات والقوانين، بل تحتاج إلى فكر يحمل مشروعها، ويمنحها معناها، ويؤطّر علاقتها بالمجتمع والماضي والمستقبل. فكرٌ تاريخاني يؤمن بأن القيم والنُظُم تتغير، ويُوظّف التاريخ لا لتكراره بل لتجاوزه، وينقل الدولة من البُنى التقليدية إلى أفق حداثي عقلاني. بناء دولة حداثية لا يستقيم على أسس دينية أو قبلية أو مذهبية، لأنها تُكرّس الانقسام وتُعيق المواطنة. من هنا تبرز الحاجة إلى أيديولوجيا تاريخانية تُعيد قراءة الماضي بعقلانية، وتضع التحديث في صلب مشروعها. فالدولة الحديثة تفترض فكرًا سياسيًا يتجاوز البُنى التقليدية، وهو ما تفتقر إليه كثير من الدول العربية التي بقيت رهينة لأيديولوجياتها القديمة. التصوّر العقلاني للدولة والأيديولوجيا، كما يطرحه العروي، يصطدم بواقع عربي يتسم بالاضطراب؛ فبعض الأنظمة تتبنى خطابات متناقضة، وأخرى تتحوّل إلى وسطاء بين قوى اجتماعية ودينية متصارعة، بينما تُوظّف الأيديولوجيا أحيانًا كغطاء للسلطة بدل أن تكون أداة للوعي. والنتيجة دول هشّة، بلا سردية موحّدة أو مشروع جامع، ما يُبرز أهمية أطروحة العروي كأداة نقدية لفهم هذا الواقع وأسباب تعثّره. هذا ما نراه بوضوح في السودان واليمن، حيث تتنازع أيديولوجيات متصارعة (قبلية، دينية، جهوية) كيان دولة مفككة أصلًا، فتصبح النتيجة كما نرى: حربًا أهلية بلا مشروع وطني. وفي العراق، الدولة موجودة شكليًا، لكنها رهينة ولاءات طائفية تتنازع على السلطة باسم أيديولوجيات داخلية وخارجية فقدت قدرتها على إنتاج أفق جامع. في سوريا، مثّل حزب البعث نموذجًا لدولة ترفع شعار القومية العربية، لكنها في العمق كانت تُدار وفق منطق طائفي أمني مركزي. هذه الأيديولوجيا القومية، بدل أن توحّد الشعب، أصبحت غطاءً لاحتكار السلطة وإقصاء المختلف. مع اندلاع الثورة السورية، انكشفت هشاشة الدولة وتحوّلت سوريا إلى ساحات نفوذ داخلية وخارجية، تتنازعها أيديولوجيات متضاربة، بعضها ديني، وبعضها انفصالي. اليوم، ما نشهده من محاولات السلطة الجديدة لإشراك كل المكونات السياسية والاجتماعية والمذهبية، يواجه تحديات، أبرزها الطائفية ومشاريع التقسيم، بينما تفقد الأيديولوجيا القومية التي حكمت سوريا لعقود طويلة قدرتها على توحيد الرؤية أو استعادة الشرعية. في غزة، لا تغيب الأيديولوجيا هناك أيضًا، رغم أن الطابع العام المُحرّك تأسس على قضية وجودية نضالية بامتياز في مواجهة احتلال، لكنها هي الأخرى ليست بعيدة عن نماذج الأيديولوجيا التي حكمت ولا زالت المجتمعات العربية، كما وصفها العروي: بين حماس بخطابها الإسلامي المقاوم، وفتح بخطابها الوطني التقليدي، وحركات أخرى تلوّن الصراع الفلسطيني بلغة دينية أو ثورية أو حتى شعبوية. المشكلة أن هذه الأيديولوجيات تتحول في كثير من الأحيان إلى أداة لإدامة الانقسامات، أكثر من كونها مشروعًا جامعًا للتحرير وبناء الدولة. أما في لبنان، فحدّث ولا حرج، فالدولة تتنازعها الطوائف، وكل طائفة تحمل أيديولوجيا خاصة بها: دينية أو سياسية أو ثقافية، بل ومرتبطة بولاءات خارجية تجعل من فكرة الدولة مجرد توازن للمصالح لا أكثر، سحبت لبنان ومؤسساته إلى الهاوية. وهذا هو النموذج الذي ينتقده