
على قلقٍ كأن الريح تحتي
قد يبدو الحديث عن مواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات وتأثيرها البالغ على نفسياتنا أمرًا مستهلكًا؛ وهو فعلًا كذلك، لكن تبقى هناك دائمًا حاجة ملحّة للكتابة عنه بشكل كثيف كنوع من التذكير.
لطالما شعرت بغياب المعنى وأنا أتصفح التطبيقات لساعات بلا غاية محددة، فقط إرضاءً لحاجة الفضول تجاه المحتوى الذي أخاف أن أفوِّته، والذي لم يكن يفيدني بشكل ملموس بقدر ما كان يعزز شعوري بالتيه ويبعدني -بإدراك مني- عن معالم هويتي الحقيقية، هويتي التي دائمًا ما أرقتني تساؤلاتي حولها، والأشياء التي تعرفني فعلًا وتشبهني.
مقارنات دائمة وقلق غياب المعنى
نقضي وقتًا -نخجل من الإفصاح عنه- في التصفح العشوائي الذي لا يرضي نفسًا ولا معرفة، ساعات طويلة -وإن كانت غير متواصلة- في مقارنات لا حد لها، والأعجب مما ذُكر هو غياب الغايات وتعدد الاهتمامات.. نجد أفكارًا ونرى محتوى لا حصر له، فنفكر أن نفعل ذات الشيء، مشتتين بين كل تجربة وفكرة، نريد ولا نفعل، ما يضيع علينا الطريق ويشوش وجهة بوصلتنا. إن كل هذا وأكثر يمنعنا من الاستمتاع بما كنا نحب ممارسته فعلًا، من هوايات وتجارب تاهت في غياهب النسيان.
وأنا أكتب الآن، أمسك هاتفي بلا غاية فعلًا، بلا وعي، وهو ما يزعجني في الأمر كله، أن أفقد سيطرتي على وعيي ووقتي. والغريب أكثر أننا نشتكي من قلة الوقت إذا ما هممنا بتعلم مهارة ما، مهارة ظلت مجرد رغبة تآكلت جراء كثافة ما نتلقاه، وماذا كانت الشماعة؟ قلة الوقت الذي نضيعه بأنفسنا على أنفسنا.
في عالم رقمي فضفاض كهذا، يصبح المعنى ضبابيًا غير واضح، ما يجعلني أدور في حلقة مفرغة، وأتساءل -بلا توقف- عن جدوى أيامي وعن المعنى فيما أفعله وأفكر فيه.
في أيام كثيرة، كنت أستيقظ وأنا أفكر: ما الذي أفعله؟ وما كل هذا الضياع الذي أنا فيه؟ ولمَ كل هذا القلق تجاه الإنتاجية، والهوس بالعمل والانشغال الدائم؟
وكثيرًا ما كنت أؤنب نفسي إذا ما قررت الاستمتاع بيومي بدون إنجاز شيء ما.. أيام كانت أشبه بما عبّر عنه المتنبي بكلمات تصف هذا الجنون الذي نعيشه: "على قلق كأن الريح تحتي"! أفكر بهوس دائم غير منقطع عن الإنجاز، عن المعنى، عن الجدوى والغاية، عن أشياء تلونت بالسطحية، وفقدت جوهرها في عالم متشابه ومكرر إلى حد الزيف.
أجزم أنّ كل فرد منا قد حاول أخذ استراحة من المواقع والتطبيقات، ومن الضغط الكثيف الذي نواجهه يوميًا من التصفح اللاواعي، لكن شعورًا ما بأن شيئًا ما قد يفوتني كان يمنع من أخذ هذه الخطوة
تعدد الاهتمامات ليس مشكلة في حد ذاتها
إن الفكرة التي أحاول صياغتها وإيصالها لا تكمن في الدعوة إلى أن نحدّ أنفسنا في مجال واحد، أو أن نبقى في نفس الدائرة نكرر أيامنا، بل إلى أن نحدد المسار حتى لا نتوه، لأن التعرض لهذا الكم الفائض من المحتوى المتنوع يمنعنا من التركيز والتحكم في خياراتنا، حتى في أصغر التفاصيل كاختيار طريقة اللبس مثلًا. إن كل هذا يلهينا حتى عن إنهاء مهامنا الأساسية كالعمل والدراسة، ويبقينا في دوامة لا نهائية من المشتتات والتساؤل حول ما إن كانت تناسبنا فعلًا أم لا؟
لا أنتقد تعدد الاهتمامات، فأنا نفسي أحب تجربة الكثير من الأشياء والتعلم الدائم، فتعددها ما هو إلا أمر إنساني وفطري فينا، خاصة في الفضوليين، ولكن إسهابنا وانجرافنا فيها وفي كل ما نرى، يضيع علينا الطريق، فنفقد حتى الاتجاه الأساسي نحو الهدف الذي وضعناه ونأمل أن ننتهي بالوصول إليه. فالفكرة أن نحاول التحكم في بوصلتنا ونحن -فقط نحن- نحدد معالم طريقنا وغاياتنا، بدون تشويش وفوضى لا معنى فيها.