العروي، حيث تتحول الأيديولوجيا من أداة لبناء الدولة إلى عامل يُعطّل حركتها ويُكرّس عجزها. في الحالة الأردنية، تبرز أزمة غياب الأيديولوجيا كما يُحلّلها عبد الله العروي بوضوح لافت. فالدولة لم تُنتج بعد فكرًا عقلانيًا حديثًا يُوحّد المجتمع ويوجّه وعيه، بل اكتفت بإدارة توازناته التقليدية القائمة على الدين والعشيرة والشرعية التاريخية. ومع اندلاع حرب غزة، ظهر هذا الخلل بشكل ملفت: تشتّت المواقف، وانقسم الشارع، واهتزّت الثقة بالخطاب الرسمي. الإعلام أخفق في بلورة موقف وطني واضح، وانشغل بالتبرير أو الصمت، وخطاب السياسيين والمثقفين ضعيف وعاجز. بهذا المعنى، فإن الدولة الأردنية، في ظل غياب أيديولوجيا عقلانية تُشكّل وعيًا جمعيًا، بدت عاجزة عن قيادة الناس، مكتفية بإدارة الأزمة لا بتوجيهها، تاركة المواطن يتأرجح بين الولاءات الضيقة وغياب الانتماء الفعلي للدولة الوطنية الحديثة. لهذا، حين أعود إلى فكر عبد الله العروي، أفهم أكثر كيف وصلت أوطاننا إلى هذا الحال. لم تكن الأيديولوجيا في ذاتها هي المشكلة، بل غياب الفكر العقلاني الذي يوحّدها في مشروع وطني جامع. في غياب هذا الإطار، تحوّلت الأيديولوجيا إلى ساحة صراع، لا أداة وعي. وهكذا، لا أجد وصفًا أدق لما حدث لنا سوى أن الأيديولوجيا التهمت أوطاننا، لا لأنها كانت قوية، بل لأن الدولة كانت ضعيفة، بلا رؤية، بلا فكر، وبلا مشروع. صحفية وكاتبة أردنية نقلا عن رأي اليوم


الصحراء
منذ ساعة واحدة
- الصحراء
العمل الإسلامي في عهد الرئيس غزواني: ملامح التحول وسياقات التأثر والتأثير
تمهيد : الحضور الإسلامي في المجال الصحراوي شكلت دولة المرابطين أول تجربة سياسية إسلامية رائدة في المجال الصحراوي، وكانت القوة الضاربة في القرن الخامس الهجري لحماية بيضة الإسلام والدفاع عن مكتسبات الأمة في مناطق شاسعة من إفريقيا وأوروبا والعالم العربي. ومع سقوط هذه الدولة التي لم تعمر أكثر من قرن، استمرت موريتانيا، رغم غياب سلطة مركزية وموقعها البعيد عن مراكز التأثير الحضاري، في الحضور بقوة عبر إشعاعها المعرفي وإسهامها الحضاري، وظلت قيم الإسلام هي الخيط الناظم لحياتها الثقافية والاجتماعية والدينية. وقد تجلت صور هذا التشبث بالقيم الإسلامية خلال الحقبة الاستعمارية، حيث لجأ السكان إلى المقاطعة الثقافية كسلاح استراتيجي لمواجهة المستعمر، من خلال رفض المدارس الفرنسية وقيم المحتل وحضارته. إشكالات العمل الإسلامي ما بعد الاستقلال استمر الرفض للتعليم الفرنسي حتى بعد قيام الدولة الحديثة التي نُظر إليها في بعض الدوائر بوصفها امتداداً للمستعمر، إذ اعتمدت قوانينه ولغته في الإدارة والتعليم. ومنذ ذلك الوقت، شهدت هياكل الدولة صعوداً وهبوطاً في طابعها الإسلامي، تبعاً لهوية النظام الحاكم واهتمامه بهذا الشأن. الواقع عند تسلم غزواني للحكم: تحديات واختلالات عند تسلم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني مقاليد السلطة، كان المناخ الوطني مشحوناً بالتوتر، تغيب فيه مظلة وطنية جامعة، وتتفاقم فيه النزعات الفئوية والشرائحية. كما غابت الشخصيات الدينية ذات الثقل الشعبي، وحل محلها أفراد محدودو