غائب عن المشهد
أجزم أنّ كل فرد منا قد حاول أخذ استراحة من المواقع والتطبيقات، ومن الضغط الكثيف الذي نواجهه يوميًا من التصفح اللاواعي، لكن شعورًا ما بأن شيئًا ما قد يفوتني كان يمنع من أخذ هذه الخطوة، شيئًا ما -ليس واضحًا أبدًا- كان يقنعنا بأننا غائبون عن المشهد، بعيدون كل البعد عن الحياة، إذا ما قررنا الابتعاد عن العالم الافتراضي، ذاك العالم الذي سرقَنا، وسرق منا أشياء كنا في وقت مضى -قد يكون ليس ببعيد- نراها العالم بأكمله، انتشل منا حميمية الوقت مع العائلة، عبثية حديث الأصدقاء، النوم باكرًا والاستيقاظ بشغف، فأصبحنا نشعر بأنها مضيعة للوقت!
إعلان
الحنين إلى متنفس وفسحة
ما يحيرني فعلًا هو أننا سابقًا -أي قبل ثورة الإنترنت وجنونها- كنا نهرب إليها من الواقع، لنكتشف هذا العالم الجديد المدهش، أما الآن فإننا نهرب إلى واقعنا -عودةً إليه- من الضغط المضني الذي يستنزف طاقاتنا وقدراتنا التي لا حد لها.
ما آمله، هو أن أعود إلى نفسي، وأكون أنا سيدة قراراتي وخياراتي، بعيدًا عن كل ما يبعدني عنها.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
القدس.. ألف فلسطيني يغادرون لأداء فريضة الحج
انطلق صباح اليوم الاثنين الفوج الأول من أهالي محافظة القدس متجهين نحو الديار الحجازية لأداء فريضة الحج لهذا العام، ومع انطلاقهم فُرّغت قوائم الانتظار لحجاج القدس من حواسيب وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية، وسيكون بإمكان المقدسيين التسجيل في القرعة للحج بدءا من العام المقبل بعد توقفه منذ عام 2011 بسبب الأعداد الكبيرة المسجلة والفائض في القوائم. وقال وكيل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية حسام أبو الرب للجزيرة نت إن 6600 فلسطيني سيتّجهون إلى السعودية لأداء فريضة الحج، بينهم 1500 غزّي ممن يمكثون حاليا في مصر ، مضيفا أن استعدادات الوزارة اكتملت لمغادرة الحجاج على دفعتين تمتد كل منهما لثلاثة أيام، وتبدأ الدفعة الأولى اليوم الاثنين وتشمل الحجاج الذي سيسافرون برّا. وأوضح أبو الرب أن 3500 حاج سيصلون إلى السعودية برّا، و3100 سيغادرون إليها جوّا من مصر و الأردن ، وأن عودة الحجاج إلى فلسطين ستبدأ يوم 11 يونيو/حزيران المقبل. وتطرق وكيل وزارة الأوقاف إلى تفريغ قوائم الانتظار الخاصة بالمقدسيين بالكامل، وإضافة 300 حاج جديد إليها هذا العام، على أن يتم فتح باب التسجيل من جديد العام المقبل. حجاج فلسطين فئات متعددة مدير شركة "مشاعر" للحج والعمرة المقدسي وائل شويكي -الذي سيرافق وطاقم شركته 350 حاجا وحاجة من القدس اختاروا "مشاعر" لتلقي خدماتها هذا العام- أوضح للجزيرة نت كل ما يتعلق بحجاج المدينة، لكنه بدأ حديثه بالقول إن حرب عام 1967 قسمت حجاج فلسطين إلى ثلاث فئات. الفئة الأولى تشمل حجاج القدس و الضفة الغربية ، ويتبع هؤلاء مباشرة للسلطة الفلسطينية ، وتشمل الفئة الثانية حجاج قطاع غزة