التأثير. وقد نتج عن هذا الواقع بروز موجة من الإلحاد والإساءة إلى المقدسات، واستهداف العلماء، والتشكيك في التراث الإسلامي، إضافة إلى نشاط ملحوظ للتنصير في مناطق الجنوب. وكانت حادثة المصحف الشريف مثالاً صارخاً على هشاشة الوضع، وكادت تؤدي إلى انفلات لا تحمد عقباه، هذه الحالة كشفت الأهمية البالغة لوجود شخصيات دينية قادرة على امتصاص الأزمات المفاجئة او "المجهول" حسب تعبير المفكر الراحل محمد يحظيه ولد أبريد الليل. أهم ملامح الخلل في المشهد الإسلامي آنذاك: • تبعثر المؤسسات الدينية وغياب رؤية موحدة للدولة بشأن الهياكل الدينية. • تعدد المرجعيات (رابطة العلماء، منتدى العلماء والأئمة…) مع غياب التوجيه. • تراجع أداء مؤسسات إعلامية علمية كإذاعة القرآن وقناة المحظرة، وتعطيل مشاريعها الدعوية. • استهداف التنظيمات الإسلامية، كإغلاق مركز تكوين العلماء، مما فاقم التوتر في الساحة. • بروز اتجاهات دينية متأثرة بمرجعيات غير وطنية، خارجة عن المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية. • ضعف أداء وزارة الشؤون الإسلامية في ضبط الساحة وتوجيه العمل الإسلامي. • غياب قوانين صريحة تجرّم الإساءة إلى الجناب النبوي أو الرد على الحملات الإلحادية. تحولات وإصلاحات في عهد الرئيس غزواني أدرك صانع القرار في عهد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني حساسية المرفق الإسلامي، وتشعب مجالاته، وارتباطه العميق بالهوية والوحدة الوطنية، وبدأ في تنفيذ حزمة من الإصلاحات الجوهرية أبرزها: 1. ترقية وزارة الشؤون الإسلامية • رفعها إلى مصاف وزارات السيادة. • دعمها مالياً وتنظيمياً لتقوم بدورها الاستراتيجي. 2. تطبيع العلاقة مع الشخصيات العلمية والروحية • فتح قنوات تواصل مباشر معها. • تشجيعها على أداء أدوارها الدعوية والتعليمية. 3. توحيد الهيئات الدينية • حل رابطة العلماء ومنتدى العلماء والأئمة. • إنشاء هيئة العلماء الموريتانيين ككيان موحد يمثل العلماء من مختلف المشارب والجهات. 4. تفعيل المجلس الأعلى للفتوى والمظالم • إصدار فتاوى شرعية حول النوازل الفقهية. • التدخل الحاسم في قضايا الرأي العام مثل رفض بعض مواد 'قانون النوع. 5. دعم الإعلام الإسلامي • توحيد قناة المحظرة وإذاعة القرآن الكريم. • تشكيل مجلس علمي موحد. • إعادة الاعتبار لرموز علمية تعرضت للتهميش. 6. الاهتمام بالمحاظر والمساجد • اكتتاب الأئمة والمؤذنين. • ترميم وفرش المساجد. • إنشاء جائزة للمتون الشرعية. • دعم المحاظر في المناطق الهشة. 7. هيئة وطنية للزكاة • في إطار سياسة محاربة الفقر والفوارق الاجتماعية. 8. مكافحة التطرف • تنظيم ملتقيات تفكرية وأنشطة تحسيسية. • إنشاء خلية اتصال للمواكبة الإعلامية • إبراز التجربة الموريتانية في المؤتمرات الإقليمية كمثال ناجح. رغم الإصلاحات: تحديات ما تزال قائمة ورغم هذه الجهود، ما تزال بعض الاختلالات البنيوية تُشكل مصدر قلق، من أبرزها: • فوضى الفتوى وغياب مرجعية شرعية موحدة تستند إلى المحظرة الشنقيطية . • غياب تشريعات واضحة ورادعة لمواجهة الخطابات الإلحادية. • حاجة ماسة إلى خطة وطنية لحماية الشباب من الانجراف الفكري بفعل المحتوى الرقمي المشبوه. خاتمة من خلال هذا التحليل، يتضح أن العمل الإسلامي في عهد الرئيس غزواني شهد نقلة نوعية، تمثلت في تطبيع العلاقة مع الفاعلين الدينيين، وتوحيد المرجعيات، ودعم الهياكل المؤسسية. لكن، ورغم هذا التقدم، فإن الاختلالات الجوهرية ما تزال قائمة، وتستدعي المزيد من العناية، خاصة في الجوانب التنظيمية والتشريعية والمؤسسية، لضمان استمرار هذا التحول في الاتجاه الصحيح


الصحراء
منذ ساعة واحدة
- الصحراء
انهم يخططون لحرب إقليمية اخرى قد تقود إلى حرب عالمية ثالثة.. ما هي بوادرها؟ وهل ستتحقق نبوءة نوستراداموس في هذا المجال؟
الولايات المتحدة وإسرائيل ما زالتا تبحثان عن مخارج لهزائمهما على الرغم من تبجحهما المستمر (بالانتصار). وهذا ما سيضع العالم على شفا حرب قادمة لا يمكن التكهن بنتائجها. عندما يكتب صحفي مهم مثل اندرو كوكبيرن (Andrew Cockburn – Spoils of War ,28 July 2025) مقالا بعنوان ان الهزيمة في أوكرانيا تلوح في الأفق، وان روسيا في طريقها إلى انتصار كبير وحاسم في الحرب، وان الولايات المتحدة واروبا مقبلين على هزيمة مدوية هناك، ويسال الاطراف المتورطة في تحريض أوكرانيا سؤالا محددا، ماذا انتم فاعلون؟ فان هذا مؤشر خطير يجب ان تثير الاهتمام والتساؤل. وعندما تفشل إسرائيل والولايات المتحدة في حربهما على ايران، وتكتب استاذة في جامعة جون هوبكنز المرموقة (Narges Bajoghli) في مجلة Foreign Affairs (العدد الصادر في 29 تموز/ يوليو 2025)، بان نتيجة العدوان الامريكي-الاسرائيلي الشرس والمدمر وغير المبرر الذي تعرضت له المدن الإيرانية كانت (ان الجيل [الايراني] الذي كان يسخر في السابق من خطاب النظام قد تعلم الآن، وربما لأول مرة، لماذا طرح النظام رواية المقاومة في المقام الأول)، وبدا يؤيد هذ الطرح. وهذا يعني ايضا فشل آخر لواشنطن وتل ابيب في محاولات تأليب الداخل الإيراني لإسقاط النظام. وكذلك الفشل مع المقاومة في غزة واليمن، مع احتمالية اندلاعها (المقاومة) من جديد في جنوب لبنان إذا ما استمرار الاعتداءات عليه ومحاولات نزع سلاح المقاومة بالقوة، كلها هذه تحولات لابد وان تجلب انتباه المراقبين وتقلب الحسابات الأمريكية – الاسرائيلية. اعتادت تل ابيب، وكذلك واشنطن، ان تجعلا من هزائمهما انتصارات، ومع الأسف فان الانظمة العربية وحتى ايران منحتهما هذا الشعور الذي لا تستحقانه. والأمثلة على ذلك عديدة، لعل اخرها كان قبول ايران بوقف إطلاق للنار سريع، بعد ان جعلت الصواريخ الإيرانية المناطق الاسرائيلية في فلسطين المحتلة تدفع ثمنا باهضا لعدوانها على المدن الايرانية، وكذلك دمشق التي منحت اسرائيل انتصارات بالمجان منذ ايام الرئيس السابق بشار الاسد، حيث ظلت الترسانة العسكرية السورية في المخازن حتى دمرتها الطائرات الاسرائيلية، وفي وقت كانت فيه المدن السورية تتعرض لاعتداءات اسرائيلية متكررة، واليوم اصبحت دمشق تلهث وراء اتفاق سلام مع تل ابيب التي زادت من احتلالاتها للأراضي السورية. أضف إلى ذلك فان اعتماد الانظمة في المنطقة على نجاح عملية ترويض الجماهير وإسكاتهم بأساليب مختلفة، قد أعطى حتى الصهاينة