الذين يسافرون عادة عن طريق مصر، أما الفئة الثالثة فتضم أهالي الداخل الفلسطيني ، وهؤلاء تتم الترتيبات اللازمة لهم عن طريق وزارة الأوقاف الأردنية التي تمثلها في مناطق الداخل "جمعية الحج والعمرة"، ويُستصدر لهؤلاء جوازات سفر أردنية مؤقتة بهدف أداء فريضة الحج. ويتراوح العدد السنوي لحجاج فلسطين المنحدرين من مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، وفقا لوائل شويكي، بين 5500 و6 آلاف حاج، بالإضافة لقرابة 4500 حاج وحاجة من مناطق الداخل الفلسطيني الذين يحملون جوازات سفر إسرائيلية. أما فيما يخص حجاج القدس بشكل عام، فيبلغ عدد حجاج المدينة -الذين يحملون الهوية الإسرائيلية الزرقاء التي تصنفهم مقيمين في المدينة لا مواطنين- قرابة 320 سنويا، ويضاف إليهم بين 150 و200 حاج من محافظة القدس ممن يحملون بطاقة الهوية الفلسطينية الخضراء. قوائم الانتظار أُنجزت ويتم اختيار الحجاج وفقا لنظام القرعة، ويقول شويكي إنه في عام 2025 الجاري انتهى التسلسل لحجاج القدس، وكان عدد المتبقين في حواسيب الوزارة 440 حاجا أُضيفت لهم القرعة السنوية فأصبح عددهم نحو 700، وأضيف إليهم أيضا -وفقا لوزارة الأوقاف- 300 حاج جديد، وبات نصيب المحافظة هذا العام نحو ألف حاج وحاجة. ومع إفراغ قوائم الانتظار، تطرق شويكي إلى أنه من المتوقع أن يفتح باب التسجيل لموسم الحج العام المقبل أمام أهالي القدس في شهري نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول المقبلين، وذلك بعد تجميد دام لسنوات بسبب العدد الكبير. ومن يحالفه الحظ بظهور اسمه عن طريق القرعة يتوجه لأداء الحج، ومن لن يحالفه الحظ يعيد التسجيل في العام الذي يليه ولن يرحّل اسمه تلقائيا كما في السابق. وينطبق على حجاج القدس برنامج وزارة الأوقاف الفلسطينية الموحد، ويسكن هؤلاء، وفقا لمدير شركة "مشاعر"، في فنادق تصنيفها 5 نجوم بالمدينة المنورة، وفي فنادق مصنفة 3 نجوم في مكة المكرمة وتبعد عن الحرم المكي مسافة كيلومتر واحد. "انتقلت الوزارة في خدماتها للحجاج نقلة نوعية منذ نحو 6 أعوام، وقبل ذلك كان السكن في بنايات سكنية لا فنادق، أما اليوم فيبيت حجاج فلسطين في فنادق جيدة، وهي نوعا ما قريبة من الحرم المكي، وهذا يُحسب لوزارة الأوقاف الفلسطينية"، أردف شويكي. الرعاية تبدأ من القدس وتنتهي فيها وحول الدور المنوط بشركات الحج والعمرة خلال هذه الرحلة الروحانية الاستثنائية، أشار شويكي إلى أن الخطة العامة والتنسيق لكافة حجاج فلسطين هما من مسؤولية وزارة الأوقاف، في حين يكون دور الشركات خدماتيا يشمل إدارة أمور الحجاج ورعايتهم ومتابعتهم والوقوف على متطلباتهم اليومية، وترتيب نقلهم وسكنهم وتصعيدهم إلى عرفة ومزدلفة ومنى، وترتيب عودتهم إلى أرض الوطن. ويرافق الحجاجَ الفلسطينيين مرشدون وإداريون وبعثة وعظية وطبية بترتيبات ومرافقة من وزارة الأوقاف الفلسطينية، ومن المقدسيين المدرجين في قائمة