والأمريكان انطباعاً زائفا بان الشارع العربي لم يعد له تأثير، بينما بوادر تململه بدأت تظهر، ووصل التململ حتى إلى انقرة حيث يجابه الرئيس وأردوغان حملات تشكك في دعمه الإعلامي لغزة والكاذب لسوريا، والتي تركها بعد ان هيمن عليها، عرضة للتدمير الإسرائيلي، وكذلك في دول عربية نتيجة مناظر المجاعة البشعة والقتل اليومي للأبرياء . هذه الصور (الظاهريّة) للضعف الإقليمي، والذي يشمل ايران وتركيا، ومعها الفشل الواضح في احراز اي نجاح حقيقي في كل المغامرات السابقة، أغرت وتغري كل من إسرائيل والولايات المتحدة لشن حروب جديدة، أهمها تلك التي يُخَطط لها الان ضد ايران، ثم في جنوب لبنان وفي اليمن بالإضافة إلى تصعيد وتيرة القتل للأبرياء في غزة. الحرب او الاعتداءات القادمة، قد تكون، وبدون مبالغة، المدخل لحرب عالمية ثالثة. وهذا البدايات تبدو واضحة من خلال شعور كل من واشنطن وتل ابيب بان تبجحاتهما بتدمير المشروع النووي والصاروخي الايراني قد اثبتت زيفها، وأنهما عازمان على اعادة الكرة بقوات اكبر، مع تهديدات بدأت تشمل باكستان وروسيا والصين الذين اتهمتهم واشنطن وتل ابيب بانهم دعموا ايران. واذا ما هوجمت ايران هذه المرة، واستغلت تل ابيب الفرصة وهاجمت جنوب لبنان واليمن بدعم أمريكي فان الحرب ستتوسع وستصبح أصعب على الإيقاف من ذي قبل. كما ان حملة طمس الهوية والحقوق الفلسطينية بدأت تتآكل امام اصرار الدول على الاعتراف بدولة فلسطين، ودخول الدول الاوربية الكبرى هذا الباب. حتى وان كان هناك من يقول ان التلويح بالاعتراف هو لذر الرماد في العيون، فان الامواج البشرية التي بدات تغطي المدن الاوربية، والتي وصلت إلى استراليا المعروفة بإتباعها للسياسة الأمريكية، لابد وان ينتج عنها اجبار لهذه الدول للاعتراف بدولة فلسطين وإيقاف حرب الابادة اللاإنسانية. قديما وحديثا، شغل نوستراداموس العالم بتنبؤاته، وفي كل مرة يقع حادث جلل يظهر من يقول انه تنبأ به ولو بصورة غير مباشرة (لعل اهمها ظهور هتلر وموته الغامض، مقتل الرئيس كندي، الحرب على العراق، واحتراق البرجين في نيويورك إلخ). بعض المطلعين على هذه النبوءات قالوا مؤخرا انه تنبأ ايضا بحرب عالمية ثالثة، وهذا ليس هو الأمر المهم، ولكن ألمهم انهم قالوا انه ذكر بانها ستبدأ من بلاد فارس. فهل ستتحقق نبوءته وتشعل الحرب القادمة التي تنوي الولايات المتحدة وإسرائيل شنها على ايران حربا عالمية ثالثة؟ بعد وصل الأمر إلى تحريك غواصات نووية قبالة السواحل الروسية، وقاصفات أمريكية عملاقة إلى قاعدة عسكرية في بريطانيا، واعادة نشر أساطيل أمريكية في المنطقة؟ واذا ما أخذنا بعين الاعتبار ان نتنياهو كلما وجد نفسه يفشل في اسكات المقاومة واستعادة الاسرى يلجأ إلى الهرب نحو تصعيد العمليات العسكرية، وان الرئيس ترامب بدأ يدرك يوما بعد يوم ان كل الوعود التي اطلقها بشأن ايقاف الحروب قد اثبتت فشلها، وانه ادخل واشنطن في مواجهات جديدة، خاصة مع ايران واليمن، فان ذلك سيدفعهما إلى البحث عن انتصارات زائفة جديدة، ولكن في هذه المرة قد تكون تكلفة هذه المواجهات اكبر ومحاولات ايقافها أصعب والله اعلم. كاتب واكاديمي عراقي نقلا عن رأي اليوم