هذه البعثة عادة الحاج نهاد زغيّر، الذي قال للجزيرة نت إن حجاج القدس ينطلقون عادة من أمام مقر وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية في بلدة العيزرية شرقي القدس نحو جسر الملك حسين"معبر الكرامة"، ومن هناك إلى السعودية، أما حملة الجنسية الإسرائيلية فينطلقون من مناطقهم، وبعثة الحج الأردنية هي المسؤولة عنهم. وتستأجر وزارة الأوقاف الفلسطينية -وفقا لنهاد زغيّر- السكن الخاص بحجاج فلسطين ويكون عادة في فندق "الأرض المتميزة" بمنطقة "الحفاير" بمكة المكرمة والذي يبعد كيلومترا واحدا عن المسجد الحرام. وعند سؤاله عن رأيه فيما إذا كانت حصة المقدسيين السنوية من قرعة الحج كافية أم أنها قليلة مقارنة بعدد المتقدمين، أشار زغيّر إلى أن السعودية تعتمد عدد الحجاج لكل دولة وفقا لعدد سكانها، مضيفا أن القدس هي الأولى من حيث عدد المسجلين لأداء فريضة الحج تليها مدينة الخليل. وختم حديثه للجزيرة بالقول إنه بعد تفريغ حواسيب وزارة الأوقاف الفلسطينية من قوائم الانتظار لحجاج القدس، سيتم اعتماد نظام جديد العام المقبل، لكن الوزارة لم تعلن عن تفاصيله حتى الآن.


الجزيرة
منذ 3 أيام
- الجزيرة
على قلقٍ كأن الريح تحتي
قد يبدو الحديث عن مواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات وتأثيرها البالغ على نفسياتنا أمرًا مستهلكًا؛ وهو فعلًا كذلك، لكن تبقى هناك دائمًا حاجة ملحّة للكتابة عنه بشكل كثيف كنوع من التذكير. لطالما شعرت بغياب المعنى وأنا أتصفح التطبيقات لساعات بلا غاية محددة، فقط إرضاءً لحاجة الفضول تجاه المحتوى الذي أخاف أن أفوِّته، والذي لم يكن يفيدني بشكل ملموس بقدر ما كان يعزز شعوري بالتيه ويبعدني -بإدراك مني- عن معالم هويتي الحقيقية، هويتي التي دائمًا ما أرقتني تساؤلاتي حولها، والأشياء التي تعرفني فعلًا وتشبهني. مقارنات دائمة وقلق غياب المعنى نقضي وقتًا -نخجل من الإفصاح عنه- في التصفح العشوائي الذي لا يرضي نفسًا ولا معرفة، ساعات طويلة -وإن كانت غير متواصلة- في مقارنات لا حد لها، والأعجب مما ذُكر هو غياب الغايات وتعدد الاهتمامات.. نجد أفكارًا ونرى محتوى لا حصر له، فنفكر أن نفعل ذات الشيء، مشتتين بين كل تجربة وفكرة، نريد ولا نفعل، ما يضيع علينا الطريق ويشوش وجهة بوصلتنا. إن كل هذا وأكثر يمنعنا من الاستمتاع بما كنا نحب ممارسته فعلًا، من هوايات وتجارب تاهت في غياهب النسيان. وأنا أكتب الآن، أمسك هاتفي بلا غاية فعلًا، بلا وعي، وهو ما يزعجني في الأمر كله، أن أفقد سيطرتي على وعيي ووقتي. والغريب أكثر أننا نشتكي من قلة الوقت إذا ما هممنا بتعلم مهارة ما، مهارة ظلت مجرد رغبة تآكلت جراء كثافة ما نتلقاه، وماذا كانت الشماعة؟ قلة الوقت الذي نضيعه بأنفسنا على أنفسنا. في عالم رقمي فضفاض كهذا، يصبح المعنى ضبابيًا غير واضح، ما يجعلني أدور في حلقة مفرغة، وأتساءل -بلا توقف- عن جدوى أيامي وعن المعنى فيما أفعله وأفكر فيه. في أيام كثيرة، كنت أستيقظ وأنا أفكر: ما الذي أفعله؟ وما كل هذا الضياع الذي أنا فيه؟ ولمَ كل هذا القلق تجاه الإنتاجية، والهوس بالعمل والانشغال الدائم؟ وكثيرًا ما كنت أؤنب نفسي إذا ما قررت الاستمتاع بيومي بدون إنجاز شيء ما.. أيام كانت أشبه بما عبّر عنه المتنبي بكلمات تصف هذا الجنون الذي نعيشه: "على قلق كأن الريح تحتي"! أفكر بهوس دائم غير منقطع عن الإنجاز، عن المعنى، عن الجدوى والغاية، عن أشياء تلونت بالسطحية، وفقدت جوهرها في عالم متشابه ومكرر إلى حد الزيف. أجزم أنّ كل فرد منا قد حاول أخذ استراحة من المواقع والتطبيقات، ومن الضغط الكثيف الذي نواجهه يوميًا من التصفح اللاواعي، لكن شعورًا ما بأن شيئًا ما قد يفوتني كان يمنع من أخذ هذه الخطوة تعدد الاهتمامات ليس مشكلة في حد ذاتها إن الفكرة التي أحاول صياغتها وإيصالها لا تكمن في الدعوة إلى أن نحدّ أنفسنا في مجال واحد، أو أن نبقى في نفس الدائرة نكرر أيامنا، بل إلى أن نحدد المسار حتى لا نتوه، لأن التعرض لهذا الكم الفائض من المحتوى المتنوع يمنعنا من التركيز والتحكم في خياراتنا، حتى في أصغر التفاصيل كاختيار طريقة اللبس مثلًا. إن كل هذا يلهينا حتى عن إنهاء مهامنا الأساسية كالعمل والدراسة، ويبقينا في دوامة لا نهائية من المشتتات والتساؤل حول ما إن كانت تناسبنا فعلًا أم لا؟ لا أنتقد تعدد الاهتمامات، فأنا نفسي أحب تجربة الكثير من الأشياء والتعلم الدائم، فتعددها ما هو إلا أمر إنساني وفطري فينا، خاصة في الفضوليين، ولكن إسهابنا وانجرافنا فيها وفي كل ما نرى، يضيع علينا الطريق، فنفقد حتى الاتجاه الأساسي نحو الهدف الذي وضعناه ونأمل أن ننتهي بالوصول إليه. فالفكرة أن نحاول التحكم في بوصلتنا ونحن -فقط نحن- نحدد معالم طريقنا وغاياتنا، بدون تشويش وفوضى لا معنى فيها. غائب عن المشهد أجزم أنّ كل فرد منا قد حاول أخذ استراحة من المواقع والتطبيقات، ومن الضغط الكثيف الذي نواجهه يوميًا من التصفح اللاواعي، لكن شعورًا ما بأن شيئًا ما قد يفوتني كان يمنع من أخذ هذه الخطوة، شيئًا ما -ليس واضحًا أبدًا- كان يقنعنا بأننا غائبون عن المشهد، بعيدون كل البعد عن الحياة، إذا ما قررنا الابتعاد عن العالم الافتراضي، ذاك العالم الذي سرقَنا، وسرق منا أشياء كنا في وقت مضى -قد يكون ليس ببعيد- نراها العالم بأكمله، انتشل منا حميمية الوقت مع العائلة، عبثية حديث الأصدقاء، النوم باكرًا والاستيقاظ بشغف، فأصبحنا نشعر بأنها مضيعة للوقت! إعلان الحنين إلى متنفس وفسحة ما يحيرني فعلًا هو أننا سابقًا -أي قبل ثورة الإنترنت وجنونها- كنا نهرب إليها من الواقع، لنكتشف هذا العالم الجديد المدهش، أما الآن فإننا نهرب إلى واقعنا -عودةً إليه- من الضغط المضني الذي يستنزف طاقاتنا وقدراتنا التي لا حد لها. ما آمله، هو أن أعود إلى نفسي، وأكون أنا سيدة قراراتي وخياراتي، بعيدًا عن كل ما يبعدني عنها.


الجزيرة
منذ 3 أيام
- الجزيرة
التدين بين وحي السماء والهُوية الجغرافية
في زحمة الاستعمالات المعاصرة لمصطلحات تصف الأنساق الدينية عبر جغرافيات متمايزة، برز تعبير "التدين الشامي" ليشير إلى نمط ديني وثقافي خاص بمنطقة بلاد الشام. ورغم أن هذا المصطلح قد يبدو بريئًا أو توصيفيًّا لأول وهلة، فإن تدقيق النظر في معناه ومآلاته يكشف عن إشكالية عميقة تمس صلب التصور للدين الإسلامي، الذي لا يُنسب بحال إلى مكان أو قوم، بل هو دين الله الخالص الذي لا يرتبط إلا به، كما قال تعالى: {ألا لله الدّين الخالص} (الزمر:3). فكيف نشأ هذا المصطلح؟ وهل يصح شرعًا وعقلًا نسبة التدين إلى جغرافيا أو ثقافة معينة؟ وما المخاطر العقدية والمعرفية الكامنة وراء هذا الاستخدام؟.. هذا ما سنعرض له في هذه المقالة عبر مسار نقدي، يجمع بين التحليل العلمي والرؤية الشرعية العميقة. في المفهوم الإسلامي، الدين لا يُنسب إلى مكان ولا إلى أشخاص، بل إلى الله وحده، مصداقًا لقوله تعالى: {قل إنّني هداني ربي إلى صراطٍ مستقيمٍ دينًا قيمًا ملّة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين} (الأنعام: 161) من أين جاء مصطلح "التدين الشامي"؟ يُعد فهم السياق التاريخي والاجتماعي مفتاحًا لقراءة هذا المصطلح.. بلاد الشام -بمكوناتها العرقية والدينية الغنية- شكّلت عبر القرون ملتقى حضاريًّا هامًّا شهد تفاعلات بين الإسلام والثقافات المحلية المتعددة؛ فمنذ الفتح الإسلامي في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، تعايشت في الشام مدارس دينية متعددة، من الفقه الحنفي والشافعي إلى التصوف الطرقي، إلى حضور الشيعة بمختلف أطيافهم، إضافة إلى الطوائف المسيحية التقليدية. في ظل هذا التنوع، تبلور نمط مميز في التدين: يتميز بالميل إلى الروحانية الصوفية، وتقدير كبير للعلماء التقليديين، والانفتاح الاجتماعي النسبي مقارنة ببعض البيئات الإسلامية الأخرى. وقد وثّق المؤرخون مثل ابن كثير في "البداية والنهاية" ومحمود شاكر في "التاريخ الإسلامي" كيف شكلت دمشق مهدًا لمدارس علمية وصوفية كبرى. لكن، وعلى الرغم من أهمية هذه الخصوصيات الثقافية، فإن الخطأ يكمن حين تُرفَع هذه الخصوصيات إلى مصافّ "دين مستقل"، أو يُشار إليها بصفة الدين ذاته، كما أشار ابن تيمية (رحمه الله) في "اقتضاء الصراط المستقيم"، حين أنكر بشدة تحكيم الأعراف والعوائد على حساب الشرع المنزَّل. النسبة إلى غير الله إشكالية خطيرة في المفهوم الإسلامي، الدين لا يُنسب إلى مكان ولا إلى أشخاص، بل إلى الله وحده، مصداقًا لقوله تعالى: {قل إنّني هداني ربي إلى صراطٍ مستقيمٍ دينًا قيمًا ملّة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين} (الأنعام: 161). إن كل محاولة لإضفاء صبغة جغرافية أو ثقافية أو جهوية إلى الدين تهدد بإدخال مفهوم شركي من نوع ما؛ إذ يتحول الالتزام الديني إلى ولاء لمكان أو قومية أو طائفة، لا لله وحده. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من العصبيات الجاهلية، حتى قال: "من قاتل تحت راية عمية، يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية، فقتل، فقتلته جاهلية" (رواه مسلم). وإذا كانت العصبية في نصرة القبيلة مذمومة، فكيف بعصبية تنسب الدين ذاته إلى قوم أو جغرافيا؟ إن الإشكال لا يكمن في وجود مناهج متعددة أو تنوع ثقافي في مظاهر التدين، بل في تحويل هذا التنوع إلى أساس للتمايز العقدي أو الفقهي، ما يهدد وحدة الأمة ويناقض مقصد الشرع الدين ثابت والممارسات متغيرة أحد المفاهيم الأساسية التي يجب توضيحها أن الدين -من حيث هو وحي منزَّل- ثابت لا يتغير باختلاف الأزمنة والأمكنة؛ أما ما يتغير فهو فهم الناس لهذا الدين وتطبيقهم له. وبالتالي، ما نسميه "التدين الشامي" هو في الحقيقة ممارسات بشرية قد تصيب وقد تخطئ، تخضع لعوامل البيئة والتاريخ والعرف. إن الإشكال لا يكمن في وجود مناهج متعددة أو تنوع ثقافي في مظاهر التدين، بل في تحويل هذا التنوع إلى أساس للتمايز العقدي أو الفقهي، ما يهدد وحدة الأمة ويناقض مقصد الشرع في جمع الكلمة. إن الشريعة الإسلامية تقر خصوصيات العادات ما دامت لا تصادم النصوص الشرعية، كما تقرّ العُرف الصحيح، لكن دون أن يتحول هذا العرف إلى دين أو شريعة موازية. تحذير يجب ألا يُغفل إن المتتبع لتاريخ الأديان يرى بوضوح أن تجزئة الدين عبر المسميات الجغرافية والثقافية كانت من أسباب تفكك المسيحية إلى طوائف ومذاهب متناحرة؛ فقد تحولت المسيحية المبكرة إلى كاثوليكية غربية وأرثوذكسية شرقية، ثم إلى طوائف بروتستانتية متفرقة، وغالبًا ما كانت الخلفيات الجغرافية والسياسية هي الدافع الأساسي للانقسام أكثر من الخلافات العقائدية الكبرى. وقد نبه القرآن الكريم إلى خطر التفرق الديني بقوله تعالى: {ولا تكونوا من المشركين من الّذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعًا كلُّ حزبٍ بما لديهم فرحون} (الروم: 31-32)، في إشارة إلى أن التشرذم في الدين علامة على انحراف خطير عن التوحيد الخالص. إن درس المسيحية هنا واضح: حين يُسمح للعصبيات الجغرافية أو الثقافية بأن تحتكر تفسير الدين، فإن النتيجة المحتومة هي التمزق والانحراف. التدين بين الخصوصية والانتماء من المهم التفريق بين الاعتراف بالخصوصيات الثقافية في مظاهر التدين، وبين الوقوع في فخّ نسبة الدين إلى تلك الخصوصيات؛ فلا مانع من دراسة "الأنماط الاجتماعية لممارسة الدين في الشام" أو "تاريخ التصوف الشامي"، كما يفعل الباحثون الأكاديميون، ولكن يجب الحذر من إطلاق تسميات توهم بأن هناك "دينًا شاميًّا" مقابل "دين مغربي" أو "دين نجدي". وينبغي الإذعان بضرورة صيانة المفاهيم الشرعية من التحريف الاصطلاحي، فنسبة الدين إلى غير الله يعد من مظاهر الاضطراب العقدي الخفي الذي يجب معالجته بتأصيل المفاهيم. إن الأدق هو الحديث عن "المنهج الشامي" أو "المدرسة الشامية"، مع إدراك أن هذه الاجتهادات تحتكم إلى معيار الصحة والخطأ الشرعي، وليست معصومة أو ملزمة بمجرد نسبتها إلى منطقة بعينها. إن الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية يمرُّ حتمًا عبر صيانة المفاهيم العقدية الأساسية، وعلى رأسها توحيد المرجعية الدينية لله وحده، وقد أمر الله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرّقوا} (آل عمران: 103). فإن الاعتصام بحبل الله يتطلب مقاومة كل ما يؤدي إلى تشرذم ديني أو مذهبي باسم الخصوصيات الجغرافية أو الثقافية. فالدين واحد، والمنهج واحد، والممارسات الثقافية متغيرة ومتنوعة، لكن لا ينبغي أن تتعدى مكانها الطبيعي. وهكذا نحفظ ديننا صافيًا من الشوائب، كما جاء به النبي الأمي ﷺ، وكما فهمه السلف الصالح، رحمهم الله جميعًا.